الفصل السادس

في نوادر الأمين والمأمون

الأمين مع جعفر بن موسى

حكي أن جعفر بن موسى الهادي كانت له جارية عوادة اسمها البدر الكبير، ولم يكن في زمانها أحسن منها وجهًا ولا أعدل قدًا ولا ألطف معنًى ولا أعرف بصناعة الغناء وضرب الأوتار، وكانت في غاية الجمال، ونهاية الظرف والكمال، فسمع بخبرها محمد الأمين بن زبيدة والتمس من جعفر أن يبيعها له، فقال له جعفر: أنت تعلم أنه لا يليق بمثلي بيع الجواري والمساومة على السراري، ولولا أنها تربية داري لأرسلتها هدية إليك ولم أبخل بها عليك، ثم إن محمدًا الأمين بن زبيدة توجه يومًا لقصد الطرب إلى دار جعفر فأحضر له ما يحسن حضوره بين الأحباب، وأمر جاريته البدر الكبير أن تغني له وتطربه، فأصلحت الآلات وغنت بأطيب النغمات، فأخذ محمد الأمين بن زبيدة في الشراب والطرب وأمر السقائين أن يكثروا الشراب على جعفر حتى يسكروه، ثم أخذ الجارية معه وانصرف إلى داره.

فلما أصبح الصباح أمر باستدعاء جعفر، فلما حضر قدم بين يديه الشراب وأمر الجارية أن تغني له من داخل الستارة، فسمع جعفر صوتها فعرفها فاغتاظ لذلك ولكنه لم يُظهر غيظًا لشرف نفسه وعلو همته، ولم يبدِ تغيرًا في منادمته، فلما انقضى مجلس الشراب أمر محمد الأمين بن زبيدة بعض أتباعه أن يملأ الزورق الذي ركب فيه جعفر إليه من الدراهم والدنانير وأصناف الجواهر واليواقيت والثياب الفاخرة والأموال الباهرة، ففعل ما أمر به حتى إنه وضع في الزورق ألف بدرة وألف درة قيمة الدرة عشرون ألف درهم، ولم يزل يضع فيه أصناف التحف حتى استغاث الملاحون وقالوا: ما يقدر الزورق أن يحمل شيئًا آخر وأمر بحمله إلى دار جعفر.

أبو النواس والأمين

قال أبو النواس يمدح الأمين ويذكر فضل البرامكة:

يا دار ما صنعت بك الأيام
لم يبقَ فيك بشارةٌ تمتامُ
عدم الزمان على الذين عهدتهم
بك قاطنين وللزمان عرام
أيام لا أخشى لزينب منزلًا
إلا مخالسةً عليَّ لمام
ولقد نهزت مع الرواة بدراهم
وأسمت سرح اللهو حيث أساموا
وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه
فإذا غضارة كل ذاك أثام
وإذا المطيُّ بنا بلغن محمدًا
فظهورهن على الرجال حرام
قربتنا من خير من وطئ الثرى
فلها علينا حرمة وذمام
رُفع الحجاب لنا فبان لناظرٍ
قمرٌ تقطع دونه الأوهام
ملك أغر إذا نظرت بوجهه
لم يروِك التبجيل والإعظام

أبو النواس والأمين وسليمان بن المنصور

حصلت عداوة بين أبي النواس وسليمان بن المنصور فأمر الأمين بحبس أبي النواس، فلما طال حبسه كتب إليه بهذه الأبيات:

تذكر أمين الله والعهد يذكر
مقالي وإنشاديك والناس حضَّرُ
ونثري عليك الدرّ يا درَّ هاشم
فيا من رأى درًا على الدر ينثر
أبوك الذي لم تملك الأرض مثله
وعمك موسى عدله المتخير
ومن مثل منصور بن منصور هاشم
ومنصور قحطان إذا عد مفخر
وجدك مهدي الهدى وشقيقه
أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر
فمن ذا الذي يرمي بسهميك في العلا
وعبد مناف والداك وحمير
تحسنت الدنيا بحسن خليفة
وهو الصبح إلا أنه الدهر مسفر
يشبُّ إليه الجود من وجناته
وينظر من أعطافه حين ينظر
مضت لي شهور مذ حُبست ثلاثة
كأني قد أذنبت ما ليس يغفر
فإن أكُ لم أذنب ففيم عقوبتي
وإن كنت ذا ذنب فعفوك أكبر

فلما قرأ محمد الأبيات قال: أخرجوه وأجزوه ولو غضب أولاد المنصور كلهم.

النضر والمأمون

قال النضر: دخلت ليلةً على المأمون للمسامرة بمرو وعلي قميصٌ مرقوع، فقال: يا نضر ما هذا القشف؟ قلت: يا أمير المؤمنين أنا رجل كبير ضعيف وحرّ مرو شديد أتبدل بهذه الثياب الخليقة، قال: لا ولكنه تَنسُّك، ثم تجاوبا في الحديث فقال المأمون: حدثني هشيم عن النبي قال: «إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سَدَاد عن عون»، قلت: صدق فوك عن هشيم يا أمير المؤمنين، حدثني عوف بن أبي جميلة الأعرابي عن النبي قال: «إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سِدَاد عن عون»، وكان المأمون متكئًا فانتصب وقال: كيف قلت يا نضر سِداد بكسر السين، فقلت: يا أمير المؤمنين السداد بفتح السين هنا لحن، قال: أو تلحنني يا نضر؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين ولكن لحن هشيم وكان لحانًا، فتبع أمير المؤمنين لفظه وقد تتبع الفقهاء، فقال: ما الفرق بينهما، قلت: السَّداد القصد في الدين والسبيل، والسِّداد البلغة وكل شيء سددت به شيئًا هو سِداد، قال: أوتعرف العرب هذا؟ قلت: نعم هذا العربي يقول وهو من ولد عثمان بن عفان:

أضاعوني وأي فتًى أضاعوا
ليوم كريهة وسِداد ثغر

فأطرق المأمون مليًّا ثم قال: قبَّح الله من لا أدب له، ثم قال: أنشدني يا نضر أخلب بيت قاله العرب، فقلت: قول ابن بيض في الحكم بن مروان:

تقول لي والعيون هاجعة
أقم علينا يومًا فلم أقمِ
أي الوجوه انتجعت قلت لها
وأي وجه إلا إلى الحكم
متى يقل حاجبًا يرادفه
هذا ابن بيض بالباب يبتسم
قد كنت أسلمت فيك مقتبلًا
وها أنا ذا داخل فأعطني سلمي

فقال المأمون: لله درك، فكأنما فتح لك قلبي، أنشدني ألطف بيت للعرب، قلت: قول ابن أبي عروبة المديني:

إني وإن كان ابن عمي غائبًا
لمزاحمٌ من خلفه وورائه
ومعيده نصري ولو كان امرءًا
متزحزحًا في أمره وسمائه
وأكون والي أمره فأصونه
حتى يحق علي وقت أدائه
وإذا الحوادث أحجمت بسوائهم
قربت صحيحتنا إلى جربائه
وإذا دعي باسمي لأركب مركبًا
صعبًا ركبت له على سلمائه
وإذا ارتدى ثوبًا كريمًا لم أقل
يا ليت أن على فضل ردائه

فقال: أحسنت يا نضر، أنشدني أقنع بيت قالته العرب فأنشدته:

أني امرؤٌ لم أزل وذاك من
الله أديبًا أعلم الأدبا
أقسم بالله ما اطمئنت بي الـ
دار وإن كنت نازحًا طربا
لا أجتوي حلمة الصديق ولا
أبغي لنفسي شيئًا إذا ذهبا
أطلب ما يطلب الكريم من الـ
رزق بنفسي وأحمل الطلبا
وأجلب البرَّة الصفي ولا
أجهد أخلاف غيرها طلبا
إني رأيت الفتى الكريم إذا
رغَّبته في صنيعه رغبا
والعبد لا يطلب العلاءَ ولا
يعطيك شيئًا إلا إذا وهبا
مثل الحمار الموقع السوء لا
يحسن شيئًا إلَّا إذا ضربا
ولم أجد عروة الخلائق إلـ
ـلا الدين لما اختبرت والحسدا
لم يرزق الخافض المقيم ولا
شدَّ بعنس رحلًا ولا قتبا
ويحرم الرزق ذو المطية والر
راجل من لا يزال مغتربا

قال: أحسنت يا نضر فعندك ضدها؟ قلت: نعم أحسن منها، قال: هات، فأنشدته:

يد المعروف غنم حيث كانت
تحملها كفورٌ أو شكور

قال: أحسنت يا نضر، ما تملك؟ قلت: أريضة تمر وأنصابها، قال: أوَلا نزيدك مع ذلك مالا؟ فقلت: إني إليه لمحتاج، فأخذ قرطاسًا فكتب ولم أدرِ ما يكتب، ثم قال: كيف تقول من التراب إذا أمرت أن يترب؟ قلت: أتربه، قال من الطين؟ قلت: طنه، قال: فهو ماذا؟ قلت: مترب ومطين، فقال: هذا أحسن من الأولى، ثم قال للغلام: أتربه وطنه — أي: هبه أرضًا وطينًا — ثم قام وصلى بنا العشاء فلما فرغ قال لخادمه: تسير معه إلى الفضل بن سهل، فلما وصلنا إليه وقرأ الورقة قال: يا نضر إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم فما كان السبب، فأفدته ولم أكذب، فقال: ولحنت أمير المؤمنين، قلت: لا، ولكن لحن هشيم وكان لحانًا، فتبع أمير المؤمنين لفظته وقد تتبع الفقهاء، فأمر لي الفضل من عنده بثلاثين ألف درهم أخرى فقبضت ثمانين ألفًا بكلمة استفادها.

المأمون وابن الأعرابي

قال المأمون لابن الأعرابي: أخبرني عن أحسن ما قيل في الشراب، فقال: يا أمير المؤمنين قوله:

تريك القذى من دونها وهي دونه
إذا ذاقها من ذاقها يتمطق

قال: أشعر منه الذي يقول يعني أبا نواس:

فتمشت في مفاصلهم
كتمشي البرء في السقم
فعلت في البيت إذ مزجت
مثل فعل الصبح في الظلم
فاهتدى ساري الظلام بها
كاهتداء السفر بالعلم

فقلت فائدة يا أمير المؤمنين، فقال: أخبرني عن قول هند بنت عتبة:

نحن بنات طارق
نمشي على النمارق

من طارق هذا؟ فنظرت في نسبها فلم أجده، فقلت: يا أمير المؤمنين لا أعرف طارقًا في نسبها، فقال: إنما أرادت النجم، فانتسبت إليه بحسنها من قوله تعالى: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (الطارق: ١) فقلت: فائدتان يا أمير المؤمنين، فقال: أنا لؤلؤ هذا الأمر وابن لؤلؤَة. ثم رمى إليَّ بعنبرة كان يقلبها في يده فبعتها بخمسة آلاف درهم.

المأمون ومحمد بن الجهم

قال محمد بن الجهم: دعاني المأمون فقال: أنشدني بيت مدح نادر فأنشدته:

يجود بالنفس إن ضنَّ الجواد بها
والجود بالنفس أقصى غاية الجود

فقال: قد وليتك همذان، فأنشدني بيت هجاء نادر فأنشدته:

قبحت مناظره فحين خبرته
حسنت مناظره بقبح المخبر

قال: قد وليتك الدينور، فأنشدني بيت مرثية نادرًا فأنشدته:

أرادوا ليضفوا قبره عن عدوه
فطيب تراب القبر دلَّ على القبر

فقال: قد وليتك نهاوند، فأنشدني بيت غزل نادرًا فأنشدته:

حبٌّ مجدٌّ وحبيبٌ يلعبُ
والقلب ما بينهما معذَّب

تهنئة العباس للمأمون

ولما ولد جعفر بن المأمون هنئوه بصنوف التهاني، وكان فيمن دخل العباس بن الأحنف، فمثل قائمًا بين يديه ثم أنشأ يقول:

مد لك الله الحياة مدَّا
حتى ترا ابنك هذا جدّا
ثم يفدَّا مثلما تفدَّا
كأنه أنت إذا تبدّا
أشبه منك قامة وقدَّا
مؤزَّرًا بمجده مردَّا

فأمر له بعشرة آلاف درهم.

كرم المأمون

قال القاضي يحيى بن أكثم: وقد رآه وقع في يوم واحد بثلاثمائة ألف دينار وعرض عليه من القصص ما يزيد عن الحد، فوقع في الجميع ولم يضجر، فقلت يا أمير المؤمنين:

كأنك في الكتاب وجدت لاءً
محرمة عليك فلا تحلُّ
فما تدري إذا أعطيت مالًا
أيكثر من عطائك أم يقلُّ

فقال له: يا قاضي إنما تطلب الدنيا لتملك فإذا ملكت فلتَهِب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤