تائه في الزحام

اجتمع المغامرون الخمسة في زحام «محطة مصر» ﺑ «الإسكندرية»، في طريقهم إلى «أبو قير» لتمضيةِ الأيام الأخيرة من الإجازة … ومعهم كلبهم الذكي «زنجر».

كانت بوادر الخريف قد كست المساء بلون الرَّصاص … وتسلَّلت رياح باردة بين الواقفين في المحطة في انتظار قطار «أبو قير»، وبدا على وجه «لوزة» سؤال لم تستطع السكوتَ عليه، فقالت: لماذا سموا محطة السكة الحديد ﺑ «محطة مصر» رغم أنها في «الإسكندرية»؟

كان السؤال مُفاجئًا … ولكنه كان منطقيًّا، وبعد لحظات أجابت المثقَّفة الصغيرة «نوسة»: السبب كما قرأت أنَّ القطارات التي كانت تصل إلى «الإسكندرية» في الماضي كانت كلها تأتي من «مصر» … وربما سميت ﺑ «محطة مصر» لهذا السبب.

ولكن السؤال الثاني جاء بسرعة من «لوزة» أيضًا: وهل «مصر» هي «القاهرة» … أو «القاهرة» هي «مصر»؟

مرة أخرى تصدَّت «نوسة» للإجابة فقالت: إنَّ أهل الريف أو الفلَّاحين كانوا يعتبرون «القاهرة» هي «مصر» … وما زال أكثر الناس يقولون إنهم ذاهبون إلى «مصر» ويقصدون «القاهرة».

لوت «لوزة» بوزها وقالت: ولكن هذا غير صحيح … ﻓ «مصر» ليست «القاهرة» وحدها.

قال «تختخ»: سأقول لكِ قاعدةً أرجو أن تفهميها يا «لوزة».

لوزة: ولماذا لا أفهمها؟

تختخ: آسف!

لوزة: لا بُدَّ أن تقولها لأرى إذا كنتُ سأفهمها أم لا!

تختخ: القاعدة تقول إن الخطأ المشهور أهمُّ من الصحيح المهجور.

صمتت «لوزة» لحظات ثم قالت: هذه ليست قاعدة … إنها كارثة!

وانفجر الجميع في الضحك … وقبل أن تكون هناك أسئلة أخرى، سمعوا من يصيح: قطار «أبو قير» الرصيف أربعة.

اندسُّوا وسطَ الزحام المخيف … وحتى لا يتوهوا أخذ ينادي بعضُهم بعضًا … وكان «تختخ» يقودهم بحُكْم قوَّته البدنية وهم يسيرون خلفه.

عندما وصلوا إلى أبواب العربات القليلة عرَفوا أنهم لن يستطيعوا الركوب إلَّا بالطريقة التي يقوم بها بعض الأشخاص … وهي القفز من النافذة إلى الداخل … وكان «محب» برشاقته هو الأقدر على القيام بهذه الحركة البهلوانية … فأعطى حقيبته ﻟ «تختخ» ثم قفز إلى حافة النافذة ومنها إلى الداخل … ثم مدَّ يدَيْه ليأخذ «لوزة» ثم «نوسة» ثم «عاطف» … أمَّا «تختخ» فكان من المستحيل رفعُه من الأرض … وانتظر «زنجر» قليلًا ثم قفز خلفهم.

نجح المغامرون الأربعة في حجز خمسة مقاعد في القطار … وظلُّوا ينتظرون «تختخ» الذي لم يظهر في الزحام … وبدأ القلق يسيطر عليهم … وأطلق القطار صافرات الرحيل ولم يظهر «تختخ»، واحتار المغامرون الأربعة … ماذا يفعلون؟!

قالت «نوسة»: تعالَوْا نُلقي بالحقائب من النافذة ثم نقفز خلفها.

محب: ولكن القطار بدأ يتحرك … ولو قفزنا فسنموت على الرصيف.

لوزة: وكيف نتحرَّك بدون «تختخ»؟!

عاطف: إنه يعرف أننا ذاهبون إلى منزل «سامي» ابن خال «محب»، وسوف يتمكَّن من الحضور بشكل أو بآخر.

تحرَّك القطار ولم يظهر «تختخ»، وبدا على المغامرين الأربعة الوجومُ، وساد الصمت.

كان القطار مُكوَّنًا من ثلاث عربات مزدحمة إلى آخرها بالركاب … وقال «محب» قاطعًا حبْلَ الصمت: سأذهب للبحث عن «تختخ» لعلِّي أجده في الزِّحام.

عاطف: تعالَوْا نذهب كلُّ واحد إلى عربة للبحث … ويبقى واحد لحراسة الحقائب.

نوسة: هذا غير ممكن … فقد يقوم بعض الركاب بالجلوس على المقاعد بالعافية … ولن يستطيع واحد أن يمنعَهم!

كان الظلام قد هبط والقطار يُغادِر المحطة في بطء، وصوت العجلات الرَّتيب يبعث على السأم … و«زنجر» يجري هنا وهناك مُهْتاجًا في انتظار ظهور «تختخ».

لوزة: إنني أحسُّ بالرغبة في البكاء!

محب: تمالكي نفسَكِ يا «لوزة».

لوزة: إنَّ هذه ليست إجازة … ولكنها جنازة!

عاطف: ما هذا الكلام؟! هل حدث شيء؟! إنَّ الأمور تسير طبيعيَّة.

لوزة: كيف تكون طبيعية يا «عاطف»، وقد تاه «تختخ» في الزحام.

عاطف: إنَّ «تختخ» ليس طفلًا يُخشى عليه … إنه مُغامِر مرَّ بكثيرٍ من التجارب والمغامرات.

هدَّأت كلمات «عاطف» من مخاوف «لوزة»، وقالت: لعلَّ غيابه يكون بدايةَ لغزٍ جديد.

عاطف: أنتِ لا تُفكِّرين إلَّا في الألغاز!

لوزة: نحن في نهاية إجازة الصيف … فإذا لم نعثرْ على لغزٍ في الأيام الباقية على الإجازة فسوف ندخل المدارسَ دون لغزٍ واحد.

كانت «نوسة» تنظر من نافذة القطار، وعلى الأضواء المتناثرة كانت ترى الطريق الموازي للقطار تقطعه السيارات بسرعة … وترى الحقول المترامية والأشجار العالية التي تملأ الحدائق والبساتين، وأكثرها تحمل ثمار الجوافة أو البرتقال الذي ما زال صغيرًا.

كانت «نوسة» تُحبُّ هذه الخَلوةَ بنفسها، ولا تكاد تلتفت إلى الضجَّة المثارة داخل القطار … من زَعِيق الباعة وبكاء الأطفال والحوارات العالية التي تدور بين الركاب … ولكن أنفها التقط رائحة «السميط» الطازج، وقالت في نفسها: لو كان «تختخ» معنا لأكلنا «السميط» الساخن والدُّقَّة أو الطعمية.

وتنهَّدت وهي تقول: أين أنت يا «تختخ»؟!

ثم التفتت إلى بقية المغامرين وقالت: ألا نستطيع أن نشتريَ بعضَ «السميط»؟ إنني جائعة!

لوزة: ليس لي نفسٌ لأكْل أيِّ شيء … إنَّ غياب «تختخ» سدَّ نفسي.

هنا تذَّكر «محب» أنَّ «تختخ» هو الوحيد الذي يحمل «موبايل»، وقال: لقد نسينا … «تختخ» معه «موبايل»!

نوسة: لعل «الموبايل» هو الذي أخَّره عن الصعود إلى القطار!

لوزة: كيف؟

نوسة: لقد انتشرت ظاهرة سرقة «الموبايلات» … وقد يكون أحدهم حاول خَطْفَ «الموبايل» من «تختخ»، ولعلَّ «تختخ» يطارده الآن في مكان ما.

زاد هذا الحديث من مخاوف «لوزة»؛ فقالت: تعالَوْا نحاول الاتصال ﺑ «تختخ».

نوسة: كيف والقطار سائر وليس فيه تليفونات؟

لوزة: هل أحد الركاب يُعيرنا «موبايل» نتحدَّث منه؟

أخذوا ينظرون هنا وهناك وهم يُفكِّرون من منهم يملك الجرأة ليسأل أحدَ الركاب أن يُعيرَه تليفونه المحمول.

كان بعض الركاب يحملون أجهزة «المحمول»، وبعضُهم يتحدَّث وبعضُهم يُجري اتصالًا … ولكن فكرة الإقدام على استخدام «محمول» شخص آخر كانت تُثير في نفوس المغامرين الخجل.

وتوقَّف القطار في إحدى المحطات ونزل رُكَّابٌ وصَعِدَ آخرون … وبدأت الحركة تقلُّ في القطار مع انخفاض حدَّة الزحام … ومضى القطار وتمنَّى المغامرون أنْ يرَوْا «تختخ» بين الصاعدين، ولكن لم يكن له أثر … وتحرَّك القطار.

كان القلق قد أبعد فكرة أكل «السميط» التي راودت «نوسة» رغم أنها كانت تحسُّ بالجوع … ثم كانت المفاجأة؛ فقد ظهر «تختخ» في أول العربة وفي يده طفل صغير يأكل «سميطة» … وفي اليد الأخرى يحمل كميةً ضخمةً من «السميط». وأسرع «زنجر» إليه مبتهجًا.

ثار الهَرْج والمَرْج بين المغامرين وهم يشاهدون «تختخ» يسير مُتجهًا إليهم وهو يبتسم.

نوسة: ظهر «تختخ» وظهر «السميط»!

واستقبل المغامرون «تختخ» بالأحضان والقبلات … وهو يوزِّع عليهم «السميط» والجُبن الرومي … ولكن علامات الاستفهام ظلَّت على وجوههم … من هو الصبي الصغير؟!

كان «تختخ» طبعًا يدرك لهفةَ المغامرين على معرفة هذا الولد، وما هي حكايته، وهو يقضم قطعةَ الجُبن اللذيذة: هذا الولد فقد أمَّه في الزحام.

لوزة: كيف؟

تختخ: ونحن نركب في المحطة سمعتُه يبكي فتخلَّفتُ عنكم وأسرعت إليه، وسألته عن سبب بكائه فقال: إنه كان مع أمه … ولكن الزحام أبعده عنها!

نوسة: وهل بحثت عنها؟

تختخ: طبعًا … ولكنها اختفت في الزحام الشديد، ولم أستطعْ ترْكَه وحده فأحضرتُه معي!

لوزة: وماذا سنفعل به؟

تختخ: عندما نصل إلى «أبو قير» وينزل كلُّ الرُّكاب في الأغلب ستكون بينهم.

محب: لعلَّها نزلت في إحدى المحطات!

تختخ: لا … فقد قال لي إنهم يسكنون في «أبو قير».

كان الصبيُّ الصغيرُ في نحو الثامنة من عمره … أسمر اللون، يلبس جلبابًا تحته سروال طويل … ويضع طاقية على رأسه، فقالت «نوسة»: إنه صيَّاد صغير!

ردَّ الولد: نعم … أنا صيَّاد … وأعمل مع أبي على قاربنا الصغير.

عاطف: وأين أبوك يا صديقي الصغير؟

الولد: سافر إلى بلاد برَّة.

لوزة: وما اسمك يا صديقي؟

الولد: اسمي «شلبي».

ومضَى القطار وقد اشتدَّ الظلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤