الفصل الرابع

حديث عدَّاس

قال عتبة بن ربيعة لأخيه شيبة: «انظر إلى هذا الرجل المقبل على حائطنا١ ومن ورائه السفهاء والعبيد قد أغروا به وسلطوا عليه، فهم يؤذونه بألسنتهم، وهو يؤذونه بما يحصبونه من الحصى والأحجار؛ ألا تَثَبَّتَّه؟»٢ قال شيبة وقد نظر وأطال: «بلى! والله إني لأعرفه كما تعرفه، وإن قلبي ليرقُّ له كما يرقُ له قلبك، وإن نفسي لتثور غضبًا له كما تثور نفسك. ولقد هممت وما زلت أنازع نفسي أن أفزع إلى نصره وجواره وحمايته من حلماء ثقيف وسفهائها، لولا ما بينه وبين قومنا، ولولا أني أعلم أننا إن فعلنا كان لنا مع قومنا أمر عظيم وخطب جليل.» قال عتبة: «وا رحمتاه لابن عمنا من قومنا! ثم وا رحمتاه لقومنا من أنفسهم؛ ما كنت أحسب أن يبلغ الأمر بقريش أن يذل عزيزها ونحن شاهدان، وأن يجترئ حي من أحياء العرب وإن كان ثقيفًا، على أن يسوءوا رجلًا من قريش وإن كان مستضعفًا مهينًا، فكيف بابن عبد المطلب وابن أخي حمزة والعباس!»

وكان هذان الرجلان من أشراف قريش، قد ذهبا إلى بستان لهما في الطائف يصلحان من أمره وأمرهما، ويهيئان لتجارتهما، يجمعان ما تنفذه ثقيف من تجار قريش إلى اليمن في رحلتها إلى اليمن، وإلى الشام في رحلتها إلى الشام. وكانا قد أقاما في الطائف أيامًا، وأقبل في أثناء ذلك النبي يعرض نفسه على ثقيف يلتمس عندهم النصر والعون والجوار، بعد أن تنكرت له مكة بطاحها وظواهرها، وبعد أن تنكر له الناس حتى أقربهم إليه وأدناهم منه، وبعد أن فقد عمه الذي كان يمنعه ويقوم دونه، وبعد أن فقد زوجه التي كانت ترعاه وتكلؤه وتحوطه بالرحمة والحب والحنان. وكان قد لزم داره بعد هاتين الكارثتين، لا يكاد يبرحها خائفًا محزونًا، حتى أقبل عليه عمه أبو لهب فأمنه وأعلن إليه أنه يقوم من حمايته بما كان يقوم به أبو طالب، فسرى عن النبي الكريم شيئًا واستأنف الخروج من داره والذهاب إلى المسجد والاضطراب في مكة. ولكن قومًا من قريش ألحوا على أبي لهب حتى غيروه على ابن أخيه، فاسترد جواره وحمايته، وعاد إلى مثل ما كان عليه قبل أن يموت أبو طالب. فلما ضاقت مكة بخير أبنائها خرج إلى الطائف يلتمس جوار ثقيف، فأقام فيهم ما شاء الله أن يقيم، يسعى عند هذا ويلطف لذاك، وكلهم يرده وكلهم يمتنع عليه. وكان مقامه فيهم قد أخافهم وثقل عليهم وأثار في نفوسهم إشفاقًا أن يصيب مدينتهم ما أصاب مكة من اضطراب الأمر وانتفاض الضعفاء على الأقوياء، واستجابة قوم لهذا الرجل الذي أنكره قومه ولم تره مدينته إلا ما يكره فتقدموا إليه في الرحيل عنهم. ولم يكد يفعل حتى أغروا به سِفْلَة الناس وسفهاءهم، فتبعوه يؤذونه بالقول والفعل حتى ألجئوه ضعيفًا مكدودًا وكئيبًا محزونًا إلى حائط هذين القرشيين. وأقبل النبي وقورًا هادئ الخطى مطمئن النفس، تظهر على وجهه الكريم آيات الضعف وآيات القوة، وآيات الحزن وآيات الرجاء.

ضعفٌ مصدره الجهد والعناء. وقوةٌ مصدرها الحزم والعزم. وحزنٌ مصدره الرحمة لهؤلاء الذين يدعوهم إلى الخير فيبغونه بالسوء، ويرشدهم إلى النجح فيريدونه بالمكروه. ورجاءٌ مصدره الثقة بأن الله لم يختره لرسالته ليخذله قبل أن يتم أمره ويعلي كلمته ويظهر دينه على الدين كله، وبأن الله لا يصيبه بما يصيبه به من المكروه إلا امتحانًا لقلبه، وابتلاء لنفسه، وتمحيصًا لطبعه.

أقبل هادئًا والناس من ورائه مضطربون، مستأنيًا والناس من ورائه مسرعون، حتى انتهى إلى ظل من ظلال البستان، فجلس متعبًا مكدودًا، والقرشيان ينظران إليه ويرقان له ويعطفان عليه وينازعان نفسيهما إلى نصره ومعونته، وقد كادا يفعلان لولا أن ذكرا قريشًا، ولولا أن ذكر عتبة بن ربيعة صهره أبا سفيان، وقدر ما يلقاه وما يلقاه أخوه من قريش إن منح محمدًا معونة أو نصرًا. ولكنهما رأيا ابن عمهما يأوي إلا ظلالهما مكروبًا محزونًا، فلم يملكا أن يمتنعا من أن ينالاه بأيسر الخير وأهون البر، فيدعوان عدَّاسًا — عبدًا من عبيدهما — ويأمرانه أن يحمل إلى هذا الرجل الضعيف المكدود شيئًا من عنب البستان ليصيب منه. ويمضي العبد منفذًا أمرهما. ولكنهما لا يستطيعان أن ينصرفا عن مكانهما ولا أن يحولا بصرهما عن ابن عمها، وقد أهينت فيه قريش كلها لولا أن قريشًا قد احتفظت بأحلامها. فهما ينظران ويرثيان ويعمل الأسى في قلبيهما. والعبد يسعى بالطبق إلى هذا الرجل المخزون، حتى إذا انتهى إليه أقبل الرجل على العنب يريد أن يصيب منه والعبد قائم منه غير بعيد. ولكن القرشيين ينظران فيريان عجبًا: يريان كأن حديثًا قصيرًا قد دار بين الرجل وبين هذا العبد، ثم يريان العبد وقد أكب على هذا الرجل الحزين يقبل رأسه ويديه ورجليه باكيًا مستعبرًا مندفعًا في حديث لا يكاد ينقضي، مظهرًا من التكرمة والإجلال لهذا الرجل ما لم يتعود أن يظهره لأحد من سيديه. فيقول أحد القرشيين: «ويحك! لقد أفسد علينا ابن عمنا هذا العبد! وما أرى إلا أن ثقيفًا معذورون إن خافوا منه على عبيدهم وضعفائهم وأقويائهم أيضًا ما خفنا نحن منه على العبيد والضعفاء والأقوياء!» وهذا الرجل قد نهض وقورًا هادئًا، ومضى العبد معه شيئًا من الطريق ثم وقف يشيعه بطرفه حتى غاب عن طرفه وعن طرف القرشيين.

هنالك عاد العبد إلى سيديه، وفي وجهه آيات الكآبة والحزن، وفي وجهه مع ذلك آيات الطمأنينة والرضا، ودموع تجري من عينيه لم يدريا أكانت دموع حزن وابتئاس، أم كانت دموع غبطة وابتهاج.

يقول عتبة بن ربيعة للعبد رفيقًا به عطوفًا عليه: «ويحك يا عدَّاس! إن لك مع هذا الرجل لشأنًا، فاقصص علينا بدء حديثك فقد رأيناك حفيًّا به متلطفًا له مكبًّا عليه، تقبله باكيًا مواسيًا ثم مرافقًا له تشيعه بشخصك ثم بطرفك.»

قال العبد: «نعم يا مولاي! إن لي مع هذا الرجل لشأنًا وحديثًا عجبًا. وأحبب إليَّ أن أقص عليكما حديثي. ولكن أي حديثي تريدان؟ أتريدان حديثي منذ اليوم، أم تريدان حديثي القديم الذي مضت عليه أعوام طوال، والذي دفعني إلى بلادكم هذه، والذي اضطرني إلى ما أنا فيه من رق وإلى أن أعمل لكما بيدي في هذا البستان، وما عملت لأحد قبلكما بيدي وما عملت لنفسي بيدي، وغن كان الناس ليعملون لي كما أعمل لكما الآن؟»

قال عتبة وقد ثارت في نفسه طبيعة العربي الذي أترف وفيه فضلٌ من بداوة، فهو مشغوف بالقصص، كلفٌ بغريب الحديث: «وإن لك لحديثًا قديمًا بينه وبين حديثك هذا الجديد سببٌ؟»

قال عدَّاس: «نعم.» قال عتبة: «فاقصص علينا حديثك.»

وأخذ القرشيان مجلسهما استعدادًا لسماع الحديث، وهم العبد أن يبدأ حديثه قائمًا، ولكنهما أذنا له في الجلوس فجلس، وأطرق وأغرق في صمت غير طويل ولكنه كان عميقًا، ثم قال: «لقد انتهيت إلى هذا الرجل منذ حين، فسمعته يقول كلامًا ما اعرف أن الناس يقولونه أو يقولون مثله في هذه الأرض. فلما سألته عن ذلك حدثني بحديث ما يعرفه إلا نبي. وكان حديثه هذا مني على ميعاد، أو كنت أنا من حديثه هذا على ميعاد. لقد سألني سؤالًا لم يسألنيه أحد منذ وطئت هذه البلاد. سألني عن موطني الذي نزحت منه، فأنبأته بما لا تعلمان وبما يحسن أن تعلماه الآن، وهو أني رجل من أهل نينوى، نشأت في بيت من بيوت الأحرار الذين إن لم يتح لهم الملك والإمارة فقد أتيحت لهم الثروة والغنى. وكنت موفور الحظ من النعمة وحسن الحال فارغًا لما يفرغ له أمثالي في تلك البلاد من تقسيم الوقت بين لذة الجسم ولذة العقل، ألهو ما وسعني اللهو، ثم أقرأ وأختلف إلى مجالس العلماء والفلاسفة من القسس والرهبان، فأسمع منهم وأتحدث إليهم وآخذ معهم في ألوان من الجدل حول ما يختلف الناس فيه عندنا من أصول الدين والعلم. وأنتما لا تعلمان من أمرنا في تلك البلاد إلا قليلًا، إنما تعنيان ويعنى قومكما بما تحملون إلينا من تجارة وما تصدرون به عنا من مال، وما تصيبون في بلادنا من هذه اللذات اليسيرة. فأما ما دون ذلك فليس لكم به علم وليس لكم عنه سؤال. ولو قد دخلتم في حياتنا وعرفتم دقائق أمرنا، لرأيتم أن في نفوسنا اضطرابًا شديدًا وغليانًا متصلًا وضيقًا بالسلطان، وتمردًا على النظام، وإنكارًا لما ورثنا من عادة وشكًّا فيما تلقينا من دين.

ساءت فينا سيرة السلطان فنقمنا من نظام الحكم. وساءت فينا سيرة القسس فشككنا في الدين. فأما العاجزون فقد أعطوا طاعة ظاهرة وأضمروا عصيانًا خفيًّا وعكفوا عن اللذات يستعينون بها على احتمال الحياة. وأما الأقوياء وأولو العزم فقد فكروا وقدروا، وجدوا في التفكير والتقدير يلتمسون فرجًا من حرج ومخرجًا من ضيق. وكنت فيما رأيت من هؤلاء. فلما ضقت بالحياة في مدينتي ولم أجد عند علمائها وقسسها شيئًا، خرجت مسافرًا إلى الشام ألتمس في السياحة تسلية وعلمًا، وأبتغي فيها ظفرًا بالخير. ولست أقص عليكما رحلتي إلى الشام ومنازلي في طريقي إليها، واضطرابي في مدنها وقراها، ويأسي من قسسها وعلمائها، وضيقي بسادتها وحكامها، ولكني انتهيت بعد كثير من الاضطراب إلى دير من الأديار يقوم في آخر العمران وأول الصحراء مما يلي بلادكم هذه. وأقمت في هذا الدير دهرًا، راضيًا عن حياته الهادئة المطمئنة، راضيًا عن حياة أهله الآمنين الوادعين الأخيار، ناعم النفس بعشرتهم، مستمتعًا بأحاديثهم. ولكنني سمعت من أحاديثهم عجبًا: رأيت لهم فيما بينهم أمرًا يتحدثون عنه بالرمز، ويومئون إليه بالإشارة. ورأيت حديثهم هذا الرمزي يكثر ويشتد إمعانهم فيه كلما مرت بديرهم قافلة من قوافلكم هذه التي تتردد على بلاد الروم. رأيتهم يعرفون أنباء هذه القوافل قبل أن تصل إليهم، فيتهيئون لها ويستقبلونها ويكثرون من سؤالها ويظهرون الحفاوة بها، ثم يخلو بعضهم إلى بعض، فيتبادلون بينهم أحاديث الرمز والإشارة والإيماء، ويقول بعضهم لبعض: لم يأت النبأ بعد، أو يقول بعضهم لبعض: لقد انقطع النبأ بعد أن جاءت بشائره. فلما كثر عليَّ منهم ذلك أزمعت أن أعلم علمه، فتلطفت لهم وتوسلت إليهم حتى عرفت أنهم ينتظرون إصلاحًا دينيًّا ذا بال، وأنهم قرءوا في كتبهم أن هذا الإصلاح يأتيهم من قبل هذه البلاد، وأنهم حسبوا وقدروا ورأوا أن زمان هذا الإصلاح قد أظل الناس، وأن أنباءً قد انتهت إليهم وأحاديث قد نقلت لهم، وكلها يدل على أن أوان هذا الإصلاح قد آن. قصوا عليَّ من هذه الأنباء والبشائر أطرافًا، فلم أملك أن كلفت بالرحلة إلى بلادكم، وقلت: ما يمنعني أن أبعد في السفر؛ وما يمنعني أن أتصل بقافلة من قوافلكم هذه فأبلغ معها هذه الأرض، فأعلم من علمها، وأصيب من تجارتها! ولعلي أظفر بما يتحرق إليه هؤلاء الرهبان شوقًا. وأنتما تعلمان كيف كان الاتفاق بيني وبين تلك القافلة التي أمنتني على نفسي ومالي، وضمنت لي أن أبلغ بلادكم هذه موفورًا فأصيب من تجارتها وأعود معها من قابل إلى الشام، حتى إذا بعدنا عن بلاد الروم وانقطعت أسبابي من أسباب قيصر، عدا أهل هذه القافلة على مالي فاحتجزوه، ثم عدوا عليَّ فاتخذوني وباعوني من صاحبكما ذاك الذي اشتريتماني منه قريبًا من يثرب.

فهذا بدء حديثي أيها السيدان. وقد عملت في بستانكما أعوامًا، وكان الناس يتحدثون من حولي بهذه الأحداث التي تحدث في مكة، ويتناقلون من حولي أنباء هذا الرجل الذي ينكر الأوثان ويدعو إلى التوحيد، ويريد أن ينصف المظلوم من الظالم، والعبد من السيد، ويسوي بين الضعيف والقوي. وكان الناس يتحدثون من حولي بما يلقى هذا الرجل في بلده من شر، وما يُمتحن به أصحابه من ألوان الفتنة. وكنت كلما سمعت هذه الأحاديث هششت لها، وطابت بها نفسي، وأحسست أن النبأ الأعظم قريب. وكنت أقدر أن صاحب هذا النبأ يجب أن يكون كإخوانه الذين سبقوه عالمًا بدين الله داعيًا إليه، مخبرًا عن أنباء الأولين بما لا يخبر به الناس. وكم وددت لو أتيح لي أن أنحدر إلى مكتكما هذه فأسأل صاحبكما وأسمع منه، ولكن الرق في بلادكما شديد؛ فنحن أرأف منكم بالرقيق وأعطف منكم عليه. وقد لبثت في بستانكما هذا أسمع الأنباء وألتمسها وأتحرق شوقًا إلى مصدرها، حتى أقبل صاحبكما هذا منذ حين. ولقد رثيت له حين رأيته وأوشاب الناس من حوله يؤذونه بألسنتهم وأيديهم. ولقد هممت أن أفزع لنصره والذود عنه، وما كنت أعلم من أمره شيئًا، ولكنها الرحمة عطفتني عليه. ولقد هممت أن أستأذنكما في إيوائه وإيثاره بشيء من القِرى، ولكني رأيتكما تنظران وتتحدثان ولا تنشطان، ثم أمرتماني بالسعي إليه. فلما بلغته سمعت منه كلامًا ما سمعت مثله في هذه الأرض. فلما سألته عن ذلك سألني عن موطني، فلما أنبأته به قال: «هذا موطن يونس نبي الله.» فما شككت في أنه صاحبي الذي أقبلت ألتمس أنباءه.»

قال عتبة: «ويحك يا عدَّاس! إن حديثك هذا لعجب، ولكنا نخشى أن يفسد عليك صاحبنا دينك، وإن دينك لخير مما يدعو إليه.» قال عدَّاس: «مهلًا يا سيدي؛ إن الذي يقول ما سمعت لا يدعو إلى شر ولا يغري بفساد، ولا يأمر إلا بمعروف، ولا يقول إلا حقًّا.» قال شيبة: «ويحك يا عدَّاس! لقد سحرك صاحبنا فيمن سحر. فماذا سمعت منه؟» قال عدَّاس: «بل لقد هداني فيمن هدى. ولقد سمعته يناجي ربه بحديث ما سمعت أعذب منه، لقد حفظت حديثه، وإنك لتعلم ما أنا بالعربي، وما حفظ أحاديثكم عليَّ بيسير.» قال عتبة: «فهات أعد علينا ما سمعت.»

قال: سمعته يقول: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني! إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري! إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو تحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.»

ولم يفرغ العبد من هذا الحديث حتى أغرق في بكاء هادئ، وأغرق سيداه في وجوم عميق. ثم ثاب القوم جميعًا إلى أنفسهم، ونظر القرشيان أحدهما إلى الآخر نظرة المستخذي الآسف. ثم قال عتبة لعدَّاس: «أنت وما تشاء يا عدَّاس من حب صاحبك وطاعته. ولكن لا تنس أن لنا عليك حقًّا وطاعة. وإنا حريصان على ألا تظهر من أمرك شيئًا فتضطرنا فيك إلى ما نكره، وتضطر قومنا فينا إلى ما تكره.»

ومضت أعوام وحدثت أحداث، ونظر العبد الشيخ ذات يوم فإذا محمد قد ضرب عسكره حول الطائف يحاصر فيها ثقيفًا، وكان عدَّاس قد انتقل من ملك ابني ربيعة بعد موتهما إلى الثقفيين، وإذا نفسه تنازعه إلى صاحبه، وإذا هو يحرض الرقيق ويبث فيهم الدعوة إلى الخروج على ساداتهم واللحاق بجيش المحاصرين، وإذا نفر من الرقيق يجتمعون إليه، وإذا هم يقتحمون الأسوار ويهبطون إلى العسكر مسرعين، وترميهم مقاتلة ثقيف بالنبل فتصرع منهم جماعة فيهم عدَّاس، قد مات قبل أن يبلغ صاحبه العظيم، ويخلص سائرهم إلى النبي فيهديهم إلى الإسلام ويردهم إلى الحرية، وينصرف عن حصار الطائف، حتى إذا أسلمت ثقيف تكلمت في رقيقها أولئك وأرادت ردهم إلى الطاعة، فيقول النبي الكريم: «كلا! هؤلاء عتقاء الله.»

١  الحائط: البستان.
٢  تثبته: تعرفه حق المعرفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤