الفصل الحادي عشر

الصور الشعرية في القرآن

ولقد رأيت من رجال الأدب من يحسب الصورة الشعرية نوعًا من الاستعارة التمثيلية، وفي تصحيح ذلك الخطأ نسوق هذا الحديث.

١

الاستعارة التمثيلية هي ضرب من التشبيه يكون فيه المشبه والمشبه به هيئة منتزعة من عدة أمور متحققة أو متخيلة، ومن هذه الاستعارة يتكون أكثر الأمثال السائرة، فيكون لبعضها موارد حقيقية، ولأكثرها موارد خيالية.

وللأمثال — كما قال المرحوم أستاذنا المهدي — أربعة أضرب:
  • الأول: ما له مورد حقيقي كمواعيد عُرقوب في قول كعب بن زهير:
    كانَتْ مَواعيدُ عُرْقُوبٍ لَها مَثَلًا
    وَما مَواعيدُها إِلّا الْأَباطيلُ
  • الثاني: الخيالي الممكن، وهو ما نسب الكلام والعمل فيه إلى عاقل كما جاء في أمثال لقمان أن صبيًّا كان يستحم في نهر، ولم يكن يحسن السباحة، فأشرف على الغرق، فاستغاث برجل عابر في الطريق، فأقبل عليه، وجعل يلومه على نزوله إلى النهر، فقال الصبي: «يا هذا! خلصني من الموت ثم لُمْني!».
  • الثالث: الخيالي المستحيل، وهو ما جاء على ألسنة الحيوان والجماد للاعتبار به، كما فعل نصر بن منيع، وكان خارجًا على المأمون، فسير إليه جيشًا ظفر به، فلما مثل بين يدي المأمون أمر بضرب عنقه، فقال: يا أمير المؤمنين! أتسمع مثلًا خطر على بالي؟ فقال: قل، فأنشأ يقول:
    زَعَموا بأَنَّ الصَّقْرَ صادَفَ مَرَّةً
    عُصفورَ برٍّ ساقهُ التَقْديرُ
    فَتَكَلَّمَ الْعُصْفورُ تَحْتَ جَناحِهِ
    والصَّقْرُ مُنْقضٍّ عليْه يطيرُ
    إِنِّي لِمِثْلِكَ لا أُتَمِّمُ لُقْمَةً
    وَلئِنْ شويتُ فإنني لحقيرُ
    فتهاونَ الصَّقْرُ المُدِلُّ بِصَيدِهِ
    كَرَمًا وَأفْلَتَ ذلِك العُصْفورُ
  • الرابع: الخيالي المختلط من الممكن والمستحيل، وهو ما جمع بين الناطق وغيره، كحديث الحية والأخوين: فقد زعموا أن أخوين هبطا بغنمهما واديًا فيه حية تحميه، وبينما كان أحدهما يرعى غنمه إذ نهشته الحية فقتلته. فقال أخوه: والله ما في الحياة خيرٌ بعده، ولأطلبن الحية. فلما لقيها وهم يقتلها قالت: ألا ترى أني قتلته وندمت على ما كان مني! فهل لك في الصلح، فأدعك في هذا الوادي آمنًا، وأعطيك دية أخيك كل يوم دينارًا؟ فصالحها على ذلك، وحلفت له وحلف لها، وما زالت تعطيه حتى كثر ماله. فلما أحس الغنى قال: كيف ينفعني هذا العيش، وأنا أرى قاتل أخي! فعمد إلى فأس فأحدَّها ثم انتظر، فلما مرت به ضربها فشجها وأخطأ مقتلها، فقطعت عنه الدينار وتوعدته فخاف شرها، وقال: هل لك أن نتعاهد على المودة كما كنا؟ فقالت: لا! لأنك كلما نظرت إلى قبر أخيك وجدت عليَّ، وكلما ذكرت الشجة التي في رأسي وجدت عليك! وفي ذلك يقول النابغة الذبياني من قصيدة يعاتب بها بني مرة:
    وَإنِّي لَألْقَى مِنْ ذَوي الضِّغْن مِنْهُمو
    وَما أَصْبَحَتْ تَشْكو مِن الْوحْد ساهرهْ
    كَما لَقيَتْ ذاتُ الصفا مِنْ حَليفِها
    وَما انْفَكَّتِ الأمْثالُ في الناس سائرهْ
    فَقالَتْ لَهُ أَدْعوكَ لِلْعَقْلِ وافيًا
    وَلا تَغْشَيَنِّي مِنْك بالظلُّمِ بادرهْ١
    فَواثَقَها بِالله حينَ تَراضَيا
    فَكانَتْ تَديهِ الْمالَ غِبًّا وَظاهِرَه
    فَلَمَّا تَوَفَّى العَقْلَ إلاَّ أقَلَّهُ
    وَجارَتْ بِهِ نَفْسٌ عَنِ الحَقّ جائِرَهْ
    تذكرَ أنَّى يَجْعَلُ اللهُ فُرصَةً
    فَيُصْبِحَ ذا مالٍ وَيَقْتُلَ واتِرهْ
    فَلَمَّا رَأى أنْ ثَمِّرَ اللهُ مالَهُ
    وَأثَّلَ مَوْجودًا وَسَدّ مَفاقِرَهْ
    أَكَبَّ عَلَى فَأسٍ يُحُدّ غُرابُهَا
    مُذَكَّرَة مَتْنَ المَعاوِلِ باتِرَهْ
    فَقامَ لَها مِنْ فَوْقِ جُحْرٍ مُشَيَّدٍ
    لِيَقتُلَها أو تُخْطِىءَ الكَفُّ بادِرَه
    فَلَمَّا وَقاها اللهُ ضَرْبَةَ فَأسِهِ
    وَلِلْبِرِّ عَيْنٌ لا تُغَمِّضُ ناظِرَه
    فَقالَ تَعالَيْ نَجْعَلِ اللهَ بَيْنَنا
    عَلَى ما لِنا أوْ تُنْجِزِي ليَ آخِرَهْ
    فَقالَتْ يَمينُ اللهِ أفْعَلُ إنَّني
    رَأَيْتُكَ غَدَّارًا يَمينُكَ فاجِرَهْ
    أَبَى ليَ قَبْرٌ لا يَزالُ مُقابِلي
    وَضَرْبَةُ فَأسٍ فَوْقَ رَأسي فاقِرَهْ

٢

وفي القرآن أمثال كثيرة لها موارد خيالية، من ذلك قوله تعالى:

وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ * وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ

فإن هذا تشبيه وتمثيل يراد به تصوير حال الأبرار والفجار، وما لهؤلاء من الخزي، وما لأولئك من النعيم.

وأصرح من هذا قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا.

فإنه لم يحصل عرض ولا إباء ولا إشفاق، وإنما المراد تصوير التكاليف وما فيها من المشقة، وتصوير الإنسان وما يغلب عليه من الغرور والجهل بحقائق الأشياء.

وكذلك قوله — عز وشأنه —: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ.

فإن الغرض تصوير القدرة الإلهية، وما لها من السلطان المطلق في الأرض والسماء. وتظهر قيمة هذا التصوير إذا نظرنا في الآيات التي قصد بها الترغيب والترهيب كقوله تبارك اسمه:

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ

فإنك تراه يصور ما سيكون بصورة الواقع المخيف، ثم تراه يتبع ذلك بقوله:

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ

هذا في الترهيب، ثم قوله في التشويق إلى دار النعيم:

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ

قال صاحب الطراز: ومن التمثيل الرائق قوله تعالى:

وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ. وقوله: وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ.

فهم لإعراضهم عن الدين، وإصرارهم على المخالفة لما جاء به الرسول، وبلوغ الغاية في الصد والنكوص، ممثلون بحال من جعل على قلبه كنان فهو لا يفقه ما يقال له، ولا يرعوي لقبوله، وبحال من ضرب بينه وبين مراده بسد من بين يديه ومن خلفه فهو لا يهتدي إليه، ولا يمكنه الوصول إلى بغيته بحال.

والتمثيل تشبيه حالة بحالة كقوله تعالى:

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا

فإن الشبه كما قال عبد القاهر الجرجاني منتزع من أحوال الحمار، وهو أنه يحمل الأسفار التي هي أوعية العلوم، ومستودع ثمر العقول، ثم لا يحس بما فيها، ولا يشعر بمضمونها، ولا يفرق بينها وبين سائر الأعمال التي ليست من العلم في شيء، ولا من الدلالة عليه بسبيل، فليس له مما يحمل حظ سوى أنه يثقل عليه، ويكد جبينه، فهو كما ترى مقتضى أمور مجموعة، ونتيجة لأشياء ألفت، وقرن بعضها إلى بعض٢.

ولعلماء البيان كلام كثير في الفرق بين الاستعارة والكناية والتمثيل، وإنما يعنيني أن يعرف القارئ أن هذا النوع من التعبير ليس من الصور الشعرية التي أسلفت عنها الحديث، وإن كان في ذاته نوعًا من التصوير لما فيه من روعة الخيال.

٣

ويمكن أن يقال: إن الاستعارة التمثيلية صورة للمعنى، أما الصورة الشعرية فهي مثال للغرض، فقوله تعالى: وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ تمثيل يراد به تقرير معنى خاص: هو قدرة الله. أما تصوير الغرض بصورة شعرية فكقوله تعالى في آخر سورة المائدة:

وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

فإنه لا شك في أن هذا تصوير للغرض، لا للمعنى، والمعنى جزء من الغرض، فإن هذا الحوار البديع الذي جرى بين رب العزة وبين عبده ورسوله عيسى عليه السلام يمثل غرضًا كليًّا يشتمل على طائفة من المعاني الجزئية، فتصوير المعنى الجزئي هو الاستعارة أو التمثيل، وتصوير الغرض الكلي هو الصورة الشعرية التي يراد بها الوصول إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه من التأثير الذي هو غاية البيان.

٤

ومن الصور الشعرية قوله تعالى في تحديد موقف المسلمين أمام أعدائهم من المشركين: وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ ۚ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ۚ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.

وأحب أن يذكر القارئ أني أتكلم عن القرآن من الوجهة الأدبية بغض النظر عما في مثل هذه الآيات من أحكام القتال، وما قد ينظر فيه الفقيه من وجوه النسخ وضروب التأويل، وأقرر أن هذه الصورة تكاد تكون خطبة في الدعوة إلى الجهاد.

وتمتاز الصور الشعرية في القرآن بتثبيت المعنى وتأكيده حين يقتضي المقام ذلك، والقرآن لا يرى غضاضة في التكرار حين يحتاج إليه، بل يراه واجبًا محتوم الأداء وإنك لتجده في هذه الآيات يبدئ ويعيد في لعن المشركين وتحقيرهم، والدعوة إلى تعذيبهم، وإذلالهم. وتقتيلهم، إذ كان ذلك من أغراضه الأساسية. ألا تراه يوصي بالرفق حين يقول:

وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ. ثم يصرخ صرخة الغضب تتفجر من جوانبه الدماء، فيقول: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ. ثم لا يكفيه هذا بل يقول: اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ ۚ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. ثم لا يكفيه هذا بل يقول: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ. ثم يعود فيقول: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. ثم يثور فيقول: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

وأود أن يذكر القارئ أن العهد الذي نزل فيه القرآن كان عهد فتنة وعماية وضلال، وكانت هذه الغضبة التي تقبض بها جوانب القرآن غضبة طبيعية، لا إثم فيها ولا عدوان. أقول ذلك ليعرف القارئ السر في أني أجعل من القرآن صورًا شعرية، وإن لم يكن النبي من الشعراء، فليس القرآن من الكتب التي يراد بها التشريع المحض، وإنما هو يذكر القوانين في بساطة وسهولة، ثم يدعو إلى تأييدها وتنفيذه بالقوة والجبروت.

٥

ومن الصور الشعرية البديعة التي وردت في القرآن قوله عز شأنه:

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ

اتل هذا أيها القارئ مرة وثانية وثالثة، وحدثني أتجد أعذب من هذا الحديث الممتع؟ وهل تجد أخف منه على السمع، وأحب منه إلى القلب، وأرفق منه بالنفس؟ ألا ترى الحسن يجري في هذا الحديث كما يجري السحر في الطرف الكحيل، ويتغلغل الإيمان في قلب قارئه كما يتغلغل في صدر الوالد يرفق به ابنه الوحيد؟؟

٦

ومن الصور الشعرية الرائعة قوله تبارك اسمه:

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَـٰذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ

•••

وأنا أستطيع إيراد المئات من الصور الشعرية في القرآن، لو سمح الوقت، ولكن هيهات! فليكتف القارئ بذلك، وليعلم أن في هذا المنهج غناء أي غناء، لمن يريد الموازنة بين الكتاب والخطباء، فإن التأثير يرتكز على ما في الخطب والرسائل من الصور الشعرية التي تفعل ما تفعل بالعقول والقلوب. وكم في خطب علي بن أبي طالب ورسائل الجاحظ من الصور الفتانة، التي تسكن إليها شوارد النفوس!

١  العقل — هنا — هو الدية.
٢  راجع أسرار البلاغة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤