الفصل الثالث عشر

الحصري وشوقي

بينّا في الأبحاث الماضية ما يجب أن يتوفر في الناقد الموازن من الشروط، وبسطنا القول في نظرية الصور الشعرية التي تعتمد عليها في النقد بعد مراعاة ما عني به الأقدمون من اختيار الألفاظ والأساليب، والآن ندخل في بحث جديد لم يسلكه أحد من قبل: هو الموازنة بين القصائد المشهورة التي جرت مجرى المعارضة والمماثلة كما فعل ابن المعتز في معارضة الحسين بن الضحاك، وابن عبد ربه في معارضة مسلم بن الوليد، وابن درّاج في معارضه أبي نواس، والبارودي في معارضة أبي فراس، إلخ.

ولهذا البحث أهمية كبيرة؛ لأنه سيمكننا من دراسة عرائس الشعر دراسة منظمة دقيقة، وسيرينا كيف تتصاول العقول، وكيف تتسابق القرائح، إذ كانت معارضة الشاعر للشعر نوعًا من السباق في عالم البيان.

ولنبدأ بالموازنة بين دالية الحصري: «يا ليل الصب متى عده» ودالية شوقي «مضناك جفاه مرقده»، فإن لهاتين القصيدتين أثرًا في أندية الأدب ومجالس الغناء ومن الخير أن نميط اللثام عما فيهما من مواطن الحسن، ومظان الضعف، وأن نبين أي الشاعرين أبرع لفظًا، وأشرف معنى، وأسمى خيالًا.

والحُصْري١ — بضم الحاء المهملة، وسكون الصاد المهملة، وبعدها راء مهملة هو أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري المقرئ الضرير القيرواني، وهو ابن خالة أبي إسحاق الحصري صاحب كتاب زهر الآداب، وقد ذكر ابن بسام في الذخيرة أن أبا الحسن الحصري كان بحر براعة، ورأس صناعة، وزعيم جماعة، وأنه طرأ على الأندلس منتصف المئة الخامسة من الهجرة بعد خراب وطنه من القيروان، والأدب بأفق الأندلس يومئذ نافق السوق، معمور الطريق، فتهاداه ملوك الطوائف تهادي الرياض بالنسيم، وتنافسوا فيه تنافس الديار بالأنس المقيم.
ولكنه فيما نقل لم يطمئن هناك، فاحتمل على مضض بين زمانه، وبعد قطره، ثم اشتملت عليه مدينة طنجة بعد خلع ملوك الطوائف، وتوفي بها رحمه الله سنة ٤٨٨ وله قصيدة طويلة في قراءات نافع، وله ديوان شعر٢، وهو القائل:
أَقولُ لَهُ وَقَدْ حَيَّا بِكَأْسٍ
لَها مِنْ مِسْكِ رِقَّتِهِ خِتامُ
أَمِنْ خَدَّيْكَ تُعْصَرُ قالَ كَلّا
مَتَى عُصِرَتْ مِنَ الْوَرْدِ المُدامُ

ويقول ابن بسام في وصفه: «على أنه كان فيما بلغني ضيق العطن، مشهور اللسن، يتلفت إلى الهجاء، تلفت الظمآن إلى الماء».

وكنا نودّ لو حفظ لنا التاريخ صورة مضبوطة لأخلاق هذا الشاعر المجيد، فإن كلمة ابن بسام لا تفيد غير الظن، وأين الظن من اليقين.

ويمكن الحكم بأنه كان خبيرًا بأسرار اللغة العربية، فإن في الاغتراب وصحبة الملوك عونًا على فهم دقائق الوجود.

أما شوقي فشاعر معروف في مصر والشرق، وله كلف بمعارضة القدماء، وهو كذلك خبير بأسرار اللغة العربية، وبصير بشئون الحياة، وهو كالحصري افتتح قصيدته بالنسيب، واختتمها بالمديح ولكني سأقتصر في الموازنة على صدر القصيدتين، إذ كان النسيب هو السبب فما يرجى لهما من الخلود، إن كان لهذا العالم حظ من الخلود٣.

قصيدة الحصري

يَا ليْلُ الصَّبُّ مَتَى غَدُهُ
أقيَامُ السَّاعةِ مَوْعِدُهُ
رَقَدَ السُّمَّارُ فأَرَّقَهُ
أسَفٌ لِلْبَيْنِ يُرَدِّدُهُ
فَبَكاهُ النَّجْمُ وَرَقَّ لَهُ
مِمَّا يَرْعاهُ وَيَرْصُدُهُ
كَلِفٌ بِغَزالٍ ذِي هَيَفٍ
خَوْفُ الْواشينَ يُشَرِّدُهُ
نَصَبَتْ عَيْنايَ لَهُ شَرَكًا
في النَّوْمِ فَعَزَّ تَصَيُّدُهُ
وَكَفَى عَجَبًا أَنِّي قَنصٌ
لِلسِّربِ سَبانِي أغْيَدُهُ
صَنَمٌ لِلْفِتْنَةٍ مُنْتَصِبٌ
أهْواهُ ولا أتَعَبَّدُهُ٤
صاحٍ وَالخَمْرُ جَنَى فَمِهِ
سَكْرانُ اللَّحْظِ مُعَرْبِدُهُ
يَنْضُو مِنْ مُقْلِتِهِ سَيْفًا
وَكَأَنَّ نُعَاسًا يُغْمِدُهُ
فَيُريقُ دَمَ الْعُشَّاقِ بِهِ
وَالْوَيْلُ لِمَنْ يَتَقَلَّدُهُ
كَلاّ لاَ ذَنْبَ لِمَنْ قَتَلَتْ
عَيْنَاهُ وَلَمْ تَقْتُلْ يَدُهُ

•••

يا مَن جَحَدَتْ عَيْناهُ دَمِي
وَعَلَى خَدَّيْهِ تَوَرُّدُهُ
خَدَّاكَ قَد اِعْتَرَفا بِدَمِي
فَعَلامَ جُفونُكَ تَجْحَدُهُ
إِنِّي لَأُعيذُكَ مِنْ قَتْلِي
وَأَظُنُّكَ لاَ تَتَعَمَّدُهُ
بِاللهِ هَبِ المٌشْتاقَ كَرَىً
فَلَعَلَّ خَيالَكَ يُسْعِدُهُ
ما ضَرَّكَ لَوْ دَاوَيْتَ ضَنَى
صَبٍّ يُدْنيكَ وتُبْعِدُهُ
لَمْ يُبْقِ هَواكَ لَهُ رَمَقًا
فَلْيَبْكِ عَلْيهِ عُوَّدُهُ
وَغَدًا يَقْضِي أوْ بَعْدَ غَدٍ
هل مِنْ نَظَرٍ يتَزَوَّدُهُ
يا أهْلَ الشَّوْقِ لَنا شَرَقٌ
بِالدَّمْعِ يَفيضُ مَوْرِدُهُ
يَهْوَى المُشْتاقُ لِقاءَكُمُو
وصُروفُ الدَّهْرِ تُبَعِّدُهُ

•••

ما أحْلَى الوَصْلَ وأَعْذَبَهُ
لَوْلا الأيَّامُ تُنَكِّدُهُ
بِالبَيْنِ وبِالْهجْرانِ فَيا
لَفُؤَادِي كيْف تَجَلُّدُهُ

قصيدة شوقي

مُضْناكَ جفاهُ مَرْقَدُهُ
وبكاهُ ورحَّمَ عُوَّدُهُ
حَيْرانُ القَلْبِ مُعَذَّبُهُ
مَقْروحُ الجَفْنِ مُسَهَّدُهُ
أَوْدَى حَرَفًا إِلَّا رَمَقًا
يُبْقيهِ عَلَيكَ وَتُنْفِدُهُ
يَسْتَهْوي الوُرْقَ تَأَوُّهُهُ
وَيُذيبُ الصَخْرَ تَنَهُّدُهُ
وَيُناجي النَّجْمَ وَيُتْبَعُهُ
وَيُقيمُ اللَيْلَ وَيُقعِدُهُ
وَيُعَلِّمُ كُلِّ مُطَوَّقَةٍ
شَجَنًا في الدَّوْحِ تُرَدِّدُهُ
كَمْ مَدَّ لِطَيْفِكَ مِنْ شَرَكٍ
وَتَأَدَّبَ لا يَتَصَيَّدُهُ
فَعَساكَ بِغُمْضٍ مُسْعِفُهُ
وَلَعَلَّ خَيالَكَ مُسْعِدُهُ
الحُسْنُ حَلَفْتُ بِيوسُفِهِ
وَالسُّورَةِ إِنَّكَ مُفْرَدُهُ
قَد وَدَّ جَمالَكَ أَو قَبَسًا
حَوْراءُ الخُلْدِ وَأَمْرَدُهُ
وَتَمَنَّتْ كُلُّ مُقَطِّعَةٍ
يَدَهَا لوْ تُبْعثُ تشْهدُهُ
جَحَدَت عَينْاكَ زَكِيَّ دَمي
أَكَذلِكَ خَدُّكَ يَجْحَدُهُ
قَدْ عَزَّ شُهودي إِذْ رَمَتا
فَأَشَرْتُ لِخَدِّكَ أُشْهِدُهُ
وَهَمَمْتُ بِجيدِكِ أَشْرَكُهُ
فَأَبى وَاِسْتَكْبَرَ أَصْيَدُهُ
وَهَزَزْتُ قَوامَكَ أَعْطِفُهُ
فَنَبا وَتَمَنَّعَ أَمْلَدُهُ
سَبَبٌ لِرِضاكَ أُمَهِّدُهُ
ما بالُ الخَصْرِ يُعَقِّدُهُ
بَيْني في الحُبِّ وَبَيْنَكَ ما
لا يَقْدِرُ واشٍ يُفْسِدُهُ
ما بالُ الْعاذِلِ يَفْتَحُ لي
بابَ السُّلوانِ وَأوصِدُهُ
وَيَقولُ تَكادُ تُجَنُّ بِهِ
فَأَقولُ وَأوشِكُ أَعْبُدُهُ
مَوْلايَ وَروحي في يَدِهِ
قَدْ ضَيَّعَها سَلِمَتْ يَدُهُ
نَاقوسُ الْقَلْبِ يَدُقُّ لَهُ
وَحنَايَا الْأَضْلُعِ مَعْبَدُهُ
حُسَّادي فِيهِ أعْذِرُهُمْ
وَأَحقُّ بعُذْري حُسّدهْ
قَسَمًا بِثَنايا لُؤْلُئِها
قَسَمَ الْياقوتُ مُنَضَّدُهُ
وَرُضابٍ يُوعَدُ كَوْثَرُهُ
مَقْتولُ الْعِشْقِ وَمُشْهَدُهُ
وَبِخَالٍ كَادَ يُحَجُّ لَهُ
لَوْ كان يُقْبّلُ أَسْودُهُ
وقَوَام يَرْوِي الْغُصْنُ لَهُ
نَسَبًا وَالرُّمْحُ يُفنِّدُهُ
وَبِخَصْرٍ أَوْهَنَ مِنْ جَلَدي
وَعَوادي الْهَجْرِ تُبَدِّدُهُ
ما خُنْتُ هَواكَ وَلا خَطَرَتْ
سَلْوَى بِالْقَلْبِ تُبَرِّدُهُ

الموازنة

ولنذكر أولًا ما في القصيدتين من الأغراض، وإنا لنجد الحصري تكلم عن طول الليل، وطيف الخيال، وخمر الرضاب، وسيف المقلة، وجناية العين، وحمرة الخد، واستعطاف الحبيب، وفناء المحب. ونجد شوقي تكلم عن لوعة المضني، وطيف الخيال، وجمال المحبوب، وجناية العين، وحسن القد والجيد، ودقة الحصر، والصبر على الوشاة، وتفدية الحبيب، والرفق بالحساد، والحرص على الحب، والبراءة من السلوان، فقصيدة شوقي إذًا أحفل بالأغراض.

مواطن الحسن

ولنوازن بين المطالع، وإنا لنجد الحصري يقول:

يَا ليْلُ الصَّبُّ مَتَى غَدُهُ
أقيَامُ السَّاعةِ مَوْعِدُهُ
رَقَدَ السُّمَّارُ فأَرَّقَهُ
أسَفٌ لِلْبَيْنِ يُرَدِّدُهُ
فَبَكاهُ النَّجْمُ وَرَقَّ لَهُ
مِمَّا يَرْعاهُ وَيَرْصُدُهُ

ونجد شوقي يقول:

مُضْناكَ جفاهُ مَرْقَدُهُ
وبكاهُ ورحَّمَ عُوَّدُهُ
حَيْرانُ القَلْبِ مُعَذَّبُهُ
مَقْروحُ الجَفْنِ مُسَهَّدُهُ
أَوْدَى حَرَفًا إِلَّا رَمَقًا
يُبْقيهِ عَلَيكَ وَتُنْفِدُهُ
يَسْتَهْوي الوُرْقَ تَأَوُّهُهُ
وَيُذيبُ الصَخْرَ تَنَهُّدُهُ
وَيُناجي النَّجْمَ وَيُتْبَعُهُ
وَيُقيمُ اللَيْلَ وَيُقعِدُهُ
وَيُعَلِّمُ كُلِّ مُطَوَّقَةٍ
شَجَنًا في الدَّوْحِ تُرَدِّدُهُ

والمطلع في رأينا هو أول صورة شعرية، لا أول بيت، ومطلع شوقي أوفى وأروع من مطلع الحصري، وخطاب الحبيب في قول شوقي:

مُضْناكَ جفاهُ مَرْقَدُهُ
وبكاهُ ورحَّمَ عُوَّدُهُ

أرق من خطاب الليل في قول الحصري:

يَا ليْلُ الصَّبُّ مَتَى غَدُهُ
أقيَامُ السَّاعةِ مَوْعِدُهُ

وقول شوقي في حيرة المحب وعذابه وفنائه:

حَيْرانُ القَلْبِ مُعَذَّبُهُ
مَقْروحُ الجَفْنِ مُسَهَّدُهُ
أَوْدَى حَرَفًا إِلَّا رَمَقًا
يُبْقيهِ عَلَيكَ وَتُنْفِدُهُ
يَسْتَهْوي الوُرْقَ تَأَوُّهُهُ
وَيُذيبُ الصَخْرَ تَنَهُّدُهُ

هذه الأبيات أوفى وأمتع من قول الحصري:

رَقَدَ السُّمَّارُ فأَرَّقَهُ
أسَفٌ لِلْبَيْنِ يُرَدِّدُهُ

وقول شوقي:

وَيُناجي النَّجْمَ وَيُتْبَعُهُ
وَيُقيمُ اللَيْلَ وَيُقعِدُهُ

أقرب في صدقه إلى الواقع من قول الحصري:

فَبَكاهُ النَّجْمُ وَرَقَّ لَهُ
مِمَّا يَرْعاهُ وَيَرْصُدُهُ

وقول الحصري في تصيد الطيف:

نَصَبَتْ عَيْنايَ لَهُ شَرَكًا
في النَّوْمِ فَعَزَّ تَصَيُّدُهُ
وَكَفَى عَجَبًا أَنِّي قَنصٌ
لِلسِّربِ سَبانِي أغْيَدُهُ

أبرع من قول شوقي:

كَمْ مَدَّ لِطَيْفِكَ مِنْ شَرَكٍ
وَتَأَدَّبَ لا يَتَصَيَّدُهُ
فَعَساكَ بِغُمْضٍ مُسْعِفُهُ
وَلَعَلَّ خَيالَكَ مُسْعِدُهُ

لأن الحصري حدثنا عن حقيقة صادقة، وهي تمنع الطيف: فليس في طوق المحب أن يظفر بطيف حبيبه كلما مد له الأشراك.

ولا يعجبني تأدب شوقي في قوله:

كَمْ مَدَّ لِطَيْفِكَ مِنْ شَرَكٍ
وَتَأَدَّبَ لا يَتَصَيَّدُهُ
لأن التأدب هنا ضعف، ولو ذكر أنه يهاب أن يتصيده لحمدنا له هيبة الحسن، وإن الحسن لمهيب الجناب٥.

ويروقني قول شوقي:

مَوْلايَ وَروحي في يَدِهِ
قَدْ ضَيَّعَها سَلِمَتْ يَدُهُ
نَاقوسُ الْقَلْبِ يَدُقُّ لَهُ
وَحنَايَا الْأَضْلُعِ مَعْبَدُهُ
حُسَّادي فِيهِ أعْذِرُهُمْ
وَأَحقُّ بعُذْري حُسّدهْ

فإن فيه صورة للوعة المحب يشفق بمحبوبه ويحنو عليه، في ظلمه وعدوانه، ولم يعرض الحصري لمثل هذا المعنى البديع، وأخلق بهذه الأبيات أن تكون صلاة للحسن، إن قضى الله أن نصلي له، كما يصلي فريق للشمس عند الشروق، والهوى — كما قيل — إله معبود.

وما أرفق شوقي وأرقه حين يقول:

قَد وَدَّ جَمالَكَ أَو قَبَسًا
حَوْراءُ الخُلْدِ وَأَمْرَدُهُ

فإن الحسن لا يعبد بأرق من هذا الوصف، وهل العبادة إلا وصف المعبود بالتفرد والجلال.

وقول الحصري:

صاحٍ وَالخَمْرُ جَنَى فَمِهِ
سَكْرانُ اللَّحْظِ مُعَرْبِدُهُ

أروع وأبدع من قول شوقي:

وَرُضابٍ يُوعَدُ كَوْثَرُهُ
مَقْتولُ الْعِشْقِ وَمُشْهَدُهُ

وأرى من الظلم أن نوازن بين هذين البيتين، فإن بيت الحصري بيت فذ نادر المثال، وفيه وحده صورة شعرية رائعة، وما رددته إلا فتنت به فتنة جديدة وظهر لي منه معنى جديد، كالوجه المشرق لا نهاية لحسنه، ولا حد لقدرته على تصريف القلوب.

ولك أن تتأمل كلمة «جنى» في قوله:

صاحٍ وَالخَمْرُ جَنَى فَمِهِ
سَكْرانُ اللَّحْظِ مُعَرْبِدُهُ

وما هذه العربدة يا صاح؟ إنها الأشراك التي يقيدك بها اللحظ، وأنت تنهل من ورده العذب الجميل!

وقول شوقي:

جَحَدَت عَينْاكَ زَكِيَّ دَمي
أَكَذلِكَ خَدُّكَ يَجْحَدُهُ
قَدْ عَزَّ شُهودي إِذْ رَمَتا
فَأَشَرْتُ لِخَدِّكَ أُشْهِدُهُ

أرق من قول الحصري:

يا مَن جَحَدَتْ عَيْناهُ دَمِي
وَعَلَى خَدَّيْهِ تَوَرُّدُهُ
خَدَّاكَ قَد اِعْتَرَفا بِدَمِي
فَعَلامَ جُفونُكَ تَجْحَدُهُ

لأن الاستفهام في قول شوقي أعطى المعنى شيئًا من الحسن، وزاده تمكينًا في النفس، على ما فيه من الابتذال.

وقد أجاد الحصري في استعطاف الحبيب إذ يقول:

لَمْ يُبْقِ هَواكَ لَهُ رَمَقًا
فَلْيَبْكِ عَلْيهِ عُوَّدُهُ
وَغَدًا يَقْضِي أوْ بَعْدَ غَدٍ
هل مِنْ نَظَرٍ يتَزَوَّدُهُ

ولا نجد هذه النغمة المحزنة في قصيدة شوقي، وإنها لتذكرنا بهذا البيت الحزين:

وَأَرَى الأَيَّامَ لا تُدْنِي الَذي
أَرْتجي مِنْك وتُدْني أجَلي

مظان الضعف

وإني لأستثقل الصنم المنتصب في قول الحصري:

صَنَمٌ لِلْفِتْنَةٍ مُنْتَصِبٌ
أهْواهُ ولا أتَعَبَّدُهُ
لأن كلمة «الصنم» كلمة غير شعرية٦. والعرب تستملح «الدمية» في وصف المرأة الجميلة والدمية هي الصورة المنقشة من الرحام، والجمع دمي، قال بعض الأعراب:
وَإِنِّي لَأُهْدَي بالْأَوانِس كالدُّمَى
وَإِنّي بأَطْراف الْقنا للعُوبُ
وَإِنِّي عَلَى ما كانَ مِنْ عُنْجُهِيّتي
ولوْثة أعْرابيّتي لأُديبُ

وكذلك أستضعف قول الحصري:

ما أحْلَى الوَصْلَ وأَعْذَبَهُ
لَوْلا الأيَّامُ تُنَكِّدُهُ
بِالبَيْنِ وبِالْهجْرانِ فَيا
لَفُؤَادِي كيْف تَجَلُّدُهُ

وأضعف منه قول شوقي:

بَيْني في الحُبِّ وَبَيْنَكَ ما
لا يَقْدِرُ واشٍ يُفْسِدُهُ
ما بالُ الْعاذِلِ يَفْتَحُ لي
بابَ السُّلوانِ وَأوصِدُهُ

ولا أدري ما قيمة التعجب في البيت الثاني من هذين البيتين، وهو لا يزيد شيئًا عن الصوت العامي المشهور «كيد العواذل كايدني بس اسمع شوف».

وكذلك لا قيمة لقوله:

وَبِخَصْرٍ أَوْهَنَ مِنْ جَلَدي
وَعَوادي الْهَجْرِ تُبَدِّدُهُ

وهي مبالغة مردودة؛ لأن الذي يستملح الخصر الدقيق لا يرضيه أن يكون أوهن من صبر المحب تعدو عليه عوادي الصدود.

وقد ظلم شوقي نفسه حين قال:

وقَوَام يَرْوِي الْغُصْنُ لَهُ
نَسَبًا وَالرُّمْحُ يُفنِّدُهُ

كما أساء الحصري إلى شعره إذ قال:

إِنِّي لَأُعيذُكَ مِنْ قَتْلِي
وَأَظُنُّكَ لاَ تَتَعَمَّدُهُ

فإن هذا خيال فقهاء، لا خيال شعراء!

روعة الخيال

وإنه ليجمل بنا بعد هذا أن نوازن بين ما للحصري وشوقي من الخيال الرائع، وإنا لنستجيد قول الحصري:

يَنْضُو مِنْ مُقْلِتِهِ سَيْفًا
وَكَأَنَّ نُعَاسًا يُغْمِدُهُ
فَيُريقُ دَمَ الْعُشَّاقِ بِهِ
وَالْوَيْلُ لِمَنْ يَتَقَلَّدُهُ
كَلاّ لاَ ذَنْبَ لِمَنْ قَتَلَتْ
عَيْنَاهُ وَلَمْ تَقْتُلْ يَدُهُ

وإن البيت الأول لمن ونبات الخيال، وفي البيت الثاني ضعف، والثالث مع ضعفه مستملح مقبول.

ونستجيد كذلك قول شوقي:

نَاقوسُ الْقَلْبِ يَدُقُّ لَهُ
وَحنَايَا الْأَضْلُعِ مَعْبَدُهُ
وللقارئ أن يلومنا في استجادة هذا البيت، وأن يذكر أن هذا أيضًا خيال فقهاء، لا خيال شعراء. ولنا أن نذكر القارئ بأن المعابد والنواقيس من الألفاظ التي استملحها العرب، لكثرة ما تحدث عنها الشعراء وهم يتغنون بمعالم اللهو، وملاعب الشباب، ولهم في الأديار شعر ممتع عُنيت بتفصيله في غير هذا الحديث٧، وكذلك ظرف شوقي حين تحدث عن المعبد والناقوس، وكان خياله قريبًا في الحسن من خيال الحصري، إذ توهم اللحظ سيفًا يكاد يغمده النعاس، وإني لمفتون بهذا الخيال.

البراعة في تناول المعاني

وإنا لنرى شوقي أبرع من الحصري في تناول المعاني، ومن السهل أن نعلل هذا: فإن الحصري لم يجر في قصيدته إلا على الفطرة، وكان من ذلك أن رضى بعفو الخاطر. أما شوقي فمعارض من همه أن يظفر بالسبق، وكان من ذلك أن عني بترتيب المعاني، واختيار الألفاظ، وتنوع الأغراض. على أن هذا التكلف لم يمض بلا عيوب، فإنه لا معنى لقول شوقي:

وَبِخَالٍ كَادَ يُحَجُّ لَهُ
لَوْ كان يُقْبّلُ أَسْودُهُ

ولا رونق لقوله:

وَتَمَنَّتْ كُلُّ مُقَطِّعَةٍ
يَدَهَا لوْ تُبْعثُ تشْهدُهُ

الحكم

وللقارئ — إن شاء الحكم — أن يرجع إلى ما أسلفنا القول عنه من مواطن الحسن، ومظان الضعف، ومواقع الخيال: ليرى أي الشاعرين أولى بالسبق، وأيهما أرجح في الميزان. وحسبه أن دللناه على ما في القصيدتين من المحاسن والعيوب، فإننا لا نعنى بالأشخاص، وإنما يعنينا أن ندرس الشعر، وأن نقف على ما فيه من القوة والضعف، والحسن والقبح. وكذلك ندرس البيان، ونحن نوازن بين الشعراء.

١  ذكر ابن خلكان أنه منسوب إلى الحصر التي تفرش، وقد حدثنا السيد حسني عبد الوهاب أنه منسوب إلى «الحصر» وهي قرية قديمة بالقرب من القيروان.
٢  راجع وفيات الأعيان.
٣  للشاعر شوقي حظ عظيم من عناية المؤلف، وقد كتب عنه فصولا أخرى نقد بها مذاهبه الشعرية والاجتماعية، ويمكن الرجوع إليها في الجزء الأول والثاني من كتاب (البدائع).
٤  الصنم: هو التمثال، ولا تزال هذه الكلمة على ألسنة أهل المغرب، وإن كانت في مصر مما ينكر الذوق.
٥  هذه اللفتة تذكر بقول الشاعر:
حمى نفسه الحسن أضعاف ما
حمى نفسه الجمر لما التهب
٦  لكثرة ما ورد في ذم الأصنام، وقد أشرنا في هامش سلف إلى أن هذه الكلمة لا تزال حية على ألسنة أهل المغرب، وهم يقولون: «صنم» حيثما يشيرون إلى التمثال.
٧  تحد هذا البحث في كتاب «أثر الشعر في ربط الشعوب».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤