الفصل الثامن

الصور الشعرية

١

هذا فن جديد في نقد الشعر والموازنة بين الشعراء، ألقيت عنه محاضرة في الجامعة المصرية في سنة ١٩٢١، ثم اخترته للمناقشة العلنية في امتحان الدكتوراة، فساعدني ذلك على تحديد، وضبط المراد منه، وكشف ما يعتوره من الغموض، وإلى القارئ البيان:

الصورة الشعرية هي أثر الشاعر المفلق الذي يصف «المرئيات» وصفًا يجعل قارئ شعره ما يدري أيقرأ قصيدة مسطورة، أم يشاهد منظرًا من مناظر الوجود والذي يصف «الوجدانيات» وصفًا يخيل للقارئ أنه يناجي نفسه، ويحاور ضميره لا أنه يقرأ قطعة مختارة لشاعر مجيد.

والصورة الشعرية لا تكمل إلا حين يحيط الوصف بجميع أنحاء الموصوف، فليس منها قول أبي نواس في وصف الراح:

صَهْباءُ تَبْني حَبَابًا كُلَّما مُزِجتْ
كأنّهُ لُؤلُؤٌ يَتْلُوهُ عِقْيانُ
كانتْ عَلَى عَهْدِ نُوحٍ في سَفينَتِهِ
مِنْ حَرّ شَحنَتِها والأرْضُ طوفانُ
فَلَمْ تَزَلْ تَعجُمُ الدّنيا وتعجُمُها
حَتى تَخَيَّرَها للخَبْءِ دْهْقانُ
فَصانَها في مَغارِ الأرْضِ فاخْتَلَفتْ
عَلَى الدَّفينَة أزْمانٌ وأزْمَانُ
ببَلْدَةٍ لَمْ تَصِلْ كَلْبٌ بِها طُنُبًا
وَلا خِباءُ وَلا عبْسٌ وذُبْيانُ
لَيْسَتْ لِذُهْلٍ ولا شيْبانِها وَطَنًا
لكِنَّها لبَني الْأَحْرارِ أوْطانُ
أرْضٌ تَبَنَّى بِها كِسْرى دَسَاكِرَهُ
فَما بِها مِنْ بني الأعْرابِ إنْسانُ
وَما بِها مِنْ هَشيمِ العُرْبِ عَرْفَجةٌ
وَلا بِها مِنْ غِذاءِ العُرْب خُطْبانُ
لكِنْ بِها جُلُّنَارٌ قَدْ تَفَرَّعَهُ
آسٌ وكلَّله ورْدٌ وسوسانُ

ولو عرضت هذه القصيدة على رجل من أدباء العصر، أو لو أنها عرضت على رجل من الأدباء في الأعصر الخالية لوصفت على الأقل بأنها رشيقة الأسلوب متينة التركيب، ولكننا سنبين أنها قصيدة جوفاء، لا حظ لها من الروعة، ولا نصيب لها من الجمال.

أراد أبو نواس أن يصف الخمر، ولكن هل وضع صورة شعرية تنتظم مع ما للخمر من اللون والعبير، وما لها من العبث بالعقول، واللعب بالنفوس؟ كلا! لم يصنع شيئًا من ذلك، ولكنه ذكر فقط أنها كلما مزجت تبني حبابًا كأنه لؤلؤ يتلوه عقيان ثم اندفع يذكر أنها عتيقة، وأن عهدها بالوجود قديم، وقد جره ذلك إلى الإغراب في الكذب، فذكر أنها كانت خير ما شحن في سفينة نوح، وأنها ما زالت تغالب الدهر، وتصانع الحدثان، حتى ظفر بها دهقان ماكر دفنها في مغار الأرض، وأخفاها عن عيني الزمان، ولم يكفه ذلك بل ذكر أن الأرض التي دفنت فيها هذه الخمر أرض كسروية، لم ينصب فيها خباء لعبس ولا ذبيان، ولم ينبت بها عرفج ولا خطبان بل زينها الجلنار، والورد، والآس والسوسان.

إذًا أخطأ أبو نواس حين غلا في الإشادة بعتق الصهباء؛ لأن عشاقها لا يشعرون بالحاجة إلى إقامة البينة على أنها من عهد الطوفان، مهما أحبوا أن تكون قديمة العهد بالوجود، فقد يكفيهم أن توصف بالقدم، وأن تكون لقدمها كما قال ابن الرومي:

لَطُفتْ فَقدْ كادتْ تَصيرُ مُشاعةً
في الجوِّ مِثل شُعاعِها ونسِيمِها

أو كما قال ابن المعتز:

جَرْت حركاتُ الدَّهْر فَوق سُكونِها
فَدابتْ كذَوْبِ التبْرِ أخْلصهُ السَّبْكُ
فَقدْ خَفِيتْ مِنْ صَفْوِها فَكأَنَّها
بَقايا يَقينٍ كاد يُدْرِكُهُ الشَّكُّ

ويكاد القارئ لقصيدة أبي نواس يتوهم أنه يقرأ شيئًا غير وصف الخمر، ويكاد يحسب أنه يقرأ موازنة بين ما تنبت البلاد العربية، وما تنبت البلاد الفارسية إذ يرى الشاعر يشيد بما بنى كسرى من دساكر، وما بأرض الفرس من ورد وآس ويسخر مما للعرب من طنب وخباء، وما بأرضهم من عرفج وخطبان.

ولو لم يضل في بيداء هذا الفضول لكان للغلو في وصف الخمر بالقدم شيء من الروعة، أو كان على الأقل مما تسيغه النفوس، فما تظن أحدًا يستنكر قول البحتري في وصف الشمول:

بِكْرٌ تَقدَّمتِ الزَّمانَ بغَرْسِها
إِنْ كان قَبْل الدَّهْرِ شيءٌ يُغْرسُ

ولنفرض أن أبا نواس أجاد في وصف الخمر بالقدم، وأنه في ذلك غير مسبوق أفيكفي أن يوصف الشيء من ناحية واحدة مهما كان وصفها سابغًا؛ ليصبح الموصوف وهو ممثل من جميع الجوانب؟ إن هذا لبعيد!

ولا ننكر أن الصفة الغالية لشيء من الأشياء قد تصرف الشاعر عما عداها من الصفات، وليس قدم الخمر من ذلك في كثير ولا قليل، فقد تكون الراح جبارة قهارة، وهي في مبعة الصبا وعنفوان الشباب، وغيري عنده الخير اليقين.

٢

وللنظر قول أبي نواس من كلمة ثانية:

دَعْ عَنْكَ لَوْمي فَإِنَّ اللَّوْمَ إِغْراءُ
ودَاوِني بالَّتي كانَتْ هيَ الدَّاءُ
صَفْراءُ لا تَنْزِلُ الأحْزانُ سَاحَتَها
لَوْ مَسَّهَا حَجَرٌ مَسَّتْهُ سَرَّاءُ
قامتْ بإِبْريِقِها واللَّيْلُ مُعْتكرٌ
فَلاحَ مِنْ وجْهها في الْبْيت لَألَاءُ
فأرْسلَتْ مِنْ فَمِ الإبْريق صافيَة
كَأنَّما أخْذُها بِالعَيْنِ إغْفَاءُ
جَفَّتْ عَنِ الماءِ حَتَّى ما يُلائِمُها
لَطافَةً وَجَفا عَنْ شَكْلِها الماءُ
فلَوْ مَزَجْتَ بها نُورًا لَمَازَجَها
حَتَّى تَوَلَّدَ أنْوارٌ وأَضْواءُ

وهذه صورة شعرية للراح، ألم فيها الشاعر بصفاتها المختلفة، أو بأشهر ما لها من الصفات، وقد ابتدأ ذلك بنبذ ملامة اللائمين، بل جعل اللوم نوعًا من الإغراء، واستصرخ الساقي ليسعفه بالتي كانت الدواء، لما أورثت من داء، ثم اندفع يذكر أنها صفراء اللون، وأن الحزن لا يحل لها ساحة، وأن الحجر لو مسها مسته السراء، وأنها حين قامت بإبريقها هتكت الظلماء، بما لوجهها من لألاء، وأنها حين أرسلت صافية من فم الإبريق أخذت تلعب بالعيون كأنها الإغفاء، وأنها لطفت حتى ما تلائم الماء، ولا يشاكلها الماء، فلا سبيل إلى أن تشعشع بالعذاب الفرات، فإن عجز المصطبح أو المغتبق عن شربها صرفة فليمزجها بالنور فإنه لها مزاج، وهي له لباس، ومنهما تتولد الأنوار والأضواء.

٣

وقد يلاحظ أن هذا الوصف بعيد عن متناول العقول، ونجيب بأنه لا جمال للشعر إلا إذا أضيف إلى الحقيقة شيء من الخيال، وقد يكون هذا الخيال حقيقة ثاني لا فرق بينها وبين الأولى إلا أن احداهما في الواصف وأخراهما في الموصوف؛ لأن الشاعر لا يصف شيئًا إلا متأثرًا بحسنه أو قبحه، فهو حين يذكر الشيء الدميم يذكر بجانبه نفرته من الدمامة، وحين يصف الشيء الجميل يصف بجانبه غرامه بالجمال، وربما خضع الشاعر لعاطفته، فانتقل من وصف إلى وصف، كأن يترك الحديث عن الراح وينحدر إلى وصف الساقي مثلًا، وهنا لا مندوحة من أن ينتقل الناقد مع الشاعر ليعرف أقصّرَ في وصف ما انتقل إليه أم أجاد، وتكون الصورة الشعرية للموصوف الثاني، مثال ذلك قول ابن عُنين:

ومْدامةٍ لَمْ يُبْقِ طولُ ثَوائِها
في خِدْرِها إلّا وميضَ شُعاعِ
مِنْ كفٌ مَصْقول الْعوارِضِ آنِسِ
يَرْنو بِمُقْلةِ جُؤْذَر مُرْتاعِ
وقفتْ عَوارِضُ صُدْغِهِ في خَدِّهِ
حَيْرَى وبانتْ في القُلوبِ سَواعِ
راضتْ خلائِقَهُ العُقارُ وبدَّلتْ
نَزق الصبِّا بِموَفَّر مِطْواعِ

وعلماء الأدب يذكرون هذه القطعة في وصف الخمر، وليست من ذلك في شيء إنما هي تشبيب، ومثلها قول البحتري، وقد صرعت نديمه الصهباء:

وندِيمٍ حُلُوِ الشمائِل كالدِّبـ
ـنارِ مَحْضِ النِّحارِ عَذْبِ المصفَّى
بتُّ أسْقيهِ صَفْوةَ الرَّاحِ حَتى
وَضَعَ الكأسَ مائِلًا يَتَكَفَّا
قُلْتُ عَبْدَ العزيزِ نَفْديكَ نَفْسي!
قال لَبَّيْكَ! قُلْتُ لَبَّيْكَ أَلفَا!
هاكها! قال هاتِها! قُلْتُ خُذْها
قال لا أسْتَطيعُها، ثُمَّ أغْفَى

وهذا النوع من الحوار يسمى عند علماء البديع بالمراجعة، وليس جمال هذه الأبيات في ترديد القول كما يظنون، ولكن جمالها في هذه الصورة الشعرية البديعة التي تمثل لك رفق النديم، وجناية الكأس عليه، واستسلامه للإغفاء بعد هذا الحوار الرقيق.

٤

وفضل الصورة الشعرية هو تمكين المعنى في نفس القارئ والسامع، ألا ترى أن قول بعض الأندلسيين:

أخافٌ عَليْكَ مِنْ عَيْنيْ رقيبِي
وَمِنْ عَيْني وعيْنِك والرَّمانِ
ولوْ أنِّي وضعْتُك في عُيوني
إلَى يوْمِ القْيامةِ ما كفاني

أقل تأثيرًا في النفس من قول ابن الرومي:

أعانِقُهُ والنَّفْسُ بَعْدُ مَشُوقَةً
إِليْهِ وهلْ بَعْد العِناقِ تَدانٍ
وألْثمُ فاهُ كيْ تَزول حَرارَتي
فَيشْتَدُّ ما ألقَى مِن الْهَيَمانِ
وَلْم يَكُ مِقْدارُ الَّدي بي مَن الجوى
لِيرْويَهُ ما تلْثمُ الشَّفتانِ
كأنَّ فُؤْادي ليس يَرْوي غَليلَهُ
سِوى أنْ يَرى الروحْينِ يَمْتَزِجانِ

لأن ابن الرومي وضع لكلفه صورة شعرية تامة الأجزاء، وتنقل بالقارئ السامع من حال إلى حال، وذكر أمورًا فطرية يشعر بمثلها كل متيم مشغوف، ثم علل شرهه في صبوته بخطر لوعته وفرط حواه، وتحليل المعنى وتعليله من أقرب الوسائل إلى تمكينه في النفوس، وفي تحليل المعاني وتعليلها يتفاوت أقدار الكتاب والخطباء والشعراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤