الفصل الرابع عشر

البُحتري وشوقي

قلنا: إن لشوقي كلفًا بمعارضة المتقدمين من الشعراء، ووازنا بين داليته ودالية الحصري في الكلمة السابقة، والآن نوازن بينه وبين البحتري، فقد عارض سينيته في وصف إيوان كسرى بقصيدة سينية وصف بها قصر الحمراء. ولهاتين القصيدتين قيمة كبيرة، ومن الخير أن نوازن بينهما موازنة دقيقة؛ ليقف القارئ على ما فيهما من براعة الوصف وحسن البيان.

ولنذكر أولًا أن شوقي يتأثر البحتري منذ زمن بعيد، ويود لو ظفر شعره بتلك الديباجة البحترية، التي ضربت بها الأمثال.

ولننظر كيف يقول في خطاب «أم المحسنين»:

النِّيلُ فَجَّرَ مَشْرَعيْنِ وَعَيْلَمًا
وَتَفَجَّرَتْ يُمْناكِ خَمْسَةَ أَبْحُرِ
أَحْيَيْتِ في فَضْلِ المُلوكِ وَعِزِّهِمْ
ما ماتَ مِنْ أُمِّ الْخَليفَةِ جَعْفَرِ
إنَّ الَّذي قَدْ رَدَّها وَأَعادها
في بُرْدتَيْكِ أَعادَ فيَّ البُحْتُري

وسنرى كيف يقول وهو يطوف بقصر الحمراء:

وَعَظَ الْبُحْتُريَّ إِيوانُ كِسْرَى
وَشَفَتْني الْقُصورُ مِنْ عَبْدِ شَمْسِ

حياة البحتري

ولد أبو عبادة الوليد بن عبيد البحتري في سنة ٣٠٦ بمنبج بين حلب والفرات. ومنبج — بالفتح، ثم السكون، وباء موحدة مكسورة وجيم — بلد قديم طيب الهواء. ولد فيه جماعة من فرسان البلاغة منهم: البحتري، وأبو فراس. ومن قبلهما عبد الملك بن صالح الذي قال له الرشيد لما دخل منبج: أهذا منزلك؟ قال: هو لك، ولي بك يا أمير المؤمنين. قال: كيف بناؤه؟ قال: دون منازل أهلي، وفوق منازل الناس.

وقال: وكيف ذلك، وقدرك فوق أقدارهم؟ قال: ذلك خلق أمير المؤمنين أتأسى به، وأقفو أثره، وأحذو حذوه.

قال: فكيف طيب منبج؟ قال: عذبة الماء، طيبة الهواء، قليلة الأدواء.

قال: فكيف ليلها؟ قال: سحر كله!

وفي التشوق إلى منبج يقول إبراهيم بن المدبر، وقد خلى بها شعبة من فؤاده:

وَلَيْلَةَ عَيْنِ المَرْجِ زَارَ خيَالُهُ
فَهَيَّجَ لي شوْقًا وَجَدَّد أحْزاني
فَأَشْرَفتُ أَعْلَى الدَّيْرِ أَنْظُرُ طامِحًا
بأَلْمَحِ آماقٍ وَأَنْظَر إِنْسانِ
لَعَلِّي أَرَى أَبْياتَ مُنْبِجَ رُؤْيَةْ
نُسَكِّنُ مِنْ وَجْدي وتَكْشفُ أشْجاني
فَقَصَّرَ طَرْفي واسْتَهَلَّ بِعَبْرَةٍ
وَفَدَّيْتُ مَنْ لَوْ كان يَدْري لَفَدَّاني
وَمَثَّلَهُ شَوْقي إِلَيْهِ مُقابِلي
وَناجاهُ عَنّي بالضَّميرِ وناجاني
وإنما ذكرنا لك هذه الكلمات عن منبج لندرك بعض السر في رقة البحتري، وجمال شعره، فإن للبلد الطيب الهواء، العذب الماء، القليل الأدواء، أثرًا كبيرًا في تكوين نفس الشاعر، والكاتب، والخطيب١؛ ولأن البحتري كان كثير الحنين إلى منبج، وكان كثيرًا ما يشيد بها في شعره ولننظر كيف يقول في خطاب أبي جعفر محمد بن حميد الطوسي:
لا أَنْسَيَنْ زَمَنًا مُهَذَّبًا
وَظِلالَ عَيْش كانَ عِنْدَكَ سَجْسَجِ
في نِعْمَةٍ أَوطِنْنُها وَسَكَنْتُ في
أَفْيائها فكأنَّنِي في مَنْبِجِ

بداية حياته

شب البحتري وترعرع في منبج. وكان يمدح بها فيما يقولون أصحاب البصل والباذنجان!

قالوا: «وكان منه ما كان في علوة التي شبب بها في كثير من أشعاره، وهي بنت زريقة الحلبية، وزريقة أمها»، ويظهر من هذه الكلمة أن زريقة الحلبية أم علوة كان لها شأن في عالم الجمال، وأن البحتري حين أغرم بعلوة لم يرم فؤاده إلا بين يدي فتاة لعوب، نشأت في مهد المرح، وتقلبت فوق أعطاف الدلال.

ولو أن العرب لم ينصرفوا عن التصوير لخلفوا لنا دمية لعلوة، وأرونا كيف كانت هذه الفتاة التي أضرمت نار الوجد في صدر الوليد، وعلمته كيف تكون الشكوى، وكيف يكون الأنين! وإن الشعر لمدين لهذه الألهة التي أوحت إلى البحتري أن يقول بعد أن خلاها بالشام، وسكن العراق:

أَعِيدِي فِيَّ نَظْرةَ مُسْتَثيبٍ
تَوَخَّى الأَجْرَ أوْ كَرِهَ الأثاما
تَرَيْ كَبِدًا مُحَرَّقَةً وَعَيْنًا
مؤَرَّقَةً وَقَلْبًا مُسْتَهاما
أُلامُ عَلَى هَواكِ وَلَيْسَ عَدْلًا
إذا أحْببْتُ مِثْلَكِ أنْ أُلاما
لَقَدْ حَرَّمْتِ مِنْ وَصْلي حَلالًا
وَقَدْ حَلَّلْتِ مِنْ هَجْري حَراما
تَناءَتْ دارُ عَلْوَةَ بَعْدَ قُربٍ
فَهَلْ رَكْبٌ يُبَلِّغُها السِّلاما
وَجَدَّد طَيْفُها عَتْبًا عَلَيْنا
فَما يَعْتادُنا إِلَّا لِماما
وَرْبَّتَ لَيْلَة قَدْ بتُّ أسْقَى
بعَيْنيْها وَكَفَّيْها المُداما
قَطَعْنا اللَّيْل لَثْمًا وَاعْتِناقًا
وَأَفْنَيْناهُ ضَمَّا وَالْتِزامًا
لَئِنْ أضْحَتْ مَحِلَّتُنا عِراقًا
مُشَرِّقَةً وَحِلَّتُها شآما
فَلَمْ أُحْدِثْ لَها إلاَّ ودادًا
وَلَمْ أزدَدْ بها إلاَّ غَراما

وهناك نفس ثانية كان لها على قلب البحتري سلطان. ومن الوقار أن لا نعرض لها في هذا الحديث، وقد بسطنا عنها القول في كتاب «مدامع العشاق»، ويكفي أن نذكر أنموذجًا من شعره في وصف تلك النفس، وإنه ليقول:

هَل لي سَبيل إلى الظُّهْرانِ مِنْ حَلَبٍ
وَنَشْوةٍ بَيْنَ ذاكَ الوَرْدِ والْآس
أَمُدُّ كَفِّى لِأخْذِ الْكاسِ مِنْ رشأٍ
وَحاجَتي كُلُّها في خامِل الْكاس
بقُرْب أنْفاسِهِ أشْفي الْغَليلَ إذا
دَنا فَقَرَّبها مِنْ حرَّ أنْفاسي

اتصاله بأبي تمام

ولعل أظهر حادث نقل البحتري من عهد إلى عهد هو اتصاله بأبي تمام أمير الشعراء في ذلك الحين، فقد صار إليه وهو بحمص، وعرض عليه شعره. وكان أبو تمام يجلس فلا يبقى شاعر إلا قصده، وعرض عليه شعره. فلما سمع البحتري أقبل عليه وترك سائر الناس. فلما تفرقوا قال له: أنت أشعر من أنشدني، فكيف حالك؟ فشكا إليه خلة، فكتب إلى أهل معرة النعمان يشهد له بالحذق ويوصيهم بإكرامه، قال البحتري: «فأكرموني بكتابه، ووظفوا لي أربعة آلاف درهم، فكانت أول مال أصبته»، وقال البحتري: أنشدت أبا تمام شيئًا من شعري، فأنشدني بيت أوس بن حجر:

إذا مُقْرَمُ مِنَّا ذَرَى حَدُّ نابه
تَخمَّط فينا نابُ آخر مُقْرم٢

وقال: نعيت إلى نفسي! فقلت: أعيذك بالله من هذا! فقال: إن عمري ليس يطول وقد نشأ لطيىء مثلك. أما علمت أن خالد بن صفوان المنقري رأى شبيب بن شبة وهو يتكلم، وهو من رهطه، فقال: يا بني نعي نفسي إليَّ إحسانك في كلامك؛ لأنا أهل بيت ما نشأ فينا خطيب إلا مات من قبله. قال: فمات أبو تمام بعد سنة من هذا.

وهذه بالطبع وسوسة من أبي تمام، ولكنها شاهد على حسن رأيه في شعر البحتري، وقد كان أبو تمام من أعلم الناس بالشعر، حتى قالوا: إنه في اختياره أبلغ منه في شعره.

وقال البحتري: أنشدت أبا تمام شعرًا لي في بعض بني حميد وصلت به إلى مال له خطر، فقال لي: «أحسنت، أنت أمير الشعراء بعدي»، فكان قوله أحب إليّ من جميع ما حويته.

ولا يفوتنا أن نذكر وصية أبي تمام للبحتري، فقد نوه بها ابن رشيق، وساقها صاحب زهر الآداب، وهي تدلنا على رأي أبي تمام في نظم الشعر وذوقه في اختيار الأوقات، وتدلنا كذلك على أسلوب البحتري في حياته الأدبية، فقد ساس نفسه بما أوصاه به أستاذه. وفيها أيضًا نوع من التربية نحب أن نسجله في هذا الحديث.

قال البحتري: كنت في حداثتي أروم الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبعي، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه، ووجوه اقتضابه، حتى قصدت أبا تمام، وانقطعت فيه إليه، واتكلت في تعريفه عليه، فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة، تخير الأوقات، وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم. واعلم أن العادة جرت في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر، وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة، وقسطها من النوم. وإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رقيقًا، والمعنى رشيقًا، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق، فإذا أخذت في مديح سيد ذي أياد، فاشهر مناقبه، وأظهر مناسبه، وأين معالمه وشرف مقامه، ونص المعاني، واحذر المجهول منها، وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الرديئة، ولتكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجساد، وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك، ولا تعمل شعرك إلا وأنت فارغ القلب. واجعل شهوتك إلى الشعر الذريعة إلى حسن نظمه: فإن الشهوة نعم المعين. وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين: فما استحسن العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه، ترشد إن شاء الله.

قال البحتري: فأعملت نفسي فيما قال فوقفت على السياسة٣.

ولهذه الوصية أغراض، يرجع بعضها إلى رياضة النفس تأهبًا للقريض، ويرجع بعضها إلى جوهر الفن، أما فيما يرجع إلى رياضة النفس فأبو تمام مسبوق بطائفة من الشعراء والخطباء، أوصوا باختيار الأوقات التي تصفو فيها النفس وبلطف الحس، ويستيقظ الوجدان، ومنهم من دعا إلى الاستنجاد بالمياه الجارية، والرياض الحالية، والأماكن الخالية. إلا أن أبا تمام — مع أنه مسبوق — وفق كل التوفيق حين قال: «واجعل شهوتك إلى الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين»، وهذه كلمة فاصلة في حياة الفنانين على الإطلاق، سواء كانوا شعراء أم كتابًا، أم مصورين، أم مثالين؛ لأن الإجادة في الفنون تتوقف على الشهوة، وأكاد أحكم بأن الفنان لا يبدع ولا يجيد، إلا إن كان له من فنه معبود جديد.

وأما فيما يرجع إلى جوهر الفن فأبو تمام قصر وصيته على العناية بالنسيب والمديح، وسكت عن بقية الأغراض التي يهتم بها الشعراء، فلم يتكلم عن الرثاء، ولا الهجاء، ولا الفخر، ولا الوصف. مع أن الوصف من أهم ما يعني به الشعراء، ولعله اكتفى بهذه الكلمة العامة التي تنطبق على كل موضوع إذ قال: «ولتكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجساد»، وهي كلمة دقيقة على ما فيها من الابتذال.

ولا يحسبن القارئ أن في إقبال البحتري على ما أوصاه به أستاذه دليلًا على أن شعر أبي تمام وشعر البحتري من نمط واحد … كلا! فإن أبا تمام في وصيته يمثل الأستاذ، ولا يمثل الشاعر؛ لأنا لو حاكمنا شعره إلى وصيته لراعنا بين المنزعين من الفرق البعيد، ولا سيما فيما يتعلق بالتشبيب، فإن أبا تمام لم يتغن بالحسن إلا قليلًا، وحظه من صدق اللوعة ضئيل.

شخصية شوقي

ومهما يكن من شيء، فإن عناية البحتري بوصية أستاذه بيانًا لأسلوبه في رياضة نفسه، وتهذيب شعره، فلننظر بهذه المناسبة، كيف يروض شوقي نفسه، وكيف يهذب شعره، وكيف يتناول ما يقصد إلى نظمه من شتى الأغراض، فقد صحبنا شوقي وعاصرناه، وهو بحمد الله يعيش معنا في مدينة واحدة، وقد نقرأ عليه سينيته في قصر الحمراء قبل أن يضعها في الميزان، وإنا لنزن بالقسطاس المستقيم.

صاحب شوقي إن شئت، فستراه قليل الحديث، وستعجب كيف يكون هذا الصيت الذائع، لهذا الرجل الصموت، وقد تصفه بالتواضع كما وصفه كثير من المتأدبين، ولكن وقد عرفت شوقي، أحكم بأن هذا الرجل مجنون جديد من مجانين ليل، وليلاه هي الشعر، وهو بالشعر مجنون، لا مغرم ولا مفتون، فإن الغرام ولا مفتون، فإن الغرام والفتنة من أيسر ما يعرض لأرباب القلوب.

يحدثك شوقي حديثًا عاديًّا لا روعة له، ولكنه لا ينفك يدور بنظرته الحائرة، وكأنه يبحث عن شيء في لفائف قلبه، وحنايا نفسه، وأعماق ضميره — دخلت عليه، وهو يتأهب لرثاء عبد اللطيف الصوفاني، فأخذ يحدثني عن الجامعة المصرية ونظامها الجديد، ثم يغتني بهذه الكلمة: «الصوفاني بك معضلة من المعضلات، هو تمثال إخلاص، ولكن هل له عقل الفلاسفة والزعماء؟»، فعرفت أن الرجل في واد آخر غير الحديث عن الجامعة المصرية وأن قلبه، ونفسه، وحسه، ووجدانه في شغل بما يعدّه لرثاء الصوفاني بك «تمثال الإخلاص»، وعرفت أنه لا بد أن يقول شيئًا في تحديد تلك الشخصية، ثم انتظرت يوم التأبين، فإذا هو يقول عن أثر الفقيد في المجالس النيابية:

ما كان قُسًّا وَلا زِيادًا
وَلا بِسِحْر البيان جاءَ
لَكِنْ إِذا قامَ قالَ صِدْقًا
وَجانَبَ الزُّورَ وَالرِّياءَ
وقد وصفه الأستاذ خليل مطران وصفًا صادقًا حين قال:

ينظم بين أصحابه فيكون معهم، وليس معهم، وينظم في المركبة، وفي السكة الحديدية، وفي المجتمع الرسمي، وحيث يشاء، ولا يعرف جليسه أنه ينظم إلا إذا سمع منه بادئ بدء غمغمة تشبه النغم الصادر من غور بعيد، ثم رأى ناظريه، وقد برقا وتواترت فيهما حركة المحجرين، ثم بضربه، وقد رفع يده إلى جبينه، وأمرها عليه إمرارًا خفيفًا هنيهة بعد هنيهة — فإذا قوطع في خلال النظم انتقل إلى أي بحث يباحث فيه حاضر الذهن صافيه، جميل البادرة، كعادته في الحديث — ثم إذا استأنف ذلك المنظوم ولو بعد أيام طوال عاد إليه كأنه لم تنقطع عنه مستظهرًا ما تم منه حافظًا لبقية المعنى الذي يضمره، يكتب القصيدة بعد تمامها وربما تمت ونسيها شهرًا، ثم ذكرها فكتبها في جلسة واحدة — يكلف أحيانًا بمعارضة المتقدمين، ولا يندر عليه أن يبزهم — ولا يجهد فكره ولا يكده في معنى أو مبنى، فأما المعنى فيجيئه على مرامه، أو على أبعد من مرامه؛ ولا ينضب عنده لأنه يستخلصه من عقل فوار الذكاء، ومعارف جامعة إلى أفانين الآداب في لغات الإفرنج والأعراب وفلسفة الحقوق، وحقائق التاريخ، وغرائب السير التي يحفظ منها غير يسير، إلى مشاركات علمية، وتنبيهات فنية، استقاها من مطالعته في صنوف الكتب، واتخذها من ملحوظاته ومسموعاته في جولاته بين بلاد الشرق والغرب. وأما المبني فله فيه أذواق متعددة بتعدد مقامات القول: ترى فيه من نسج البحتري، ومن صياغة أبي تمام، ومن وثبات المتنبي، ومن مفاجآت الشريف، ومن مسلسلات مهيار، وفي المجموع تجد صفة عامة للنظم، وهي أنه نظم شوقي: ذلك شعر العبقرية والتفوق.

ملامح وصفية

وإذا ذكرنا عادة البحتري وشوقي في قرض الشعر، فلنذكر كذلك أنهما يشتركان في العناية بالآداب العربية، فقد ترك البحتري كتابًا سماه «معاني الشعر»٤، وترك كتابًا آخر في الحماسة كالذي تركه أبو تمام ولكنه يمتاز عنه بسهولة اللغة وتنوع الموضوعات. وشوقي — وإن لم يصنف كتبًا في الآداب — يقرأ ويدرس بشراهة تفوق الوصف، ويتعقب الحركة الأدبية بنشاط عجيب. ويختلفان في إنشاد الشعر والإشادة به، فقد كان البحتري يحتفي بإنشاد شعره، ويسلك في ذلك مسلك التلحين والتطريب، كان يطيل النظر في وجوه الحاضرين؛ ليرى مبلغ إعجابهم به، وإكبارهم له، حتى نفر الناس منه، وعبث به أهل السفه، وأصحاب المجون. أما شوقي: فقلما يتحدث عن شعره، وقلما ينشده، وإنما يوكل بإنشاده من يتوسم فيه حسن الفهم وحسن الأداء. وهذا المسلك، مع ما فيه من دلائل الحياء أو الشمم، غير مأمون العواقب، وكثيرًا ما آذى الشاعر، وعاد عليه بالضرر البليغ.

وفاءُ البحتري وشوقي

ولقد كانت الشاعرية، ولا تزال دالة على سمو النفس، ويقظة الوجدان والحوادث هي التي تميز عناصر النفوس، وقد وقع للبحتري وشوقي من كبار الحوادث ما ظهر معه ما لهما من قوة النفس، ومتانة الخلق وكرم العنصر، ولم يحن الوقت لتدوين ما وقع لشوقي! فلنكتف بهذا التلميح، ولنذكر ما صير البحتري مثلًا في الوفاء.

كان المتوكل — كما ذكر صاحب زهر الآداب — عقد لولده المنتصر والمعتز والمؤيد ولاية العهد، ثم تغير على المنتصر دون أخويه، وكان يسميه المنتظر، ويقول له: أنت تتمنى موتي، وتنتظر وقتي! ويأمر الندماء أن يعبثوا به إلى أن أوغر صدره، وأقل صبره، فلما كانت ليلة الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومئتين، كان المتوكل يشرب مع الفتح في قصره المعروف بالجعفري ومعه جماعة من الندماء والمغنين، وكان المنتصر معهم، فلما انصرف ثلاث ساعات من الليل، قال لزرافة التركي: ألا تسمعنى ساعة حتى أشكو إليك ما يمر بي؟ قال: بلى، وجعل يماطله ويطاوله، وغلق بغا الشرابي الأبواب كلها إلا باب الماء، ومنه دخل الذين قتلوا المتوكل، وقد ضربوه ضربة قطع بها حبل عاتقه، وتلقاه الفتح بنفسه فأكب عليه، فقتلا جميعًا، وبويع المنتصر من ساعته. قال الحصري: «وكانت مدة المنتصر في الخلافة مدة شيرويه بن كسرى حين قتل أباه ستة أشهر» — وللظالم الويل.

كانت هذه القتلة الشنيعة التي تردى بها خليفة من خلفاء المسلمين، وكان هذا الخليفة ولي نعمة البحتري، وكان استبداد المنتصر إذ ذاك كافيًا في ردعه عن رثاء مولاه، ولكنه رثاه بقصيدة وصفها أبو العباس تعلب بقوله: «ما قبلت هاشمية أحسن منها! وقد صرح فيها تصريح من أذهلته المصائب عن تخوف العواقب»، وفيها يقول:

تَغَيَّرَ حُسْنُ الجَعْفَرِي وَأُنْسُه
وَقُوّضَ بَادي الجَعْفَرِيّ وَحَاضِرُهْ
تَحَمّلْ عَنْهُ سَاكِنُوهُ فُجَاءَةً
فَآضَتْ سَوَاءً دُورُهُ وَمَقَابِرُهْ
وَلَم أرَ مِثْلَ الْقَصْرِ إذْ رِيعَ سِرْبُهُ
وَإذْ ذُعِرَتْ أطْلاَؤهُ وَجَآذِرُهْ
وَإذْ صِيحَ فيهِ بِالرَّحِيلِ فَهُتّكَتْ
عَلَى عَجَلٍ أسْتَارُهُ وَسَتَائِرُهْ
إِذا نَحْنُ زُرْناهُ أَجَدَّ لَنا الْأَسَى
وَقَدْ كانَ قَبْلَ الْيوْمِ بَبْهَجُ زائرُهُ
فَأيْنَ عَمِيدُ النَّاسِ في كُلُّ نَوْبَةٍ
تَنُوبُ وَنَاهي الدَّهْرِ فيهِمْ وآمِرُهُ
تَخَفَّى لَهُ مُغْتَالُهُ تَحْتَ غِرَّةٍ
وَأوْلَى لِمَنْ يَغْتَالُهُ لَوْ يُجَاهِرُهْ
صَرِيعٌ تَقَاضَاهُ السُّيُوفُ حُشَاشَةً
يَجُودُ بِها وَالمَوْتُ حُمْرٌ أظافِرُه
حَرَامٌ عليّ الرَّاحُ بَعْدَاكَ أوْ أرَى
دَمًا بدَمٍ يَجْرِي عَلَى الأرْضِ مائِرُهْ
وَهَلْ يُرْتَجَى أنْ يَطْلُبَ الدَّمَ طالِبٌ
مَدَى الدَّهْرِ والمَوْتُورُ بالدّمِ وَاتِرُهْ
فَلا مُلّيَ البَاقي تُرَاثَ الَّذي مَضَى
وَلاَ حَمَلَتْ ذاكَ الدّعَاءَ مَنَابِرُهْ

ونظرة واحدة إلى ما كان يجري في تلك العصور من الظلم والاضطهاد تربك أن البحتري كان من أشجع الناس وأوفاهم بهذه القصيدة، على أنه لم يقف عند هذا الحد، بل كان يرتاح في كثير من شعره إلى ذكر المتوكل والفتح بن خاقان، وانظر كيف يفيض شعره بالأسى وهو يقول لبعض من يمدحه:

تَدارَكَني الإِحْسانُ مِنْكَ وَنالَني
عَلَى فاقَةٍ ذاكَ النَّدَى وَالتَّطوُّلُ
وَدافَعْتَ عَنِّي حينَ لا الفَتْحُ يُرْتَجي
لِدْفعِ الأَذَى عَنِّي وَلا المُتَوكِّلُ

وما أوجع ما يقول من كلمة ثانية:

مَضَى جَعَفَرٌ وَالْفَتْحُ بَيْنَ مُوَسَّدِ
وَبَيْنَ قَتيلٍ في الدِّماءِ مُضَرَّجِ
أَأَطْلُبُ أَنْصارًا عَلَى الدَّهْرِ بَعْدَ ما
نَوى منْهُما في التُّرْبِ أوْسي وخزْرجي

وانظر كيف يقول، وقد بان بعض من يهوى:

عَسَى آيسٌ مِنْ رَجْعَةِ الْوَصْلِ يوصَلُ
وَدهْرٌ تَوَلَّى بِالْأَحِبَّةِ يُقْبِلُ
أَيا سَكَنا فاتَ الْفِراقَ بِنَفْسِهِ
وَحالَ التَّعادي دُونَهُ وَالتَّنزَيُّلُ
أتَعْجَبُ لَمَّا لَمْ يَغُلْ جِسْمي الضَّنى
وَلَم يَخْتَرِمْ نَفْسي الْحِمامُ المعَجَّلُ
فَقَبْلَكَ بانَ الْفَتْحُ عَنِّي موَدِّعًا
وَفارَقَني شَفْعًا لَهُ المَتَوَكِّلُ
فَما بَلَغَ الدَّمْعُ الَّذي كُنْتُ أَرْتَجي
وَلأفَعَلَ الوَجْدُ الَّذي خِلْتُ يَفْعَلُ
وَما كُلُّ نيرانِ الجَوَى تَقْتُلُ الحشا
وَمَا كُلُّ أدَواءِ الصَّبابَةِ تَقْتُلُ

تلك هي نفس البحتري، الذي عذبته علوة في بداية حياته، وصهره الحزن على المتوكل في أخريات أيامه، وقد عرف القارئ عنه شيئًا فيه بعض الغناء، وعرف كذلك ما بينه وبين شوقي من الاختلاف والائتلاف، ومن الواجب أن يعرف منهج هذين الشاعرين في بكاء الممالك، والتفجع لنكبات الشعوب، قبل أن يرى كيف وصف البحتري إيوان كسرى، وكيف وصف شوقي قصر الحمراء.

١  انظر تفضيل هذا المعنى في الكلام عن أبي الحسن الجرجاني في الجزء الثاني من كتاب: «النثر الفني».
٢  الفحل المقرم هو الذي أقرمه صاحبه: تركه عن الركوب والعمل وودعه للفحلة وقرمه، وتخمط الفحل: هدر. ومن المجاز: تخمط الرحل: تغضب وثار. والمراد هما من تخمط الثاني ظهوره وارتفاعه.
٣  السياسة هنا حسن التدبير.
٤  قد يظن أن هذا كتاب في النقد، ولكنا نرجح أنه كان مجموعة من المختارات المرتبة على حسب المعاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤