فلما كانت الليلة ١٧٧

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن اسم تلك الجنية ميمونة بنة الدمرياط أحد ملوك الجان المشهورين، فلما استمر قمر الزمان نائمًا إلى ثلث الليل الأول، طلعت تلك العفريتة من البئر الروماني، وقصدت السماء لاستراق السمع، فلما صارت في أعلى البئر رأت نورًا مضيئًا في البرج على خلاف العادة، وكانت العفريتة مقيمة في ذلك المكان مدة مديدة من السنين، فقالت في نفسها: أنا ما عهدت هنا شيئًا من ذلك، وتعجبت من هذا الأمر غاية العجب، وخطر ببالها أنه لا بد لذلك من سبب، ثم قصدت ناحية ذلك النور فوجدته خارجًا من القاعة، فدخلتها ووجدت الخادم نائمًا على بابها، ولما دخلت القاعة، وجدت سريرًا منصوبًا، وعليه هيئة إنسان نائم، وشمعة مضيئة عند رأسه، وفانوس مضيء عند رجليه؛ فتعجبت العفريتة ميمونة من ذلك النور، وتقدمت إليه قليلًا قليلًا، وأرخت أجنحتها، ووقفت على السرير، وكشفت الملاءة عن وجهه ونظرت إليه، واستمرت باهتة في حسنه وجماله ساعة زمانية، وقد وجدت ضوء وجهه غالبًا على نور الشمعة، وصار وجهه يتلألأ نورًا، وقد غازلت عيناه، واسودَّت مقلتاه، واحمرَّ خدَّاه، وفتر جفناه، وتقوَّس حاجباه، وفاح مسكه العاطر، كما قال فيه الشاعر:

قَبَّلْتُهُ فَاسْوَدَّتِ الْمُقَلُ الَّتِي
هِيَ فِتْنَتِي وَاحْمَرَّتِ الْوَجَنَاتُ
يَا قَلْبُ إِنْ زَعَمَ الْعَوَاذِلُ أَنَّهُ
فِي الْحُسْنِ يُوجَدُ مِثْلُهُ قُلْ هَاتُوا

فلما رأته العفريتة ميمونة بنت الدمرياط، سبَّحت الله وقالت: تبارك الله أحسن الخالقين. وكانت تلك العفريتة من الجن المؤمنين؛ فاستمرت ساعة وهي تنظر إلى وجه قمر الزمان وتوحد الله، وتغبطه على حسنه وجماله، وقالت في نفسها: والله إني لا أضره، ولا أترك أحدًا يؤذيه، ومن كل سوء أفديه، فإن هذا الوجه المليح لا يستحق إلا النظر إليه والتسبيح، ولكن كيف هان على أهله حتى نسوه في هذا المكان الخرب؟ فلو طلع له أحد من مَرَدتنا في هذه الساعة لعطبه. ثم إن تلك العفريتة مالت عليه وقبَّلته بين عينيه، وبعد ذلك أرخت الملاءة على وجهه وغطَّته بها، وفتحت أجنحتها وطارت ناحية السماء، وطلعت من دور تلك القاعة وصعدت، ولم تزل صاعدة في الجو إلى أن قربت من سماء الدنيا، وإذا بها سمعت خفق أجنحة طائرة في الهواء، فقصدت ناحية تلك الأجنحة، فلما قربت من صاحبها وجدته عفريتًا يقال له دهنش، فانقضَّت عليه انقضاض الباشق، فلما أحسَّ بها دهنش وعرف أنها ميمونة بنت ملك الجن، خاف منها وارتعدت فرائصه، واستجار بها وقال لها: أقسم عليك بالاسم الأعظم، والطِّلَّسم الأكرم، المنقوش على خاتم سليمان، أن ترفقي بي ولا تؤذيني. فلما سمعت ميمونة من دهنش هذا الكلام، حنَّ قلبها عليه وقالت له: إنك أقسمت عليَّ بقسم عظيم، ولكن لا أعتقك حتى تخبرني من أين مجيئك في هذه الساعة؟ فقال لها: أيتها السيدة، اعلمي أن مجيئي من آخر بلاد الصين، ومن داخل الجزائر، وأخبرك بأعجوبة رأيتها في هذه الليلة، فإن وجدتِ كلامي صحيحًا فاتركيني أروح إلى حال سبيلي، واكتبي لي بخطك في هذه الساعة أني عتيقك؛ حتى لا يعارضني أحد من أرهاط الجن الطيَّارة العلوية والسفلية والغواصة. قالت له ميمونة: فما الذي رأيته في هذه الليلة يا دهنش؟ فأخبرني ولا تكذب عليَّ، وتريد بكذبك أن تنفلت من يدي، وأنا أقسم بحق النقش المكتوب على فص خاتم سليمان بن داود — عليهما السلام — إن لم يكن كلامك صحيحًا نتفت ريشك بيدي، ومزَّقت جلدك، وكسرت عظمك. فقال لها العفريت دهنش بن شمهورش الطيار: إن لم يكن كلامي صحيحًا فافعلي بي ما شئتِ يا سيدتي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤