الفصل الرابع والأربعون

أبو العلاء في الميزان

أكتب هذا المقال في لحظات حزينة أكتوى بنارها أبو العلاء، أكتب هذا المقال وأنا أحزم أمتعتي للرحيل عن بغداد، وهو — رحمه الله — قد بكى يوم فارق بغداد، ولعله لم يعرف موجعات الحزن إلا يوم قهره الوجد على أن يقول:

أودعكم يا أهل بغداد والحشا
على زفرات ما ينين من اللذع
وداع ضن لم يستقل وإنما
تحامل من بعد العثار على ظلع
فبئس البديل الشام منكم وأهله
على أنهم قومي وبينهم ربعي
ألا زودوني شربة ولو أنني
قدرت إذا أفنيت دجلة بالكرع

أما بعد، فإني أرى أن أبا العلاء لم يكره الدنيا أبدًا، ولم يكن يوم اعتزل دنياه إلا حيوانًا مفترسًا نزع الدهر ما كان يملك من أظافر وأنياب، ولو كان أبو العلاء كره دنياه لاكتفى منها بأيسر العيش، ولكنه عاش عمرًا طويلًا جدًا، وطول العمر يشهد بقوة الأواصر بين المحب والمحبوب، فالقتال بين أبي العلاء وبين دنياه كان قتالًا بين عاشقين يظهران البغض والحقد، ويضمران العطف والحنان.

والناس متفقون على أن أبا العلاء كان طلق دنياه فلم يظفر بما في حواشيها من نعيم ومتاع، ولكني بعد التأمل عرفت أنه زهد في جميع الأشياء إلا المجد، والمجد هو أشهى الأطايب في دنيا الرجال، فإن لم يكن هذا صحيحًا فكيف نفسر خضوعه لما شاع في زمانه من التقاليد الأدبية، والخضوع للتقاليد الأدبية دليل الحرص على انتهاب ما يملك الناس، وأحب أن أشرح هذه النظرية فأقول:

ينقسم شعر أبي العلاء إلى قسمين:
  • أولهما: ممثل في سقط الزند.
  • وثانيهما: ممثل في اللزوميات.

أما سقط الزند فمجموعة شعرية تشهد بأن الرجل كان يعجبه ويرضيه أن يكون من أقطاب اللغويين، وهو قد أفصح عن ذلك حين خاطب الشريف الرضي والشريف المرتضى في القصيدة التي رثى بها أبا أحمد الموسوي فقال:

يا مالكي سرح القريض أتتكما
مني حمولة مسنتين عجاف
لا تعرف الورق اللجين وإن تسل
تخبر عن القلام والخذراف

وهي شهادة صريحة بأنه كان يحب أن يملك قلوب البغداديين، وكان البغداديون ألفوا حب البادية، وهو مرض فظيع ترك في اللغة العربية أسقاما وعقابيل، وأما اللزوميات فمجموعة شعرية تشهد بأن الرجل خضع لأمراض زمانه أبشع الخضوع، فقد كان الأدباء في صدر القرن الخامس قد ابتلاهم الجهل ببلية سخيفة هي الهيام بالزخرف، والفناء في التزويق والتهويل.

والفرق بين مجموعة سقط الزند ومجموعة اللزوميات فرق عظيم جدًا عند من لا يعرف، أما أنا — وأنا باحث يزعم أنه يعرف — فأحكم بأن المعري انتقل من بلاء إلى بلاء، وأراه في سقط الزند مولعًا بالإغراب، أعني تصيد الغريب من الأخيلة والألفاظ والتعابير، وأراه في اللزوميات مريضًا بعلتين: الاغراب والبديعيات.

هل كان المعري يجهل أنه يجني على اللغة العربية بما صنع؟ هل كان يجهل أنه في أغلب أحواله يخاطب أهل العراق وأهل الشام بما لا يفهمون؟ هل كان يجهل أن في سقط الزند واللزوميات ورسالة الغفران شطرات وفقرات لا يفهمها المتفهم إلا بعد التأمل العميق؟ هل كان يجهل أن البيان الحق هو الذي يروعك لأول نظرة كما يروعك الجمال الفصيح؟

ما كان أبو العلاء يجهل ذلك أو بعض ذلك، وإنما كان رجلًا لبقًا يعرف مواضع الضعف فيمن عاصروه فغزاهم بلا رحمة ولا إشفاق.

قد يقول القارئ: وما محصول هذا الكلام؟

وأجيب بأن هذه النزعة هي الشاهد على أنه لم يكن في دنياه من الزاهدين، ولو أنه كان زاهدًا لانصرف عن حيازة ما يملك معاصروه من زخرف وبريق، وهو قد انتهب ثروتهم فاعتز بها واستطال.

كان المعري سياسيًا في حياته الأدبية، والسياسي لا يكون صحيحًا سليمًا إلا إن استراح إلى أوهام الناس فتملق أهواءهم بلا تهيب ولا استحياء، وكذلك صنع المعري فتكلف الغريب من الأخيلة والألفاظ والتعابير؛ لأن الغريب كان في ذلك العهد رائج السوق في مصر والشام والعراق.

ولو كان الرجل زاهدًا في المجد الأدبي لظهرت الحكمة على لسانه سمحة سهلة لا يشويها تكلف ولا افتعال، ولكن القارئ لن يسكت، فقد يكون ألأم مني، فيسأل: وأين أنت من الزاهد الذي حرم على نفسه لحم الحيوان؟

إن قال ذلك فإني سأقنعه بأيسر جهد، فقد اتفق لي أن أعيش نباتيًا في باريس زمنًا غير قليل، وما كنت مخلصًا كل الإخلاص في إيثار الحياة النباتية، وإنما أردت أن أعرف سر المذهب النباتي لأكتب عنه بحثًا أو بحثين، وحالي في هذا أقرب إلى النزاهة من حال أبي العلاء، فقد حرم على نفسه لحم الحيوان ليوهم الغافلين أنه تفرد بالرحمة والشفقة والعطف، وما كان في حقيقة أمره إلا آكل لحوم، وستعرفون صدق هذا الكلام بعد لحظة أو لحظتين.

هل يذكر القارئ ما وقع لأبي العلاء يوم مرض؟

مرض أبو العلاء — عفا الله عنه وعني — فنصحه الطبيب بالحمية وحين اطمأن الطبيب إلى نجاته من المرض وصف له فروجًا — والفروج فرخ الدجاج — ودارت يد أبي العلاء حول جسم الفروج في ترفق مصطنع، ثم هتف: استضعفوك فوصفوك، هلا وصفوا شبل الأسد؟!

الله أكبر! ذلك هو منطق شيخنا أبي العلاء.

فهل كان يظن هذا الشيخ أن الطبيب يستطيع أن يصف له شبل الأسد؟ إن نثيرة واحدة من شبل الأسد كانت تكفي لنقل أبي العلاء إلى حظيرة الأموات، ولكن الرجل استطاب الضحك على المغفلين من أبناء ذلك الزمان.

هل زهد أبو العلاء في أكل اللحم؟ هذا تمويه وتضليل، كان الرجل يتحرج من لحم الطير والحيوان، ولكنه كان مولعًا بأكل اللحم المحرم — لحم الإنسان — فما ترك فئة ولا جماعة إلا انتاش لحمها بأنياب حداد.

لقد انسحب المعري من المجتمع، وما كان ذلك بابا من الزهد، وإنما كان فرار المناضل الذي تعب من النضال، وماذا صنع المعري حين انسحب من المجتمع؟ أترونه نظر إليه نظر الرفق والعطف، وذلك واجب الفيلسوف؟

ما صنع شيئًا من ذلك، وإنما قضى دهره في أكل لحوم المجتمع، ولو كان قلبه أحس النور لعرف أن المجتمع قد يفسد من حيث لا يريد، لو كان قلبه أحس النور لعرف أن المجتمع غير مسئول عما يعاني من أوهام وأضاليل، فتلك مواريث القرون الطوال، لو كان المعري على شيء من الصفاء لأدرك أن المجرم قد يجرم وهو غير مسئول.

ولو كنت أستبيح لحم المعري كما استباح لحوم الناس، لقلت إن ثورته على المجتمع كانت ضربًا من الانتقام الأثيم، فالرجل كان يعرف أن أهل زمانه يتهمونه بالمروق من الدين، فشاء له هواه أن يسجل مخازيهم ومآثمهم وأن يفضحهم في العالمين.

قد يقول القارئ مرة ثانية: وما محصول هذا الكلام؟

وأجيب بأن هذا النزق هو دليل الحيوية، فالمعرى كان يناضل نضال الأحياء.

وما أعيب على غير التناقض في فهم الرحمة، فهو كان يعطف على جميع المخلوقات إلا الإنسان، ولو أنه دخل في معركة مع الطير أو الحيوان لنظم في ثلبها مجموعة أعنف من اللزوميات.

كانت نظرات أبي العلاء إلى المجتمع نظرات عوام لا خواص، وأنا أرتاب كل الارتياب في أن يكون هذا الرجل حاول التوفيق بين سيطرة المقادير وضعف الناس، وأكاد أجزم بأنه لم يدرك خطر العسف، عسف الحاكم الذي يبيح فتح الحانات ثم يعاقب الناس على الشراب.

أما آراؤه في الزهد والزهاد فهي أضاحيك، وهي تشهد بأنه لم يعرف الزهد، لأنه كان في سريرة نفسه يؤمن بأن الناس لا يزهدون إلا مخادعين أو مرائين، ولعله لم يزهد إلا خداعًا، أو رياء. بل لعله جهل كيف لطف الله به حين حجب بصره عن أسباب الشهوات، فلو أن الله كان حفظ عليه نور العيون لعرف أن الفضائل لا تشق ولا تصعب إلا على من يقارعون فتن الوجود. لو أن أبا العلاء كان مبصرًا لرحم الناس. لو أن أبا العلاء كان مبصرًا لعرف صدق الحكمة التي تقول: «القابض على دينه كالقابض على الجمر». لو أن أبا العلاء كان مبصرًا لعرف أن الرجل لا يستطيع البعد عن مواطن الشبهات إلا حين تكون عزيمته أرزن من الجبال.

لو أن أبا العلاء كان مبصرًا لعرف أن الناس لا ينخدعون لمظاهر الفتون لاهين أو لاعبين.

من أنت والإنسانية يا أبا العلاء؟ من أنت والإنسانية حتى تفضحها بذلك الكتاب الذي اسمه اللزوميات؟

أيها الرجل العظيم! إني أرثى لك وأعطف عليك، فقد حرمتك الأقدار من نعمة الجهاد في سبيل الفضيلة، حرمتك الأقدار من أسباب الشهوات فلم تكتب لك صفحة واحدة في كتاب الجهاد.

وكيف يحتاج إلى جهاد النفس من يحبس نفسه في بيته ولا يأكل غير البقول؟

كيف يحتاج إلى جهاد النفس من يقضي الدهر ولا تقع عينه على وجه جميل؟

كيف يحتاج إلى جهاد النفس من لا تذوق روحه صهباء الوجود؟

أغلقت أبواب الجهاد الأكبر — جهاد النفس — في وجه أبي العلاء منذ أصبح رهين المحبسين، ومنذ اكتفى بالطعام الذي لا يوقظ شهوات الحواس، ولكن بقى أمامه باب واحد من أبواب الجهاد، هو نزاهة الأذن ونزاهة اللسان، فماذا صنع؟

لقد أصبح أبو العلاء في ذمة التاريخ، وما يضره أن نتجنى عليه، ولو كنت أعتقد أنه يتأذى لحبست عنه قلمي، وفي حدود هذا التحفظ أقول إن الرجل أقام أذنيه مقام عينيه فعرف من صور المجتمع كل شيء، وكان له فيما أفترض أصحاب ينقلون إليه سوءات الناس فيمضي في ثلبهم وذمهم وتجريحهم بلا ترفق، وكذلك حرم من روح التصوف فلم يعرف معنى العطف على مصائب الناس.

•••

قلت إن أبا العلاء كان ينتقم من المجتمع، وأقول مرة ثانية إن ذلك دليل الحيوية، فمن الذي يحرم على هذا الرجل أن ينتقم من أهل عصره وقد آذوه أشنع إيذاء؟

ومن الذي يملك من الصبر ما يكف به لسانه عن عورات الناس في بعض الأحيان؟

إن أبا العلاء هجم على المنافقين، والقرآن استباح الهجوم على المنافقين، وما يمكن أن نعيب على أبي العلاء ما استباحه القرآن. إن أبا العلاء هجم على رجال الدين، ولا غرابة في ذلك، فرجال الدين أنفسهم يهجم بعضهم على بعض، إن أبا العلاء أعلن يأسه من الإنسانية، فهل استطاعت الإنسانية أن تحمي أهل الصدق والوفاء؟ إن أبا العلاء سخر من تعدد الديانات والمذاهب، فهل استطاع المصلحون أن يمحوا أسباب الخلاف بين الديانات والمذاهب؟

إن أبا العلاء جزم بأن بني آدم:

ما فيهم بر ولا صالح
إلا إلى نفع له يجلب

فهل استطاع بنو آدم أن يقيموا الدليل على خطأ هذا الظن الأثيم؟

إن أبا العلاء حكم بأن المرأة إذا شربت الكأس فقد تعرت، فهل اكتسى من بعده النساء؟ إن أبا العلاء حدثنا بأن ناسًا ينهون عن الخمر في الصباح ويشربونها في المساء، فهل انقرض هذا النوع من النفاق البغيض؟

أسرف أبو العلاء في تجريح الإنسانية، وقد أنصف، فهذه الإنسانية الباغية تحتاج إلى من يفضح بغيها من حين إلى حين، ومن هم بنو آدم حتى يعطف عليهم أبو العلاء؟

هل عاش فيهم مصلح إلا بغصة أليمة لا يزحزحها في حلقة غير الموت؟

وهل كانت تواريخ الأنبياء إلا سلسلة من الرزايا والنكبات؟

وما الذي كان يصنع أبو العلاء والدنيا من حوله تضج بالظلم والعسف والزور والبهتان؟

إن أشعار أبي العلاء سجل صحيح لأوهام الإنسانية، فلتكذبه الإنسانية الباغية إن استطاعت.

لم يعرف الناس أن أبا العلاء رجل ضرير، وأن من كان في مثل حاله خليق بالشفقة والعطف، وهم تعقبوه بقالة السوء من أرض إلى أرض، فلتكن قالته فيهم وصمة باقية على الزمان.

ولكن ما هذا الذي صنعت بالناس يا أبا العلاء؟ إن عماك أخف من عماهم، هم جميعًا مساكين صحت فيهم كلمة من يقول:

ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء

أنت عبت النفاق على رجال الدين، فكيف غاب عنك أن رجال الدين لم يعش بينهم رجل صريح؟ أنت عبت الظلم على الحكام، فكيف غاب عنك أن الحاكم العادل جزاؤه الخسران؟ أنت أنكرت تعدد الديانات والمذاهب، فكيف غاب عنك أن لله حكمة في هذا التعدد؟

أنت رجوت أن يكون الناس حكماء، وما استطعت أن تكون حكيمًا.

أنت رجوت أن يضبط الناس ألسنتهم، ثم عجزت عن ضبط لسانك.

أنت عشت في قرية صغيرة ولم يسلم عقلك من الفتون، فكيف رجوت السلامة لمن عاشوا في كبريات المدائن، وصارعوا فواتك الأهواء؟

•••

أما بعد، فأنا أشهد أن المعري كان رجلًا عظيمًا، بدليل أنه عاش نحو ألف سنة على ألسنة الناس في المشرقين والمغربين، ولو كان حقيرًا لمات يوم مات.

والمعري له أخطاء لا تحتملها الملائكة ولا الشياطين، وله عندي عذر مقبول، فقد كان على عظمته شخصًا من بني آدم، آدم المسكين الذي أغوته امرأة حمقاء فنزل إلى الأرض بعد أن كان يسكن فراديس الجنان.

عفا الله عنك يا أبا العلاء وعفا عني!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤