التصنيع في اليونان

يعجب الزائر لبلاد اليونان في هذه الأيام، ويتساءل: كيف تأتي لها أن تَطْفِر هذه الطفرة الرائعة، وتحرز كل ذلك التقدم الباهر في كل مجالات الحياة في مدى السنوات القلائل الماضية، وبخاصة في مضمار الاقتصاد.

والصناعة تحتلُّ اليوم في اليونان المقام الثاني في الاقتصاد الوطني، وتجيء التالية مباشرة للزراعة، ويتضح هذا جليًّا إذا أدخلنا في حسباننا رءوس الأموال المستخدمة في الصناعة، وحجم إنتاجها والقوة العاملة فيها، والتحسُّن الذي طرأ على المنتجات الزراعية المهمة والخامات المحلية، وازدياد إيراد الحكومة والدخل القومي، وارتفاع مستوى المعيشة للشعب عامة.

وقد جاوزت قيمة الإنتاج الصناعي اليوناني في عام ١٩٥٦م، ٤٣٠ مليون دولار، وبلغ عدد المؤسسات الصناعية العاملة في المدة نفسها ٣٠٠٠ مؤسسة، وتراوحت حصة الصناعة اليونانية في الدخل القومي، في المدة من عام ١٩٤٥ إلى عام ١٩٥٥م ما بين ٢٠ و٢٦٪.

ومما يسترعي النظر فيما يتعلق بالمواد الخام التي استخدمتها الصناعة اليونانية، أن نسبة ما أنتج منها محليًّا، وما استوردته من الخارج في عام ١٩٢٨م بلغ ٥٧٪ و٤٣٪ على التوالي، في حين جاوزت نسبة المواد الخام المنتجة محليًّا عام ١٩٥٦م، ٨٠٪؛ ومعنى ذلك أن اعتماد الصناعة اليونانية على المواد الخام المستوردة من الخارج، قد قلَّ إلى ما دون النصف بالقياس إلى عام ١٩٢٨م.

ومن ناحيةٍ أخرى، لو أننا عقدنا مقارنة فيما يتعلق بالأيدي العاملة المستخدمة في الصناعة اليونانية (قياسًا إلى عام ١٩٢٨م أيضًا)، لوجدناها قد تضاعفت اليوم ثلاثة أمثال ما كانت عليه، ويتضح وجه الأهمية في هذه الزيادة، إذا ما وضعنا في اعتبارنا أن الحاجة إلى الأعمال اليدوية قد قلَّت، بالنظر إلى التطوُّرات الفنية في الآلات الميكانيكية.

ومما يزيد من أهمية هذا التضاعف في عدد العمال المترتب على نهضة الصناعة اليونانية، أن اليونان — شأنها في ذلك شأن كثير من الدول في هذه الأيام — تعاني من مشكلة التزايد في عدد السكان، وهي مشكلة ملحَّة؛ بسبب ارتفاع المعدل لتكاثر السكان من عامٍ إلى عام.

ومن بين المؤسسات الصناعية الثلاثة آلاف العاملة في اليونان ٢٣٠ مؤسسة يعمل في كلٍّ منها أكثرُ من ١٠٠ مستخدم، و٤٥ يعمل في كلٍّ منها أكثر من ٥٠٠، وست مؤسسات يعمل في كل منها ما يتراوح بين ١٠٠٠ إلى ١٥٠٠، و٨ مؤسسات يعمل في كلٍّ منها أكثر من ١٥٠٠.

أما المؤسسات الباقية فيقلُّ عدد الأيدي العاملة فيها عن ١٠٠.

والصناعة اليونانية من ناحيةٍ أخرى تدرُّ على البلاد، قدرًا غير يسير من العملات الأجنبية، ويتبين مبلغ أهمية هذه المعونة التي تؤدِّيها الصناعة للبلاد، إذا ما علمنا أن قيمة إنتاج الصناعات اليونانية الثلاث الرئيسية تزيد على ٢٥٠ مليون دولار.

وتدل النسب المئوية الواردة بعدُ لكل قيمة من قيم الإنتاج الصناعي في اليونان، على أهمية العمد الأساسية للصناعة اليونانية:

صناعة المنسوجات ٣٦٫٧٠٪
صناعة الأغذية ١٣٫٧٠٪
صناعة الكيميائيات ١٣٫٦٠٪
صناعة الميكانيكيات ٨٫٤٧٪
صناعة الجلود ٤٫٦٧٪
صناعة الورق ٤٫٢١٪
صناعة مواد البناء ٤٫١٠٪
صناعة الخشب ٢٫٩٠٪
صناعة التبغ ٣٫٨١٪
صناعات أخرى ٧٫٨٤٪

ومع ذلك فلا تزال أمام الصناعة اليونانية آفاقٌ رحيبة، وميادين فسيحة لمزيدٍ من التوسع، كما أن مقادير عظيمة من الخدمات الزراعية والمعادن الخام يجري تصديرها اليوم دون تصنيع.

•••

وتعتمد بلاد اليونان أكبر اعتماد — بعد تصدير الدخان — على مواردها السياحية، ويبلغ إيرادها من السياحة ما يزيد على ٤٠ مليونًا من الدولارات، وقد لوحظ أن السائحين يقومون بزيارة مناطق حوض البحر الأبيض المتوسط كلما زاروا اليونان.

وزيارات السائحين التقليدية لإنجلترا وفرنسا وإيطاليا ما تزال محتفظة بمستواها، غير أنه لوحظ في السنوات الأخيرة أن اليونان وأسبانيا والنمسا وشمال إفريقيا والبرتغال سجلت زيادة كبيرة في عدد السائحين الذين يزورونها.

figure
أوليمبيا «إيروون» من المناطق الأثرية التي تجذب السائحين لليونان.

أما فيما يتعلق ببلاد اليونان فيسهل جدًّا معرفة أسباب إقبال السائحين عليها؛ إذ أن هبوط الأسعار الذي حدث في شهر أبريل سنة ١٩٥٣م، حتى وصل إلى نسبةٍ خطيرة جعل من بلاد اليونان أرخص بلد أوروبي بلا منازع.

ولقد قامت الحكومة بنفسها بإنشاء فنادق عصرية أنيقة، أشرف على تصميمها أعظم مهندسي المباني في اليونان، في معظم المناطق السياحية الهامة؛ أمثال: دلفي وأوليمبيا وكورنث وميسينا، وأبيدورس ونوبيون ورودس وماكينوس.

وفي كل مدينة منها يجد السائح غرفة بسريرين وحمام وشرفة خاصة مع ثلاث وجبات يوميًّا، ولا يكلفه ذلك أكثر من ستة دولارات ونصف (نحو ثلاثة جنيهات مصرية).

كما أنشأت الحكومة طرقًا واسعة مغطاة بالأسفلت، تربط أثينا بمعظم المناطق السياحية، ويباع البنزين بثمنٍ أرخص مما يباع به في أي بلدٍ أوروبي آخر.

وخدمات السكك الحديدية والأتوبيس منتشرة في جميع أنحاء اليونان، كما أن هناك رحلات تنظمها مصلحة السياحة وبعض وكالات السياحة.

ولا شك أن هبوط الأسعار وإنشاء الطرق الواسعة والمناظر الطبيعية، ليست هي الأسباب الوحيدة في رواج السوق السياحي ببلاد اليونان، فإن هذه البلاد بها عوامل تجذب السائحين إليها منذ ألفي عام.

إن مجد اليونان التليد ما زال معترفًا به حتى اليوم، ولا شك أن كل من يزور هذه البلاد يحسُّ بشعورٍ من الإلهام والإعجاب لهذه البلاد التي كانت مهدًا للحضارة والثقافة الغربية.

فكثيرٌ من المعابد والمسارح والملاعب وغيرها من المنشآت العامة التي بنيت في العصر الذهبي لبلاد اليونان؛ لا تزال تحتفظ بكيانها ورونقها، كما أن هناك مناظر طبيعية رائعة، كل هذا يحمل إلى الزائر صورة لما كانت عليه هذه الأماكن في تاريخ اليونان القديم.

كما أن مناخ هذه البلاد مشمس ودافئ من شهر مارس إلى آخر ديسمبر، رغم أن جو البلاد قاري حارٌّ في الداخل طوال شهور الصيف، ولكن شاطئ البحر لا يبعد كثيرًا عن أي مكان في داخل بلاد اليونان، وهناك مصايف متعددة وشواطئ للاستحمام.

ولهذه البلاد في حد ذاتها جمال فريد، علاوة على آثارها، فالمنظر الطبيعي العادي في اليونان، هو عبارة عن بحرٍ أزرق شديد الزرقة، وسماء زرقاء صافية تتوسطهما ألوان مختلفة، منها الرمادي والبني والأخضر، ومعظم المناطق في هذه البلاد جبلية تغطِّيها الصخور الرمادية، وفي الصيف يتحوَّل لون الأماكن التي تحرقها الشمس بنارها إلى لونٍ بني غامق، ولكنك تجد هنا وهناك بستانًا يتكون من الزيتون، أو مجموعة من أشجار السرو أو شجرة خضراء، تبعث في هذا المنظر الموحش لمسة من الحياة، والهواء في بلاد اليونان خفيف، والرؤية ممتازة.

إن سكان اليونان قوم كلهم مرح وود، وهم يؤمنون بالديمقراطية والفردية؛ ولذلك قلما تصادف خلق التذلل والاستعطاف الذي تشاهده في بعض البلاد البلقانية الأخرى.

وقد عشق كثيرون من الشعراء والأدباء والكتاب بلاد اليونان وتغنَّوا بجمالها، وإذا كنت في أثينا ورغبت في زيارة الأكروبول فأنت تمر في طريقك بدار البرلمان والكلية الأهلية والأكاديمية والجامعة، وكلها مشيدة جنبًا لجنب، ولا شيء فيها يثير الاهتمام غير النصب التذكاري، الذي أقامه اليونانيون للورد بيرون؛ الشاعر البريطاني الذي حارب في صفوفهم ضد الأتراك، وسقط قتيلًا في واقعة ميسولنجي، فاعترفوا بفضله وأقاموا له نصبًا تذكاريًّا رائعًا.

ولم يكن بيرون هو الشاعر الإنكليزي الوحيد الذي استهواه التراث الإغريقي الخالد، وأغراه بالانتصار للشعب اليوناني، بل إن زميله الشاعر الشاب روبرت بروك، انخرط هو الآخر في سلك الجيش اليوناني، واستشهد في الحرب العظمى.

ذلك أن اليونان في نظر الشاعر أو الفنان بلاد يكسوها جمال رائع، لا يكاد يشد رحاله حتى يدرك سر الإلهام في الفن، والقدرة على التعبير عن شتَّى معاني الجمال.

ومن السهل عليك أن تقابل في المناطق الهامة شخصًا يستطيع أن يتكلم الإنجليزية أو الفرنسية أو العربية، أما في الريف فلا تسمع غير اللغة اليونانية، وذلك باستثناء رجال البوليس السياحي الذين يشبهون رجال البوليس العادي، غير أن الواحد منهم يضع شريطًا أبيضَ على الكم الأيسر؛ للدلة على أنه يتحدث لغة أجنبية علاوة على اليونانية.

ويقول موظفو مصلحة السياحة الدينية: إن العائق الوحيد أمام ازدهار السياحة في بلادهم، هو نقص عدد الفنادق، فأثينا وحدها تحتاج إلى أربعة أو خمسة فنادق عصرية كبرى جديدة.

والفنادق الحكومية في الأماكن الهامة جديدة وأنيقة ولكنها صغيرة؛ ولذلك تأمل الحكومة أن تشجِّع رءوس الأموال الأجنبية على المساهمة في حل هذه المشكلة، وهي تقدِّم شروطًا مغرية للاستغلال.

•••

وباليونان عدد من المدن المشهورة بمياهها المعدنية التي يقصدها المرضى للاستشفاء بمياهها، ومن أهم هذه المدن:
  • لوتراكي: وهي تقع على بعد ٨٥ كيلومترًا من أثينا، وتعتبر أهم مدن المياه المعدنية في اليونان، ويجري العلاج فيها بواسطة الحمامات وبشرب المياه، وقد أقامت الدولة منبعًا مجانيًّا لهذه المياه في وسط المدينة، وهي شبيهة في مزاياها بمياه إفيان وفيتل المشهورة، وهي تفيد في علاج أمراض كثيرة.
  • أديبسوس: وهي تقع في الجزء الشمالي الشرقي من إحدى الجزر اليونانية، وسط مناظر طبيعية جميلة تتجلى في الجبال والبحر. والمياه المعدنية في هذه الجزيرة من أهم أنواع المياه المعدنية في اليونان، وخاصة في علاج الروماتيزم الحاد وغيره، وهناك بواخر وقوارب خاصة تصل إليها بانتظام من بيريه وشالسيس.
  • هيباتي: وتشتهر مياهها بعلاج الأمراض الجلدية وأمراض القلب. والوصول إليها سهل إذ تركب القطار من أثينا إلى ليانوكلادي (٥ ساعات)، ومن هناك بواسطة الأوتوبيس (١٢ كيلومترًا).
  • ميتانا: وهي تقع على شبه جزيرة تحمل نفس هذا الاسم، ومياهها تعالج أمراض الروماتيزم والأمراض الجلدية، وأمراض الجهاز التنفسي والأنيميا، ويتم الاتصال بها عن طريق بيريه بواسطة القوارب.
  • بلاتيستومون: ويوجد فيها نبعان: النبع البارد وتوصف مياهه للمرضى بالإمساك المزمن والسكر، والنبع الدافئ وتوصف مياهه لمرضى الروماتيزم والأمراض الجلدية وأمراض الجهاز التنفسي.

ولما كانت معظم الجهات المأهولة بالسكان في بلاد اليونان تقع قريبًا من البحر؛ لذلك كان السمك هو الطعام الأساسي للسكان، وهم يعتمدون على صيد «الجمبري» والحبار والرنجة والبربوني.

ومع هذا فإن صيد السمك ليس الحرفة الرئيسية للسكان؛ ذلك لأن البحار التي تحيط ببلاد اليونان قد قلَّت الأسماك فيها؛ بسبب استعمال المتفجرات في الصيد؛ مما تسبَّب عنه القضاء على بيض السمك وبذلك قلَّ عدده، كما أن مجموعات السمك الهائلة التي تهاجر سنويًّا من البحر الأسود إلى الساحل الأفريقي، وبالعكس تلازم شواطئ آسيا الصغرى حيث الخلجان ملائمة لطعامها.

والصيد في المياه الضيقة بين الجزر اليونانية وشاطئ تركيا تحفُّه الصعوبات؛ بسبب الخوف من الاعتداء على المياه التركية الإقليمية، وما يتبعه من مصادماتٍ مستمرة بين البحارة اليونانيين وقوارب خفر السواحل التركية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤