الفصل الثالث عشر

المراضع

أقبل المراضع إلى مكة عجافًا نحافًا، تحملهن حمرٌ عجافٌ نحاف، ويصحبهن أزواجهن قد مسهم الضر، وأعياهم الكسب، واشتدت عليهم السنة، وأجدبت بهم الأرض، فما يجدون إلى أمن ولا دعة ولا حياة سبيلًا. وقد أقبلوا كدأب أهل البادية إلى مكة، يلتمسون الرضعاء أبناء السادة والمترفين في قريش، ويبتغون بذلك فضلًا من مال، ونافلةً من نعيم، وحظًّا من هذا البر الذي تطمع فيه المراضع عند أهل الرضعاء. فلما ألقوا رحالهم، انحدر المراضع إلى مكة يعرضن أنفسهن على دور الأغنياء وأهل الثراء، ومنازل السادة وأصحاب الشرف من أهل البطحاء. وأسرع أزواجهن إلى المسجد يطوفون ويلقون سراة الناس من قريش، فيسمعون منهم ويتحدثون إليهم، ويستعينون بهم على احتمال أثقال الحياة في تلك البادية النائية، بادية بني سعد بن بكر. وما هي إلا طوفةٌ في الضحى على بعض المنازل والدور حتى آب المراضع موفورات محبورات، قد وجدت كل واحدة منهن رضيعًا من أسرة كريمة موسرة، فامتلأت يدها بالمال، ونفسها بالأمل، وقلبها بالغبطة والأمن على قوت العيال، إلا حليمة بنت أبي ذؤيب؛ فإنها عادت إلى زوجها كئيبة محزونة لا تحمل إلا ابنها الهزيل النحيل الذي يصيح في غير انقطاع، ويبكي في غير هدوء، لشدة ما مسه من ألم الظمأ والجوع.

ولقي الإعرابي امرأته الشابة محزونًا مثلها، كئيبًا مثلها، ولا يؤذيه ما يحس من الجوع والظمأ كما يؤذيه ما يسمع ويرى من بكاء الطفل وتوجع أمه البائسة. قال: إني لأرى أترابك من المراضع يرجعن موفورات محبورات يحملن الرضعاء، فما بالك تعودين لا تحملين رضيعًا إلا هذا الطفل؟ ألعلك قد دللت الناس على مكاننا من البؤس وحظنا من الفاقة حين احتملت هذا الطفل الذي لا ينقطع له صياح! ألعلك قد أيأست الأمهات وأخفت الآباء ألا يلقى أبناؤهم عندك ما يرويهم من ظمأ أو يشبعهم من جوع! ليتني لم أنحدر مع الناس إلى المسجد، وليتني بقيت هنا أحفظ عليك هذا الطفل حتى لا يسمع الأمهات والآباء له بكاءً ولا شكاة، وحتى لا يرى الآباء والأمهات عليه بؤسًا ولا ضرًّا! قالت: والله ما صد عني الآباء والأمهات، ولقد أسكت هذا الطفل فما بكى ولا شكا، وما أحس أحد عليَّ ولا عليه ضرًّا أو شرًّا، وإنما صددت أنا عن رضيع صد عنه الأتراب من قبلي. قال الأعرابي: وفيم صدكن عنه واجتنابكن له؟ قالت: يتيم ليس له أب يرعاه أو يكلؤه، إنما هو إلى أمه وجده. وما تصنع أمه وما يصنع جده؛ وماذا تنتظر من بر الأمهات بالمراضع، ومن بر الجدود بالحفدة وإنهم لكثير! قال صدقت، وما لإرضاع اليتامى والمساكين أقبلنا من ديار بني سعد! وإني لأجد في نفسي إشفاقًا على هذا اليتيم ورحمةً له، ولكن ماذا نصنع به في تلك الأرض النائية إذا لم يصل إليه وإلينا من بر أهله ما يقيمه ويقيمنا ويصلح من حاله ومن حالنا! قالت: لقد رأيته فأحببته، ونظرت إليه فرققت له. ولقد آنست من أمه دعةً ولينًا. ولقد نازعتني نفسي إلى أن أحمله لولا أني أشفقت مما تقول، ولولا أني ذكرت الجدب وشدة السنة وانقطاع المادة، وأشفقت عليه مما نحن فيه. قال الأعرابي: فسنقفل إذًا كما أقبلنا ويقفل القوم راضين! وإني والله يا ابنة أبي ذؤيب ما أدري أتبلغنا أتاننا وشارفنا١ ديار بني سعد، وإنك لتعلمين أن أتاننا منهوكة مكدودة، وأن شارفنا ما تبض قطرة من لبن. قالت؛ فلنقم فإن الأطفال يولدون، ولعل الله أن يرزقنا بين اليوم وغد رضيعًا نجد عند أهله ما يرضينا.

وهم المراضع بالقفول، وأخذت بنت أبي ذؤيب تنظر إليهن محزونةً مكلومة، يؤذيها ما ترى من إنجاحهن وإخفاقها، ومن قفولهن وتخلفها. وأخذ الأعرابي ينظر إلى رفاقه يشدون الرحال على المطايا، ويحملون النساء على الأتن، فيؤذيه ذلك ويغيظه، ولكنه يخفي ما يجد من الغيظ ويظهر التجلد والصبر. حتى إذا مضى اليوم وأمعنوا في الطريق وبعدوا عن مرمي العين، نظر الرجل إلى امرأته، ونظرت المرأة إلى زوجها، ونظر الزوجان إلى ابنهما واستمعا لبكائه، وإذا هي تقول لزوجها: ما أدري! لعلي لم أحسن حين جاريت أترابي وأعرضت عن هذا اليتيم، وإن نفسي لتنازعني إليه، وإن قلبي ليعطفني عليه، وإني لأحس كأنه يدعوني، وأني لأشعر كأني لا أستطيع عنه صبرًا، وإني لأرجو إن استجبت لهذا الدعاء الخفي أن يكون الله قد قدر لنا خيرًا وآثرنا ببعض ما نحب! قال: فلا عليك يا ابنة أبي ذؤيب! اذهبي إلى يتيمك فخذيه؛ فإني أكره أن يرحل القوم ونبقى، وأن يصلوا إلى ديار بني سعد، فيتحدث المراضع أنهن قد ظفرن بالرضعاء، وأن نفوس الآباء والأمهات قد انصرفت عنك وزهدت فيك.

وتنهض بنت أبي ذؤيب فتعود إلى آمنة فتعرض عليها إرضاع الطفل، وإذا آمنة تأبى وقد آذاها ما رأت من إعراض المراضع وانصرافهن، وعلى وجهها آيات حزنٍ عميق، وفي صوتها بقية من بكاء، وأمتها بركة تعينها على الإباء وتحرضها على الامتناع. ولكن ابنة أبي ذؤيب تنظر إلى الطفل فإذا قلبها يمتلئ حبًّا له، وإذا هي تحس أنها مدفوعةٌ إليه دفعًا، وإذا هي تسرع إلى الطفل فترفعه بين يديها وتدنيه من صدرها، وإذا الطفل يلتمس الثدي كأنما كان منه على ميعاد، وإذا هو يشرب حتى يروى، وإذا بنت أبي ذؤيب تجد من اللبن ما لم تكن تجد من قبل، وإذا آمنة تستجيب لها، وكيف تأبى عليها وقد رأت من حبها للطفل ومن إقبال الطفل عليها ومن إرضاعها له ما رأت! لقد أصبحت هذه الظئر له أمًّا. قالت آمنة: خذيه ولا تراعي؛ فإني لأرجو ألا تجدي منه إلا خيرًا؛ فلقد حملته فما وجدت له ثقلُا، ولقد انتظرته تسعة أشهر فما أحسست مما يحس النساء قليلًا ولا كثيرًا. ولولا غاشية الحزن التي غشيتنا بفقد أبيه لكانت هذه الأشهر أسعد ما تظفر به امرأة من دهرها. ولكن الحوادث تحدث والخطوب تلم والآمال تقطع وقد كان يرجى أن تتصل، والسحب تتراكم فتحجب ضوء الشمس! ولقد وضعت هذا الصبي فما عرف صاحباتي عليَّ وعليه شيئًا مما تعودن أن يعرفن على الأمهات والولدان. وإنك لتنكرين يا ظئر لو تسمعين. قالت حليمة: وماذا أسمع؟ وماذا أنكر؟ قالت آمنة: لم أكن تلك الليلة في دار من دور قريش، وإنما كنت في مكان لم يألفه الناس: كنت في بحر من النور كله رحمة وبر ورضوان. وما لك لا تنكرين هذا يا ظئر وقد أنكرته أنا وأنكرته صواحبي! ومالك لا تعجبين يا ظئر وقد عجبت وعجبت صواحبي وعجب جده الشيخ! سلي حاضنته هذه تنبئك بما رأت وما سمعت. سلي من شئت من نساء بني هاشم ورجالهم تعلمي أن لابني هذا اليتيم شأنًا ليس لغيره من أبناء الأغنياء وأهل اليسار. لا تراعي يا ظئر؛ فإنك تحملين وليدًا كريمًا لأب كريم، وجد كريم. ثم انهلت من عينها دموع غزار، وقالت في صوت يقطعه البكاء: لا تيأسي يا ظئر؛ فإن معروفنا على قلته سيصل إليك، ورب قليل خير من كثير. قالت حليمة: وقد رق قلبها، وجادت عينها ببعض الدمع على غير عادة الأعرابيات: لا بأس عليك يا ابنة وهب! فإني والله ما استطعت صبرًا على هذا الصبي منذ رأيته. وإني والله ما أدري ما الذي عطفني عليه حتى رجعت إليك آخذه منك. وقد كنت أستطيع القفول، وقد كنت أستطيع المكث في بلدكم هذا يومًا أو أيامًا؛ فالأطفال يولدون، وسراة قريش في حاجة إلى المراضع كل يوم، ولكنه والله أمرٌ يراد. وانصرفت حليمة بابنها الجديد راضية مسرورة، قانعة بما زودتها به آمنة من البر والمعروف. حتى إذا انتهت إلى زوجها الأعرابي لقيها باسم الثغر، مشرق الوجه، سعيدًا أن لم تعد إليه صفر اليدين. ولم يكد ينظر إلى الطفل حتى انطق لسانه، وإذا هو يقول لامرأته: إيه يا ابنة أبي ذؤيب! ما رأيت كاليوم وجهًا مشرقًا يفيض منه البشر؛ إني والله لأرجو أن يكون لنا من هذا الغلام خير.

وينهض الأعرابي إلى شارفه يلتمس في ضرعها الجاف قطرات من لبن يبل بها ظمأ امرأته، وينقع بها بعض غلته. فما أسرع ما يأخذه عجبٌ لا ينقضي حين يرى شارفه حافلة تمنحه من اللبن ما يريد وما تريد امرأته، وفوق ما يريد وما تريد امرأته. وينظر الأعرابي فإذا ابنه الأول يجد عند أمه ما يرويه ويرضيه، وإذا وجهه الكالح المظلم قد أخذ يشرق ويضيء، وإذا ابتسامةٌ حلوة طاهرة قد ارتسمت على ثغره البريء، وإذا هو يقول لامرأته: تعلمي يا ابنة أبي ذؤيب أنك قد حملت نسمة مباركة!

وتنهض الظئر إلى أتانها فتركبها وتضع الرضيع بين يديها، وينهض الأعرابي إلى شارفه فيمتطيها، ويرميان بنفسيهما في الطريق يلتمسان الركب من بني سعد، والركب بعيد قد دفع به في الطريق طويلة نائية. ولكن الأعرابية تجد من أتانها نشاطًا وحدة، ولكن الأعرابي يجد من شارفه قوة ومرحًا، وهما يمضيان وكأنهما تطوى لهما الأرض طيًّا. ثم يقول الأعرابي لامرأته: مدي عينيك يا ابنة ذؤيب. أترين شيئًا؟ قالت: أي والله أني لأراهم، وإنهم لأدنى من مرمى العين. وما هي إلا أن يبلغ الأعرابي جماعة بني سعد، فيعجب الناس بأمر حليمة وقد أدركتهم في غير جهد ولا كد. والأمد بعيد والطريق شاقة. ويسأل النساء حليمة عن هذا الرضيع الذي تحمله، فإذا أنبأتهن بنبئه أظهرن لها الرقة والرثاء، وأضمرن التيه والكبرياء. ويمضي الركب آخذًا بأطراف الحديث، وإن حليمة لتسبق أترابها حتى تعييهن، وإن أترابها ليقلن لها: أهذه أتانك يا ابنة أبي ذؤيب التي أقبلت بك إلى مكة؟ فتقول: هي والله أتاني ما غيرتها. فيقلن: اربعي علينا٢ يا ابنة أبي ذؤيب؛ فما رأينا كاليوم مرحًا ولا عدوًا.

ويبلغ الركب ديار بني سعد، ويثوب المراضع إلى بيوتهن، ويستأنفن حياة أهل البادية في أرض مجدبة قل فيها الرعي والماء، وكثر فيها البؤس والشقاء. وغنم حليمة ترعى كما ترعى الغنم، ولكنها تروح ملاء حفلًا لا يظمأ أصحابها ولا يجوعون، وتروح غنم السعديين مهزولةً نحيلة ناضبة، لا تكاد تبض بما يبل الريق. وهم يقولون لرعاتهم: ويلكم! ارعو حيث ترعى غنم ابنة ذؤيب. فيقول الرعاة: والله إنا لنرعى حيث ترعى، وإنها والله لا تجد أكثر مما نجد، ولكنها تروح ملاء ونروح بغنمنا كما ترون، لا تغني من ظمأ ولا جوع. فيقولون: إن لابنة أبي ذؤيب لشأنًا. وتنعم حليمة وينعم أبناؤها بحياة راضية هادئة، وينمو رضيعها ويزكو. وتقضي هذه الأسرة عامين راضيين لا تعرف فيهما مشقة ولا جهدًا، ولا تجد فيهما ألمًا ولا سقمًا، وإنما هي أيامٌ وليال تطرد ويمضي بعضها في أثر بعض لا كدر فيها ولا تنغيص حتى إذا آن للرضيع أن يثوب إلى أمه نظرت حليمة وزوجها فإذا الطفل قد نما وزكا كأحسن ما ينمو الأطفال ويزكون، لم يكد يتم الثانية وكأنه ابن أربع، والقوم عليه حراص، ولكنهم يؤدونه على ذلك إلى أمه كارهين.

ثم تهم حليمة أن ترجع وقد أرضت آمنة وعبد المطلب، وأرضتها آمنة وعبد المطلب، ولكنها لا تستطيع فراق الطفل حبًّا له وحدبًا عليه، ورغبة في استبقاء ما وجدت في استصحابه من خير؛ فتلح على آمنة أن ترده معها إلى البادية، هناك حيث الهواء النقي، والسماء الصافية، والحياة الهادئة البريئة، هناك حيث لا مرض ولا وباء ولا فساد. وتجيبها آمنة إلى ما أرادت وقد آثرت الطفل على نفسها، وضحت بلذة الأمومة في سبيل تنشئ ابنها تنشيئًا صالحًا. وهل عرفت آمنة إلا التضحية! وتمضي حليمة بالصبي راضية، وتبقى آمنة في مكة محزونة. وتنظر بركة إلى حليمة نظرات فيهن الحسد. وتنظر بركة إلى آمنة نظرات فيهن اللوم.

قلت لمحدثي: فكيف قضى الصبي أيامه بعد ذلك في البادية؟ وكم أقام عند ظئره في ديار بني سعد؟ قال: إن لهذا لحديثًا عجيبًا، مهما أبلغ من البراعة وقوة البيان فلن أقصه عليك في تلك السذاجة الحلوة الأخاذة التي كان يقصها مكحول على أهل الشام. فاسمع حديث مكحول فإنك واجدٌ فيه مثل ما وجدت من اللذة والعظة والعبرة والمتاع.

قال مكحول: حدثني سداد بن أوس قال: بينا نحن جلوسٌ عند رسول الله إذا أقبل شيخٌ من بني عامر، وهو مِدْرَهُ قومه وسيدهم، شيخ كبير يتوكأ على عصا، فمثل بين يدي النبي قائمًا، ونسبه إلى جده فقال: يابن عبد المطلب، إني أنبئت أنك تزعم أنك رسول الله إلى الناس، أرسلك بما أرسل به إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء. ألا وإنك فوهت بعظيم! وإنما كانت الأنبياء والخلفاء في بيتين من بني إسرائيل، وأنت ممن يعبد هذه الحجارة والأوثان، فمالك وللنبوة؟ ولكن لكل قول حقيقة؛ فأنبئني بحقيقة قولك وبدء شأنك. قال: فأعجب النبي بمسألته، ثم قال: «يا أخا بني عامر! إن لهذا الحديث الذي تسألني عنه نبأ ومجلسًا، فاجلس.» فثنى رجليه ثم برك كما يبرك البعير. فاستقبله النبي بالحديث فقال: «يا أخا بني عامر! إن حقيقة قولي وبدء شأني أني دعوة أبي إبراهيم وبشرى أخي عيسى بن مريم، وأني كنت بكر أمي، وأنها حملت بي كأثقل ما تحمل، وجعلت تشتكي إلى صواحبها ثقل ما تجد. ثم إن أمي رأت في المنام أن الذي في بطنها نور. قالت: فجعلت أتبع بصري النور، والنور يسبق بصري، حتى أضاءت مشارق الأرض ومغاربها. ثم إنها ولدتني فنشأت. فلما أن نشأت بغضت إلى أوثان قريش وبغض إليَّ الشعر. وكنت مسترضعًا في بني ليث بن بكر. فبينا أنا ذات يوم منتبذ من أهلي في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان نتقاذف بيننا بالجلة٣ إذا أتانا رهطٌ ثلاثة معهم طستٌ من ذهب مليء ثلجًا، فأخذوني من بين أصحابي، فخرج أصحابي هرابًا حتى انتهوا إلى شفير الوادي، ثم أقبلوا على الرهط فقالوا: ما أربكم٤ إلى هذا الغلام فإنه ليس منا، هذا ابن سيد قريش وهو مسترضعٌ فينا من غلام يتيم ليس له أب؟ فماذا يرد عليكم قلته؟ وماذا تصيبون من ذلك؟ ولكن إن كنتم لا بد قاتليه فاختاروا منا أينا شئتم فليأتكم مكانه فاقتلوه، ودعوا هذا الغلام فإنه يتيم.
فلما رأى الصبيان القوم لا يحيرون إليهم جوابًا، انطلقوا هرابًا مسرعين إلى الحي يؤذنونهم ويستصرخونهم على القوم. فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض إضجاعًا لطيفًا، ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي وأنا أنظر إليه لم أجد لذلك مسًّا، ثم أخرج أحشاء بطني، ثم غسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها، ثم أعادها مكانها. ثم قام الثاني منهم فقال لصاحبه: تنح فنحاه عني، ثم أدخل يده في جوفي فأخرج قلبي، وأنا أنظر إليه، فصدعه، ثم أخرج منه مضغة سوداء فرمى بها، ثم قال بيده٥ يمنة منه كأنه يتناول شيئًا، فإذا أنا بخاتم في يده من نور يحار الناظرون دونه، فختم به قلبي فامتلأ نورًا، وذلك نور النبوة والحكمة، ثم أعاده مكانه، فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرًا. ثم قال الثالث لصاحبه: تنح. فتنحى عني، فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشق بإذن الله، ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضًا لطيفًا، ثم قال للأول الذي شق بطني: زنه بعشره من أمته، فوزنوني بهم فرجحتهم. ثم قال: زنه بمائة من أمته، فوزنوني بهم فرجحتهم. ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزنوني بهم فرجحتهم. فقال: دعوه، فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم. قال: ثم ضموني إلى صدورهم، وقبلوا رأسي وما بين عيني. ثم قالوا: يا حبيب! لا ترع! إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك.
قال فبينا نحن كذلك إذا أنا بالحي قد جاءوا بحذافيرهم، وإذا أمي — وهي ظئر — أمام الحي تهتف بأعلى صوتها وتقول: يا ضعيفاه! فانكبوا عليَّ فقبلوا رأسي وما بين عيني، فقالوا: حبذا أنت من ضعيف! ثم قالت ظئري: يا وحيداه! فانكبوا عليَّ فضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني، ثم قالوا: حبذا أنت من وحيد! وما أنت بوحيد! إن الله معك وملائكته والمؤمنين من أهل الأرض. ثم قالت ظئري: يا يتيماه! استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك! فانكبوا عليَّ فضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا حبذا أنت من يتم! ما أكرمك على الله! لو تعلم ماذا يراد بك من الخير! فوصلوا بي إلى شفير الوادي. فلما بصرت بي أمي، وهي ظئري، قالت: يا بني ألا أراك حيًّا بعد! فجاءت حتى انكبت عليَّ وضمتني إلى صدرها. فوالذي نفسي بيده إني لفي حجرها وقد ضمتني إليها، وإن يدي في يعد بعضهم، فجعلت ألتفت إليهم، وظننت أن القوم يبصرونهم، فإذا هم لا يبصرونهم. يقول بعض القوم: إن هذا الغلام قد أصابه لممٌ٦ أو طائفٌ من الجن، فانطلقوا به إلى كاهننا حتى ينظر إليه ويداويه. فقلت: يا هذا، ما بي شيء مما تذكر؛ إن إرادتي سليمة وفؤادي صحيح ليس بي قلبةٌ.٧ فقال أبي — وهو زوج ظئري: ألا ترون كلامه كلام صحيح! إني لأرجو ألا يكون بابني بأس. فاتفقوا على أن يذهبوا بي إلى الكاهن، فاحتملوني حتى ذهبوا بي إليه. فلما قصوا عليه قصتي قال: اسكتوا حتى أسمع من الغلام فإنه أعلم بأمره منكم. فسألني فاقتصصت عليه أمري ما بين أوله وآخره. فلما سمع قولي وثب إليَّ وضمني إلى صدره، ثم نادى بأعلى صوته: يا للعرب! يا للعرب! اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه! فواللات والعزى لئن تركتموه وأدرك ليذلن دينكم وليسفهن عقولكم وعقول آبائكم، وليخالفن أمركم، وليأتينكم بدين لم تسمعوا بمثله قط. فعمدت ظئري فانتزعتني من حجره وقالت: لأنت أعته وأجن من ابني هذا! فلو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به، فاطلب لنفسك من يقتلك فإنا غير قاتلي هذا الغلام. ثم احتملوني فأدوني إلى أهلي، فأصبحت مفزعًا مما فعل بي، وأصبح أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي كأنه الشراك.٨ فذلك حقيقة قولي وبدء شأني يا أخا بني عامر.»
فقال العامري: أشهد بالله الذي لا إله غيره إن أمرك حق. فأنبئني بأشياء أسألك عنها. قال سل عنك — وكان النبي قبل ذلك يقول للسائل: سل عمَّا شئت وعمَّا بدا لك، فقال للعامري يومئذ: «سل عنك» لأنها لغة بني عامر، فكلمه بما علم — فقال له العامري: أخبرني يابن عبد المطلب ما يزيد في العلم؟ قال: التعلم. قال: فأخبرني ما يدل على العلم؟ قال النبي : السؤال. قال: فأخبرني ماذا يزيد في الشر؟ قال: التمادي. قال: فأخبرني هل ينفع البر بعد الفجور؟ قال: «نعم: التوبة تغسل الحوبة،٩ والحسنات يذهبن السيئات، وإذا ذكر العبد ربه عند الرخاء أغاثه عند البلاء.» قال العامري: وكيف ذلك يابن عبد المطلب؟ قال: «ذلك بأن الله يقول: لا وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين، ولا أجمع له أبدًا خوفين: إن هو خافني في الدنيا أمنني يوم أجمع فيه عبادي عندي في حظيرة القدس فيدوم له أمنه، ولا أمحقه فيمن أمحق. وإن هو أمنني في الدنيا خافني يوم أجمع فيه عبادي لميقات يوم معلوم فيدوم له خوفه.»
قال: يابن عبد المطلب، أخبرني إلام تدعو؟ قال: «أدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن تخلع الأنداد وتكفر باللات والعزى، وتقر بما جاء من الله من كتابٍ أو رسول، وتصلي الصلوات الخمس بحقائقهن، وتصوم شهرًا من السنة، وتؤدي زكاة مالك يطهرك الله بها ويطيب لك ما لك، وتحج البيت إذا وجدت إليه سبيلًا، وتغتسل من الجنابة، وتؤمن بالموت وبالبعث بعد الموت، وبالجنة والنار.» قال: يابن عبد المطلب، فإذا فعلت ذلك فما لي؟ قال النبي : «جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى.» قال: يابن عبد المطلب، هل مع هذا من الدنيا شيء فإنه يعجبني الوطاءة من العيش؟ قال النبي : «نعم النصر والتمكن في البلاد.» قال: فأجاب وأناب١٠ قلت لمحدثي: إن هذا النبأ لعجيب! فمن لهذا الشيخ العامري بما كان يعلم من أمر إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء؟ قال: كان كثير من هؤلاء العرب يلقون اليهود ويلقون النصارى، فيعلمون منهم علم الأنبياء، وينتهون إلى نفور من دينهم القديم في غير اطمئنان إلى يهودية اليهود ونصرانية النصارى، فأخرجهم الله بالإسلام من حيرتهم تلك.
قلت لمحدثي: فكيف انتهى حديث مكحول إلى أهل الشام؟ قال أما علمت أن شداد بن أوس سكن فلسطين وأنفق شطرًا طويلًا من حياته في بيت المقدس يعلم الناس ويحدثهم، وعده بذلك النبي نفسه؟ فقد تحدثوا أنه كان عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يجود بنفسه فقال: ما لك يا شداد؟ قال: ضاقت بي الدنيا. فقال: «ليس عليك، إن الشام سيفتح، وبيت المقدس سيفتح، وتكون أنت وولدك من بعد أئمةً فيهم إن شاء الله تعالى.»١١
١  الأتان: أنثى الحمير. والشارف من النوق: المسنة.
٢  أربعي علينا، أي ارفقي بنا وانتظرينا.
٣  الجلة: البعر.
٤  الأرب — بفتح الهمزة والراء وبكسر الهمزة وسكون الراء: الحاجة.
٥  قال بيده: أهوى بها، وقال برأسه: هزه. «عن أساس البلاغة».
٦  اللمم — بالتحريك: طرف من الحنون.
٧  القلبة — بالتحريك: الألم والعلة.
٨  الشراك: أحد سيور النعل التي تكون على وجهها.
٩  الحوبة — بفتح الحاء وضمها: الإثم.
١٠  «تاريخ الطبري» جزء ٢ من صفحة ١٢٦ إلى ١٢٨ طبعة القاهرة.
١١  «الإصابة» جزء ٣ صفحة ١٩٥ طبعة المطبعة الشرقية بالقاهرة سنة ١٢٢٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤