الفصل التاسع

البشير

أقبلن مع ضوء النهار يسعين سعي النسيم يسبقهن عرف المسك ونشر القرنفل، ويحملن من ندى الأزهار وشهي الثمار، ومن رطب الأغصان وجنى الريحان، ما يصور الطبيعة وقد أيقظها برد السحر ومس الندى وغناء الطير، فجرت فيها رعدة الحياة، ثم استقبلت ضوء الصبح باسمةً له مقدمةً عليه، ثم منغمسة فيه تريد أن تعبر ما بين ساحليه من مطلع الشمس إلى مغيبها. وكن قاصرات الطرف فاترات اللحظ ساحرات العيون وكن واضحات الجباه قاتمات الشعور، وكن مشرقات الوجوه باسمات الثغور، وكن أسيلات الخدود جميلات القدود نحيلات الخصور. وكن عذاب الأصوات ملاح الألفاظ فاتنات الألحان. وكن يتغنين في يونانيتهن الحلوة أغنية الصباح، تلك التي تعوَّدن أن يحملن بها تحية النهار إلى سيدهن الشاب الفتى المترف «كيمون بن أركيتاس».

وكن يقلن له في أغنيتهن الرقيقة الظريفة: «أفق أيها الفتى المترف! تنبه أيها الفتى السعيد! قم أيها الفتى المجدود، أفق «كيمون»! فقد وفت لك آلهة الليل بعهدها فرعتك وحفظتك، ويسرت لك نومًا هادئًا وأحلامًا حسانًا، ثم انصرفت عنك وقد أسلمتك إلى آلهة النهار لتفي لك بعهدها كما تعودت أن تفي لك به منذ ذقت الحياة! أفق فلن ترى من هذا اليوم إلا ابتسامًا أجمل وأعذب من ذلك الابتسام الذي رأيته أمس والذي رأيته أول من أمس والذي تعودته منذ عرفت الحياة! أفق فستلقى مودة وحبًّا، وستلقى توفيقًا ونجحًا، وسيزورك الأصدقاء مسرعين إليك، مقبلين عليك وقد اتخذوا على رءوسهم أكاليل من الزهر، وسيتخذ رأسك إكليلًا كأكاليلهم، وستفرحون وتمرحون، وستجدُّون وتمزحون. أفق أيها الفتى السعيد! تنبه أيها الفتى المترف! قم أيها الفتى المجدود!»

ولكنهن بلغن الغرفة التي كان يأوى إليها «كيمون» إذا جنَّه الليل وانصرف عنه الرفاق، فلم يرين سيدهن كما تعودن أن يرينه كل صباح مغرقًا في النوم أو متعلقًا بأسباب اليقظة يريد أن ينجو بها من بحر الرقاد، إنما رأينه قائمًا يذهب في غرفته ويجيء متعبًا مكدودًا، مظلم الوجه كأنه قد أنفق ليله مسهدًا لم يذق النعاس. فلما رأينه هممن أن يسألنه. ولما رآهن أنكرهن، ولكنه منحهن ابتسامةً فيها عطفٌ عليهن حزين، ورفقٌ بهن لا يخلو من ألم، وانصرافٌ عنهن يشوبه شيء من التبرم وإحساس الشقاء. ثم أشار إليهن فلم يسعهن إلا أن يعدن من حيث أتين، صامتات كئيبات قد سقط في أيديهن كأنما أتين من الأمر شيئًا عظيمًا.

وكان الفتى في حقيقة الأمر ينكر نفسه أشد الإنكار، ويضيق بما حوله كل الضيق بعد تلك الليلة الطويلة الثقيلة التي أنفقها وحيدًا محزونًا يفكر في تلك الدماء التي كانت تجري قريبًا من داره كأنها السيل، وفي تلك الأشلاء التي كانت منتثرةً من حول داره آخر النهار، وفي تلك الأصوات التي كانت ترتفع بالصلاة والدعاء قوية رائعة مبتهجة بالموت، حتى يسعى الموت إلى أصحابها فيخرُّون صرعى، وتستحيل تلك الأصوات القوية الرائعة المبتهجة إلى حشرجة فظيعة مروعة. ويرى تلك الوجوه التي كانت تستقبل الموت وعليها ابتسامة حلوة فيها جلدٌ وثقة، وفيها يقين وأمن وفيها أمل وإيمان، فما تزال هذه الوجوه تدنو من الموت باسمة له، وما يزال الموت يدنو منها عابسًا لها، حتى يكون اللقاء المنكر الشنيع، فإذا عبوس الموت قد استحال إلى ابتسام حين مسَّ هذه الوجوه الباسمة. وكانت المدينة قد شهدت يومًا من أعظم أيامها شرًّا وأشد أيامها نكرًا: يومًا من أيام الاضطهاد، جُمع فيه النصارى من كل وجه وأخذوا من كل مكان، فيهم الرجال والنساء، وفيهم الشباب والشيب، وكلهم من ضعفاء الناس وذوي المنازل الخاملة فيهم: أخذوا من الدور حيث كانوا آمنين، وأخذوا من الحقول حيث كانوا يعملون، وأخذوا من البِيَع التي أقاموها في الأنفاق حيث كانوا يجتمعون للصلاة والدعاء. فلما حُشد منهم المئات امتحنوا في دينهم امتحانًا يسيرًا قصيرًا، فلم يكن منهم من أجاب إلى وثنية الإمبراطورية الرومانية، ولم يكن منهم من أظهر العبادة لقيصر أو الخضوع لدين روما. هناك أمر بهم الحاكم فقتلوا تقتيلًا، ونُكل بهم أشد التنكيل، وعبثت بهم السيوف والخناجر، ولعبت فيهم السهام والحراب، وأشراف المدينة المقيمون على دين الدولة، وعامة المدينة المتعصبون لدين الدولة ينظرون إلى ذلك فرحين به، مستمتعين بجماله البشع الفظيع. وكان «كيمون» بين الأشراف في الصف الأول من النظارة سمع ورأى، فأنكرت نفسه ما سمع وما رأى، ولكن صوته لم يستطع إلا أن يصيح صيحات الرضا، ولكن يديه لم يستطيعا إلا أن تُصفقا تصفيقَ الإعجاب. حتى إذا انتهت المجزرة وتفرَّق الناس سُكارى لكثرة ما رأوا وشموا من منظر الدم وريحه، عاد الفتى إلى قصره ذاهلًا واجمًا كئيبًا حزينًا. ثم خلا إلى نفسه فقضى في غرفته بقية النهار وسواد الليل، ورأى في هذه العزلة الطويلة أهوالًا وأوجالًا لم يكن تعوَّد أن يراها. وأنَّى له ذلك ولم يشهد قط ما شهد أمس من الاضطهاد! وأنَّى له ذلك ولم يشترك قط في حرب ولم يرَ قط نزالًا ولا قتالًا على أنه لم يستطع البقاء في غرفته بعد أن انصرف عنه الإماء، فخرج من داره لا يدري إلى أين يقصد، ولا يعرف إلى أين يريد. ومضى أمامه لا يلوي على شيء ولا ينظر إلى شيء، ولم ينتبه إلا وهو يستأذن على صديقه «نكياس».

فلما أذن له دخل على صاحبه، فلم يرَ في وجهه إشراقًا ولا ابتسامًا، ولم يحس منه ابتهاجًا ولا نشاطًا، وإنما رأى وجهًا عابسًا مظلمًا، وشخصًا كئيبًا فاترًا! فابتدر صديقه قائلًا: إن أمرك لعجيب! أفتراني قد حملتُ إليك حزني وبؤسي، ونقلت إليك كآبتي وشقائي؟! قال «نكياس»: أمحزون أنت؟ أما أنا فلم أذق النوم! قال «كيمون»: ولم أذقه أنا أيضًا وكيف يذوق النوم من رأى مثل ما رأينا، أو سمع مثل ما سمعنا، أو شهد مثل ما شاهدنا من كيد الناس للناس، ومكر الناس بالناس وقسوة الناس على الناس! قال «نكياس»: هوِّن عليك! لقد نام أهل المدينة ملء جفونهم آمنين مطمئنين. وما يمنعهم أن يناموا وأن يأمنوا وأن يطمئنوا وقد كانوا يخافون هؤلاء النصارى على أمن الدولة ودينها، وعلى نظام الدولة وسلطانها، فقد أراحتهم سيوف الجند ورماح الشرطة وسهام الرماة من هؤلاء النصارى، فأخلت منهم الدار وعفت منهم الآثار، وقدَّمتهم ضحايا دامية إلى «جوبيتير» إله روما العظيم! قال «كيمون»: إن عجبي من هؤلاء النصارى لا ينقضي! كلهم كان ضعيفًا ذليلًا، وكلهم كان فقيرًا مُعدمًا، وكلهم كان بائسًا محرومًا، وكلهم كان قد تعوَّد الطاعة وألِف الخضوع، فكيف قويت قلوبهم بعد ضعف، وكيف عزَّت نفوسهم بعد ذلة، وكيف اجترءوا على أن يعصوا سادتهم وقادتهم ويخالفوا عن أمر الحاكم والإمبراطور؟! ما هذا السحر الذي غيَّرهم هذا التغيير، وبدَّلهم هذا التبديل، ومنحهم هذه الشجاعة والعزَّة، وهذا الصبر والبأس. وكل هذه الخصال التي لم تكن تعرف إلا للأشراف؟! قال «نكياس»: وما يدهشك من هذا؟ إنما هو الإيمان خليق أن يحوِّل الأشياء إلى أضدادها، والنفوس إلى نقيضها. أو تظن أن أمر هؤلاء الناس هو وحده الذي يثير هذا الدهش ويدعو إلى العجب! أليس كل شيء الآن يتغير ويتبدل؟! ألست تحس من حولك إنكارًا لكل شيء، وضيقًا بكل شيء وسُخطًا على كل شيء، واستعدادًا لثورة عنيفة توشك أن تشب فتقلب الأشياء كلها رأسًا على عقب؟! إنك تعجب من الناس، فماذا تقول إن أنبأتك بأني أعجب من الآلهة؟!

قال «كيمون»: وأنت أيضًا تعجب من الآلهة؛ أفرأيت إذًا ما رأيت، وسمعت إذًا ما سمعت؟! لقد كنت أحسبه حلمًا من هذه الأحلام التي تروِّع الناس في النوم إذا روَّعتهم الحوادث وهم أيقاظ، وكنت أجادل نفسي في هذا الحلم المخيف، فما أذكر أني ذقت النوم منذ أمس.

قال «نكياس»: فاقصُص عليَّ ما رأيت أحدثك بحديثي وإنه لعجيب. قال «كيمون»: طال عليَّ الليل؛ وثقل عليَّ الهم، وضاقت بي الغرفة بما فيها من الجدران القائمة، والسقف المطبق، والباب المغلق، فخرجت كأنما كنت ألتمس في الحركة فرجًا من خرج، وفي الفضاء الواسع فُسحة من ضيق، وأشرفت أرفع طرفي إلى السماء كأنما كنت أسأل نجومها عن سر ما لا أفهم من أمر الحياة والأحياء، وأمد عيني إلى البحر كأنما كنت أدعوه ملحًّا عليه إلى أن يطغى بعض الشيء على المدينة، فيغسل ما علق بأرضها من دماء القتلى، ويحمل ما انتثر على أرضها من أشلائهم. وإني لفي ذلك حائر الطرف مفرق النفس، كاسف البال محزون الضمير، وإذا شيء يعرض لي لا أتبينه أول الأمر لأنه كان بعيدًا عني، ولكنه يروعني وتقف عيني عليه، ويدنو مني شيئًا فشيئًا حتى أتبين — وما أعجب ما أتبين — جماعة من الفرسان كأجمل وأروع وأجهر ما رأيت، قد علوا صهوات جياد عربية، ما رأيت قط مثلها ولا سمعت قط عن مثلها إلا فيما أقرأ من شعر الشعراء ومن قصائد «بندار» حين كان يتغنى تلك الخيل التي كانت تسبق ألعاب أولمبيا. جيادٌ مجنحة كانت تعبر إلى البحر بمن عليها من الفرسان! لا أدري أكانت تركض على الماء أم كانت تطير في الهواء. حتى إذا بلغ الجماعة شاطئ البحر وكادت حوافر جيادهم تطأ الأرض وقفوا. وقد تبينت أشخاصهم فإذا هم أربعة، فيهم رجلان وامرأتان. وما أقرب الشبه بين هؤلاء الأشخاص وبين هذه التماثيل التي نراها في المعابد ﻟ «أبلُّون» و«أرْتميس»، وﻟ «أتنا» و«آريس»!

أكنت يقظان حين رأيت! أكنت يقظان حين سمعت! ولكن أشخاصهم ما زالت ماثلةً أمام عيني، ولكن حديثهم ما زال مستقرًّا في صدري كأنما نقش على قلبي نقشًا. سمعت أشبههم ﺑ «أبلُّون» يقول: ما أبشع هذه المدينة التي نحبها ونصبو إليها! وما أقبح هذه الريح التي تصعد إلينا منها! قالت أشبه هؤلاء الأشخاص ﺑ «أتنا»: لقد كنا نحب أن نلم بهذه المدينة فنطيل فيها المقام، وكنا نستعذب حديث أهلها ونستحب أخلاقهم، ونستلذ ما كانوا يقدمون إلينا من الضحايا والقرابين. قالت شبيهة أرتميس: وكم كنت أحب أن أتجول في غاباتها وأستمتع فيها بلذة الصيد! قال شبيه آريس: أما أنا فكانت تعجبني حصونها المحصنة، وقلاعها المؤشبة، وهذا الجيش الباسل المرابط فيها والمستعد في كل لحظة للدفاع والهجوم. قال شبيه أبلون: فقد آن لنا أن ننصرف عنها على ألا نرجع إليها، وأن نلقي عليها نظرة وداع لا لقاء بعده. قالت شبيهة أرتميس: لم أستطع بعد أن أفقه ما ألم بأهل هذه المدينة: أفتنةٌ أتت على عقولهم فحالت بينها وبين الفهم والتفكير، أم قسوةٌ غلبت على قلوبهم فحرمتها الحس والشعور؟ إنهم يظنون أنه الدين وما يدفعهم إليه من حبنا والتعصب لنا، وحماية معابدنا وأوثاننا وسلطاننا أن يطغى عليها هذا الدين الجديد الذي أقبل من الشرق، ولكنهم يكذبون، فما أكثر من وفد علينا من آلهة الشرق قديمًا! وما أكثر من يفد علينا منهم في هذه الأيام! وما أحسن ما تلقيناهم! وما أحسن ما نتلقاهم الآن! لم نضق بهم ولم يضق بهم الناس! فما ضيقهم بهذا الدين الجديد وبهذا الإله الشرقي الجديد؟!

قال شبيه أبلون: إنهم يخدعون أنفسهم ويريدون أن يخدعونا ولكنهم يعلمون، لو فكروا، أنهم لا يثورون لنا، ولا يغارون علينا، ولا يغضبون للدين؛ إنما يورون لقيصر، ويغارون على روما، ويغضبون للسياسة. ولولا أن قيصر قد ألَّه نفسه وأخذ الناس بعبادته، ولولا أن روما قد ألهت نفسها وفرضت ما لم تفرض مدن اليونان حين كان إليها الأمر من هذا الدين الغريب الذي تقام له المعابد بها، ويؤمر الناس فيها أن يقدموا إليه الطاعة، ولولا أن هؤلاء الرومان قد اتخذوا الدين وسيلة من وسائل السيادة وأداةً من أدوات الحكم وبسط السلطان، يكذبون به على أنفسهم ويكذبون به على الناس، لولا هذا كله لما أريقت الدماء ولا انتثرت الأشلاء، ولا أزهقت النفوس، ولا قتل الناس بعضهم بعضًا على هذا النحو.

قال شبيه آريس: إنكم لتعلمون حبِّي للدماء، ونشوتي بالقتال والحرب، ولكني شديد البغض لما أرى، شديد النفور مما أجد. وكم ضقت بما رأيت أمس من هذا التقتيل والتنكيل والتمثيل! ومع ذلك فكم شهدت من حرب وكم اشتركت فيها! وكم أغريت بها؛ وكم دفعت إليها! وكم أبليت فأحسنت البلاء! قالت شبيهة «أتنا»: وأي غرابة في ذلك؛ أنا أيضًا أحببت الحرب وما زلت أحبها، ولكن الحرب شيء وهذا النكر شيء آخر. وأين الحرب التي تصدر عن الشجاعة والبأس من هذا الإجرام الذي لا يصدر إلا عن الجبن والبغي والعدوان! وأي فرق بين تقتيل العزل والأبرياء، وبين ما فعله أياس حين جن جنونه، فأعمل سيفه في قطعان البقر والغنم التي لا تملك عن نفسها دفاعًا؛ قال شبيه أبلون: وما بقاؤنا في هذه الأرض التي ليست لنا بدار بعد ما أزمع الآلهة أن يدعوا هذا الإقليم لدين قيصر ولهذا الدين الجديد؟! لقد وقفنا فأطلنا الوقوف، وودعنا فأطلنا الوداع، وآن لنا أن نلحق بمن سبقنا من الآلهة إلى تلك الأرض الموعودة التي لم تفسد عقول أهلها حيلة برومثيوس، ولا فلسفة سقراط، ولا سياسة قيصر، هلم. ثم ترتفع بهم أفراسهم في الجو، وما هي إلا لحظة حتى أرى سحابًا رقيقًا يمضي أمامي مسرعًا، ثم أنظر فلا أرى شيئًا. أكنت نائمًا أرى ما يرى النائم، أم كنت يقظان أرى ما يرى الأيقاظ؟

قال «نكياس»: لم تكن نائمًا ولا حالمًا: فقد كنت أسمع حديثك الآن وما أشك في أنك قد كنت تقرأ ما كان قد نقش على قلبي ورسخ في قرارة نفسي. الصورة هي الصورة، واللفظ هو اللفظ، ومقدم الفرسان ورحيلهم ووقوفهم بين ذلك كما وصفته، لم تزد فيه ولم تنقص منه؛ ولكني لم يطل عليَّ الليل ولم يثقل عليَّ الهم، ولم يضق بي المكان. لقد أنفقت بقية النهار وأكثر الليل في قصر الحاكم مع أغنياء المدينة وأشرافها نستمتع بلذات هذا الحفل الذي دعانا إليه، ولم تنشط أنت له. وأشهد لقد أسرفت في الطعام، وأسرفت في الشرب خاصةً؛ لأني كنت أريد أن تفرق الخمر بيني وبين نفسي، وأن تسل الخمر ما كان يملأ صدري من الهم والحزن. ولكن الليل عجز عن أن يسلمك إلى النوم، وعجزت الخمر عن أن تسلمني إلى السكر. فلما انقضى الحفل وانصرف الناس لم أستطع أن أعود إلى داري، فمضيت أمشي على ساحل البحر أتنسم الهواء وأنظر في السماء، حتى رأيت مثل ما رأيت، وسمعت مثل ما سمعت. وعدت وإني لأسأل نفسي منذ ذلك الوقت: أكان حقًّا ما رأيت وسمعت، أم كان لونًا من ألوان السكر وخيالًا من هذه الخيالات التي تسلطها الخمر على النفوس؟ قال «كيمون»: وإذًا …؟ قال «نكياس»: وإذًا …! ثم سكت الصديقان وقتًا طويلًا. ثم استأنف «نكياس» حديثه وهو يقول: وإذًا فنحن بين اثنتين: إما أن نرحل كما رحل الآلهة، وإما أن نقيم كما أقام الناس. وفي السياحة لذة، وفي الخمر واللهو عزاء. قال «كيمون»: أما أنا فمرتحل. قال «نكياس»: أما أنا فمقيم. قال «كيمون»: فكن إذًا خليفتي في مالي حتى يأتيك أمري فيه. قال «نكياس»: أجادٌّ أنت؟ وما يمنع أن يكون ما رأينا وسمعنا عبثًا من عبث الآلهة؛ فقد علمت أنهم يحبون العبث بنا والسخر منا! وما يمنع أن يكون ما رأينا وسمعنا أثرًا من آثار هذه الصدمة التي دهمتنا أمس حين رأينا ما سفك من دماء وما أزهق من نفوس! أقم فإن في اللهو واللذة وفي الخمر والغناء، وفي جمال هؤلاء الإماء اللاتي يملأن قصورنا نعيمًا وبهجة، وفي هذه الثروة التي تتيح لنا من ألوان الشرف والمجد ما لا يتاح إلا لقليل من الناس، ما هو خليقٌ أن ينسينا ما شهدنا منذ أمس. أقم! ولنضاعف ما نحن فيه من عبث ولهو؛ فما أرى حياة الناس تستقيم إلا على العبث واللهو: شربٌ في النهار، ونوم في الليل، حتى إذا سئمنا الحياة خرجنا منها مزدرين لها. قال «كيمون»: أنت وما تحب من هذا، أما أنا فمرتحل عن هذه الأرض ولو إلى حين.

ثم افترق الصديقان بعد ذلك، فلم يلتقيا ولم يعرف أحدهما من أمر صاحبه شيئًا. أما التاريخ فقد عرف من أمر «كيمون» شيئًا كثيرًا.

على أن الذي حدثني بحديث «كيمون» لم ينس أن يصطنع الصدق والأمانة في الحديث، ولم يرض أن يتكلف ما يتكلفه القصاص وكثيرٌ من المؤرخين من التزيد في الرواية، والتحدث بما لا علم لهم به؛ فقد أنبأني بأن جزءًا غير قليل من حياة «كيمون» لم يصل عنه إلى الرواة والمؤرخين إلا أطرافٌ قصيرة من الحديث، وأن التاريخ لم يعرف تفصيل حياته إلا في آخرها حين تقضى شبابه، وأقبلت عليه الشيخوخة بما تحمل إلى الناس من هذه الهدايا البغيضة التي تتألف من الضعف والمرض وأعراض الفناء والانحلال. ولو قد عُرف التفصيل من أمر «كيمون» لوجد الناس في قراءته لذةً لا يجدون مثلها كثيرًا حين يقرءون حياة الشهداء والقديسين. فقد انصرف «كيمون» عن صاحبه محزونًا مُوَزَّعًا بين اليأس البين إن أقام، والرجاء الغامض المبهم إن ارتحل. وكان قد كره المدينة والحياة فيها كرهًا شديدًا. وكان قد سئم قصره وما فيه سأمًا ساء له خلقه حتى أنكر نفسه، وحتى كره ما كان يسمع من صوته وألفاظه حين كان يتحدث إلى أهل القصر من الأحرار والأرقاء.

ولم يكد يتم يومه في القصر حتى عرف أن بقاءه في المدينة أمر لا سبيل إليه، وأن الموت آثر عنده وأحب إليه من هذه الحياة الحمراء اللاغطة الممزقة التي لا يرى فيها إلا دماء وأشلاء، ولا يسمع فيها إلا صلاة ودعاء وحشرجةً ونداء. فلما جنه الليل وهدأ من حوله كل شيء وكل إنسان، خرج من القصر ينساب كأنه الحية، وينسل كأنه اللص، وأخذ يمضي في طرق المدينة متنقلًا من طريق إلى طريق حتى جاوز أسوارها وأرباضها،١ ودفع٢ إلى الفضاء الواسع، وإلى هذا الريف الذي تسكن فيه الطبيعة إذا تقدم الليل سكونًا رهيبًا، ولا يكاد يحس الإنسان فيه إلا هذه الأصوات الضئيلة التي تنبعث من حين إلى حين، عن بعض الحشرات المنبثة في ثنايا العشب والزرع، وعن بعض الطير المستقرة على الأغصان، حين يمر بها طائف الحلم فتهم بالغناء والتغريد، ثم يقطع عليها النوم غناءها وتغريدها، وإلا هذه الأصوات الخفية التي لا تسمعها الأذن وإنما تسمعها النفس؛ لأنها أدق من السمع، وألطف من الحس، وهي نجوى الهواء حين تتحدث أجزاؤه وطبقاته بعضها إلى بعض إذا سكن الليل وأطبق الظلام، كأنما يقص بعضها على بعض أحاديث الطبيعة في حياتها وحركتها قبل أن تنام، وقبل أن يضطرها الليل إلى السكون. ومع أن هذا الهدوء الرهيب، وهذا الصمت المهيب، يروعان أهل المدن إذا دفعوا إليها دفعًا على غير تعود لهما، فإنهما لم يبعثا في نفس الفتى روعًا، ولم يدخلا في قلبه رعبًا؛ لأن نفسه كانت مشغولة حتى عن هذا الرعب وذلك الروع بما كان يزدحم فيها من الخواطر والأحاديث.

وكان الفتى يمضي أمامه لا يعنيه أَمُهْتَدٍ هو قصد السبيل أم جائرٌ هو عن هذا القصد؛ لأنه لم يكن في حقيقة الأمر يعرف إلى أين يريد، ولم يكن قد رسم لنفسه طريقًا يسلكها أو غايةً ينتهي إليها، إنما كان همه أن يفر من هذه المدينة التي جرت فيها الدماء أنهارًا، وانتثرت فيها الأشلاء انتثارًا، وجنى فيها بعض الناس على بعض هذه الجرائم والآثام. وكان حديث الآلهة قد ملأ نفسه دهشًا وعجبًا، واضطر إلى أن يسأل نفسه من حين إلى حين: إلى أين ذهب الآلهة. وأي طريق سلكوا، وفي أي مكان من الأرض أو من السماء أقاموا قصورهم الخالدة؟ وكيف هان على زوس أن يدع «أولمب» وما كان فيه من حياة فيها الجد الرائع والعبث اللذيذ؟! وكيف هان على أبلون أن يترك معبده الخالد في «دلف»؟ وكيف استطاعت «أتنا» أن تتعزى عن «الأكروبول»؟ وأين يجد «آريس» مدنًا تقتتل وتحترب كما كانت مدن اليونان تقتتل وتحترب؟ وكان يسأل نفسه عن سلطان هؤلاء الآلهة الذين لم يستطيعوا أن يثبتوا لعدوان الإنسان على الإنسان، فضلًا عن أن يمحوا هذا العدوان ويبطشوا بالمعتدين. وكان يسأل نفسه عن هذا الدين الجديد الذي يؤثره أصحابه على الحياة ولذاتها وآلامها، وعن هذا الإله الجديد الذي أخذ يغزو العالم اليوناني الروماني، فيحبب إلى أهله الألم والصبر والتضحية، ويزهد أهله في الثروة والغنى، ويزين في قلوبهم حب الفقر والإعدام، وينشئهم تنشيئًا جديدًا لا صلة بينه وبين ما ألف الناس منذ أنشدوا شعر «هوميروس»، وتغنوا شعر «سافو» و«بندار»، واستمتعوا بشعر سوفوكل وأرستوفان، وتفكروا في فلسفة سقراط وأرسطاطاليس، وكان يسأل نفسه وهو يمضي في طريقه لا يلوي على شيء، والليل من حوله مطبقٌ قد غمر بظلمته المخيفة كل شيء: أماض هو في أثر الآلهة الذين ارتحلوا ليلحق بهم ويقيم معهم؛ لأنه لا يستطيع أن يعيش من دونهم، أم ساعٍ هو إلى دار هذا الإله الجديد لعله يلقى من كهانه وقساوسته من يعلمه أسرار دينه؛ فقد سئم حياة اليونان، وتمنى لو ظفر بلون من الحياة جديد؟! وكان الفتى يمضي، وكانت هذه الخواطر تزدحم على نفسه وتضطرب فيها، وكان الليل يمضي هو أيضًا في طريقه دون أن يتبين الفتى أكان سريعًا في سيره أم بطيئَا. وإنه لكذلك يسير ويسير، ويفكر ويفكر، قد نسي نفسه ونسي الليل، وإذا هو يثوب إلى نفسه لحظة فيقف ويرفع رأسه، وإذا الضوء قد غمره وغمر الأرض من حوله، وإذا هو ينظر أمامه فلا يرى إلا سهلًا مشرقًا، وينظر وراءه فلا يرى إلا سهلًا مشرقًا، وينظر من يمين وشمال فلا يرى إلا سهلًا مشرقًا، وإذا هو لا يدري من أين جاء ولا إلى أين يريد.

ينظر وراءه فلا يرى للعمران أثرًا، وينظر من كل ناحية فلا يرى للعمران أثرًا، قد انقطعت الصلات والأسباب بينه وبين مدينته التي خرج منها أمس حين أظلم الليل، فكأنه لم يعرف هذه المدينة ولم يعش فيها ولم يقاسم أهلها ما نعموا به من لذات وما ابتأسوا به من آلام، وكأنه لم يشهد فيها ما شهد، ولم ينكر من أهلها ما أنكر، وكأنه شيء فذ لا صلة بينه وبين شيء، وكأنه شيء ضائع بين هذه الأرض التي لا حد لها، وهذه السماء التي لا حد لها، وهذا الضوء الذي يضطرب بينهما إلى غير حد. هنالك أحس الفتى راحةً لم يحسسها قط كأنه قد ألقى عن نفسه أعباء الحياة كلها، هذه الأعباء التي لا تختصر حياة الفرد وما لقي فيها من شر وخير فحسب، وإنما تختصر معها أيضًا حياة هذه الأجيال التي سبقته وأورثته الحضارة أثقالها. أحس الفتى راحة قلَّمَا نستطيع نحن أن نتصورها، وأحس هدوءًا ونشاطًا قلَّمَا نستطيع نحن أن نذوقهما. ووقف يستمتع بهذه الراحة ويستلذ هذا النشاط وحاول أن يدعو إليه تلك الخواطر التي كانت تزدحم على نفسه في ظلمة الليل، فلم يستجب له منها خاطر واحد، كأنما طردها هذا الضوء المشرق مع ذلك الليل المظلم الكثيف.

ما أجمل هذا الشعور الذي امتلأت به نفس «كيمون» حين أحس أنه قد خلق خلقًا جديدًا! لقد امتزجت نفسه الجديدة بهذا النور الجديد، ولقد نسي الآلهة الذين كان يمضي في أثرهم، ونسي الإله الذي كان يسعى ليعلم علمه. وماله ولهذا الإله الجديد ولأولئك الآلهة القدماء، وقد استيقن أنه قد وجد في هذه الطبيعة المطلقة الحرة، التي لا تحصر ولا تحد آيةً أرشدته إلى إله ليس كما تعود أن يرى الآلهة؛ لا سبيل إلى أن يحصر ولا إلى أن يحد، ولا مطمع في أن يرقى إليه العقل، أو يتناوله الفكر بالدرس والبحث والتحليل. إنما هو قوة يكبرها ولا يفهمها، يجلها ولا يحيط بها، يشعر أنها تأخذه من كل مكان وتأخذ كل ما حوله، وأنه إن يمض أمامه فهو مقبلٌ عليها، وإن يرجع أدراجه فهو خاضعٌ لها، وأنى يذهب يمينًا أو شمالًا فهو في ظلها الظليل وفي كنفها الرحب. سبحانك اللهم! إن لم أجدك فقد وجدت آيتك، وإن لم أرك فقد رأيت خلقك! لك عليَّ ألا أومن إلا لك، ولا أخاف إلا إياك!

ثم يمضي الفتى أمامه في شيء من الذهول ليس إلى تصويره من سبيل، حتى يشتد حر الشمس ويبلغ منه الإعياء، وهو على ذلك جلدٌ صبور لا يحس كلالًا ولا فتورًا. وما يزال يمضي ويمضي، حتى يرفع له بناءٌ يراه فيأنس ويتنكر له في وقت واحد: تأنس به طبيعته الفانية التي قد أحست الجهد والكد، وذاقت ألم الظمأ والجوع. وتتنكر له نفسه الخالدة التي تشفق أن يخرجها من هذه الحياة الروحية الراقية الحلوة التي لم تألفها من قبل. ويهم الفتى أن يقف، ولكن هذا البناء الذي يرفع له يدعوه إليه في إلحاح أن أقبل أيها الفتى ولا تخف؛ فليس عليك من بأس فيمضي الفتى صوب هذا البناء؛ حتى إذا دنا منه سمع أصواتًا عذبة ترتل ترتيلًا عذبًا فيسرع إليها، وما هي إلا أن يلحق بجماعة من الرهبان يصلون ويرتلون، وإذا هو يصلي معهم ويرتل، لم ينكروه ولم ينكرهم، كأنه واحدٌ منهم، وكأن العشرة بينه وبينهم متصلة منذ عهد بعيد. ذلك أنه قد وقع إلى دير من هذه الأديار التي كانت تقام في تلك الصحراء، حين كان النصارى يفرون إلى الصحراء بدينهم من تلك المدن التي كانت تسيطر عليها آلهة اليونان والرومان، وديانات روما والإمبراطور.

ثم سكت محدثي ساعةً كأنه يفكر أو كأنه يستريح. فلما طال عليَّ صمته قلت له في لهجة المشوق إلى ما عنده من الأنباء: هلم أنبئني كم لبث الفتى في الدير؟ وكيف كانت حياته فيه؟ قال محدثي: لو علمت ذلك ما بخلت به عليك، وقد سألت عنه أشياخنا كما سألتني، فكلهم أجابني بما أجبتك به، وكلهم قالوا هذه الجملة التي يقولها الرواة والمؤرخون إذا اضطرهم النسيان، وضياع الحوادث إلى الإجمال والإبهام: أقام «كيمون» في هذا الدير ما شاء الله أن يقيم. قلت لمحدثي: فإنك علمت من أشياخك في غير شك أطرافًا من حياة هذا الفتى بين هؤلاء الرهبان، وعلمت منهم في غير شك أيضًا إلى أي الأحوال صار أمره بعد أن عاشر أهل الدير وتعلم منهم دين المسيح؟ قال محدثي: لم أكد أعلم منهم شيئًا؛ لأنهم كانوا لا يكادون يعلمون شيئًا، وكانوا إذا انتهوا من حديث «كيمون» إلى حيث انتهيت، قالوا هذه الجملة التي تشبه ما تقوله العامة حين تنسى أو حين يعييها التفصيل: وما أسرع ما تقدم السن بأبناء الأحاديث.

فقد تقدمت السن بكيمون بعد أن قضى في الدير ما شاء الله من الدهر، مجتهدًا في طاعة الله والفقه في الدين، والانصراف عن غير ذلك من شئون الحياة. قال أشياخنا: والناس يتحدثون أن «كيمون» ضاق آخر الأمر بحياته في الدير لأنه رأى نفسه قد أصبح فتنةً لرفاقه وخلطائه من الرهبان، ورأى ديره قد أصبح فتنةً لأديار كثيرة كانت تقع على آماد بعيدة منه في الصحراء، وأصبح فتنة لأهل الريف الذين كانوا يقيمون على أطراف الصحراء، وفي داخل الأرض الخضراء، فقد تسامع هؤلاء جميعًا بما كان الله عز وجل قد اختص به «كيمون» من الكرامة وآثره به من الفضل، وبما أجرى على يده من العجائب والأمور الخارقة؛ فقد كان لا يدعو لمريض أو ذي ضر بالشفاء إلا شفاه الله من فوره. وكانت بركته قد عمت أهل الدير ومست ما حوله من أرض الصحراء إلى أمد بعيد، فإذا أهله لا يشكون جوعًا ولا ظمأ، ولا يلقون جهدًا ولا عناء، وإذا ديرهم قائم في وسط جنة خضراء قد أنبت الله فيها من ألوان الشجر والزهر، ومن فنون الحب ما فيه غنى عن كل جهد ودفعٌ لكل مشقة، وإذا الناس يحجون إلى هذا الدير في كل عام مرة أو مرات فيتبركون ويلتمسون الدعاء، ويلحون في لقاء «كيمون»: هذا يريد أن يمسه، وهذا يريد أن يلثمه، وهذا يريد أن يسمع صوته، وهذا يريد أن يملأ عينه من منظره الجميل؛ حتى ضاق الشيخ بذلك وأشفق منه على نفسه وعلى دينه. وقد أصبح «كيمون» شيخًا. وما أسرع ما تتقدم السن بأبناء الأحاديث! فلما شق عليه ذلك أزمع أن يخلص منه، ويفر بدينه من إكرام المكرمين وإيثار المؤثرين، كما فر قبل ذلك من تلك المدينة التي كان الناس يفتنون فيها عن دينهم بالتقتيل والتنكيل والتمثيل.

وأصبح أهل الدير ذات يوم يفتقدون وليهم المبارك فلم يجدوه حيث تعودوا أن يروه في كل صباح، والتمسوه في كل مكان: في الدير وفي جنة الدير، وفي الصحراء من حول الدير، فلم يظفروا به ولم يجدوا له أثرًا. فذهبت ظنونهم وظنون غيرهم من الناس في هذه الغيبة كل مذهب، وأولوها كل تأويل. ولكن «كيمون» نفسه لم يظن ولم يُؤَوِّل، وإنما استعان الله على أن يخلص من هذا الضيق، ودعا الله أن يخفيه عن الناس حتى يبلغ مأمنه، فاستجاب الله له. ومضى في طريقه هاربًا من الدير، كما مضى في طريقه هاربًا من المدينة، لا يلوى على شيء حتى خرج من الصحراء المجدبة، وأمعن في أرض خصبة فيها خيرٌ وثراء كثير، فمضى فيها لا يغريه ما كان يرى من حياة الناس ونعيمهم ولم يمس قلبه ولا حسه ما كان يرى من تلك المدن العامرة التي كانت تذكره بمدينته؛ لأنها كانت تشبهها بما كان يقوم فيها من القصور الفخمة، والملاعب الواسعة الضخمة، وبما كان ينصب فيها من الأسواق التي تحمل إليها ألوان التجارة من أطراف الأرض، وبمن كان يضطرب فيها من هؤلاء الشبان المترفين، ومن هؤلاء النساء المتهالكات الداعيات باللحظ واللفظ إلى الإثم والفتون.

وكان الشيخ يمضي بين هذا كله لا منكرًا له ولا راغبًا في شيء منه؛ لأنه كان مشغولًا بنفسه ودينه عن هذا كله. حتى إذا قطع هذه الأرض من حد إلى حد، وقف عند قرية فقيرة في طرف من أطرافها تمس الخصب من ناحية، وتمس الصحراء من ناحية أخرى. أقام «كيمون» في هذه القرية وقد أعجبه فقرها وشظف أهلها وأعجبته هذه الصحراء التي كانت تمتد أمامه إلى غير حد. وكان «كيمون» كلفًا بالصحراء لا يستطيع أن يسلوها؛ لأنه لا يستطيع أن ينسى أنه وجد فيها الهدى، وتبين فيها وجه الصواب. فكان ينفق أيام الأسبوع أجيرًا لأهل القرية يعمل فيما يحتاجون إلى إقامته من البناء. حتى إذا كان يوم الأحد خرج مع الصبح فأبعد في الصحراء حتى تنقطع الصلة بينه وبين الناس، ثم ينفق نهاره كله في ذكر الله ويعود إلى القرية مع الليل. وكان «كيمون» رحيمًا للبائسين رفيقًا بأهل الضر، فكان إذا مر به البائس أو المحروب أو المريض رق له قلبه ودعا له في نفسه، فما أسرع ما يزول البؤس ويكشف الضر ويرفع المرض؛ وكان الناس ينكرون ذلك ويعجبون له. فلما كثر ذلك واتصل وعرفه الناس أحبوا هذا البناء وكلفوا به، ثم استحال حبهم وكلفهم إلى شيء يشبه الفتنة. وأحس «كيمون» أنه صائر إلى مثل ما صار إليه في الدير، فارتحل عن هذه القرية تحت الليل، وافتقده الناس من الغد فلم يجدوه. وكذلك أخذ الشيخ ينتقل من قرية إلى قرية، ويرحل من مكان إلى مكان، حريصًا على أن يلازم الصحراء ليقضي فيها الأحد من كل أسبوع، يقيم في القرية ما يجهله الناس، ويفر من القرية حين يحس أنهم قد عرفوه. حتى إذا كان في قرية من قرى الشام في آخر العمران وأول البادية عرفه رجلٌ من أهلها كأنه عربي كان يسمى صالحًا: عرفه وعرف تستره وتنكره للناس، فلزمه عن بعد. وخرج «كيمون» في يوم من أيام الأحد فأمعن في الصحراء كعادته وصالحٌ يتبعه عن بعد. حتى إذا انتهى إلى مكان من الفلاة، قام يصلي وصالحٌ يلحظه. وإنه لفي صلاته وإذا حية عظيمة ذات رءوس سبعة قد أقبلت تسعى إليه، فاغرة أفواهها ولها فحيحٌ مزعج مخيف. فلم يحفل بها كيمون، ولكنه دعا الله عليها فأماتها الله في مكانها. وجزع صالح حين رآها تسعى إليه فصاح: إياك والحية؛ ومضى الشيخ في صلاته حتى أتمها. ثم أقبل على صالح يسأله عن أمره. قال صالح: شهد الله ما أحببت أحدًا ولا شيئًا حبي لك، وما أردت إلا أن ألزمك وأتعلم منك، فأذن لي في ذلك.

قال «كيمون»: لست أرى بذلك بأسًا، ولكني أشفق أن تشق عشرتي عليك، فدونك ما أحببت إن قدرت على صحبتي. وعادوا إلى القرية في المساء. فلم يقم فيها «كيمون» أيامًا حتى عرف أهلها منه ما عرف أهل القرى التي أقام بها من قبل. وجاءه رجل من أهل القرية فقال: إني أريد أن أصلح بعض البناء في بيتي، فهل لك في أن تنظر في هذا البيت لأشارطك على ما أريد؟ فلما انتهى معه إلى الدار أدخله في حجرة وأخذ يتحدث إليه عما يريد تغييره. ثم نظر «كيمون» فإذا الرجل يهوي إلى الأرض فيرفع ثوبًا كان مبسوطًا وإذا صبيٌّ ضرير سيئ الحال. فلما رآه «كيمون» رقَّ له ودعا الله، فنهض الصبي وليس به بأس. واستيقن البناء أن أمره قد افتضح، فقال لصاحبه صالح: لا مقام لي بعد اليوم في هذه القرية، إني ماضٍ في الصحراء، فإن شئت فاتبعني وإن شئت فأقم. ولم يدركهما صبح غد إلا وقد انقطعت الصلة بينهما وبين الحواضر. ولكن وحدتهما لم تطل، فما أكثر القوافل التي تتردد بين الشام وبلاد العرب آخذةً في الصحراء كل طريق! مرت بهما قافلة من هذه القوافل، فعدت عليهما واتخذتهما بضاعةً، حتى إذا عادت إلى نجران من أرض اليمن باعتهما لرجلين من أشراف المدينة. فأما صالح فقد نسيه التاريخ، وأكبر الظن أنه ذهب مع الذاهبين في تلك الفتنة المنكرة، التي أظلت أهل نجران بعد ذلك بأعوام. وأما «كيمون» فقد أكرم سيده مثواه، وأفرد له حجرةً في داره. فكان يعمل لمولاه بياض النهار، ويقوم للصلاة أكثر الليل. ولاحظ سيده مرةً ومرةً أن حجرة هذا العبد مضيئةٌ في الليل من غير مصباح. فأنكر ذلك أول الأمر، ولكنه استيقنه بعد طول الملاحظة. فلما أصبح دعا إليه «كيمون» وسأله عن ذلك، فلم يجبه بشيء. فسأله عما يصنع في حجرته. قال: لا أصنع شيئًا إنما أصلي وأذكر الله.

قال: فحدثني عن دينك وعن إلهك هذا الذي تعبده؛ فإني لا أراك تعكف على نخلتنا هذه الطويلة التي نعكف عليها، ولا أراك تتقدم إليها كم نفعل بالعبادة والتكريم. قال: وما نخلتكم هذه الطويلة؟ وأين تقع من العبادة والتكريم؟! وإنما هي نخلة كغيرها من النخل، تختلف عليها الأحداث والخطوب، ولا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعًا ولا ضرًّا، ولو دعوت الله عليها لأراكم فيها ما تكرهون. قال: فافعل! فإنك إن تبلغ ما تريد، دخلنا جميعًا في دينك. هنالك دعا كيمون، وإذا ريح عاصفة تقبل فتقتلع النخلة اقتلاعًا، وتجتثها من أصلها اجتثاثًا. هنالك آمن السيد بدين العبد، وأقبل أهل نجران على الشيخ يسألونه ويتعلمون منه. ولم ينقض النهار حتى كان «كيمون» قد هدى المدينة كلها إلى دين المسيح. وكذلك استقرت النصرانية في بلاد العرب.

وهم أهل المدينة أن يكرموا «كيمون» ويكبروه، ويتخذوه لهم سيدًا وإمامًا، ولكنه كره ذلك ونفر منه، وفر بدينه من المدينة كما فر به من الدير، وكما فر به من القرى. فخرج مهاجرًا حتى بعد عن العمران وابتنى لنفسه في الصحراء خيمةً أقام فيها ما شاء الله أن يقيم، منقطعًا للعبادة والطاعة، عاكفًا على الدين والنظر في الإنجيل. والناس يقدمون عليه من نجران ومن حولها، فيعلمهم ويبصرهم في دينهم ثم يصرفهم عنه في رفق حازم، لا يرضى منهم لزومًا له، ولا يقبل ما كانوا يحملون إليه من ضروب الهدايا.

وعظم أمر المسيحية في نجران، حتى لم يبق من أهلها الوثنيين رجل ولا امرأة ولا غلام ولا فتاة إلا دخل في الدين الجديد، واجتهد فيما كان يأخذه به من عبادة وتقرب إلى الله، وحتى ضاق بذلك عدد يسير من اليهود كان مستقرًّا في هذه المدينة، يعمل فريق منه في التجارة وفريق آخر في الصناعة. فأخذ هؤلاء اليهود يجادلون نصارى نجران في دينهم ويشددون عليهم النكير، وينالون شيخهم ومعلمهم بألسنة حداد، حتى اغتاظ لذلك النصارى فغضبوا لدينهم. وكان بين فريق منهم وبين اليهود خصامٌ عظم شره بعض الشيء، وارتفع أمره إلى ملك اليمن في صنعاء، وهو الذي كان يعرف بذي نواس.

وكان ذو نواس هذا قد نهض بملك آبائه من حمير، بعد فتنة طويلة ملحة، فجد في جمع الكلمة وتوحيد الرأي، وكان قد ورث يهودية أبيه تبع، فحمل الناس عليها حملًا، وأحيا سنتها، وأنفق في ذلك نشاطًا عظيمًا، وأقام حكم التوراة بين أهل المدن وبين القبائل في السهل والجبل. ثم عاوده حلم أخيه حسان، فأخذ يفكر في أن يتهيأ للخروج من اليمن بيهوديته لينشرها في الآفاق، ويفرضها على أهل الشرق والغرب ولم يكن في قصره حبران كاللذين كانا في قصر أخيه، فلم يرده أحدٌ عما كان قد هم به وتهيأ له. وإنه لفي ذلك، وإذا يهودي من أهل نجران أقبل مسرعًا مروعًا حتى دخل صنعاء، وانتهى إلى القصر، واستأذن على الملك شاكيًا باكيًا مستغيثًا لليهود، مستنجدًا للتوراة. فلما أذن له ومثل بين يدي ذي نواس، زعم له أن رجلًا من الروم أقبل في قافلة من القوافل فأفسد نجران وما حولها، وحمل المشركين من العرب والأعراب على دين المسيح، وأن هؤلاء النصارى قد اعتزوا على اليهود وعلوا عليهم، ثم بغوا وطغوا، وأسرفوا في البغي والطغيان، حتى أهانوا التوراة ونالوا من ذاد عنها بالسوء، وحتى قتلوا من اليهود نفرًا، وأخافوا من بقي منهم في المدينة.

وقد قدمت عليك أيها الملك فزعًا مستصرخًا، فإما نصرتنا، وإما حولتنا عن هذه المدينة، التي لم يبقَ لنا فيها مقام.

قال الملك وقد أخذ منه الغضب وملكه الغيظ: أفتراني آذن لغير اليهودية من الدين في أن يستقر ببلاد العرب وأنا عظيم حمير، ووارث تبع، وذو صنعاء؟! ثم أذَّن في الجيش بالرحيل. وما هي إلا أيام حتى كانت نجران قد أحيط بها. ودعا الملك إليه جماعةً من قواده وعظماء جنده، فأمرهم أن يجمعوا له أشراف المدينة وأهل الرأي والمكانة فيها. فلما حشدوا له حشدًا خيرهم بين اليهودية والموت، ولم يدع لهم مخرجًا من هذين الأمرين، ولم يمهلهم ليفكروا أو ليدبروا أمرهم بينهم. وما كانوا في حاجة إلى التفكير، وما كانوا في حاجة إلى التروية؛ فقد ملكت النصرانية عليهم قلوبهم وعقولهم واختلطت بدمائهم. فما أسرع ما أجابوا: أيها الملك، إذا لم يكن بدٌّ من الاختيار فإنا نختار الموت. فلما رأى الملك منهم ذلك أمر منادين أن يؤذنوا في المدينة: ألا إن الملك قد خير أشرافكم بين اليهودية والموت، فآثروا أن يموتوا، فأيكم اختار اليهودية وأشفق من الموت فله أن ينحاز إلى الجيش. وطال نداء المنادين وتأذين المؤذنين فلم ينحز إلى الجيش أحد. هنالك أمر ذو نواس فاحتفرت الأخاديد،٣ وجمع فيها الحطب والخشب، وألقى فيها الزيت، وأضرمت فيها النار، ودفع أهل نجران إليها دفعًا. وهنالك أطلق ذو نواس أيدي حمير في أهل نجران، ينالونهم بالقتل والمثلة،٤ ويحتازون من أموالهم ونسائهم ما يشاءون. وهنالك جرت الدماء أنهارًا، وانتثرت الأشلاء انتثارًا، وارتفع اللهب إلى السماء، بنفوس الشهداء.

وفي أثناء هذا كله كان شيخٌ فانٍ ضعيف قد خرج من خيمته وأشرف من مكان مرتفع، فأخذ ينظر إلى النار ترتفع في السماء، وإلى الدماء تجري على الأرض، وأخذ يسمع أصوات المصلين وهم يقبلون إلى الموت، وأصوات المعتدين وهم يدفعونهم إليه، وأخذ يذكر عهدًا بعيدًا، بعيدًا جدًّا، ويستحضر صورةً منكرة جدًّا، رآها أثناء الشباب في مدينة من مدن البحر، جرت فيها الدماء، وانتثرت فيها الأشلاء، واضطرمت فيها النار، وصلى فيها الشهداء، وسخر فيها المعتدون. وأخذ الشيخ ينظر إلى هذه الصورة البشعة أمامه، ويرى تلك الصورة البشعة وراءه، ويقارن صورةً إلى صورة، ثم تحدث إلى نفسه في صوت هادئ رقيق: لقد ضاقت نفسي الشابة بتلك الصورة ففررْت من المدينة وخرجت إلى الله عن أهلي ومالي، وما كانت الحياة قد هيأت لي من لذة وأعدت لي من نعيم، وإني لأنظر إلى هذه الصورة فأحبها وأشتهيها وأفتن بها وأدفع إليها … ماذا! لقد انحسرت عني الشيخوخة انحسارًا، وارتفع عني الضعف ارتفاعًا، وأصبحت شابًّا قويًّا شديد النشاط كما كنت منذ أكثر من خمسين عامًا … ماذا! إن هذه النار المضطرمة لتعجبني، وإن هؤلاء الذين يقبلون إليها ليدعونني … ماذا! أرى هذه النار ولا أسرع إليها، وأرى هؤلاء الناس ولا أدخل فيهم. إني لأجيل طرفي في السماء من أمام ومن وراء … ماذا ألتمس! لن أرى آلهة اليونان كما رأيتهم من قبل ينظرون ثم ينكرون ثم يرتحلون. إنما كان آلهة اليونان باطلًا كلهم، وقد مات الباطل وما ينبغي له أن يبعث من جديد. ثم يسعى «كيمون» هادئًا متئدًا، حتى إذا دنا من النار استحال سعيه عدوًا واتئاده حركةً عنيفة، وإذا هو ينضم إلى الناس، وإذا صوته يمتزج بأصواتهم، وإذا هو يدخل معهم في هذا الموت، ليصل معهم بعد ذلك إلى دار الخلود.

قلت لمحدثي: وكم كان عدد الشهداء من أهل نجران؟ قال: تحدث الناس أن ذا نواس أفنى منهم قريبًا من عشرين ألفًا، وأن رجلًا واحدًا جد في الهرب حتى أعجز الطالبين، فنجا ومعه إنجيل قد مسته النار، فانطلق به إلى النجاشي يستعينه على الثأر. وكانت هذه القصة آخرة الملك الحميري، بل آخرة الملك العربي في بلاد اليمن.

١  الرَّبَض — بالتحريك: ما حول المدينة من بيوت ومساكن.
٢  يقال: دفع فلان إلى المكان — بصيغة المعلوم والمجهول: إذا انتهى إليه.
٣  الأخاديد: جمع أخدود، وهو شق مستطيل في الأرض.
٤  المثلة — بفتح وضم الثاء أو سكونه: العقوبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤