حرف الكاف

كاترينا هنريات دوبلذاك دوانتزاغ

مركيزة «فرنل» حليلة «هنري الرابع»، ملك فرنسا، ولدت في أرليان سنة ١٥٧٩ للميلاد. توفيت في باريس ٢٤ شباط سنة ١٦٣٣م. وهي ابنة «فرنسوا دوبلذاك دوانتزاغ» من زوجته الثانية «ماري توشيت» التي كانت قبل أن تزوَّجها عشيقة «شارل التاسع»، ملك فرنسا.

أما «كاترينا» فكانت بديعة المعاني، غاية في الجمال والدلال والذكاء، فتنة للناس، ذكرها رجال الدولة ﻟ «هنري الرابع» بعد موت عشيقته غبرياله دواستري، فهام بها قبل أن يراها، ولما التقيا ألقته في شرك الغرام، فلم يجد عنها بعد ذلك سلوى، وكانت برشاقتها ورقتها تزيده شغفًا بها، فأعطاها ٥٠٠ ألف فرنك، وعاهدها خطًّا على أن يتزوجها إذا ولدت له ولدًا ذكرًا، فلما نمى الخبر إلى وزيره «سلي» استشاط غيظًا ومزق المعاهدة، أما «هنري» فكتبها ثانية وقدَّمها لها في تشرين الأول سنة ١٥٩٩م.

وسنة ١٦٠٠م أسقطت، فتزوج الملك ﺑ «ماري دومديشي»، وبعد تزوجه بها لقي كاترينا فأوسعته شتائمَ، ولم يتمكن من إخماد غضبها إلا بجعلها «مركيزة لفرنل»، وطلب إليها أن تتقرب إلى الملكة وتؤانسها، وألح عليها بذلك فأجابته إلى طلبه، ورضيت أن تقيم في اللوفر، وولدت هناك عدة أولاد، وكانت فيه سببًا لتنغيص عيشه وعيش الملكة، وجرى لها مع «سلي» مناقشات شديدة، فكان يذكر لها أمورًا تغيظها، وكانت تطلب إلى الملك أن يفصله، فلم يجب طلبها.

أما «ماري دومديشي»، فكانت تُلِحُّ على «هنري الرابع» باسترجاع معاهدة الزواج التي عقدها معها، وهي تمانع في ذلك أشد الممانعة، وتريها لكل من يرغب في الاطلاع عليها، غير أن تمنُّعها أوقع بينها وبين هنري خصامًا، فطلَبت إليه أن يسمح لها بالذهاب إلى إنكلترا مع أولادها، فسمح لها بذلك بشرط أن ترد عليه المعاهدة، ولكنها لم تسلمها إلا بعد أن قبضت ١٠٠ ألف فرنك، وعدلت عن السفر إلى إنكلترا، فبقيت في فرنسا، وواطأت جماعة على خلع الملك من جملتهم أبوها، والكونت «دواوفرن» أخوها لأمها.

فلما كشفت المؤامرة حكم عليها بالموت، وذلك في شباط سنة ١٦٠٥م، غير أنه كان لم يزل لجمالها سطوة على الملك، فاسترضته عنها، فبدَّل قصاصها هذا بالسجن، وأطلق سبيلها أيضًا، ولم يلبث أن قرَّبها ثانية، فصار لها عنده من المنزل والحب والإكرام ما كان لها أولًا، ولم تزل هذه حالها إلى أن قرَّب الملك غيرها فهجَرها، فتركت البلاط الملكي وصرفت أيامها الأخيرة في فرنل وباريس. ولمَّا استنطقت ابنة «كومان» رفيقة الملكة «مرغريتا»، بعد أن قُتل هنري الرابع، اتَّهمت «كاترينا» بالاشتراك في قتله، غير أنه لما كان قد حُكم على الابنة المذكورة بالسجن مدة حياتها بطولها؛ لأنها شهدت شهادة زور في غير تلك المسألة، لم يتمكن المؤرخون من الاستناد إلى ما اتَّهمت به المركيزة.

ومن جملة الأولاد الذين ولدتهم «كاترينا» «لهنري الرابع»: «غبرياله أنجليك» التي تزوجت دوق «أبرتون»، وتوفيت سنة ١٦٢٧م.

«وغستون هنري دوفرنل»، ولد سنة ١٦٠١م، وسمي أسقفًا لمِتس، قيل: لبس ثوب الغسيسية غير أنه لم يتم لبسه، بل جعل دوقًا، ثم بيرام، وتزوج بنت الكانشيليا زسفير، وتوفي سنة ١٦٨٢م. ومَن أراد الوقوف على تفاصيل هذه الحوادث فعليه بمطالعة الكتاب الذي ألَّفه «دولسبكور»، وترجمته: عنوان عشق هنري الرابع، وقد طبع في باريس سنة ١٨٦٣م.

كاترينا دوماتو فنادشكوف

أميرة روسيا، ولدت في سنة ١٧٦٤م، وتوفيت ﺑ «فرر» موسكو سنة ١٨١٠م. كانت ثالث بنت للكونت «رومان قودونثروق»، تربت تربية علمية عند عمِّها الوزير الأول، وكانت منذ نعومة أظفارها ميَّالة إلى الأفكار الحرة وحب الاستقلال. دخلت البلاط وهي صغيرة أخت ولية العهد كاترينا الثانية، وتزوجت في سنة ١٧٦٢م بالبرنس «وسكوف»، فأقامت معه مدة في موسكو، ثم رجعت إلى البلاط، وكانت أختها أليصابات قد صارت نديمة الإمبراطور بطرس الثالث الجديد، فحملتها الغيرة من أختها وكرهتها — لارتباك البلاط وأعمال رجاله — على الاشتراك، عندما بلغت الثامنة عشرة من السن، في مؤامرة أدارتها وخلعت الإمبراطور «بطرس الثالث» وقتلته، وولت امرأته الألمانية الإمبراطورة.

وليس من المحقق أن ما استخدمت من الوسائل لتقوية تلك المؤامرة كان موافقًا للناموس، فعند قتله لبست ثوب رجل وامتطت جوادًا وقادت فرقة من العساكر، ولم تكن المكافأة التي حصلت عليها من الإمبراطورة كافية، ورفضت أن تجعلها قائدة للحرس الإمبراطوري، وآل ميلها إلى الاستقلال وخشونة طبعها إلى حرمانها من رضا الإمبراطورة، فاعتزلت عن البلاط وأكبَّت على الدرس والمطالعة ومعاشرة العلماء، وبعد وفاة زوجها ساحت في غربي أوروبا.

وسنة ١٧٨٢م، عهدت إليها الإمبراطورة رياسة الأكاديمية العلمية، وسنة ١٧٨٤م عيَّنتها لرياسة الأكاديمية الروسية الجديدة، ولها من الكتابات النثرية والشعرية شيء كثير، وبعد وفاة الإمبراطورة كاترينا سنة ١٧٩٦م، أمرها الإمبراطور «بولس» أن تنزل في قرية صغيرة من ولاية نفضودود، فتوسطوا أمرها، فعفا عنها، وخرجت من المنفى، وصرفت باقي أيامها في أملاك لها بقرب موسكو.

كاترينا إمبراطورة الروسيا الأولى

ولدت كاترينا في شمالي ولاية لبغونيا سنة ١٦٨٢م، وسميت «مرثا»، وأبوها من مدبرين الأخانسر في الجيش الأسوجي، واسمه يوحنا راب، وتوفي قبل ولادتها بزمن قصير، فربتها أمها ثلاث سنوات بالحزن والفاقة الشديدة، وتوفيت وتركتها عالة على الناس، فشفق عليها رجل من أهالي قريتها وعالها مدة، ثم أتى بها كاهن لوتري إلى بيته في مدينة «مرينبرج» خادمة لأولاده، ويقال: إنها بقيت في بيته إلى أن توفي، وإنها كانت تلتقط من أولاده مبادئ العلوم التي كانوا يتعلمونها في المدارس، ولكنَّ كلَّ ما يروى عنها في حداثتها أقاصيص لا يركن إليها، والذي يذكره المؤرخون أنها تزوجت في «مرينبرج» بجندي أسوجي سنة ١٧٠١م، وأنه في السنة التالية فتح الروسيون مدينة «مرينبرج» وقتلوا زوجها وأخذوها أسيرة، فضمَّها الجنرال «بوراليه».

ثم اتصلت بالأميرة فشيكوف، ورآها عندها الإمبراطور بطرس الأكبر، فراعه جمالها، ولطف حديثها؛ فقربها منه، وكان قد طلَّق زوجته؛ لمخالفتها له في المبدأ والرأي، فعمد كاترينا في كنيسة الروم، وسماها باسم كاترينا الكسيونا، وأشهر زواجه بها سنة ١٧١٢م، وكان قد تزوج بها سرًّا قبل ذلك، ويقال: إن الداعي لإشهار زواجه بها أنه لما فتح الحرب على الدولة العثمانية سنة ١٧١١م، رأى أنه لا صبر له على فراقها؛ لحبِّه لها، ولمشاركتها له في الرأي واجتهادها في مرضاته، وإعجابها بأعماله ومآثره، فسافر بها علنًا إلى ميدان القتال كملكة محفوفة بالمجد والجلال، وكانت تركب معه وتُعرِّض نفسها للمتاعب والأخطار، وتتلطف بالجنود، وتزور المرضى منهم، وتُطيِّب قلوبهم، ثم اشتدت الأزمة على الإمبراطور، وضيقت عليه الجنود العثمانية حتى أيقن بالوبال، ويقال: إنه دخل خيمته حينئذٍ وأمر حرسه أن لا أحد يدخل عليه، فجاءت كاترينا ودخلت عليه بالرغم عن أمره.

فلما رآها لم يتضرر من دخولها؛ لاحتياجه إلى سديد رأيها، فأشارت عليه أنه يصالح العثمانيين ويرد لهم البلاد التي أخذها منهم، وقالت: إنها تتكفل بإرضاء بلطجي محمد، قائد الجيش العثماني، فسُرَّ منها، وفوَّض إليها تدبير الأمر، فاختارت ضابطًا حكيمًا وأرسلته إلى عسكر العثمانيين بهدية سنية من الجواهر الغراء والنقود، فعقدت شروط الصلح وأمضاها الفريقان. وقد ارتاب كثيرون من المتأخرين في صحة هذا الخبر وقالوا: إنه لا صحة لما يروى من مداخلة كاترينا في عقد الصلح. ومهما يكن من الأمر، فلا شبهة في أن الإمبراطور نفسه كان يحسب لها فضلًا في نجاته من الجنود العثمانية هو وجنوده.

وبعد ثلاث سنوات، ولدت له ابنة ففرح بها فرحًا عظيمًا، وصنع رتبة سماها رتبة القديسة كاترينا؛ إكرامًا لزوجته، وجعل لها عيدًا كل سنة تذكارًا لها، واتفق أنه تغلب قبيل ذلك على الأسطول الأسوجي، وأسر أميره، فأتي بالأسرى في هذا العيد ودخل بهم مدينة بطرس برج باحتفال عظيم.

ثم سافر في ممالك أوروبا لينظر في سياستها، ويسبر غور رجالها، وأخذ زوجته معه، فولدت في أثناء الطريق ولدًا لم يعش إلا يومًا واحدًا، وكان هو قد سبقها قليلًا، فأسرعت إليه وهي نفساء؛ لكي لا يمل من انتظارها. وهذا دليل على أن رفاهية البلاط الملوكي لم تغير من طباعها، ولا أضعفت من همتها. وكانت تتفقد معه الأماكن التي زارها في سياحته الأولى حينما زار أوروبا لكي يتعلم صنائع أهاليها وفنونهم.

وسنة ١٧٢٤م، ألبسها التاج، وأوصى لها بالملك من بعده، ويقال: إنه سار معها إلى الكنيسة ماشيًا، بصفة قائد لفرقة جددها سماها «شفاليية» الإمبراطورة، ووضع التاج على رأسها بيده، وأمر بأن يُقرأ الإعلان الآتي الذي أنشأه قبل ذلك؛ وهو: من حضرة الإمبراطور المتولى على جميع الدولة الروسية، إلى جميع فئات القِسِّيسين والضباط الملكيين والعسكريين والأهلين عمومًا الموصوفين بالأمانة: لا يخفى على كل منكم العادة المستمرة الجارية في الممالك المسيحية، التي بمقتضاها يتوج الملوك زوجاتهم كما هو جار الآن.

وكما فعل الملوك المسيحيون الشرقيون في الأزمان الغابرة كالقيصر «بازلند»، الذي توج زوجته «زنوبيا»، والقيصر «بوستنياتوس»، الذي توج زوجته «لويسينا»، والقيصر «هرقل»، الذي توَّج زوجته «مرتينا»، والإمبراطور «ليون»، الفيلسوف الذي توَّج زوجته «ماريا»، وكذا جماعة غيرهم من القياصرة قد وضعوا التاج الإمبراطوري على رءوس نسائهم، ولا محل لذكرهم هنا جميعهم.

ومن المعلوم أننا طالما خاطرنا بأنفسنا، واقتحمنا الشدائد والأهوال مدة الحرب الأخيرة، التي مكثت إحدى وعشرين سنة متوالية؛ لحفظ وطننا، وقد أنهيت هذه الحروب بعون الله بالشرف الكامل، وبالصلح الذي لم يسبق أنه وقع مثله لدولة روسيا، ولم تحز قط من الفخار ما حازته بهذه الحروب، وحيث إن زوجتنا الإمبراطورة كاترينا قد ساعدتنا على الخلاص من ربقة هذه الأخطار في عدة وقائع، ولا سيما التي حصلت بينا وبين الجنود العثمانية على نهر بروت؛ حيث تضعضع حال جيوشنا، وآل أمرها إلى ٢٢ ألف مقاتل، وكانت العساكر العثمانية ٢٧٠ ألف، وأظهرت في تلك الأزمنة غيرة عظيمة، وشجاعة فائقة، كما هو معلوم عند جيوشنا؛ فبالنظر إلى ذلك، وبمقتضى التصرف والنفوذ الموهوب لنا من الله تعالى، يتم تتويجها في فصل الشتاء من هذه السنة بمدينة موسكو. وقد أعلنَّا ذلك قبلًا لرعايانا المحبين الأمناء، ومحبتنا الإمبراطورية لا تزال لهم بدون نقص ولا تغيير.

ثم ساء ظن الإمبراطور بها في أواخر سنة ١٧٢٤م، وهي السنة التي توَّجها فيها، وأمر بقتل الرجل الذي اتَّهمها به، والأرجح أن تهمته لها كانت باطلة. ولم تطل حياته بعد ذلك؛ لأنه توفي بداية سنة ١٧٢٥م، فأخفت هي ورجال بلاطها خبر موته إلى أن يستتب لها الأمر من بعده. وقد اتهمها البعض بأنها دسَّت له السُّم، وهذا أيضًا لا دليل على صحته؛ ولا سيما أنها لم تكن على يقين من وصول الأمر إليها. وتضاربت الآراء بعد وفاته فيمن يخلفه، ولكن تحزب لها الأمير «تشكوف» وغيره من أهالي المناصب الرفيعة والكلمة النافذة، وتقدم رئيس أساقفة «بلوسكو» وأقرَّ أمام الجنود والشعب أن الإمبراطور أوصى لها بالملك من بعده؛ إذ قال: إنه لا يرى كُفْئًا ليخلفه غيرها! ولما قال ذلك انكسرت شوكة أضدادها، وأقر الجميع على مبايعتها، فاستقرت على عرش روسيا في خطة زوجها؛ لأنها سلمت تدبير أمور المملكة إلى «فشكوف» الحكيم.

ومن الأعمال العظيمة التي عملتها أنها أبطلت مجلس الأعيان، وألغت ألقاب المجمع المقدس، وقيدت خدمة الدين ضمن دائرة الكتب المقدسة، وعضدت مجلس المعارف، وعينت لأعضائه المرتبات الطائلة، وأناطت أشغال الدولة بمجلس شوراها السري، ولكنها لم تختم حياتها بالخير كما بدأتها؛ إذ يقال: إنها مالت إلى المكر في أواخر أيامها، وعاشت عيشة أسرعت بها إلى القبر، فتوفيت في السابع عشر من شهر أيار (مايو) سنة ١٧٢٧م، ولا مشاحة في أنها كانت امرأة عظيمة وَقَتْ نفسها من الذلِّ، وتسلَّطت على قلب ملك من أعظم ملوك عصرها، ولم تقنع نفسها الكبيرة بأنها صارت زوجة شرعية لهذا الملك العظيم، بل رفعتها همتها إلى عرش روسيا، فصارت عالية على أشراف الروس العريقين في النسب، وأحسنت السياسة فيهم، وأبقت لها بينهم ذكرًا مجيدًا.

كاترينا الثانية إمبراطورة روسيا وهي ابنة دوق أنهلت زرسبت

هذه الملكة كانت أديبة عاقلة عالمة بضروب السياسة، تبوأت الملك في سنة ١٧٦٢م، وتوفيت سنة ١٧٩٦م، فكانت مدة ملكها أربعًا وثلاثين سنة. وفي أيامها اكتسبت روسيا نفوذًا أوليًّا قاطعًا في السياسة الأوروبية، واعترف بأنها من دول أوروبا العظمى، وأدركت منافع السلم الخارجي بتوجيه خواطرها واجتهادها إلى تقدُّم إمبراطوريتها.

وبعد استوائها على عرش الملك بمدة وجيزة أرجعت العساكر المشتركة بحرب السبع سنين، وجعلت عرشها محفوفًا بجمهور من رجال السياسة والحرب المشهورين بالحذق أكثر من اشتهارهم بالسجايا، ومنهم: «غالستن» و«روميانتزف» و«بانيزه» و«أورلوف» و«ستلينكوف» و«سوفادوف» و«تشرنتشيف»، و«ربنين»، و«بونمكين»، وكانت لها اليد الطولى بتقسيم بولونيا في سنة ١٧٧٢م، وسنة ١٧٩٣م استولت على نحو ثلثيها. وفي إثر حروب كثيرة ضمت إلى روسيا القرم وأزوق وغيرهما، ومساحةُ ما ضُمَّ إلى إمبراطوريتها أيام ملكها نحو مائتين وخمسة وعشرين ألف ميل مربع، ومنها: كورلندا.

وأما أعمالها الآيلة إلى تقدم البلاد الداخلي، فلم تكن أعمالها الحربية أعظم منها؛ فإن نحو خمسين ألفًا من الغرباء المجدين استوطنوا أراضي روسيا الزراعية الجنوبية، وأنشأت عدة بيوت للتعليم والإحسانات إلى المعوزين، وأكسبت التجارة البرية والبحرية والصناعة نجاحًا عظيمًا، ورواجًا كثيرًا، وأصلحت إدارة الإمبراطورية حق الإصلاح.

وسنة ١٧٦٦م، عقدت جمعية من وكلاء الولايات لوضع قانون ونظام جديد، وكانت درجة تعليم النساء في أول ملكها منحطة جدًّا، فأفرغت هذه وسعها في سبيل ترقية قواهن العقلية، وإعلاء درجتهن في الهيئة الاجتماعية، ومن الوسائل التي استعملتها: إنشاؤها مدرسة إكليريكية للبنات في بطرس برج، من قوانينها أن الابنة متى دخلتها لا تتمكن من تركها إلا لمضي سبع سنوات؛ لاعتقادها أن هذه المدة تعتبر كافية لكمال التهذيب. وكانت المدرسة المذكورة مقسومة إلى قسمين؛ القسم الأول: لأجل تربية بنات الشرفاء، والثاني: للدرجة الوسطى من الشعب. وكان عدد البنات اللواتي تلقين التربية فيها ٥٠٠.

ومن ذلك الحين سنة ١٧٦٤م، أخذت مدارس الإناث بالازدياد في كل روسيا، وأنشأت لهن الإمبراطورة محلات للرياضات الجسدية في كل أنحاء المملكة، وبلغ عددها سنة ١٨٧٣م: ٢٠٠، وعدد التلميذات ٢٣٠٠٠. وتُجمع دراهم خصوصية من البلديات للقيام بمصاريف المدارس المذكورة، التي لم ينحصر نفعها في تربية النساء الروسيات فقط، والآن آل تقليل النفور والبغضاء الناتجة عن التفاوت في حقوق الولادة والمركز والثروة، فتذهب التلميذات إلى محل الرياضات الجسدية بدون تمييز النسب والقرابة، ويلبسن في ظروف كثيرة ملابسَ واحدة، وفي المدينة المؤلفة من أجناس مختلفة من الأهالي لا يراعون الجنسية، فترى البنات التتريات والبشكيريات مختلطات مع الروسيات في الشرق كاختلاط الروسيات والبولونيات في الغرب. وإذا اعتبرنا الزمان الذي ابتدئ فيه بالاعتناء بتربية النساء فيها تحكم بأنهن قد أظهرن من الذكاء والميل الطبيعي لتلقي العلوم والتربية الحسنة شيئًا كثيرًا.

وسنة ١٨٧٢م، كان في مدرسة «زوريخ» الكلية ٦٣ تلميذًا، و٥٤ منهن من الروسيات، ولا يراعون اختلاف الأديان في إدخال التلميذ إلى المدارس، فحقوق الطوائف متساوية في هذا الصدد، ويوجد في كل مدرسة كهنة مخصوصون للاهتمام بأمور التلامذة الدينية، فلا يتعرضون للمسلمين واليهود في شيء من أمورهم الدينية، وإذا فرضنا أن عدد التلاميذ من مذهب واحد لم يكن كافيًا لتُعيِّن المدرسة لهم مدرسًا دينيًّا، فيترك الاعتناء بأمر دينهم إلى والديهم أو أقاربهم.

وقد أبطلت الإمبراطورة فيها القصاصات بالقتل أو الضرب، ولا يحكمون بالقتل الآن إلا على مرتكبي أكبر الجنايات، ولا تقوى المجالس الجنائية على الحكم به، ولكن تحال الدعوى إلى مجالس عالية تشكل في هذه الظروف، ولا يزالون في سيبيريا يقاصون المجرمين بالضرب؛ وذلك لأجل المحافظة على الترتيب بينهم، وذكر في تقرير سنة ١٨٦٠م و١٨٦٨م، أن معدل عدد المذنبين فيها ٥٣٤٠٠٠ من ذنوب مدنية وجنائية وسياسية، وعدد الذين حكم عليهم بالقصاصات من المذنبين، وحكم على ١٢١١ منهم بالأشغال الشاقة، وعلى ٢١٧٢ مذنبًا بالإبعاد إلى سيبيريا، وعلى ٢٤٨٨ بالنفي المؤبد، وعلى ٦٦٦٧ بالسجن في القلاع؛ حيث يشتغلون بالصنائع اليدوية الشاقة، وعلى ١٣٦٦٩ مذنبًا بالسجن، وعلى ٥٧٧٥٧ مذنبًا بقصاصات خفيفة.

وأما جرائم السرقة فكانت ٣١ في المائة من عدد المذنبين، وحوادث القتل ٢ في المائة، وكان عدد النساء المذنبات في الأربعة وثمانين ألفًا نحو ١٨٨٠٠، وأكثر قليلًا من عشرة في المائة.

وبالجملة، فإن نتيجة اجتهاد هذه الملكة جعلت البلاد في تقدم ظاهر حسدتها عليه باقي الدول، وكانت مع ما هي عليه من سمو الأفكار واتساع المدارك لا تألو جهدًا من اشتغالها بفن التطريز والتصوير والنقش والحفر بالمعادن والعاج؛ وذلك لتعلُّقها في الصناعة، وكانت محبة للعلماء مُقرِّبة لهم، وأخصهم الفلاسفة المشهورون. وكانت مرة أهدت إلى «فولتير» علبة من العاج من صنع يدها، فَسُرَّ «فولتير» لهذه الهدية، وبعد قليل كافأها بأن قدم لها زوجًا من الجرابات الحريرية من صنع يده، وأرسل لها رسالة يقول فيها:

إن جلالتك تكرمت بإهداء ما هو من أعمال الرجال؛ ولكنه مصنوع بأيدي النساء، فأهديتك ما هو من أعمال النساء؛ ولكنه مصنوع بأيدي الرجال، وإني أرجو قبول هديتي، وعساها أن تنال حظًّا لديك.

ولما وصلت لها هذه الهدية سُرَّتْ سرورًا لا مزيد عليه، وأكرمته إكرامًا زائدًا، وبالجملة فإن هذه الملكة لم يتولَّ تخت روسيا من النساء مثلها.

كبشة بنت معدي كرب الزبيدي

كبشة بنت معدي كرب الزبيدي أخت عمرو بن معدي كرب المشهور صاحب الصمصامة.

كانت مشهورة بين نساء زمانها بالحسن والجمال، والذكاء والشجاعة والإقدام. وكانت تقول الشعر، ويغلب على شعرها الحماسة، وطالما كانت تعرض على أخيها عمرو وتفاخره، وكانت تزوجت عبد الله بن منقذ الهلالي، وقد ائتلفت معه ائتلافًا شديدًا، وأحبته حبًّا لا مزيد عليه، ومكثت معه مدة وهما على غاية ما يرام من الراحة والرفاهية، حتى كان ذات يوم غزا غزوة في العرب، فكان فيها يومه، وبلغ الخبر كبشة، فشقت عليه الجيوب، ولطمت الخدود، ورثته بمراثٍ كثيرة؛ منها قولها:

وأرسل عبد الله إذ حان يومه
إلى قومه لا تعقلوا لهم دمي
ولا تأخذوا منهم إفالًا وأبكرا
وأترك في بيت بصعدة مظلم
ودع عنك عمرًا إن عمرًا مسالم
وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم
فإن أنتم لم تثأروا واتديتم
فمشُّوا بآذان النعام المصلم
ولا تشربوا إلا فضول نسائكم
إذا ارتملت أعقابهن من الدم

كَبَك خاتون زوجة السلطان أوزبك

قال ابن بطوطة: «كَبَك خاتون — بفتح الكاف الأولى وفتح الباء الموحدة — بنت الأمير نَغَطَى — بنون وغين معجمة وطاء مهملة مفتوحات، وياء مسكنة — وأبوها كان مُبتلًى بعلة النقرس.» قال: «وقد رأيته في غد دخولنا على الملكة، دخلنا على هذه الخاتون فوجدناها على مرتبة تقرأ في المصحف الكريم، وبين يديها نحو عشر من النساء القواعد، ونحو عشرين من البنات يطرزن ثيابًا، فسلَّمنا عليها، وأحسنت في السلام والكلام، وقرأ قارئنا فاستحسنته، وأمرت بالقمز فأحضر، وناولتني القدح بيدها كمثل ما فعلته الملكة، وانصرفنا عنها.

وقد أجزلت لنا العطاء، وهكذا عادتها؛ فإنها تكرم كل من تسمع به أنه غريب، ولها مآثر حسنة، وخيرات واسعة، ومبرات على الفقراء والمساكين لم يسبقها عليها أحد من نساء زمانها.»

كريمة بنت محمد بن حاتم

جاورت بمكة المكرمة، وروت صحيح البخاري عن الكشميهني — وروايتها من أصح روايات البخاري — وروت عن زاهر السرخسي، وكانت تُصنِّف كتبها وتقابل بنسخها. وهي في الفهم والنباهة وحدة الذهن بحيث ترحل إليها أفاضل العلماء. وكان لها مجلس بمكة المكرمة تجتمع فيه الطلبة والأفاضل من رجال كل علم، وهي تلقي على كل نوع مما يطلبه بعبارة فصيحة المأخذ، مفهومة المعنى. وكان أكثر ميلها إلى الحديث حتى بلغت فيه حدًّا لم يبلغه غيرها، ولم تتزوج قط، وبلغ عمرها ١٠٠ سنة، وتوفيت بمكة المكرمة.

كليوباترا ملكة مصر

هي من الملوك البطالسة الذين تغلبوا على مصر عقيب دولة الفراعنة، اقترنت بأخيها «بطليموس ديوينسيوس» سنة ٥٢ قبل الميلاد، وكان في سن الثالثة عشرة، وهي في سن السابعة عشرة، فراودتها نفسها على الاستئثار بالعرش دونه، فقاومها رجال البلاط وأوصياء زوجها القاصر، حتى إذا أعيتها الحيلة عمدت على الاستنصار بأغسطوس قيصر الرومان، فألَّف ذات بينهما، ولكنها بعد قليل تزوجت بأخيها الثاني، ولم يكن قد أتى عليه إحدى عشرة سنة، فنودي به بأمر قيصر ملكًا على مصر.

ثم مات هذا مسمومًا بعد زواجه بأربعة أعوام، ولما خلا العرش من مَلِكٍ بعث أنطونيوس، أحد مشتركي دولة الرومان الأربعة، فاستدعى كليوباترا إلى طرسوس حيثما كان ذاهبًا إلى محاربة بروتوس الروماني، فلبَّت الدعوة وسارت على أجنحة الرياح حتى بلغت نهر طرسوس، وهنالك اتخذت لها سفينة فاخرة الأثاث أرجوانية السجف والقلاع، مزدانة ببديع الأواني ونفائس الجوهر، وأفرغت على قدِّها الفتان حلة كسروية مدبجة بالدر، وكللت جبينها الوضاح بتاجٍ وهَّاج، وألبست وصائفها الحور ثيابًا خضرًا من سندس وإستبرق، وتصدرت بينهن كأنها الشمس وكأنهن البدور، وهن يضربن بالعيدان والقياثير، ويُطلقن البخور والند حتى عبق الشاطئ برياحها، وماج النهر طربًا بنغمات أعوادهن، ولَأْلَأ محياهن.

فلما لقيها أنطونيوس استطار فؤاده شغفًا، وذهب رشده هيامًا وكلفًا، فما عتَّم أن عاد معها إلى الإسكندرية، وهنالك زفت عليه حليلة، فلم يستطع بعدُ على فراقها صبرًا، فغادر واجباته ومهامه إلى التقادير، وأصبح لا يستفيق من خمرة حبها سكرًا.

ولما طار الخبر إلى زوجته الأولى «أوكتافيا» نزغها من شيطان الغيرة نازغ، فأغرت أخاها «أوكتافيوس»، أحد الشركاء الأربعة، على مخاصمته والانتقام منه؛ فحشد جيشًا خميسًا وقصد به الديار المصرية، فتغلب عليها بعد نزال يشيب لهوله الوليد، ولما حمي الوطيس، وأحس «أنطونيوس» بسوء المنقلب؛ سقط في يده ولات حين ندامة، فتناول مدية وطعن بها ثديه، فكانت القاضية.

وأما كليوباترا، فلما لم تنطلِ أساليبُها على «أوكتافيوس»، ولم تقوَ على اختلابه بما أوتيت من الجمال الباهر، واللطف الساحر، بفوات عرشها، بعد أن أحاطت به جواريها وأترابها، وكانت قد زيَّنت رأسها بالتاج، وأفرغت على جسدها البلوري حلة من نفيس الديباج، ثم زحزحت غلالتها عن نهديها العاجيين، وأطلقت حية خبيثة على صفحة صدرها المزري باللجين، فلدغتها لدغة مشوق ملهوف، أوردها حياض الحتوف. وكان ذلك سنة ٣٠ قبل المسيح، وبموتها قرض الله دولة البطالسة بعد أن حكمت مصر ٢٩٤ عامًا. فسبحانه إذا قضى أمرًا فإنه يقول له: كن فيكون!

كانت مدة ملك كليوباترا ٢٢ سنة، وكانت حكيمة متفلسفة مقربة للعلماء، معظمة للحكماء، ولها كتب مُصنَّفة في الطب والزينة وغير ذلك من الحكمة، مترجمة باسمها، منسوبة إليها، معروفة عند صنعة الطب.

وقال العلامة المسعودي في كتابه المسمى «مروج الذهب ومعادن الجوهر»: إن سبب وفاة كليوباترا كان عندما جمعت في مجلسها أصناف الرياحين، استحضرت حية من الحيات التي تكون بين الحجاز ومصر والشام — وهي نوع من الحيات التي تراعي الإنسان حتى إذا تمكنت من النظر إلى عضو من أعضائه قفزت أذرعًا كثيرة كالرمح، فلم تخطئ ذلك العضو بعينه حتى تتفل عليه سمًّا، فتأتي على الإنسان ولا يعلم بها؛ لخموده من فوره، ويتوهم الناس أنه قد مات حتف أنفه — فجاءت بحية وضعتها في إناء بلوري.

ثم لما علمت أن «أغسطوس أوكتافيوس» أراد الدخول في قصر ملكها أمَرت بعض جواريها ومن أحبَّت فناءها قبلها، وأن لا يلحقها العذاب بعدها؛ فسمَّتها بإناء، فخمدت من فورها، ثم جلست كليوباترا على سرير ملكها، ووضعت تاجها على رأسها، وعليها ثيابها وزينة ملكها، وجعلت أنواع الرياحين والزهور والفاكهة والطيب وما يجمع بمصر من عجائب الرياحين وغيرها مبسوطة في مجلسها وأمام سريرها، وعهدت بما احتاجت إليه من أمورها، وفرقت حشمها من حولها، فاشتغلوا بأنفسهم عن ملكتهم لما قد غشيهم من عدوهم، ودخوله عليهم في دار ملكهم، وأدنت يدها من الإناء الزجاج الذي كانت فيه الحية، فقرَّبت يدها مِن فيه فتفلت عليها، فجفَّت مكانها، وانسابت الحية وخرجت من الإناء، ولم تجد حجرًا ولا مذهبًا تذهب فيه؛ لإتقان تلك المجالس بالرخام والمرمر والأصباغ، فدخلت في تلك الرياحين.

ودخل «أغسطوس أوكتافيوس» حتى انتهى إلى المجلس، فنظر إليها جالسة والتاج على رأسها، فلم يشك في أنها تنطق، فدنا منها فتبيَّن أنها ميتة، وأُعجب بتلك الرياحين فمدَّ يده إلى كل نوع منها يلمسه ويتبينه، ويَعجبُ خواص من معه به، ولم يدرِ ما سبب موتها، فبينما هو كذلك من تناول تلك الرياحين وشمِّها إذ قفزت عليه تلك الحية فرَمَتْه بسمِّها، فيبس شقُّه من ساعته، وذهب بصره الأيمن وسمعه، فتعجب من فعلها، وقَتْلها لنفسها، واختيارها للموت على الحياة مع الذل.

ثم ما كان من إلقاء الحية بين الرياحين، فقال في ذلك شعرًا بالرومية يذكر حاله وما نزل به وقصتها، وأقام بعد ما نزَل به ما ذكرنا يومًا وهلك، ولولا الحية قد أفرغت سمها على الجارية ثم على الملكة؛ لكان «أغسطوس أوكتافيوس» قد هلك من ساعته.

وكانت كليوباترا دائمًا تحب القصف والخلاعة، وتألف الملاهي، وطالما تمنت أن يكون لها حبيب تركن إليه وتعول في أمورها عليه، ولها أيام لطيفة، وليالٍ ظريفة، ووقائع حسنة، ونوادر مستحسنة.

كنزةُ أمُّ شملةَ بنِ بردٍ المنقري من ولد قيس

كانت من شاعرات العرب المتقدمات في الأدب. اشتراها برد المنقري وتزوجها، فولدت له شملة بن برد، وكان من الشجاعة على جانب عظيم، وطالما اقتحم الحروب وأباد الأقران.

فمن شعرها حينما هجمت عليهم العرب عند غياث ولدها شملة قولها:

إن يك ظني صادقًا وهو صادقي
بشملة يحبسهم بها محبسًا أزلًا
فيا شمل شمِّر واطلب القوم بالذي
أصبت ولا تقبل قصاصًا ولا عقلًا

وقالت أيضًا:

لهفي على قومي الذين تجمعوا
بذي السيد لم يلقوا عليًّا ولا عمرا
فإن يك ظني صادقًا وهو صادقي
بشملة يحبسهم بها محبسًا وعرا

وقد صدق قولها، وبلغ الشعر ولدها فقال: والله لأصدقنَّها قولها، وقصد القوم فقابلهم، وأبلى بهم بلاء حسنًا، واسترد منهم ما سلبوه من قبيلته.

ومن شعرها قولها:

ألا حبذا أهل الملا غير أنه
إذا ذكرت في فلا حبذا هيا
على وجه مي مسحة من ملاحة
وتحت الثياب الخزي لو كان باديا
ألم تر أن الماء يخلف طعمه
وإن كان لون الماء أبيض صافيا
إذا ما أتاه وارد من ضرورة
تولى بأضعاف الذي جاء طاميا
كذلك مي في الثياب إذا بدت
وأثوابها يخفين منها المخازيا
فلو أن غيلان الشقي بدت له
مجردة يومًا لما قال ذا ليا
كقول مضى منه ولكن لرده
إلى غير مي أولا لأصبح ساليا

كلابة مولاة ثقيف

كانت عند عبد الله بن القاسم الأموي العبلي، وكان يبلغها تشبيب العرجي بالنساء وذكره لهن في شعره، وكانت كلابة تكثر أن تقول: لشد ما اجترأ العرجي على نساء قريش حين يذكرهن في شعره، ولعمري ما لقي أحدًا فيه خير، ولئن لقيتُه لأسودَنَّ وجهه! فبلغه ذلك عنها.

وكان العبلي نازلًا على ماء لبني نصر بن معاوية يقال له: الضنق، على ثلاثة أميال من مكة، والعرج أعلاها قليلًا مما يلي الطائف، فبلغ العرجي أنه خرج إلى مكة، فأتى قصره فأطاف به، فخرجت إليه كلابة، وكان خلفها في قصره، فصاحت به: إليك ويلك! وجعلت ترميه بالحجارة وتمنعه أن يدنو من القصر، فاستسقاها فأبَتْ أن تسقيه.

وقالت: لا يوجد والله أثرك عندي أبدًا؛ فيلصق بي منك شر، فانصرف وقال: ستعلمين، وقال هذه الأبيات ليتَّهمَها الناس ويُوقع بها أمام سيدها:

حورٌ بعثن رسولًا في مُلاطفة
ثقفًا إذا عقل النسَّاءة الوهم
إليَّ أن ايتنَا هدأً إذا غفَلتْ
أحراسنا وافتضحنا إن همو علموا
فجئت أمشي على هول أجشمه
تجشم المرء هولًا في الهوى كرم
إذا تخوفت من شيء أقول له
قد جفَّ فامضِ بشيء قدِّر القلم
أمشي كما حرَّكت ريحٌ يمانية
غُصنًا من البان رَطبًا طلة الديم
في حلة من طراز أكسوس مثرية
تعفو بهدابها ما أثرت قدم
خلت سبيلي كما خليت ذا عذر
إذا رأته عتاق الخيل ينتجم
وهن في مجلس خالٍ وليس له
عين عليهن أخشاها ولا ندم
حتى جلست إزاء الباب مكتتمًا
وطالِبُ الحاجِ تحت الليل مكتتم
أبدين لي أعينًا نجلًا كما نظرت
أدم هجان أتاها مصعب قطم
قالت كلابة: مَن هذا؟ فقلت لها:
أنا الذي أنت من أعدائه زعموا
أنا امرؤ جدَّ بي حبٌّ فأحرمني
حتى بُليتُ وحتى شفَّني السقم
لا تكليني إلى قوم لَوَ انَّهموا
من بغضنا أطعموا لحمي إذا طعموا
وأنعمي نعمة تُجْزي بأحسنها
فطالما نالني من أهلك النعم
ستر المحبين في الدنيا لعلهمو
أن يحدثوا توبة فيها إذا أثموا
هذي يميني رهن بالوفاء لكم
فارضي بها ولأنف الكاشح الرغم
قالت: رضيت ولكن جئت في قمر
هلَّا تلبثت حتى تدخل الظلم
فبتُّ أسقى بأكواب أعلُّ بها
من بارد طاب منا الطعم والنسم
حتى بدا ساطع للفجر نحسبه
سنا حريق بليل حين يضطرم
كغرة الفرس المنسوب قد حسرت
عنه الجلال تلالًا وهو يلتجم
ودعتهن ولا شيء يراجعني
إلا البيان وإلا الأعين السجم
إذا أردن كلامي عنده اعترضت
من دونه عبرات فانثنى الكلم
تكاد إذ رمن نهضًا للقيام معي
أعجازهن من الأنصاف تنقصم

وقد أعطاه العرجي جماعة من المغنين وسألهم أن يغنوا فيه، فصنعوا في أبيات منه عدة ألحان، وقال: لا أجد لهذه الأَمَة شيئًا أبلغ من إيقاعها تحت التهمة عند ابن القاسم؛ ليقطع راتبها من ماله، فلما سمع العبلي بالشعر يُغنَّى به أخرج كلابة واتَّهمها، ثم أرسل بها بعد زمانٍ على بعير إلى مكة، فأحلفها بين الركن والمقام أن العرجي كذب فيما قاله، فحلفت سبعين يمينًا، فرضي عنها وردَّها، فكان بعد ذلك إذا سمع قول العرجي:

طالما مسني من أهلها النعم

قال: كذب والله ما مسه ذلك قط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤