الفصل التاسع

ألمانيا بين (١٨١٥–١٨٤٨): النضال بين الثورة والرجعية في بروسيا والنمسا

(١) تمهيد: ألمانيا بعد ١٨١٥

شهدت السنوات بعد ١٨١٥ تصفية الجماعة الوطنية في ألمانيا، والتي عرفنا أنها كانت قد نشأت منذ ١٨١٣؛ لمقاومة السيطرة الفرنسية «النابليونية»، وخوض غمار الحرب لتحرير ألمانيا، وهناك أسباب عدة لتصفية هذه الجماعة الوطنية؛ لعل أهمها الشعور بخيبة الأمل عندما صدم الوطنيون في معاهدات الصلح، التي أنهت الصراع في أوروبا ضد نابليون، فأضفت معاهدة باريس (٣٠ مايو ١٨١٤) الجماعة أو الحزب الوطني في ألمانيا؛ لأنها «بتساهلها» في نظرهم قد جعلت فرنسا تخرج من الحرب، بشروط أفضل كثيرًا مما كان ينبغي أنْ يكون نصيبها الحق. وندد هؤلاء الوطنيون الألمان بأنانية الدول العظمى، خصوصًا روسيا المتعجرفة، والتي ادعت لنفسها زعامة العالم وإرشاده، والتي تدخلت في شئون ألمانيا الداخلية، ونددوا كذلك بإنجلترة، التي أساءت استخدام ما تمتعت به من ضروب التفوق في الحقل الاقتصادي؛ لإلحاق الأذى لألمانيا ووقف نهضتها، وفَسَّرَ الوطنيون الألمان كل الذي وقع بأن بلادهم كانت ضعيفة لدرجة إغراء الغير بها، فلو أنَّ ألمانيا كانت «دولة» موحدة بدلًا من كل تلك الإمارات والدويلات المتفرقة، لسارت الأحداث في طريق آخر، وقضت خيبة الأمل هذه على «المواطنية العالمية»، التي كنا تحدثنا عنها في فصول «أوروبا والإمبراطورية»، وساد الاعتقاد الآن بين هؤلاء الوطنيين الألمان بأنهم كانوا مخدوعين بمثل «الإنسانية»، تلك «المثل» العليا التي اختفت أمام مخاوف الألمان على الحقوق التي لألمانيا، والتي يجب في نظرهم الآن ضمانها والمحافظة عليها قبل أي اعتبار آخر، أمَّا الوسيلة إلى ذلك، فهي بمنع أي تدخل «أجنبي» في شئون بلادهم الداخلية.

وثمة خيبة أمل كبيرة أخرى، هي أنَّ الوطنيين الألمان لم يظفروا بإعادة «الإمبراطورية الألمانية»، لقد كان حلمهم الكبير أنْ تتأسس وحدة بألمانيا مرة ثانية، باعتبار أنَّ هذه الوحدة كانت موجودة في القرن العاشر الميلادي في عهد الإمبراطور أوتو الأول، وعقد الوطنيون الألمان آمالًا كبيرة على إنشاء هذه الوحدة بعد الحروب النابليونية، فكتب «آرندت»: «الوحدة في أقوى صورها وأعظم درجات نشاطها، ذلك ما تريده ألمانيا، وذلك ما هو ضروري لأمنها الخارجي، ولرخائها الداخلي، ويا لسوء طالع السياسيين في المؤتمر (مؤتمر فينا) إذا هم لم يفهموا ذلك.» ونشرت إحدى المجلات — Nemesis أو آلهة الانتقام — مقالًا جاء فيه: «يجب علينا قبل كل شيء المطالبة بأن يكون لنا إمبراطور … فلنحصل فقط على إمبراطور، وما نحصل عليه بعد ذلك فهو زيادة وفضل، وحينئذٍ تستعيد ألمانيا مكانتها وهي المرتبة الأولى بين أمم العالم، وحينئذٍ تتمتع ألمانيا بالحرية المطلقة.» وفي بداية سنة ١٨١٥ نشر جوريز Goerres١ محاورة بعنوان «إمبراطورية وإمبراطور» اشترك فيها «نمسوي وسكسوني» و«بروس وكاثوليكي … إلخ»، يعرض فيها كل واحد منهم نظرية جماعته وعقيدة حزبه، وقد اتفقت كلمة هؤلاء على ضرورة إنهاء الوضع السائد بألمانيا؛ وذلك لأن «الأوضاع القديمة لا يمكن أنْ تبقى إلى الأبد، بل يجب أنْ تبرز إلى عالم الوجود أشكال وصور جديدة، فتقوم دول ألمانية كبيرة وقوية، ولا غضاضة في شيء إذا صحب هذا الحادث بعض الظلم، فسوف يمحو الزمن أثره، فحينئذٍ سوف تنبت النباتات وتنمو.» واستطاع «جوريز» أنْ يدرك أنه إذا تعذر إعادة تنظيم ألمانيا بالطرق السياسية، فلن يكون بعيدًا اليوم الذي سوف يتم فيه هذا التنظيم بطرق الحرب والقوة، فهو يقول: «إنَّ ما يتنبأ به القدماء في قولهم: إنَّ الغلبة والزعامة من نصيب القوة، لا يزال غير متحقق، ولكن عند تحقيق هذه النبوءة سيكون خلاصنا، فزعامة أو غلبة القوة هي التي سوف تحسم المسائل بضربة سيف، وهي التي سوف تعمل بالدم والحديد، وهي التي سوف تمحو كل شيء لتجعل ألمانيا مسطحًا أملس، تستطيع أخيرًا أنْ تسجل عليه الثورة آثارها، ومع أنه لا يزال هناك متسع من الوقت فإن أحدًا لا يريد تأسيس دستور صحيح، فلا معدى إذن عن القوة لتحقيق ما عجز الناس عن فعله بمحض إرادتهم.»

على أنَّ الذي حصل في تسويات الصلح في فينا، لم يكن ما أراده هؤلاء الوطنيون الألمان، فتعذر تأسيس الإمبراطورية الألمانية من جديد، عندما لم تشأ النمسا أنْ يكون تاج الإمبراطورية الألماني من نصيبها. ورفضت بروسيا أنْ تقوم سلطة أعلى تدين لها المملكة «البروسية» بالطاعة، ووجد المؤتمر لذلك أنه بدلًا من إعادة تأسيس الوحدة أو الإمبراطوريَّة الألمانيَّة، قد أخرج إلى عالم الوجود ذلك «الاتحاد الألماني» — الكونفدرائي — الذي عرفنا أنه لم يكن حتى دولة اتحادية فدرائية، بل أنشأ نوعًا من «الدولة المتوازنة»؛ أي التي تقوم في الاعتبار الأول على توزيع القوى بين وحدات سياسية متعددة بها، بصورة تحفظ التوازن بين هذه القوى الْمُجَزَّأة جميعها؛ وذلك لضمان أنْ يسود السلم ألمانيا، فلا تكون مصدر أخطار على جيرانها في أوروبا. ولقد ساد السلم حقيقة ألمانيا، فلم تكن في السنوات التالية حتى منتصف هذا القرن «التاسع عشر» مصدر أخطار على جيرانها، ولكن السبب الرئيسي في ذلك كان الجمود الذي أصاب ألمانيا، وعدم الحركة الذي أفقدها نشاطها عقب تسويات الصلح في فينا.

وإزاء هذا الفشل في إعادة الوحدة، أو الإمبراطورية الألمانية لم يحرك سواد الشعب الألماني ساكنًا، ذلك بأن المحلية أو الإقليمية كانت لا تزال متسلطة على أفكار الناس عمومًا، ولا تزال الشعوب متعلقة بحكامها وأمرائها القدامى في شتى الدويلات والإمارات التي تألَّفت منها ألمانيا، فيروي المؤرخون للتدليل على مبلغ هذه المحبة، قصة حاكم هس كاسل الذي فرَّ من البلاد وقت الخطر حاملًا معه كل ثروته، حتى إذا انقضى الخطر، وحلَّت الهزيمة «بنابليون» رجع إلى بلاده، فقال أحد الفلاحين: «حقًّا، إنه حمار كبير، ولكنه الرجل الذي نريده بالرغم من كل ذلك!» وزيادة على ذلك فقد شُغل الألمان بمحاولة التغلب على الصعوبات المادية التي صارت تعترض حياتهم الآن، بعد أنْ أنهكت الحروب الطويلة البلاد، ولم تلبث أنْ أغرقت الأمطار الزراعات في سنة ١٨١٦، فلم يكد يكون هناك أي محصول، وانتشرت المجاعة في شتاء وربيع العام التالي (١٨١٧)، وصار الشحاذون يطوفون البلاد في جماعات، في حين قضي على الصناعة عندما تدفقت المصنوعات الإنجليزية على ألمانيا، وعجزت هذه الأخيرة عن تصدير سلعها إلى الخارج؛ بسبب الضرائب الجمركية المانعة التي أقامتها كل من فرنسا من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى على حدودهما، واستغرق الاهتمام لذلك بشئون الحياة المادية كل نشاط الطبقة البورجوازية، وطبقة الفلاحين على حدٍّ سواء، فلم يعد أحد يفكر في شيء أسمى من مطالب الحياة الضرورية والمباشرة.

وتبددت آمال الوطنيين الألمان عندما لم يظفروا بالحرية الداخلية التي أرادوها، والتي بذل المسئولون مثل: «ستين» و«فردريك وليم» الوعود بتحقيقها في النداءات العديدة التي وجهها هؤلاء للشعب أثناء النضال ضد نابليون والسيطرة الفرنسية، ولقد كان أقرب هذه الوعود ما صدر عن فردريك وليم الثالث عشية استئناف الحرب في سنة ١٨١٥، فقد أصدر الملك البروسي نداءً لشعبه في ٢٢ مايو ١٨١٥، يَعِد فيه بمنح الدستور ويقول: «إنَّ تمثيلًا أهليًّا سوف يجري تنظيمه، وإنَّ نشاط الجمعية الأهلية (أو الوطنية) سوف يمتد ليشمل كل ما يتعلق بالتشريع «واستصدار القوانين»، بما في ذلك الضرائب.» ومع ذلك فقد ساور الشك وقتئذ بعض الوطنيين الألمان في قيمة هذه الوعود، فقد كان «فيشته» الذي توفي في سنة ١٨١٤، يخشى أنْ يتخلى الملك البروسي عن وعوده، فقال: «إذا أصدر أمير أخضعه نابليون لسلطانه نداءً لشعبه، فمعنى ذلك أنَّ هذا الأمير إنما يريد من شعبه أنْ يقوم بالثورة، حتى يصبح الناس عبيدًا له، بدلًا من أنْ يكونوا عبيدًا لحاكم أجنبي، وتلك حماقة كبيرة، وليست وعود الأمراء إلَّا وسيلة يلجأ إليها هؤلاء عندما يتيقنون من فشل كل الوسائل الأخرى وعدم جدواها، ولا يجب أنْ يُراق الدم الألماني من أجل تأسيس امتيازات ينعم بها هؤلاء الأمراء على حساب شعوبهم.»

ولقد ساور هذا الشك نفسه «جوريز» الذي نشر في «كوبلتر»، ابتداءً من سنة ١٨١٤ جريدته المعروفة: عطارد الراين Rheinische Merkur، والتي ظهر آخر أعدادها بتاريخ ١٠ يناير ١٨١٦، فقد كتب في جريدته هذه:

إنَّ المرء لا يجب عليه الاعتقاد أنَّ بوسعه الاعتماد في الخلاص على المعاهدات، وعلى الكلمات أو الوعود الطيبة، لقد ضحى الشعب بخير ما لديه وهو يريد تعويضًا عن هذه التضحية.

وبحث السياسيون في مؤتمر فينا المشكلة الألمانية، وصادفوا أول ما صادفوا مشروعًا يقوم على قاعدة دستورية؛ «وذلك عندما نصَّ هذا المشروع على وجوب أنْ تغدو المجالس الحكومية في كل بلاد الاتحاد الكونفدرائي مجالس دستورية.» وهو مشروع لم يلبث أن اقترح أحد المندوبين «عن لكسمبرج» إدخال تعديل عليه، جاء فيه: «أنَّ أعضاء الاتحاد الكونفدرائي «الألماني»، يوافقون على استصدار دساتير تمثيلية — أي تكفل قيام أنظمة نيابية — في كل الحكومات الألمانية، وإنشاء مجالس (دياطات) بها لضمان هذه الدساتير، على أنْ يكون مكفولًا حق هذه الدياطات في إبداء الرأي والمشورة في كل ما يتعلق بالتشريعات والقوانين، وفي الموافقة على الضرائب، وفي رفع شكاياتهم إلى الحكام.» ولكن لم تلبث أنْ أسفرت المناقشة عن تضييق هذا المعنى شيئًا فشيئًا، حتى انتهى الأمر بوضع المادة الثالثة عشرة (من قانون الاتحاد الألماني الكونفدرائي)٢ بالصيغة المبهمة التالية: «سوف تكون هناك مجالس حكومية في كل بلاد الاتحاد الكونفدرائي.» وواضح أنَّ «المجالس الحكومية» عبارة مبهمة، وهي ليست «مجالس دستورية»، وقد يكون معناها؛ إعادة تأسيس مجالس الطبقات الإقليمية، من طراز المجالس التي وُجدت سنة ١٨٠٧، والتي كانت محرومة من كل سلطة، ثم إنَّ عبارة «سوف تكون هناك مجالس حكومية» لا تعني الإلزام، على خلاف ما لو كانت هذه العبارة بالصيغة التالية: يجب أنْ يكون هناك … إلخ، فكان طبيعيًّا أنْ يتندر الوطنيون الألمان بهذه المادة فيقولون: إنها نبوءة تعد بإنشاء المجالس وحسب، ولا يقصد منها تقرير حقيقة واقعة، ثم إنَّ الحكومات بمجرد أنْ صارت تصادفها المتاعب، لم تلبث أنْ تنكرت لوعودها، وكان فقط في ألمانيا الجنوبية، أنْ عمدت الحكومات إلى تنفيذ وعودها؛ لأنها لم تكن مطمئنة إلى قوتها، وصارت تعتقد بضرورة الاعتماد على تأييد الشعب لها.
وعلى ذلك فقد منح مكسمليان الأول ملك بفاريا شعبه دستورًا في ٢٦ مايو ١٨١٨، ثم حذا حذوه غراندوق بادن في شهر أغسطس، ثم إنَّ غليوم الأول ملك ورتمبرج منح شعبه دستورًا في ديسمبر من السنة نفسها، بعد مفاوضات طويلة مع مندوبي الشعب، وكان غليوم يريد أنْ يجمع حول ورتمبرج جماعة الوطنيين الألمان، ويلقى في هذه الرغبة تأييدًا من جانب القيصر إسكندر شقيق زوجته، وكان القيصر الروسي لا يزال متأثرًا بالآراء الحرَّة، ولقد نسج على منوال غليوم الأول كل من غراندوق دارمستاد Darmstadt، وغراندوق «نساو» وفي هانوفر — وملكها جورج الثالث ملك إنجلترة — تحول الدياط القديم إلى مجلس من غرفتين، على أنَّ الجدير بالملاحظة في كل هذه الدول أو الإمارات التي استصدرت الدساتير لشعوبها، كان للمجالس صوت استشاري فقط وفي أضيق الحدود، ولم يكن لها مناقشة القوانين أو اقتراحها، بل كان القلق يستبد «بالحكام» في هذه الإمارات والممالك إذا أرادت المجالس بحث أعمال الحكومة، ويجأرون بالشكوى من نشاط هذه المجالس «التمثيلية» للبرنس مترنخ، ممثل الرجعية في أوروبا في ذلك الحين.

أمَّا في الدويلات والحكومات الأخرى — أي في غير تلك التي صدرت بها الدساتير — فقد أُعيد بها، دون تحوير أو تعديل «النظام القديم»، فأقيمت بها المجالس (أو الدياطات) القديمة، التي لم يكن لها أي سلطات أو نفوذ.

وفي بروسيا وهي التي بذل ملكها الوعود بالحريات لشعبها، وفي عبارات أكثر دقة وصراحة، حدث رد الفعل بصورة أسرع وأكثر مباشرة مما حصل في غيرها من الإمارات والحكومات الألمانية؛ وذلك لأن الملك فردريك وليم قد أحاط نفسه بمستشارين من طراز «شمالز»٣  Schmalz وويتجنستاين Wittgenstein٤ من الرجعيين، وكان «شمالز» نسيبًا «لشارنهورست»، ويشغل مركزًا قضائيًّا كبيرًا في برلين، كما كان أستاذًا للقانون بجامعتها، وعيَّنه الملك أول مدير لهذه الجامعة، وقد أصدر «شمالز» في سنة ١٨١٥ كراسة يقيم فيها الحجة على أنَّ الشعور الثوري السائد في ألمانيا، إنما مرده إلى نشاط جماعات سرية، تألَّفت على غرار حلف الفضيلة Tugenbund القديم المناوئ للسيطرة الفرنسية، وأثار هذا «الادعاء» سخط الكثيرين واحتجاجاتهم، وكان «نيبور» و«شلير ماجر» من بين الذين احتجوا على ادعاءات «شمالز» واتهاماته، أمَّا «ويتجنستاين»، فكان موضع ثقة ملك بروسيا فردريك وليم الثالث وزوجه الملكة، ومنذ ١٨٠٦ كان له تأثير ظاهر على مجرى الحوادث في بروسيا، ثم إنه تعيَّن كبيرًا للأمناء عند عودة الملك إلى برلين في سنة ١٨١٠، وعمل بنشاط لتقليد «هاردنبرج» منصب المستشارية وكسب ثقته، حتى إذا تعيَّن رئيسًا للبوليس سنة ١٨١٢، أخذ يتعقب أنصار «حلف الفضيلة» الذين يسيئون للعلاقات بين فرنسا وبروسيا. ولقد بقي «ويتجنستاين» يشغل منصب وزير البوليس حتى بعد انتهاء المحالفة الفرنسية البروسية، وفي هذه الفترة التي نحن بصدد دراستها تعاون «ويتجنستان» تعاونًا وثيقًا مع «مترنخ»، أمَّا «هاردنبرج» فقد اضطر حتى يحتفظ بمكانته إلى مسايرة «الرجعيين»، وعلى ذلك فقد كان الطرد من الخدمة والانزواء على الأقل، ثم السجن أو المنفى لفريق منهم، نصيب الوطنيين الذين كان لهم الفضل في إحياء بروسيا، ومنعت الحكومة طبع محاضرات «فيشته» وتداولها، وعطلت السلطات صحيفة «جويرز» المعروفة؛ عطارد الراين (يناير ١٨١٦)، ولقد اضطر «جويرز» إلى الفرار إلى سويسرة، عندما أصدر في سنة ١٨١٩ كراسة بعنوان «ألمانيا والثورة»، وأمَّا «أرندت» و«ستين» وَمَنْ كانوا من طرازهما، فقد اضطروا جميعًا إلى الانزواء أو الصمت، بل لقد فقد «همبولدت» نفسه كل نفوذ. وفي (٢٩ مايو ١٨١٦) صدر قرار هدم الإصلاح الاجتماعي الذي حدث سنة ١٨١١.

وهكذا فقد اختفت في ألمانيا في شهور معدودة فقط الجماعة الوطنية بأسرها، حيث قد تشتت أفرادها أو لزموا الصمت، وأمكن بذلك تصفية «حركة ١٨١٣» بعد سنتين أو ثلاث سنوات فحسب تصفية تامة، واستطاع «مترنخ» أنْ يقطع ألمانيا في طريقه إلى مؤتمر «إكس لاشابل» في سنة ١٨١٨ في موكب من النصر، عندما استقبله الملوك والأمراء في كل مكان، بمظاهر الخضوع والطاعة.

(٢) الجامعات الألمانية و«البورشنشافت»

ومع ذلك فقد أمكن أن تعيش الحركة القومية بين شباب الجامعات، فلقد كان من بين الطلاب أنْ جاءت العناصر الوطنية الأولى التي حملت السلاح في سنة ١٨١٣، وبين شباب الجامعات هؤلاء أمكن الاحتفاظ بروح النضال القديمة، ووجد شباب الجامعات في بعض الأحايين زعماء يقودونهم، مثل: جاهن Jahn٥ الذي نشر التربية البدنية، وأنشأ في ألمانيا جمعيات الرياضة، وكان «جاهن» قد تلقى فنون الرياضة في الدانمرك، ثم لم يلبث أنْ صاغ لطلابه والملتفين حوله شعارًا: «أنْ يكونوا نشيطين متيقظين وأحرارًا، مستبشرين وسعداء، وأتقياء متورعين.»٦ وكره جاهن فرنسا، وكل ما هو فرنسي أو يمت بصلة لفرنسا كراهية شديدة، فهو حتى لا يستخدم كلمات تشبه في نطقها كلمات فرنسية، قد استعاض عن كلمة Universtat أي جامعة الألمانية، بتسمية الجامعة «بدار رياضة العقل»،٧ وكان «جاهن» صاحب آراء طريفة، فهو يشير بإقامة شريط من الصحراء، التي تقطنها الوحوش المفترسة بين فرنسا وألمانيا؛ وذلك لمنع الحروب بين البلدين، ولمنع غزو الفرنسيين لألمانيا، وأمَّا هؤلاء الشبان الذين التفوا حول «جاهن»، والذين ظلوا متأثرين بروح النضال التي ظهرت في سنة ١٨١٣، فإنهم قد أخذوا يدللون على وجودهم بارتداء لباس خاص — سُمِّي «بالزي الألماني» — يتألَّف من سترة طويلة «ردنجوت» ضيقة عند الوسط تعلوها بنيقة (ياقة) كبيرة، وينتعلون أحذية الفرسان الطويلة، ويتركون شعورهم مسترسلة وراء ظهورهم، في حين تغطي رءوسهم قلنسوة مزينة بريش من مختلف الألوان، وكان هؤلاء الشباب من أتباع «جاهن» سيئي التربية، شديدي الصخب، يشربون «الجعة» دون انقطاع، وذلك نخب «الروح المسيحية العسكرية» المتمثلة في جمعياتهم، وقد أسَّس هؤلاء في الجامعات الألمانية «جمعيات ألمانية»، بمجرد انتهاء الحرب التي أنهت السيطرة الفرنسية في ألمانيا، ولم يكن لدى هؤلاء فكرات أو نظريات سياسية معينة، بل إنَّ كل ما أرادوه كان لا يعدو تأمين عظمة ألمانيا، وذلك بتحررها من كل نفوذ أجنبي، وإعطائها فرصة الانطلاق الكامل على حد قولهم: «نحو الحياة الشعبية»، وبمعنى آخر: كان تفكيرهم ثم غرضهم الذي يسعون لتحقيقه، لا يزيدان على مجرد «تفسير» من درجة أدنى لبعض الآراء التي نادى بها «هردر».
على أنَّ نوعًا من عمليات «التطهير»، لم يلبث أن حدث في هذا الوسط الشديد الغليان تحت نفوذ المؤرخ هاينريش لودن Luden أحد أساتذة جامعة «يينا»، وكانت جامعة «يينا» وقتئذ أكبر الجامعات انتصارًا للمبادئ الحرَّة؛ لوجودها في غراندوقية ساكس فايمر، التي كان «جيته» وزيرًا بها، ولقد تألَّفت في هذه الجامعة بفضل «لودن» جمعية من الطلاب؛ لانتزاع زملائهم من نقاباتهم القديمة الْمُسَمَّاة بالفرق Korps، والتي يرجع تاريخها إلى العصور الوسطى، ثم لجمع هؤلاء الطلاب في اتحاد فدرائي يُسَمَّى بور شنشافت Burchenschaft؛ أي اتحاد الرفقاء٨ تسوده روح أسمى وأكثر وطنية وقومية، واتخذ هؤلاء راية لهم أعلام المتطوعين في حملة ١٨١٣، وكانت من ألوان ثلاثة؛ الأحمر والأسود والذهبي، وكان أعضاء «البور شنشافت» من أكثر الطلاب ميلًا للعنف وللصخب، كما اتصف فريق منهم بالرزانة، وبالولاء الشديد، بل ووجد من بينهم أتقياء كثيرون، وقد نظموا أنفسهم في فروع في كل الجهات في أنحاء ألمانيا.

والبورشنشافت هم الذين أقاموا احتفال ١٨ أكتوبر ١٨١٧ في قصر «ورتبرج»؛ لإحياء ذكرى مرور مائة عام على احتجاج مارتن لوثر على صكوك الغفران الذي علَّقه على باب كنيسة «وتنبرج»؛ وكذلك للاحتفال بذكرى موقعة «ليبزج»، أو معركة الأمم التي انهزم فيها نابليون قبل ذلك بأربع سنوات (١٨ أكتوبر ١٨١٣).

ولقد كان عند نهاية الاحتفال مساء هذا اليوم، أن أشعل الطلاب النار في كومات من الكتب من مؤلفات الْكُتَّاب الرجعيين، مثل؛ البرخت فون هالر Haller الذي نشر في سنة ١٨١٦ كتابًا عن عود أو رد العلوم السياسية إلى أصلها، كان عبارة عن نقص لنظرية جان جاك روسو عن العقد الاجتماعي، فرفض «هالر» الحقوق الطبيعية، والعقد الاجتماعي وسيادة الشعب، باعتبار أنها جميعها مناقضة لحقائق التاريخ، ثم لقيت نفس المصير كتابات فردريك أنسيلون Ancillon، وكان أحد أساتذة التاريخ في برلين، التحق بالبلاط منذ وقت مبكر، وصار مدرسًا لأفراد الأسرة المالكة، ومنذ ١٨١٠ صار مدرسًا لولي عهد بروسيا، «لسوء حظ بروسيا وألمانيا معًا»، ثم ضمَّه «هاردنبرج» إلى الحكومة سنة ١٨١٤، ولم يلبث أنْ عُرف بميوله الرجعية و«الإقطاعية»، ومن الذين حُرقت كتاباتهم كذلك، كان فون كامبتز Kamptz مدير البوليس في بروسيا، وأعدى أعداء الأحرار والقوميين، ورجال العلم والمعرفة، ثم «شمالر» — وقد سبق الكلام عنه — ثم كارل ليبريخت إيمرمان Immermann، الذي اشتهر فيما بعد كمؤلف ناجح، والذي كان قد دافع بحماس عن قضية أحد الطلاب الذي أساءت جمعية الطلبة في هال Halle معاملته، وكانت هذه جمعية تيوتونيا Teutonia، وقد حلَّت السلطات هذه الجمعية في العام السابق (١٨١٧)، ثم أخيرًا: أوجست فون كوتزبيو Kotezebue، وقد عرفنا كيف كان يراسل القيصر إسكندر الأول من فايمر، ويعمل جاسوسًا له في ألمانيا.

وإلى جانب هذه الكتب من نتاج الرجعيين الذين ذكرناهم، التهمت الحرائق في ذلك اليوم عصا أحد الأونباشية، وهي ترمز للجندية القديمة، ثم قلنسوة من الشعر الاصطناعي يضعها السادة على رءوسهم في «النظام القديم»، وترمز لهذا العهد البائد، ثم مشدًّا مما تصنعه النساء حول خصورهن كرمز للتخنث الذي يريدون القضاء عليه.

ومنذ شهر مايو ١٨١٨ اجتمع مندوبو أربع عشرة جامعة ألمانية لإنشاء اتحاد فدرائي «للبورشنشافت» لكل ألمانيا، وتزايد عدد هؤلاء المندوبين في الشهور التالية، وبين ١٠ و١٨ أكتوبر أمكن انعقاد اجتماع عام في «يينا» لما صار يُعرف باسم الاتحاد العام الألماني للبورشنشافت.٩
ولقد تميزت جامعة جيسين Giessen الصغيرة على وجه الخصوص في هس كاسل، بروح العنف التي كانت سائدة بها، والتي كان مبعثها تأثر الطلاب بنشاط كارل فولن Follon، أحد إخوة ثلاثة بذلوا قصارى جهدهم لنقل جمعيات الطلاب في الجامعات الألمانية إلى منظمات قومية. وجمع «كارل فولن» حوله الطلاب الذين صاروا هم وأتباع «فولن» عمومًا يُسَمُّون «بالمتصلبين» الذين لا يقبلون اتفاقًا أو تفاهمًا، وهم من الشبان المتطرفين والمتعصبين لمبادئهم، والذين استثارتهم بلاغة «فولن» وشعروا بالكراهية الشديدة للشاعر والروائي «كوتزبيو» صديق القيصر، والذي كان يبعث إليه بتقرير كل شهر عن التيارات الذهنية والحوادث في ألمانيا، ولقد نشرت مجلة الانتقام Nemesis أحد هذه التقارير، وكان قد عثر به الطلاب، وأقام «كوتزبيو» دعوى على «فولن»، الأمر الذي أثار حفيظة الطلاب وسخطهم، لدرجة أنَّ أحد هؤلاء «كارل ساند»، وكان ذا نزعة صوفية مع شيء من ضيق الذهن والفكر، لم يلبث أنْ أخذ على عاتقه — كما اعتقد — تحرير ألمانيا بالخلاص من كوتزبيو، فأقدم على قتله في ٢٣ مارس ١٨١٩، ومع أنَّ كارل ساند حاول الانتحار، إلَّا أنه قُبض عليه ثم أُعدم في ٢٠ مايو ١٨٢٠.
ولقد أثار مقتل «كوتزبيو» عاصفة عاتية من الشعور الجامح لدى فريقي «الثوريين» و«المحافظين» على السواء، وبخاصة عندما وقع اعتداء آخر يوم أول يوليو ١٨١٩ على إيبيل Ibell أحد وزراء «نساو»، وذلك على يد صيدلي يُدعى لوننج Loening، اعتقد أنَّ الوزير من الرجعيين، وقد نجا «إيبيل»، أمَّا «لوننج» فقد انتحر؛ وعلى ذلك فقد اقترحت ساكس فايمر وبروسيا أنْ يتخذ الدياط المنعقد في فرانكفورت الإجراءات الكفيلة بوقف هذه الحركات في الجامعات. وقابل ملك بروسيا فردريك وليم الثالث البرنس مترنخ في توبلتز Toeplitz في غضون شهر يوليو، ثم اجتمع في «كارلسباد» برياسة مترنخ ممثلو تسع حكومات، في مؤتمر تقدم ذكره عند الكلام عن «الاتحاد الأوروبي»، إنها كانت بروسيا، النمسا، بفاريا، بادن، نساو، رتمبرج، مكاسنبرج، وهس، وساكس فايمر، فاتخذوا طائفة من القرارات الرجعية التي عرفنا أنها سُمِّيت «بمرسومات كارلسباد»، أجازها دياط الاتحاد الألماني في فرانكفورت في ٢٠ سبتمبر ١٨١٩.

أمَّا هذه القرارات فقد اختص قسم منها بتفسير المادة الثالثة عشرة المشهورة من دستور الاتحاد الكونفدرائي، وهي المادة التي وعدت بقيام «المجالس الحكومية» في أنحاء الاتحاد الفدرائي، فقد فُسِّرت هذه المادة الآن في صالح الملوك والأمراء، وتضييق احتمال استصدار الدساتير في الدويلات المختلفة، وإلى جانب ذلك نَصَّ قسم آخر على ضرورة استخدام القوة لتنفيذ قرارات الدياط في الحكومات الألمانية، وبجوار هذه القرارات «العامة»، كانت هناك أخرى أكثر تحديدًا لفرض إخماد حركات المعارضة والمقاومة في الجامعات، فألغيت جمعيات أو اتحادات الطلبة، وَحُلَّت جمعيات «البورشنشافت»، وأُنشئت في كل جامعة «لجنة» لم تكن مهمتها مقصورة وحسب على مراقبة نشاط الأساتذة ومحاضراتهم، بل كان من حق «اللجنة» إبطال محاضرات الأساتذة، وإبعاد هؤلاء عند الضرورة من الكليات التي يعملون بها، وخضع الطلاب لنفس الرقابة. وزيادة على ذلك فقد أُنشئت الرقابة على الصحف لمدة خمس سنوات، وأُقيمت لجنة تحقيق في «ماينز»؛ للبحث عن أصول الحركات الثورية ومبلغ نشاطها.

ولقد سبقت الإشارة إلى هذه القرارات في الفصل المنعقد عن «الاتحاد الأوروبي»، وكنا قد ذكرنا أنَّ مؤتمرًا لم يلبث أنْ انعقد في بداية العام التالي مترنخ أيضًا، وحضره في فينا مندوبو كل الحكومات الألمانية، أيَّد هذه القرارات واستصدر بها «قرار مؤتمر فينا النهائي» في ١٥ مايو ١٨٢٠، وفي هذا «القرار النهائي» الذي أُذيع يوم ٨ يونيو، تأكَّد سلطان الأمراء — أي حقوق سيادتهم القانونية — ولكنهم منعوا في الوقت نفسه من أنْ يمنحوا شعوبهم حريات أوسع (أو مفرطة في الزيادة)، ثم ضُيِّقت اختصاصات أو سلطات المجالس الدستورية، ومُنع نشر محاضر جلساتها.

أمَّا «لجنة التحقيق» في ماينز فقد قامت بمهمتها بكل دقة، وكذلك طُبقت الإجراءات المتخذة ضد الطلاب بكل صرامة، فأُلغي القبض في بروسيا مثلًا على عدد كبير من الطلاب، ووقعت عليهم عقوبة السجن مُددًا تتراوح بين اثنتي عشرة وخمس عشرة سنة، وأُودع «جاهن» السجن، ونُزع من «آرندت» كرسي الأستاذية بجامعة بون، وأُجبر «جوريز» الذي كان قد عاد من سويسرة على الذهاب إلى «ستراسبورج» والعيش بها، واضطر عديدون من جماعة الحزب الوطني الذين بقوا على قيد الحياة إلى مغادرة ألمانيا للعيش في الخارج، وأذعن الباقون لسلطان الرجعية، وهكذا كان الخمود نصيب هذه الحركة الوطنية القومية في الجامعات، فلم يختلف مصيرها عن مصير غيرها.

وواضح إذن أنه كان ممكنًا تحطيم الحركة الوطنية (القومية) في ألمانيا بكل سرعة، ونهض الدليل بفضل الحوادث التي وقعت في ألمانيا بعد سنة ١٨١٥، على أنه من الواجب قبل إعادة تشكيل ألمانيا على أساس «قومي» أن تتقرَّر الحريات السياسية، كما نهض الدليل على أنه من المتعذر قيام «حركة قومية» في ألمانيا، من غير أنْ يسبق ذلك الظفر بالحريات السياسية؛ أي إنَّ العمل من أجل تقرير المبدأ الحر سوف يتقدم من الآن فصاعدًا على الحركة القومية، أو أنَّ الفكرة «الحرَّة» والفكرة «القومية»، سوف تختلطان ببعضهما بعضًا.

(٣) نضال الحكومات ضد المبادئ الحرَّة «نظام مترنخ»

تكشف دراسة الآراء الحرَّة والقومية في ألمانيا عن مشكلات أكثر تعقيدًا مما صادفناه في إيطاليا، ولو أنه قد يبدو للوهلة الأولى أنَّ ألمانيا تتمتع بمركز أفضل كثيرًا مما كان لإيطاليا، من حيث إنَّ «دولة» ألمانية كانت قائمة فعلًا في ألمانيا، في شكل «الاتجاه الكونفدرائي» الذي صدر به القرار النهائي لمؤتمر الصلح في فينا في سنة ١٨١٥، وهذه المشكلات أكثر تعقيدًا كذلك، ولو أنَّ المطالب الألمانية كانت تشبه تلك الإيطالية من حيث إنها في صورتها النهائية، إنما ترتكز على المبادئ الحرَّة والقومية؛ والسبب في هذا التعقيد أنَّ «النظريات» التي تُفَسِّر هذه المطالب كانت أقل سهولة من شبيهاتها في إيطاليا. ومن المسلم به أنَّ الألمان قد عرفوا وقبلوا النظريات الفرنسية المتعلقة بالقومية، بل وتأثروا بها، مثلهم في ذلك مثل الطليان أنفسهم. ومن المسلم به أنَّ الألمان بعد سنة ١٨١٥، ومثلهم في ذلك أيضًا مثل الطليان، قد تأثروا بالحوادث التي وقعت في فرنسا، وأنهم قد استرشدوا بها في نشاطهم، ولكن في ألمانيا وقبل هذه الحوادث، كانت هناك اتجاهات مثالية معينة بشأن القومية، يكشفها تفكير قادة الرأي الألمان من طراز «هردر» و«فيشته» خصوصًا، و«هردر» و«فيشته» هما اللذان أسسا نظريتهما في القومية — كما شهدنا — على فكرة «الجنس» أو العنصرية، أو بقول آخر على اشتراك الأصول، وتوارث الخصائص الجسمية والذهنية «والخلقية»، وهي الخصائص التي تبرز في «اللغة» حتمًا. ولقد كان بتطبيق هذه النظرية على ألمانيا أنْ تولدت الفكرة المتعجرفة التي تزعم في نظر أصحابها تفوق الجنس الجرماني على سائر أجناس البشر، أو أنه أعظم هذه الأجناس نقاوة، وتلك فكرة كان من المتعذر إقامة الحجة على صحتها من الناحية التاريخية، فلم تلبث أنْ تبدلت إلى أخرى مفادها؛ أنَّ لألمانيا «رسالة» هي إرشاد البشر وقيادته وتوجيهه إلى حياة أفضل في هذا العصر الحديث.

وإلى جانب هذه النظرية، سرعان ما نشأت في الفترة التي ندرسها نظرية أخرى عن «الحقوق التاريخية»، نادت بها مدرسة المثقفين الذين تأثروا بكتابات «هردر» وآرائه. وكان من أعلام هذه المدرسة أوَّلًا؛ المؤرخ هنريك فون سيبل Sybel، ثم من بعد سنة ١٨٤٨ المؤرخ والسياسي هنريك ترايتشكه Treitschke، وإلى جانب هذا كله كانت هناك فلسفة ولهلم هيجل Hegel الخاصة، وقد تضافرت كل هذه العناصر على تزويد نظرية الوطنية أو القومية في ألمانيا بتلك الإرادة «القاهرة» والرغبة في بسط السلطان، حتى لقد صارت «القومية الألمانية» إرادة تسلطية، تبغي دائمًا الانطلاق إلى ما وراء حدود ألمانيا الصحيحة، وزيادة على ذلك فإن هذه النظريات التي نادى بها «هردر» و«سيبل» و«ترايتشكه» و«هيجل»، وأضرابهم قد ساعدت على أنْ تجعل من الفرد مجرد «أداة» تتلاشى في كيان المجتمع، وأداة في يد الدولة، التي هي في حد ذاتها «كائن عنصري» وقوة منظمة تتولى تنظيم هذا المجتمع.

تلك إذن كانت الأسباب التي جعلت المسألة الألمانية أكثر تعقيدًا من المسألة الإيطالية، وتلك أسباب يُضاف إليها كذلك تأثير التطورات التاريخية، والأحوال السياسية السائدة في ألمانيا، من ذلك أنَّ العظمة والسلطان اللذين كانا لألمانيا إنما مبعثهما فكرة الإمبراطورية المجردة، ولا تستندان على أسس إقليمية محددة، كما هو الحال في فرنسا وإيطاليا، ولقد شاهدنا إلى جانب ذلك كيف أنَّ التطور السياسي في ألمانيا قد فصل بين الحياة السياسية، والحركة الذهنية أو الفكرية بها، خصوصًا أثناء القرن الثامن عشر وفي بداية القرن التاسع عشر. ثم إنه كان يوجد بألمانيا عنصر أو عامل لم يكن له نظير في إيطاليا، ونعني بذلك دولة بروسيا، وزيادة على ذلك فإن حركة التحرير في ألمانيا كانت حركة وطنية موجهة ضد فرنسا، فلم يكن إذن ممكنًا؛ بسبب هذه الحقائق التاريخية والسياسية أنْ ينشأ في ألمانيا ذلك الاتحاد في الجوهر بين الفكرة «الحرَّة» — الظفر بالحريات، والفكرة القومية أو الأهلية — إنهاء السلطان الأجنبي، أو اتباع سياسة تهدف لتحقيق مطالب وطنية (وقومية)، وهو الاتحاد الذي شاهدناه في إيطاليا، والذي كان يتمثل كذلك في «نظام» فرنسا، ولقد نجم من ذلك كله أنْ صار محتملًا في ألمانيا ظهور آراء أو فكرات عن الوحدة أو الاتحاد مرتبطة بآراء أو فكرات «محافظة» في السياسة، وليس فقط بالمثل العليا «الثورية».

والنتيجة أنَّ الفكرة القومية الألمانية قد صارت يتنازعها تيارات عديدة مختلفة، بل ومتناقضة في أحايين كثيرة، منشؤها لدرجة معينة ما طرأ من تبدل كثير على علاقتها بالآراء الفرنسية، وكذلك موقف «القومية» الألمانية من فرنسا عمومًا، ثم إنَّ عناصر معينة في حياة ألمانيا لم يكن لها من ناحية المبدأ أية صلة بالفكرة القومية كالمسائل الاقتصادية، بل لقد ناضلت ضد الفكرة القومية ذاتها، وعلى نحو ما فعلت السياسة البروسية لم تلبث مع ذلك، وفي نهاية الشوط؛ أن وجدت أنها قد صارت متفقة مع الفكرة القومية، ثم اتضح أنَّ هذه «العناصر» أو العوامل قد أسدت كذلك خدمة جليلة لفكرة القومية، وعلى ذلك فقد تعددت التيارات الذهنية والنظريات في ألمانيا، واختلفت هذه التيارات (والنظريات) عن بعضها بعضًا، وكادت تكون أكثرها متناقضة، وذلك بصورة أكبر مما شهدناه في إيطاليا.

وفي ألمانيا — وكما حدث في كل مكان تقريبًا وقتئذ — قام النضال بين السلطات المستبدة وبين أقسام المجتمع الألماني، التي نشد أهلها الحرية وعملوا من أجل الظفر بها، ولو أنَّ النضال في ألمانيا كان عديم الجدوى بسبب التباين العظيم بين القوتين، عندما كانت الحكومات أكثر استعدادًا وأوفر «تسلحًا» لمجابهة أنصار الحرية، من الحكومات التي شهدنا مثلًا نضالها ضد الأحرار والقوميين (أو الوطنيين) في إيطاليا، ثم إنَّ هذه الحكومات الألمانية كانت تتلقى المساعدة من الخارج بفضل تأييد النمسا وروسيا لها، وذلك في حين أنَّ «المزاج» الألماني كان أقل ميلًا للنشاط والكفاح للظفر بمطالبه من «المزاج» الإيطالي، فمن المعروف عن الأحرار الألمان؛ أنهم لم يكونوا رجال فعل وعمل، بل كانوا رجال فكر ورأي؛ ولذلك فقد انعدم في ألمانيا ذلك الاندفاع نحو العمل الثوري الذي شاهدناه في إيطاليا، منفصلًا كذلك أو مستقلًّا حتى عن الفكرة أو العقيدة السياسية ذاتها، ولقد بقي سواد الشعب في ألمانيا بعيدًا كل البعد عن الحركات القليلة التي سوف نعرض لها، ولا يبدي حراكًا، كما أضعف نضال الأحرار في المجتمع الألماني ضد الحكومات، وكان يسود هذا المجتمع من مصالح متضاربة ومنافسات شديدة، من ذلك مثلًا؛ الانقسام القائم بسبب اختلاف المصالح والعقائد بين البروتستنت والكاثوليك.

فلم يكن لدى الحكومات الألمانية أية فكرة قومية، فيقول الوزير البروسي «ويتجنستاين» عن جمعيات «البورشنشافت»: إنها تريد تحقيق غرض واحد، هو «قتل الوطنية الصحيحة؛ للاستعاضة عنها بدولة ألمانية واحدة وغير مجزءة، ثم القضاء على الدول الألمانية المختلفة؛ لتسود مكانها الفوضى الثورية.» وتلك أقوال يتضح منها أنَّ «الوطنية» في تفكير هذا الوزير البروسي، إنما هي متعارضة مع الوحدة الألمانية، أو أنَّ الوحدة الألمانية لا يمكن أنْ تتفق مع الوطنية الصحيحة. ويعلن من ناحية ثانية مدير البوليس النمسوي سيد لنتزكي Sed Lnitzky أنَّ فكرة «الألمانية» أو الجرمانية Deutschtùm فكرة شاذة، ولقد شاهدنا كيف أنَّ الحكومات في السنوات التالية بعد ١٨١٥، عمدت إلى «تصفية» العنصر «الوطني» الذي أمدَّ ألمانيا بالمحاربين القدامى، الذين تحررت البلاد بفضل جهادهم، وتحت هذه «التصفية» بكل سرعة، وفي خلال أربع أو خمس سنوات وحسب؛ وذلك لأن الحكومات في ألمانيا قد تخلت عن الروح الوطنية التي ظهرت في سنة ١٨١٣، وذلك بمجرد انتهاء حروب الخلاص والتحرير مباشرة.

وكان بفضل «مرسومات كارلسباد» في سنة ١٨١٩، والقرار النهائي للمؤتمر الذي انعقد في فينا، وصدر في ٨ يونيو ١٨٢٠، أنْ حصلت الحكومات على سلطات استثنائية تجعل في مقدورها إحكام رقابتها على نشاط الأحرار وتعقب هؤلاء الأخيرين ومطاردتهم، وتلك كانت قرارات اعتمد عليها البرنس «مترنخ» في فرض «نظامه» على ألمانيا، ولقد كان صارمًا حقًّا «نظام الرقابة» الذي فرضه «مترنخ» على كل ألمانيا، فالأمراء والملوك والحكومات بما في ذلك حكومة بروسيا، يطأطئون جميعًا رءوسهم أمامه، ومن المحتمل أنه لم يكن يشذ عن ذلك، ومن وقت لآخر سوى إمارة أو دويلة واحدة، هي دوقية «ورتمبرج». فالحكومات إذن كانت في ظل هذا النظام تتمتع بقوة كبيرة لمحاربة الأحرار، والقضاء على حركاتهم، ونال مجلس الاتحاد (أو الدياط) سلطات استثنائية؛ حتى يتسنى له الإشراف الكامل على الموقف في بعض الإمارات أو الدويلات في هذا الاتحاد الألماني.

ولقد كان ممكنًا بسبب هذا النظام أن يوجد ما يصح تسميته بمبدأ سياسة مشتركة أو عامة لهذا الاتحاد الكونفدرائي، أو أنْ يكون هناك على الأقل تنسيق لسياسة الحكومات المختلفة الألمانية بداخله، ولقد كان ممكنًا الاعتقاد بأن اتساع السلطات التي أُعطيت لمجلس الاتحاد (الدياط)، سوف ينتهي إلى إنشاء حكومة مركزية في ألمانيا، فلقد شوهد مندوبو الأمراء والملوك الألمان يجتمعون بالبرنس «مترنخ» في قصره القريب من جوهانسبرج Johnnisberg في مايو ١٨٢٤؛ لوضع القرارات التي سوف يستصدرها «الدياط» للعمل بها في كل ألمانيا، ونَصَّت هذه القرارات على سريان «مرسومات كارلسباد» مدة أطول، وعلى مطالبة الحكومات بمراقبة «المجالس» لمنعها من اتخاذ أي إجراء قد يلحق ضعفًا بمبدأ الملكية، كما نصَّت على ضرورة اجتماع «الدياط» مدة أربعة شهور كل دورة، وحرمان الأهلين من الاشتغال بالسياسة.

على أنَّ «التطور» الذي كان منتظرًا حدوثه في هذه الناحية نحو إنشاء سياسة مشتركة هامة، وتنسيق نشاط وسياسة الحكومات المختلفة، وإقامة حكومة مركزية في ألمانيا، سرعان ما توقف؛ لسبب هام، هو أنَّ القيصر إسكندر الأول لم يلبث أنْ تُوفِّي في ديسمبر ١٨٢٥، وكان «مترنخ» قد استماله في أيامه الأخيرة لتأييده، فأضعفت وفاة القيصر مركز «مترنخ» وأنقصت من سمعته الخارجية، كما قلَّلت من قدرته على العمل في الميدان الأوروبي؛ الأمر الذي جعل الحكومات الألمانية تتمسك «بمحليتها» بصورة صار يتعذر على «مترنخ» مقاومتها — وخصوصًا في الجنوب — واعتمدت من الآن فصاعدًا العناصر الرجعية على تأييد قيصر روسيا الجديد نيقولا الأول، أكثر من اعتمادها على «مترنخ»، ومع ذلك فقد كانت الحكومات عند عودة الخطر الثوري إلى الظهور مرة ثانية، متهيئة لقبول اعتداءات «السلطة المركزية» المتمثلة في الدياط أو مجلس الاتحاد، وذلك غداة الحركات الثورية التي قامت في كل أنحاء ألمانيا تقريبًا في سنتي ١٨٣٢، ١٨٣٣، فكان الهجوم على الأحرار ومقاومة المبادئ الحرَّة، الفرصة المناسبة لتزويد عناصر التنسيق السياسي بنجدة أو قوة جديدة. وهكذا مرَّت ألمانيا وإنْ كان في نطاق ضيق، بنفس التجربة التي مرَّت بها أوروبا في سنة ١٨١٥، فقد تولدت فكرة العمل الأوروبي المشترك لمجابهة الخطر النابليوني — أي لمحاربة نابليون والقضاء عليه كلية — ولقد كان في ألمانيا أنْ تولدت فكرة العمل المشترك، ومثلما حدث في أوروبا؛ وذلك لمجابهة الخطر الثوري حين شعرت الحكومات الألمانية أنها بحاجة إلى التعاضد والتكاتف للوقوف في وجه هذا الخطر، وهكذا لم تكن فكرة تنسيق الجهود الألمانية، كما لم تكن فكرة العمل الأوروبي المشترك مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالنظرية أو المبادئ الحرَّة، بل كان مبعث تنسيق الجهود في ألمانيا وقتئذ هو محاربة هذه المبادئ الحرَّة.

وأيًّا كان الأمر، فإن هذه الحكومات لم تتوانَ لحظة في استقلال السلطات التي نالتها بفضل مرسومات كارلسباد (١٨١٩)، وقرار مؤتمر فينا (١٨٢٠)، ففي ألمانيا الشمالية قام الحكم المطلق على غرار الحكم في كل من النمسا وبروسيا، بإنشاء نظام يعتمد على أساليب «السرية»، ووجود إدارة تفرض رقابة صارمة على موظفيها، في حين قامت في مجموعة أخرى من «الدول» في مواجهة الحكومة المجالس الإقليمية، وذلك في هانوفر سنة ١٨١٩، وفي مكلنبرج، وفي ساكس فاپمر، وفي أولد نبرج، وهذه المجالس الإقليمية الطبقية Landstande أو مجالس الحكومة، كانت تتألَّف من النبلاء الذين عليهم الموافقة على الضرائب، وضمان قروض الدولة، وكما هو واضح كانت هذه المجالس منظمة إقطاعيًّا، ولا تمت للمبادئ الحرَّة بصلة، فكان ممنوعًا منعًا باتًّا إذاعة ما يدور بداخل المجلس في هانوفر، واقتصر الأمر على نشر محاضر موجزة للجلسات، لم يكن يشتريها أو يقرؤها أحد لتفاهتها، وفي مكلنبرج احتفظ النبلاء في المجلس بسلطاتهم البوليسية والقضائية على الأهلين، وفي ساكس-فاپمر رفضت الحكومة الإدلاء بأية معلومات عن ماليتها أمام المجلس، وفي هس كاسل أعاد دوقها قوانين «النظام القديم»، كما أعاد موظفي الدولة وضباطها إلى الوظائف التي كانوا يشغلونها، والمراتب التي كانوا بها يوم طرده نابليون من دوقيته. وفي الجنوب في البلاد التي استصدرت الدساتير، لم يكن الدستور يحد من سلطان الحاكم شيئًا، فيطيب غراندوق هس، درمستاد خاطر وزيره فرايهر فون دي تيل Freiher Von du Thil، الذي كان قد أزعجته مناقشات المجلس، فيتساءل عن أهمية هذه المناقشات «عندما كان لا يحدث شيء على غير إرادته هو»، ويتساءل عَمَّا يستطيع المجلس أنْ يفعله بالوزير «بغير موافقته هو»، في حين يؤكد الغراندوق لوزيره أنه لن يتخلى عنه أبدًا! ولقد استمر غراندوق هس درمستاد يحكم حتى سنة ١٨٣٠، وفي «بادن» كان الغراندوق لويس الأول الذي حكم كذلك حتى سنة ١٨٣٠ ضابطًا بروسيًّا، لا يعرف غير النظام العسكري، فلم يسمح — وعلى نحو ما كان متوقعًا — أن يكون «للمجلس» أي إشراف أو نشاط جدي في إمارته. وفي نساو وكان حاكمها غليوم الأول، الذي استمر يحكم حتى سنة ١٨٣٩، رجلًا عنيدًا، سلم زمامه مع ذلك لوزير لا ضمير له، هو وانجنهايم Wangenheim، ثم أقام حكمًا مركزيًّا ثقيل الوطأة في بلاده، وانطلق منذ اللحظة الأولى يناضل بعنف ضد النواب في المجلس، وفي «ورتمبرج» استمر وليم الأول يحكم من ١٨١٦ حتى سنة ١٨٦١، وكان مثقفًا مستنيرًا، يريد أنْ يلعب دورًا ملحوظًا في ألمانيا، دون أنْ تكون لديه العزيمة الصحيحة لفعل ذلك، وعوَّل على الاستفادة من حقيقة أنَّ زوجه الثانية كاترين كانت شقيقة القيصر إسكندر الأول.
ومع ذلك فقد كان وليم أفضل الحكام الآخرين من حيث القدرة على إدارة شئون الحكم، ثم إنه عرض في سنة ١٨٢٠ تحت عنوان «مخطوط من ألمانيا الجنوبية»١٠ نظرية تهدف إلى إخراج — استبعاد — كل من بروسيا والنمسا من نطاق القوى الألمانية الصحيحة، فقال: إنَّ ألمانيا الصميمة إنما تتألَّف من الدوقيات القديمة الواقعة إلى الغرب من نهر الألب وحسب، وأن بروسيا والنمسا إنما هما دولتان أجنبيتان عن ألمانيا، وأنَّ من الواجب أنْ تنال الدول أو الحكومات «القديمة»؛ الواقعة إلى الغرب من نهر الألب سلطات مساوية لما تتمتع به بروسيا والنمسا داخل الاتحاد الألماني، فنحفظ التوازن بين القوى في ألمانيا، ويتسنى بفضل ذلك «تثليث» ألمانيا؛ أي إنشاء دولة من ثلاث وحدات سياسية بها La triade، ولقد ظهرت آراء مشابهة لهذه بعد حوادث الثورة التي قامت في سنة ١٨٤٨، بل إنَّ وليم الأول لم يلبث أنْ استطاع بفضل اعتماده على تأييد الحكومات الألمانية في الدول الصغيرة، أنْ يجعل «الدياط» في سنتي ١٨٢٠، ١٨٢١ يتخذ قرارات بترتيبات كفلت استقلال جيش الاتحاد عن نفوذ الدولتين الكبيرتين؛ النمسا وبروسيا، ولكن هذه الرغبة في القيام بدور ملحوظ في سياسة ألمانيا، سرعان ما وقفت عندما أظهرت بروسيا والنمسا كدرهما وأرغمتا الملك (١٨٢٣) على طرد وزيره «وانجنهايم»، وتغيير قانون المطبوعات في مملكته. وأمَّا في بفاريا فقد كان لويس الأول صاحب الحكم بها منذ ١٨١٥ حتى سنة ١٨٤٨، وكان لويس يتظاهر بأنه ملك حر، وألماني صميم، وكان معنى الألمانية الصميمة والخالصة في نظره؛ أنْ تكون البلاد — ألمانيا — مطهرة من اللوثرية، ومن آثار حركة «التعقلية»، وأنْ تعود إلى ما كانت عليه خلال العصور الوسطى؛ أي مفعمة بفكرة الوطن المشترك، ويملأها شعور الاحتقار والكراهية لكل من النمسا وبروسيا، ومع ذلك فقد كان لويس صاحب آراء مبهمة وغير محددة، ولم يكن مستقر الرأي بالرغم من نواياه الطيبة، بل إنه كان به بعض الجنون الذي أخذ يتفاقم كلما تقدمت به السن. ولقد حكم لويس بفاريا حكمًا أوتقراطيًّا صارمًا إلى الوقت الذي ادَّعى فيه أنه يدين بمبادئ الأحرار. وشهدت بفاريا بعد سنة ١٨٣٢ خصوصًا أقسى أنواع القمع والإرهاب، وكان المبدأ الذي استرشد به الملك «أنه لمن الأفضل كثيرًا أنْ يحول المرء دون وقوع الجريمة، بدلًا من أنْ يترك الناس يلقون بأنفسهم في مهاوي التهلكة.» وفرض لويس لذلك رقابة شديدة على رعاياه؛ ليمنعهم من الإثم، ومن الصفات التي تميز بها هذا الملك اعتقاده أنه فنان ملهم، فلم يكن يريد حوله غير أصحاب الوجوه الجميلة، وقد وجد هؤلاء من بين ممثلات ومغنيات دار الأوبرا في «ميونخ» عاصمة ملكه، وأراد أنْ تصبح «ميونخ» ذات جمال فني عظيم، فشيَّد بها المباني الكثيرة، ومن هذه مدرسته للهندسة والرسم، وغيَّرت هذه المباني مظهر العاصمة.

أمَّا سياسة هؤلاء الأمراء الألمان، فإنها قد جعلت الشعور المحلي يزداد قوة على قوته، وفصلت «الإقليمية» بين كل حكومة أو دولة وأخرى، حتى باتت كل واحدة من هذه الحكومات تعيش فيما يشبه العزلة التامة عن أخواتها، ثم إنَّ سياسة هؤلاء الحكام «المحليين» عمدت إلى استبعاد كل السكان، حتى النخبة المثقفة من بينهم من الحياة السياسية بكافة مظاهرها.

(٤) أيدولوجية١١ الرجعية

(٤-١) مدرسة التقاليد

ولقد كان مما جعل هذه الحكومات «المحلية» والرجعية في ألمانيا، أشد قوة وتصميمًا على المضي في طريقها، في مكافحة الحركات الدستورية والقومية، أنها صارت تستند الآن كذلك على نوع من «الأيدولوجية»، أو التصوير الفكري لمثل عليا معينة تستهدف تحقيقها، كانت من نتاج المدرسة الرومانسية (الرومانتيكية)، ثم صار يقوم في اتجاهين، كفلت أحدهما المدرسة التقليدية من ناحية، ثم كفلت الآخر الفلسفة الهيجلية من ناحية ثانية.

أمَّا مدرسة التقاليد١٢ في ألمانيا، فقد كانت تشبه كثيرًا المدرسة التي كان من أعلامها في فرنسا؛ الفيلسوف الديني جوزيف دي ميستر Maistre (١٧٥٣–١٨٢١) مؤيِّد العلاقات مع كنيسة روما، ثم الفيلسوف الآخر الماركيز لويس دي بونالد Bonald (١٧٥٤–١٨٤٥) مؤيِّد مبادئ الملكية والدين، كما استوحت مدرسة التقاليد في ألمانيا بعض آرائها من تعاليم هذه المدرسة الفرنسية.

سافيني Savigny

ولقد زودت النظريات التي أتى بها عالم القانون الألماني فردريك كارل فون سافيني (١٧٧٩–١٨٦١)، وأستاذ تاريخ القانون بجامعة برلين، هذه المدرسة التقليدية الألمانية بالأساس القانون الذي استند عليه تفكيرها، عندما جعل «سافيني» القانون يعتمد على التاريخ، ولا يستمد أحكامه من الفعل والفكر وظواهر «وقوانين» الطبيعة. وفي سنة ١٨١٥ أسَّس «سافيني» بالاشتراك مع قانوني آخر: إيشهورن Eichhorn مجلة لعلم تاريخ القانون، وكان في رأي «سافيني» أنَّ روح الشعب Volksgeist هي العنصر المبدع في القانون — أي مبدع القوانين — كما أنها — أي روح الشعب — هي العنصر المبدع الذي أوجد اللغة والعادات والتقاليد، وتتجسد «روح الشعب» هذه في شكل الدولة؛ أي إنَّ الدولة هي الشكل الخارجي والظاهري الذي تتخذه «روح الشعب»، وفي الدولة فقط أي عند تكوينها، يكون الشعب قد بلغ شخصيته الصحيحة، أي صار يحققها، ثم بلغ القدرة على العمل؛ ولذلك «فالدولة» هي التي تُؤَمِّن بقاء «الجنس»؛ أي الأقوام الذين تتألَّف هي منهم، والدولة تختلط بالتقاليد؛ أي لا يمكن فصلهما بعضهما عن بعض، من حيث إنَّ التقاليد لها القدرة على الخلق والإبداع، ومن الواجب تسليم الدولة لهدم القوى «الفردية»، وهي قوى «تشتيتية» متعارضة مع حاجات التنظيم الاجتماعي؛ وذلك لأن مبعثهما الصالح الفردي، والكبرياء والتفكير الفردي كذلك، ولقد وضع «سافيني» مؤلَّفًا في سنة ١٨١٤ بعنوان؛ نداء أو دعوة العصر الذي نعيش فيه للتقنين والتشريع،١٣ يرد فيه على المتفقهين «التعقليين»، وعلى الخصوص؛ القانوني العظيم ثيبو Thipaut — من هيدلبرج — الذي دعا لجمع القوانين الألمانية، واستصدار مجموعة للقوانين المدنية على غرار «القانون الفرنسي» — وعلى أنْ يقوم هذا «القانون المدني» الألماني على مبادئ القانون الطبيعي، وكان غرض «ثيبو» استصدار مجموعة للقوانين؛ ألمانية، وطنية، تنصهر فيها كل مجموعات القوانين الخاصة في ألمانيا، ولما كانت قد طُرحت بالفعل للمناقشة والبحث مشروعات لجمع القوانين وتوحيدها.
فقد انبرى «سافيني» في مؤلفه السالف الذكر، يدحض حجة القائلين بتوحيد القوانين عمومًا، ووضع مجموعة «وطنية» لها في ألمانيا، أو في غيرها من البلدان، باعتبار أنه لا ينبغي الحكم على أية أنظمة من غير البحث قبلًا في أصولها — وفي ذلك كان «سافيني» متفقًا مع «مونتسكيو» صاحب «روح التشريع»،١٤ وباعتبار أنَّ تاريخ «وطبيعة» أي شعب من الشعوب يرفضان حدوث التغييرات المناخية والعنيفة، وفي ذلك كان «سافيني» متفقًا مع الفيلسوف الإنجليزي إدموند بيرك Burke،١٥ فطفق «سافيني» يدلل على أنَّ القانون إنما هو شيء حي، مثله في ذلك تمامًا مثل اللغة، فالقانون يبرز إلى عالم الوجود من حياة الشعوب أنفسها، ثم إنه ينمو بنموها، ولا يلبث حتى يفصح عن أثره تلقائيًّا في إيجاد نوع «الأنظمة» السائدة في بلد من البلاد، والتي ليست من فعل وترتيب القوانين والتشريعات المستصدرة، فالعادات والتقاليد هي أصل القانون، وتلك العادات والتقاليد إنما تنشأ من الغرائز الأساسية للأمة وتنمو لا شعوريًّا، ودون مجهود ما؛ أي إنَّ القانون في نظر «سافيني» علم تاريخي، وليس من علوم الفلسفة.

ولقد ترتب على نشر آراء «سافيني» هذه أن تأجل مشروع توحيد القوانين واستصدار مجموعة واحدة لها «وطنية» في ألمانيا، على أنَّ كتاب «سافيني» قد أحدث أثرًا باقيًا — وسواء كان هذا نافعًا أم مؤذيًّا — يفوق في أهميته ما أدركه من نجاح مباشر، فلقد ضحى «سافيني» حريات الأجيال الحاضرة على مذبح تقاليد الأجيال الغابرة، وفاته أنَّ الأمم المتحضرة لا تنفك تدخر محصولًا أوفى من الآراء والفكرات التي يأخذ بها المجتمع عامة، وأنَّ هذا المحصول من الآراء والفكرات العامة لا ينفك هو الآخر يزيد زيادة مستمرة، ثم فاته كذلك أنَّ هناك فائدة عملية في التخلص من وقت لآخر، بطائفة من القوانين التي تكون تافهة أو مهوشة … إلخ، ثم في تبسيط وتحديد وتنسيق طائفة أخرى، ثم إنَّ «سافيني» في نظريته عن القانون — كشيء أو كائن حي — قد جرَّد الشعوب من استصدار القوانين، في نفس الوقت الذي أعلن فيه أنَّ الشعوب هي وحدها مشرعة هذه القوانين، وفاته أنَّ القانون في مراحل حياة الأمة الأولى لا يعدو أنْ يكون نموًّا لا شعوريًّا، ولكن مما لا شك فيه أنَّ الشعوب عند نضجها هي التي تسن القوانين بمحض اختيارها وملء إرادتها، ومع ذلك وبالرغم من أنَّ «سافيني» كان عدوًّا للحرية السياسية، فقد كان للآراء التي نادى بها أكبر الأثر في دفع دراسة التاريخ خطوات كبيرة، ذلك من جهة، بتقريب فكرة النمو والتطور العضوي — في قوله: إنَّ القانون كائن حي — إلى أذهان الناس، ومن جهة أخرى بتأكيد اضطراد حوادث التاريخ في سلسلة متصلة مستمرة. وأخيرًا؛ يجعل انتباه الناس ينتقل من تتبع الأدوار التي تلقيها الحوادث في الظاهر، إلى استقصاء العوامل الأدبية الروحية والعقلية الذهنية، ثم «الأنظمة» القائمة عليها الحياة الأهلية — حياة الشعوب ذاتها — والتي تشكَّلت بسببها جميعًا هذه الحوادث، وارتدت في أصولها إليها، ولقد كانت مرحلة جديدة في تاريخ الفكر في أوروبا، تلك التي بدأها «سافيني»، عندما أقام الحجة على أنَّ «القانون الروماني» كان نتاج نمو وتطور اقتضى قرونًا عديدة، ويحمل في كل جنباته طابع الأنظمة الحكومية والتقاليد الرومانية، ولم يكن مجرد تطبيق نظرية «الحق الطبيعي» تطبيقًا «عمليًّا» أي على شئون الحياة اليومية العادية.

هالر Haller

وإلى جانب «سافيني» كان المفكر والمؤرخ الألماني السويسري «كارل لدويج فون هالر» أحد أعلام المدرسة التقليدية، بل كانت هذه المدرسة تعتمد عليه أكثر من اعتمادها على «سافيني» في التعبير عن آرائها ومعتقداتها، كان قد اضطر إلى مغادرة موطنه برن Berne بسبب ثورة جامحة قامت بها، فعاش في المنفى إلى أنْ عاد إلى «برن» ثانية في سنة ١٨٠٦؛ ليصبح أستاذ القانون العام في جامعتها، ولقد أخذ هو في المنفى يفكر في المشكلات السياسية السائدة في وقته، والتي أوجدت التجارب التي مرَّ بها هو نفسه، فلم يلبث أنْ استكشف قبل عودته من المنفى، الأسباب العميقة المسئولة على الاضطرابات والقلائل السائدة، وكانت تلك في رأيه مردها إلى قبول الفكرة الذائعة بين الشعوب المتحضرة، بأن منشأ السلطة التي يمارسها فرد على فرد آخر، إنما هو رضاء الفرد الخاضع الذي يمنح هذه السلطة بمحض اختياره وإرادته ذلك الذي يمارسها عليه، وتلك فكرة خاطئة أو خطيرة، تبدو بكل أشكالها في نظرية «العقد الاجتماعي» المعروفة، رأى «هالر» من واجبه أنْ يهدمها؛ حتى لا يعود يأخذ بها أصحاب الفكر السليم، فبدأ لتحقيق هذه الغاية ينشر مؤلَّفه الضخم عن «رد العلوم السياسية إلى أصولها، أو نظرية الدولة الاجتماعية الطبيعية في معارضة أوهام الدولة المدنية الاصطناعية»،١٦ وهو من ستة أجزاء كبار، ظهر أولها في سنة ١٨١٦، ثم ظهر آخرها بعد ثماني عشر سنة (١٨٣٤).

وفي رأي «هالر» كانت القوة هي منبع القانون وليس «القانون» في حقيقة أمره، سوى الحماية التي ينشدها الضعفاء من الأقوياء الذين يسلمونهم — أي لهؤلاء الأقوياء — حق التصرف في مصيرهم على نحو ما يحدث في الأسرة، والمحلة أو القرية، ثم على نحو ما يحدث في «الدولة» تقليدًا كما هو واقع في الأسرة والمحلة، ومن نمطه. ولقد وجد «هالر» شبهًا كاملًا بين التملك وممارسة السلطة، ثم عمل لإقامة الحجة على وجود هذا التشابه — فقال: إنَّ التملك أو الملك والسلطة كليهما — صاحبه مزود بالقدرة على استخدامها في وجوه صالحة، أو إساءة استخدامها، ولا يحد من سلطة الأمير سوى شيء واحد فقط هو الاحترام الذي يجب أنْ يشعر به نحو أصحاب السلطة الآخرين، وهؤلاء هم النبلاء و«النقابات»، وليس «الرعية» سوى مستأجرين عابرين، وفي مقدور «الدولة» البقاء بدونهم، ولا تعدو مهمتها ملء الفراغ الذي يحصل بذهاب هؤلاء الرعايا الذين لا حول ولا قوة لهم بأناس غيرهم، فالأفراد في نظر «هالر» ليسوا مواطنين، ولا يحق لهم بحالٍ من الأحوال التدخل في شئون الدولة، الدولة التي هي مِلْك يمين الأمير، والتي يدبر الأمير شئونها بواسطة «خدمه». فجاء مؤلَّف «هالر» بمثابة «الاعتداء» الذي يحاول به صاحبه تسويغ وجود أرستقراطية غبية وذات كبرياء، يعتقد أنها فعَّالة للخير، وفي وسعها فعل هذا الخير للطبقات الدنيا، والتي هي أقل منها مرتبة في السلم الاجتماعي، على أنَّ «هالر» بإظهاره أنَّ السلطة شيء طبيعي وليست اصطناعية، إنما قد زود في رأي كثيرين في آخر الأمر «بالمسوغ» الذي وجد فيه الثوريون أنفسهم بعد ذلك ضالتهم؛ لتبرير نشاطهم استنادًا على المبادئ ذاتها التي جاء بها «هالر»؛ والتي لم يكن في وسعه أو في وسع معاصريه إدراك مدى تشعب آثارها. ونعني بذلك أنَّ النتيجة الخالصة لكل التغييرات التي حصلت في أوروبا، كانت استيلاء طبقات معينة في المجتمع — ومنذ منتصف القرن التاسع عشر خصوصًا، الطبقة المتوسطة (البورجوازية) — على كل أسباب السلطة، وهي التي لم يكن هناك معدى أنْ تكون من نصيب هذه الطبقات ذاتها، باعتبار أنَّ السلطة — حسبما نادى به «هالر» — كانت حقًّا «طبيعيًّا» لهم؛ بسبب أنهم متفوقون في كل نواحي القوى الخلقية والذهنية والاقتصادية على أهل الطبقات الأخرى.

ولقد كانت هناك «نظريات» أقل صرامة وضيقًا في الأفق، وأقل رجعية من النظريات التي نادى بها «هالر»، أمَّا أصحابها فيُعرفون باسم أنصار «الحقوق التاريخية»، وهم الذين يعترفون فقط بالحقوق السياسية والمؤسَّسة على العادات؛ أي تلك التي جرى بها العرف، وأقرَّت التقاليد ممارستها، ثم هم الذين ينتهون لذلك إلى ضرورة إعادة إنشاء مجالس الدولة، التي يرجع تاريخها إلى العصور الوسطى أو تأييد القائم منها فعلًا، وكان «نيوبور» — بارتولد جورج نيوبور — الذي ذكرناه مرارًا، والأستاذ بجامعة بون، وصاحب تاريخ روما،١٧ أهم أعلام هذه المدرسة — مدرسة الحقوق التاريخية — إطلاقًا.

وهكذا يستبين مما ذكرناه عن هذه النظريات؛ أنَّ أصحابها من أعلام «المدرسة التقليدية»، قد أضفوا صفة الشرعية القانونية، على موقف «الأمراء» والحكام الرجعيين؛ من أجل المحافظة على سلطات هؤلاء الكاملة، والحد بصورة صارمة من حريات أو حقوق وامتيازات طبقة النبلاء، في حين لم يكن للفرد العادي في نطاق هذه النظريات أية حقوق أو حريات.

(٥) إيدولوجية الرجعية

(٥-١) فلسفة هيجل

على أنَّ الفلسفة الهيجلية كانت أبلغ أثرًا وأكبر أهمية في هذه الناحية «الإيدولوجية» من نظريات مدرسة التقليديين التي شاهدناها.

وعاش جورج فلهلم فردريشي هيجل من سنة ١٧٧٠ إلى سنة ١٨٣١، كان مولده في مدينة شتوتجارت Stuttgart (في ٢٧ أغسطس)، درس اللاهوت بجامعة توبنجن Tubingen، كما تابع دراساته وبحوثه في سويسرة «برن»، ثم في ألمانيا ثانية «فرانكفورت»، وذلك بعد تخرجه من الجامعة (منذ سنة ١٧٩٣)، فدرس الفلسفة — فلسفة شيلنج Schelling — التي سرعان ما انتقل إلى غيرها؛ ليبني فلسفته الخاصة «الهيجلية» في النهاية، وشغف بدراسة التاريخ والسياسة. وفي سنة ١٨٠١ تعيَّن مساعد أستاذ بجامعة «يينا»، ثم صار مديرًا لثانوية نور مبرج Nuremberg منذ نوفمبر ١٨٠٨، وبقي يشغل هذا المنصب حتى تعيَّن أستاذًا بجامعة هيولبرج في سنة ١٨١٦، ثم ما لبث حتى شغل كرسي «فيشته» بجامعة برلين سنة ١٨١٨، وظل يحاضر في هذه الجامعة حتى أدركه الموت بعد ثلاثة عشر عامًا (١٤ نوفمبر ١٨٣٢).
وأثناء اشتغاله بالتدريس، عمل «هيجل» رئيس تحرير «لجريدة بامبزج»١٨ من مارس ١٨٠٧ إلى نوفمبر من العام التالي. وكان «هيجل» يعجب إعجابًا كثيرًا بالإمبراطور نابليون، الذي خضعت آنئذ ألمانيا لسلطانه، وطوال هذه السيطرة النابليونية في ألمانيا، استمر «هيجل» متعاونًا معها، حتى إذا قامت حرب التحرير في سنة ١٨١٣ وقف «هيجل» منها موقف المزدري لها والساخر بها. وفي سنتي ١٨١٤، ١٨١٥ صار «هيجل» يدعو لتأييد الحكم المطلق، فهو عندما يتكلم عن «خلاص الوطن»، إنما يعني تحرير «سيادة» الأمراء، وخلاص هؤلاء من السيطرة الأجنبية، واستمتاعهم بكامل حقوق السيادة العليا. وانحاز «هيجل» — وعلى نحو ما كان منتظرًا — إلى مقاومة كل النظريات «الحرَّة» و«الثورية»، فنشر في سنة ١٨١٧ كراسة يدافع فيها عن سياسة فروريك الأول ملك ورغيرج (من ١٨٠١–١٨١٦)، الذي كان قد دخل في نضال عنيف مع «مجلس الطبقات» في بلاده، ثم إنَّ «هيجل» لم يلبث بعد قليل أن تصدى للدفاع عن «مرسومات كارلسباد»، ولقد كان بسبب آرائه هذه «المحافظة» أنْ دعته الحكومة الروسية ووزيرها ألتنشتاين Altenstein لشغل كرسي «فيشته» بجامعة برلين، على نحو ما سبق ذكره. وقد بدأ «هيجل» يلقي محاضراته بها منذ أكتوبر سنة ١٨١٨.
وعندما التحق «هيجل» بجامعة برلين، كان قد نشر طائفة من المؤلفات التي تعتبر أساسية في وضع أركان فلسفته، ولفهم هذه الفلسفة، فنشر في سنة ١٨٠٧ «ظواهرية الروح»،١٩ وفي سنة ١٨١٢ «علم المنطق»،٢٠ أو المنطق الكبير، وفي سنة ١٨١٧ «موسوعة العلوم الفلسفية»،٢١ ثم في سنة ١٨٢٠ «مبادئ فلسفة القانون»،٢٢ ولقد نشر تلاميذ «هيجل» بعد وفاته عددًا من الدروس التي ألقاها بجامعة برلين.

وكان «هيجل» في جوهر تفكيره ميتافيزيقيًّا، بل يعتبر من أعظم أعلام الميتافيزيقية — المختصين بعلم «وراء المادة»، أو إدراك الأشياء بشكل أفكار — ليس في ألمانيا وحدها، بل في العالم أجمع، ونحن وإن كنا لا نستطيع بحث الفلسفة الهيجلية في هذه الدراسة، فقد كان لا يكون هناك معدى عن تناول بعض نقاط متصلة بالتاريخ الذي ندرسه؛ أولها: أنَّ «هيجل» كان في معرفته «موسوعيًّا»، «نظاميًّا» في آنٍ واحدٍ، فهو واسع المعرفة بكل تطورات العلوم — كل العلوم — في عصره، وبكل ما أنتجه الفكر في الماضي والحاضر على السواء، وهو يهتم بتركيز حاصل هذه المعرفة من نتاج العلم والفكر؛ ولذلك فقد كان «هيجل» مرتبطًا بالواقعية الوضعية، ولم يقُم نظامه الفلسفي على الفكرات أو المعاني المجردة، وفضلًا عن ذلك فقد كان «هيجل» جيد الإلمام بمختلف التيارات والأحداث السياسية في عصره؛ ولكن «هيجل» — كما ذكرنا — كان قبل كل شيء «ميتافيزيقيًّا»، ينقل الواقعية الوضعية إلى عالم الفكر والتصور الذهني، ثم إنه بتبديل موضعها أو تغييرها، لا يلبث أنْ يدخلها في نظام تحتل بمقتضاه هذه الواقعية الوضعية مكانها في عالم وراء المادة أو الفكر المجرد.

وأمَّا الذي يعنينا من فلسفة «هيجل» وتفكيره، فهو شيئان؛ فلسفته للتاريخ،٢٣ ثم فكرته عن العلوم الاجتماعية ونظريته عن الدولة. وفيما يتعلق بفلسفة التاريخ، لم يكن «هيجل» يبغي نضالًا ضد الحقائق الواقعة والأحداث، بل كان للفلسفة في نظره مهمة معينة، هي تفسير «الواقع» فعلًا تفسيرًا يقبله العقل والفهم؛ لأن «الواقع» فعلًا إنما هو «العقل» المتحقق؛ بمعنى أنَّ كل شيء في الوجود، سواء كان حادثة جرت أو جزءًا من أجزاء الكون نفسه، قابل لأن يُفَسَّر بالعقل المفكر؛ أي إنَّ له سببًا وله غاية، ولا يمكن أنْ يكون «للمصادفة» أثر في حصوله أو وجوده، وليس «التاريخ» إلا «الضمير العالمي والحكم»، الذي لا معدى عن صدوره في صالح أو في غير صالح شعب من الشعوب أو فرد من الأفراد، فلا يسجل «التاريخ» نجاحًا ونصرًا إلا لأولئك الذين يحق لهم هذا النجاح والنصر، فلقد تخلى النصر عن نابليون، وهو الذي كان موضع إعجاب «هيجل» الشديد، كما تخلى عن تأييد الآراء الفرنسية، فوجب لذلك عدم الارتباط بهذه الآراء؛ لأنها قد انتهت وفنيت، ولم يحرز المنتصرون النصر الذي نالوه مصادفة، بل إنهم يستحقون لهذا النصر من واقع أنهم أحرزوه فعلًا، «فالشعب الذي يمثل ويغير «في حياته ونشاطه» عن نمو أو تطور الفكر في لحظة أو مرحلة معينة، يملك ضد الشعوب الأخرى حقًّا مطلقًا (في الغلبة عليها)، في حين لا يكون لهذه الشعوب الأخرى أية حقوق ضده، أما الشعوب التي مضى وقتها، فلا مكان لها بعدئذ في تاريخ العالم.»
وواضح أنَّ هذه النظرية مضادة للنظرية العلمانية للتاريخ التي ظهرت في القرن الثامن عشر، ثم هي مضادة في الوقت نفسه للنظرية المسيحية؛ أي إنها بمثابة رد الفعل ضد الصورة التي فهم بها القرن الثامن عشر التاريخ كأنه من شئون الدنيا، باعتبار أنَّ قابلية الإنسان غير المحدودة للكمال هي القوى المحركة للتاريخ. ثم هي — أي النظرية الهيجلية — بمثابة رد الفعل كذلك ضد التاريخ، في معناه الديني؛ أي ارتهان الحوادث بمشيئة الإله لأسباب وغايات قدسية محضة، على نحو ما قال به القديس أوغسطين من آباء الكنيسة، وأكثرهم شهرة (٣٥٤–٤٣٠)، والأب بوسويه Bossuet الواعظ الديني الفرنسي المعروف (١٦٢٧–١٧٠٤).
وقد افترض هذان وأضرابهما أنَّ الإنسان لا يمكن أنْ يسفر نشاطه إلا عن الهدم والعدم، وكلا هاتين النظريتين؛ نظرية فلاسفة القرن الثامن عشر، «المتفائلين» الذين وضعوا ثقتهم في قدرة الإنسان على بلوغ الكمال لإمكان تقدم البشرية، ونظرية فقهاء الدين المتشائمين الذين ذكرناهم، والذين رأوا في نشاط الإنسان المعول الذي يهدم البشرية ويفسدها — نقول: إنَّ هاتين النظريتين كلتيهما، لم تكوِّنا النظريات التي أتى بها «هيجل»؛ لأن «هيجل» لم يُقسم التاريخ إلى تاريخ «دنيوي» وتاريخ «مسيحي»، بل كان يرى في التاريخ السياسي تأريخًا لمراحل تقدم الروح Geist وهي تجاهد للارتقاء إلى معرفة الشيء في ذاته، فالتطور والنمو — وذلك هو التعبير الذي يستعيض به «هيجل» عن القابلية للكمال — إنْ هو إلَّا تطور أو نمو الروح، والروح تشمل العام والخاص المتفرد متحدين مع بعضهما بعضًا، وأمَّا آثار هذا النمو أو التطور الأولى، فهي التي تتضمن قسرًا، وبحكم جوهرها كل التاريخ، وذلك عندما كان تتابع الأحداث في نظر «هيجل» ليس إلَّا كشفًا عن «الروح» العامة أو الشاملة، فيقول: «إنَّ شيئًا لم يفقد في الماضي؛ لأن الفكرة موجودة أو قائمة والروح خالدة.»
وأمَّا العناصر التي يتألَّف منها التاريخ، فهي الدولة der Staat المظهر الأرضي أو الدنيوي للفكرة الاجتماعية الخلقية، وهي — أي الدولة — التي تقوم على مبدأ روحي، يُعبِّر عن أعلى درجات الرقي التي بلغها في كل أوقات التاريخ، هذا الروح المقدس والمتغلغل في العالم، ولو أنَّ الدولة «لم تكن تعبر تعبيرًا كاملًا عن هذا الروح المقدس»، فكان هذا «النقص» إذن هو سبب سقوطها، ومهمة التاريخ الجوهرية حينئذ، ليست سوى تمييز المبدأ الروحي الْمُحَرِّك لحياة الدول، التي استطاعت في أوقات معينة السيطرة على العالم.

وهذه الآراء ترفض التسليم بنظريات القائلين بوجود المجتمعات «البدائية التي فُطر فيها الإنسان على فعل الخير، ولكن لم تلبث الحضارة أنْ أفسدته»؛ وذلك كما جاء في تفكير «روسو» وفلاسفة القرن الثامن عشر، كما أنها ترفض النظرية الكاثوليكية التي قالت بأن طهارة الإنسان وانفطاره على الخير عند مولد الجنس البشري يسبقان الإثم والخطيئة الأولى، وهذه الآراء التي جاء بها «هيجل» ترفض كذلك تفسير التاريخ «بالمصادفات»، فإن الأحداث التي تقع مصادفة، لا تلبث في رأيه أنْ يزيل كل منها أثر الآخر، ثم إنَّ «هيجل» يرفض كذلك الاعتراف بأن «إرادة» البشر عامل مُحَرِّك لأحداث التاريخ؛ لأن الفعل الإنساني إنما هو بمثابة نقطة البداية لنتائج متمثلة في أحداث متوالية لا عدد ولا حصر لها، ولا يمكن بحالٍ أنْ يعتبر أصحاب هذا الفعل الإنساني الأصليون مسئولين عنها، وعلى ذلك فقد وجدت نظرية «هيجل» مسوغًا «للماضي»، باعتبار أنَّ العالم الواقعي إنما هو قائم بمقتضى ما يجب أن يكونه، وأن الروح العام القدس يجب أنْ يحقق ذاته، وواضح أنَّ هذا المدرك الذي يسوغ الأوضاع — كما قامت في الماضي أو كما هي قائمة في الحاضر — لا يرفض احتمال وجود «الحركة»، فالنمو والتطور مستمران؛ لأن «الروح» تسعى بجد دائمًا للانتصار على ماضيها.

وفي رأي «هيجل» أنَّ تاريخ العالم يمر في أدوار عظيمة ثلاثة، تمثل درجات ثلاثة من «الحرية»، التي يقصد بها هنا قدرة الروح على تقرير الإرادة الداخلية لفعل شيء، وليس الحرية «الخارجية» الظاهرية «والمادية». أمَّا الدور الأول فهو الذي تميز بوجود الدولة أو الحكومة الاستبدادية في العالم الشرقي القديم، حيث لم يكن يتسنى أنْ يقوم بها غير نوع واحد من الحرية، حرية الطغاة الذاتية والمؤسسة على خضوع كل الآخرين له، وأما الدور الثاني، فهو العهد اليوناني الروماني الذي تسود فيه الحرية الخارجية أو الظاهرية التي «للمواطن»، وهي حرية مستندة على القانون، ولكنها لا تعدو أنْ تكون نتاج عملية استخلاص من «الروح»، منفصلة من الطبيعة؛ ولذلك فهي شكل غير كامل للحضارة؛ أي يعوزه الكمال. وفي الدور الثالث، الذي سمَّاه «هيجل» بدور «الحضارة الجرمانية المسيحية»، تنبت «الحرية الداخلية أو الباطنية»، التي يتمتع بها الأفراد «المسيحيون»، والتي كان دور «الجرمانية» بها نقل مبدأ هذه الحرية الداخلية إلى عالم الحقيقة السياسية؛ وذلك لأن الجنس الجرماني بسبب تقاربه من الروح المسيحية أو اتحاده بها، ينبغي اعتباره شعب الله المختار من بين شعوب العالم قاطبة، وأما الأجناس أو الشعوب اللاتينية، والديانة الكاثوليكية، فقد ارتكبت خطأ عندما جعلت الضمير مزدوجًا، وأوجدت جماعتين أو حزبين؛ أحدهما يتألَّف من العناصر الدينية وأهل التقوى والورع، والآخر من دعاة القانون، الذين يمثلون بمعنى آخر المصالح الدنيوية (العلمانية)، فكان مارتن لوثر، والترودتستنتية هما وحدهما اللذين مزجا هذين المدركين؛ الروحي والعلماني في بعضهما بعضًا؛ للظفر بمدرك واحد، ولقد تسنى «لهيجل» — لاعتقاده بصفاء ونقاوة الطبيعة الجرمانية الداخلية — أن يسلب أو يذيب في مزيج واحد الموضوع الفردي الشخصي، والروح المطلق، الدين والقانون، الجماعة الدينية والجماعة السياسية؛ فالجنس الجرماني هو الجنس الذي يملك كل الصفات الطبيعية التي تجعل في مقدوره تلقي كل إلهامات أو إيحاءات «الروح» في أعلى مراتبها.

وعندما أوضح «هيجل» مفهومه الذي ذكرناه عن التاريخ وعن الحضارة، جاءت «فلسفته للتاريخ» هذه بمثابة المسوغ، الذي يضفي صيغة الشرعية على «السياسات» — الرجعية — السائدة و«الناجحة» وقتئذ في ألمانيا وفي غيرها من البلدان، على أنَّ الذي يجب ذكره أنَّ هذه «الفلسفة» كذلك قد زَوَّدت بالأمل — من ناحية ثانية — أولئك الذين لم يكونوا راضين عن الأوضاع القائمة، وينشدون التغيير السياسي بكل الوسائل.

وفي ميدان العلوم الاجتماعية، كانت آراء «هيجل» تختلف اختلافًا شديدًا عن الآراء التي كانت سائدة في أوروبا حتى هذا الوقت، فمن المعروف أنَّ العصر الذي عاش فيه «هيجل» قد شهد رواج العلوم الدينية، وتاريخ القانون، وتاريخ الفن، ولو أنَّ هذه جميعها عند تشكيلها كانت تُعنى بدراسة «وقائع» هذه المواد وحسب، ولقد كان في هذا العصر أيضًا أنْ تقدمت دراسة علم النفس الذي أسَّسه «الإيدولوجيون»، وصار يعتبر عاملًا جوهريًّا في دراسة الفلسفة، وأضحى كالفلسفة نفسها «علمًا» بذاته، وكانت كل هذه العلوم منفصلة عن الأخلاق والدين والفلسفة، باعتبار أنَّ هذه علوم قياسية تُقرِّر معايير معينة، أما هيجل فإنه لم يفرق بين علوم اجتماعية وأخرى معيارية أو قياسية، فكان يرى في كل هذه العلوم أشكالًا ضرورية، تبرز فيها حياة الروح، ويبذل قصارى جهده للوقوف على معاني هذه الحقائق الروحية؛ ولذلك فقد اتخذ «هيجل» موقفًا معارضًا من مختلف النظريات التي ظهرت في القرن الثامن عشر، والتي كان يرى دعاتها في «القانون الطبيعي» ترجمة أو تفسيرًا لكل ميول الإنسان الفطرية أو الغريزية، والذين أسَّسوا «الأخلاق» على قواعد المصلحة الذاتية، والذين اعتبروا «الدولة» نتائج اتحاد النزعات الأنانية المختلفة، فعمد «هيجل» إلى ردِّ أسس القانون إلى حقائق روحية، فلم يكن يعتبر التملُّك مجرد اغتصاب مادي، كما كان يرى «روسو»، بل كان يعتبر التملُّك تأكيدًا لشخصية الفرد الذي يستولي على شيء خارجي لا إرادة له؛ ليصبح هذا الشيء ملكًا له وليدخل به إرادته، وفي هذا التأكيد إنما يجعل الفرد غيره من الناس أو الأفراد يعترفون به، والاعتراف بالإرادة الداخلة في الشيء المملوك والذي صار لذلك مطبوعًا بها، وهو الاعتراف الذي صدر من جانب الآخرين، ومن جانب «الإرادات» الأخرى، إنما يشكِّل نوعًا من العقود، عقود المبادلة بين هذه الإرادات، سواء في حالتي الإثبات لتقرير حق التملُّك أو النكران لنقضه، و«عقد المبادلة» هذا هو الأساس الذي يقوم عليه القانون، وقد يكون هناك شجار أو مصادمة بين هذه «الإيرادات»، ولكن مبعث هذا الشجار إنما يكون خُلق الفرد الشخصي؛ ولذلك فهو عرض بالنسبة لإرادات المتعاقدين، ولإنهاء هذه المشاجرات والمصادمات يجب أنْ تكون هناك قوة لها القدرة من الخارج على إصدار الأحكام؛ لتعلن ما هو حق وقانوني في ذاته — وذلك هو القانون المدني، والتي تعيد الحق أو ترده إلى حاله إذا وقع اعتداء عليه، وذلك بتوقع العقوبة التي يصدر بها حكم هذه القوة؛ وذلك هو القانون الجنائي.

وهذا هو القانون الذي يصوِّره «هيجل» في ذهنه، إنما هو قانون خاص دون أي شيء آخر، فلا تشكِّل الحياة السياسية، وحياة «المدنية» — والأخيرة في النظم اليونانية الرومانية — حدثًا أو حالة خاصة من حياة «القانون»، كما يأخذ بذلك فقهاء القرن الثامن عشر، بل لقد فصل هيجل بين السياسة والتشريع فصلًا جذريًّا؛ ولذلك فمفهوم «هيجل» عن القانون يفترض وجود قوة أو سلطة يصدر عنها تعريف القانون وتحديده، وتقوم بإصدار الأحكام وفقًا لمقتضيات القانون، وواضح أنَّ هذا «المفهوم» من شأنه القضاء على القول بأن الفرد هو مصدر أو منبع القانون، فيقضي «هيجل» إرادة المواطن الفردية من صنع وخلق القانون، ولن تعدو القوانين التي يسنها المواطنون أنْ تكون في نظره مجرد تلفيقات مصطنعة ولا قيمة لها، والذي يجدر ذكره أنَّ هذا «المفهوم» أو المدرك الروحي للقانون، والذي يهدم الفردية (أو الفردانية)،٢٤ هو بنفسه الأساس الذي تقوم عليه نظرية «هيجل» الأخلاقية، والتي ترتكز على عجز الإنسان عن بلوغ تلك «العمومية» التي ينشدها، فلا يجد المرء الحرية الأخلاقية إلا في هيراركية الجماعات؛ أي في التنظيمات التي يمارس رؤساؤها السلطات العليا، والتي تشكِّل (أي هذه الجماعات) مراحل مختلفة في طريق السير نحو «المطلق» — أما هذه الجماعات الهيراركية فهي الأسرة، والمجتمع المدني٢٥ — أي ذلك الذي تقوم العلاقات فيه بين الأفراد على سد المطالب الاقتصادية وحماية التملُّك بتطبيق العدالة، ورعاية الصالح العام بواسطة البوليس والنقابات — ثم الدولة.
ولننتقل الآن لبحث مفهوم «الدولة» عند «هيجل»؛ وهذا القسم الخاص بالدولة من فلسفة «هيجل»، هو الذي أسفر عن نتائج سياسية أكثر مباشرة مما عداها — سواء في وقوعها وحدوثها، أم في الآثار المترتبة عليها، ففي حين يعمد «التاريخ» إلى بيان أحداث الماضي، تتوفر «الفلسفة» على استكشاف واستنتاج ما هو عقلي و(صوابي)؛ أي مبني على العقل. ويقول آخر: فإن مهمة «الفلسفة» هي فهم ومعرفة ما هو قائم وحقيقة واقعية. وعمد «هيجل» إلى تعريف «الدولة» بوصف أنها «كائن متعقل» في ذاته. ومع أنَّ «روسو» كان قد اتخذ مبدئيًّا وجهة النظر هذه عند تناول علوم السياسة، فإنه كان مخدوعًا عندما اعتقد أنَّ المواطنين قد سبقوا في وجودهم الدولة مدينة للمواطنين بوجودها، ففي رأي «هيجل» أنه مما لا يصلح اتخاذه أساسًا للدولة الاعتقاد بأن هذه إنما قامت من أجل ضمان بقاء الأشخاص والمحافظة على الحقوق الفردية، حيث إنه يكون مباحًا وقتئذ للأفراد «الانسحاب» من الدولة؛ أي أنْ يكونوا أو لا يكونوا أعضاء في الدولة، في حين على العكس من ذلك — وكما يقول «هيجل» — كانت الدولة هي «الحقيقة المطلقة»، ولن يكون للفرد وعي عن نفسه، ووجود واقعي وكيان خلقي إلا في نطاق الدولة؛ أي إذا كان عضوًا بها، وهو يقول كذلك: إنَّ الدولة هي التعقلي Le Rationnel في ذاته ومن أجل ذاته، وهي تحقق في ذاتها صيرورة أو نهاية «مطلقة»، فالدولة إرادة ميتافيزيقية، لا يمكن تمييزها من العقل المطلق، والفكرة المطلقة، وبالاختصار لا يمكن تمييزها من «الله»، فهو يقول: إنَّ الدولة هي الروح، ما دام هذا الروح يتحقق في العالم تحققًا واعيًا، في حين أنَّ الطبيعة هي الروح، ما دام هذا الروح لا يتحقق تحققًا واعيًا؛ ولذلك فكل دولة إنما تشترك في هذا الجوهر المقدس أو أنَّ لها نصيبًا منه، وواضح إذن أنَّ «هيجل» يرى في الدولة شيئًا يختلف كل الاختلاف في مفهومه عن الهيئة الاجتماعية — أي المجتمع المدني — وشيئًا يختلف كذلك كل الاختلاف عن هيئة أو تنظيم قانوني لجماعة أو مجموعة بشرية.
ولقد كان هذا «المفهوم» عن الدولة، أو المدرك الذهني Begriff، هو الذي استخلص منه «هيجل» التنظيم الذي يجب أنْ يقوم في الدولة، وفي هذا التنظيم لم يكن هناك موضع لفكرة فصل السلطات، أو لفكرة الدستور، فكل تلك فكرات باطلة، أسقطها «هيجل» من النظم التي ارتآها للدولة، فهناك ثلاثة أشكال للدولة؛ أولها: الشكل الاستبدادي، وقد تحدثنا عنه، وثانيها: الشكل الديموقراطي، إما في صورة ديموقراطية تامة، وإما في صورة جمهورية أرستقراطية، فلا يتمتع «بالحرية» في كلا الحالتين إلا نفر محدود من الأفراد، في حين يخضع الباقون لاستبدادية صارمة. وثالثها: الشكل الملكي، وهذا الشكل الأخير هو أعلى أشكال الدولة في نظر «هيجل»، وفي الشكل الملكي أو الملكية تتألَّف الدولة من عناصر ثلاثة، تعتبر الملكية؛ أي وجود الْمَلِك أو الأمير العنصر الأول والأساسي من بينها، فمن غير «الْمَلِك» لا يعدو الشعب أنْ يكون سوى كتلة غير عضوية؛ أي لا حياة فيها ولا قدرة لها على النمو والتطور، فللملكية نوع من الطابع القدسي، ولكن هذه القدسية ليست مستمدة من «الحق المقدس» أو الإلهي في الحكم على نحو ما يقول به أصحاب هذا الرأي؛ ولكن سبب هذه القدسية أن الْمَلِك يتجسد الدولة، وأن الدولة تتجسد «الفكرة» — المطلقة — والفكرة هي الله، فَالْمَلِك حينئذ متسربل بجلاله، أي مُزَوَّد بسلطات ممتنع التخلي عنها أو انتقالها إلى غيره، والْمَلِك هو الذي يدير شئون الدولة، وخصوصًا شئونها الخارجية، وهو الذي يحكم «دولته» حكمًا يقوم على السلطة الكاملة والمركزية. وأبدى «هيجل» إعجابه الشديد باثنين من حكام هذا الطراز هما؛ «ريشليو» و«نابليون»، ومع ذلك فواجب هذا الْمَلِك (أو الأمير) أنْ يستند في حكمه على العنصر الشعبي الممثل في مجالس بلديات المدن أو هيئاتها الإدارية، باعتبار أنَّ الْمَلِك سوف يجد ممثله في هذه المجالس المصالح المشروعة، وهي مصالح جديرة بالاحترام، ومن واجب الْمَلِك رعايتها.
وأما العامل الثاني فهو عنصر الأرستقراطية، الممثل في «المجالس» مستشاري الملك، وفي كبار موظفي الدولة. وأخيرًا يأتي العنصر الديموقراطي وهو البرلمان، الذي يكفل وجوده الصالح العام والحريات العامة؛ لأن البرلمان يسدي النصيحة للأمير، ولأنه كذلك أداة للنشر والدعاية، وبدون البرلمان تبقى كتلة الشعب غير عضوية ولا حياة بها، على أنَّ الذي يجدر ذكره أنَّ «هيجل» لم يكن ينظر لهذا البرلمان كهيئة لتمثيل الأفراد، بل إنَّ البرلمان Landtag في رأيه جهاز يشمل «مجلسًا للسادة»، يمثل مصالح ممتلكي العقار و«الأرض»؛ أي الممتلكات الثابتة بطريق الوراثة، و«مجلسًا للنواب» يمثل مصالح المجتمع الأخرى الكبيرة؛ الثروة المنقولة، الزراعة، التجارة، الصناعة، إلخ. وعلى نحو ما هو متوقع لم يكن لهذا البرلمان السلطة التشريعية، بل إنَّ هذه من حق الملك وحده، يعاونه في ممارستها العنصران أو العاملان الآخران اللذان تتألَّف منهما الدولة، ولكن هذا البرلمان إنما هو جهاز لمساعدة الملك بتنوير الحكومة، ثم هو جهاز لتربية الشعب، بما ينشره عن الطريقة التي تؤدي بها الدولة وظائفها، وذلك في الصحف، التي يجب أنْ تكون حرَّة، في اللحظة التي لا يتوقع أحد فيها خطرًا على الدولة، أو توجيه الإهانة لها.

وهذا «المفهوم» أو المدرك الذهني نفسه، الذي شاهدناه في فلسفة «هيجل» عن الدولة، هو الذي يحدد كذلك علاقة الدول بعضها ببعض، فليس مطلوبًا من الدولة أنْ تسترشد بمبادئ الأخلاق في نشاطها، ومن الواجب؛ الاعتراف بأن الحرب ضرورة قائمة، ولا معدى عنها بمقتضى الأشياء، فالحرب مقبولة عقلًا، وهي مقدسة، وضرورة ملحة لتقويم عافية الشعوب وإبعاد المرض عنها، مَثل الحرب في ذلك مثل الأمواج التي تمنع الماء من أنْ يأسن أو ينقع، وفي أحايين تكون الحرب الوسيلة الوحيدة التي تتحقق بها الدولة؛ ولذلك اعتبر «هيجل» الحرب عاملًا ضروريًّا في تطور الدولة، وواضح أنَّ «هيجل» في هذا القول، قد انفصل تمامًا عن دعاة السلام — والسلام الدائم — من الفلاسفة والمفكرين في القرن الثامن عشر الذين كان السلم مثلهم الأعلى.

تلك إذن هي الخطوط العريضة لفلسفة «هيجل» السياسية، تلك الفلسفة التي أحدثت آثارًا بالغة في عالمه المعاصر، فلقد كانت التعاليم السياسية التي ذكرناها، تصدر عن «نظام» يختلف اختلافًا كليًّا عن «إيدولوجية» القرن الثامن عشر؛ أي المُثل العليا التي نادى بها فلاسفة ومفكرو هذا القرن، وكذلك عن «إيدولوجية» الثورة الفرنسية، والمذهب الحر والمعاصر، فتنكرت الهيجلية لذلك كله، ولقد اعترف بها المعاصرون على أساس أنها مختلفة تمامًا عن «الإيدولوجيات» التي أشرنا إليها. حقيقة خضعت «الفلسفة الهيجلية» فيما بعد لتفسيرات أخرى، مؤسَّسة على مبادئ متحرِّرة، وذلك على أيدي تلاميذ «هيجل» نفسه، ومن هؤلاء؛ كارل ماركس Karl Marx.

ولكن وقت أنْ نادى «هيجل» بآرائه، وبين معاصريه، كانت تعتبر «الفلسفة الهيجيلية» السياسية، فصمًا لكل علاقة مع المبادئ الحرَّة، وكأنما لم يكن الغرض الذي تريده سوى تسويغ سياسة الحكم المطلق التي صارت تطغى على أوروبا منذ سنة ١٨١٥، ولقد كان بهذا المعنى أن رَحَّبَ الملك البروسي؛ فردريك وليم الثالث، ووزير التعليم في بروسيا؛ «ألنشتاين» بهذه «الفلسفة»، والآراء التي أتى بها «هيجل»، فلم يلبثا أنْ دعيا «هيجل» منذ ديسمبر ١٨١٧ ليشغل كرسي الأستاذية بجامعة برلين؛ وذلك لأن فلسفة هيجل بفضل المبادئ أو العقيدة السياسية التي جاءت بها، قد أمدت بالقوة العظيمة سياسة الحكومات الألمانية القائمة على الاستبداد بالسلطة، والتي لم تكن تستند على «إيدولوجية» ما في نشاطها.

وإلى جانب تسويغ سيطرة الدولة، وفناء الفرد في الدولة، وتسويغ الحكم المطلق، أو استئثار الملك (والزعيم) بكل أسباب السلطة في الدولة، كانت الفلسفة السياسية «الهيجلية»، تتميز بقابلية أنْ تتولد منها نظرية «التوسع القومي»، أو أن تصبح هي ذاتها مسوغًا لهذه النظرية، التي تدعو لتسلط الدولة، ولإشباع كبرياء الشعب الألماني، فقد تفرَّعت عن الفلسفة الهيجلية نظريات تستند في الوقت نفسه على التاريخ، وعلى فلسفة هيجل، وهي النظريات التي سوف تظهر فيما بعد، إما في تفكير بسمارك، وإما في تفكير أدولف هتلر.٢٦

ومما يجدر ذكره أخيرًا أنَّ المرء لا يلبث أن يجد في الفلسفة الهيجلية، التفسير الذي يسوغ به تطور تاريخ بروسيا، والسياسة التي استرشدت بها بروسيا، حتى تصل إلى مكان الصدارة كدولة حديثة النشأة، سوف تتزعم الاتحاد الألماني، بل إن هيجل نفسه كان يشعر بهذا «الطابع» الذي تتميز به فلسفته وتفكيره السياسي، وذلك عندما تناول كأحد دروسه موضوع «القرابة الأصلية بين الدولة البروسية والفلسفة الهيجلية». ولقد اتخذت السياسة البروسية من هذه الفلسفة الهيجلية إنجيلًا لها، ومصدرًا تستمد منه عددًا لا يُحصى من الحجج والدعاوى التي تؤيِّد بها «سياستها»، وتجد فيها «المسوغ» الكافي لهذه السياسة، على أن «هيجل» قد استرعى كذلك الانتباه بضرورة تنظيم «الدولة»، وهي الفكرة التي كان الناشرون الألمان قد غفلوا عنها، عندما انحصر تفكيرهم في موضوع «الأمة»، فالآراء التي نادى بها «هيجل»، كان لها الفضل في إقناع الناس بألمانيا، بأنه حتى تتم وحدة ألمانيا، وحتى يصبح الألمانيون «أمة»، لا مناص من أن تتشكل ألمانيا كدولة، ومن أن تصبح أوَّلًا «دولة»، ولم يكن بألمانيا في الوقت الذي نادى فيه «هيجل» بآرائه سوى حكومة واحدة، يمكن أن ينطبق عليها تعريف «الدولة» كما قال به هيجل، وتلك كانت «بروسيا»، بروسيا التي عرفت وقتئذ كيف تبلغ في تكوينها وتطورها المعنى المقصود من فكرة الدولة، وتنظيم الدولة.

ولا جدال في أن الأثر الذي خلفته «فلسفة هيجل» كان عميقًا إلى أقصى درجات العمق، فكان نجاح «فلسفته» سريعًا ومباشرًا، وكان تأثر معاصريه في ألمانيا خصوصًا جارفًا، حتى لقد تركت هذه «الفلسفة الهيجلية» طابعها الذي لا يُمحى على الفكر الألماني بعد ذلك، ومن هذه الناحية إذن؛ يحق لنا القول بأن من الممكن اعتبار «الفلسفة الهيجلية» أحد العوامل الفاصلة في التاريخ، ليس فقط تاريخ ألمانيا، ولكن — بفضل نتائجها وآثارها — تاريخ العالم كله.

(٦) السياسة البروسية

ولقد احتلت بروسيا في ألمانيا هذه مكانًا خاصًّا، كما استطاعت أن تقوم بدور ذي شأن في تاريخ هذه البلاد، ولقد زَوَّد «هيجل» بروسيا — كما ذكرنا — بفلسفة المُثُل العليا التي بنت عليها حياتها، أو بتلك الإيدولوجية التي قامت عليها السياسة البروسية، وهي السياسة التي نعلم أنها قد أفضت إلى إنشاء الوحدة — أو الاتحاد الألماني، بعد الحوادث التي نحن بصددها بنيف وخمسين عامًا، ولو أنه مما يجب الانتباه إليه، أنَّ الاتحاد أو الوحدة الألمانية في السنوات التي تلت إنشاء النظام الألماني — في صورة ذلك الاتحاد الكونفدرائي الذي أقرَّه مؤتمر فينا في سنة ١٨١٥، كان لا يزال أمرًا بعيدًا، ولما يتطلع أحد بعد إلى تحقيقه.

وفي سنوات ١٨١٣–١٨١٥ تمتعت بروسيا بخطوة كبيرة لدى الشعب الألماني؛ بسبب أنَّ بروسيا هي التي تزعمت حركة إنقاذ ألمانيا وتحريرها من السيطرة الأجنبية الفرنسية، ولكن سرعان ما خابت الآمال التي عُقدت على بروسيا، عندما انحازت بروسيا إلى تأييد سياسة «مترنخ» الرجعية، وعملت على «تصفية» الوطنيين من الأحرار وقدماء المحاربين. ومع ذلك فهناك حقيقتان هامتان تجب ملاحظتها في تاريخ بروسيا في هذه الفترة من وجهة نظر القومية — موضع اهتمامنا دائمًا — أولاهما؛ استعادة بروسيا لنشاطها وانتعاشها، وذلك ما كانت بروسيا في حاجة ملحة إليه عقب انتهاء السيطرة الفرنسية مباشرة، ولقد عمدت الملكية البروسية، حتى يتسنى إصلاح ما فسد، إلى إحياء تقاليدها القديمة؛ أي تقاليد الحكومة ذات السلطة المستبدة أو المطلقة، والتي كانت مع ذلك، متسمة بالخير إلى جانب «الفاعلية» والنفوذ، فأحاط بالملك وزراء من الرجعيين، مثل: «فردريك أنسيلون»، الذي جعل الحكومة تتجنب فكرة التمثيل القومي أو الأهلي، ثم «ألتنشتاين» وزير التربية والتعليم، ثم «شمالز» و«كامبتز»، وقد سبق الكلام عن كل هؤلاء، فتخلى الملك ووزرائه الآن عن السياسة المتبعة سابقًا أيام السيطرة الفرنسية، وهي «السياسة» التي قامت وقتذاك على تقوية السلطة الملكية بتأييد الشعب لها تأييدًا «روحيًّا»، والتفاف الشعب حول الحكومة، واستأنفت الملكية البروسية سيرتها القديمة — قبل السيطرة النابليونية في ألمانيا — من حيث استعادة نظام الحكم القائم على فرض الرقابة البوليسية الصارمة، وتطبيق أساليب السلطة المطلقة والتعسفية.

ومن أمثلة ما حدث في ظل هذا النظام البوليسي والتعسفي، أنَّ الحكومة في سنة ١٨٢٣ ألقت القبض على مائة وعشرين طالبًا بتهمة إثارة الاضطرابات، فألقتهم في السجون مدة ثلاثة أعوام قبل محاكمتهم، ثم إنَّ الرقابة على الصحف لم تلبث أنْ ثقلت وطأتها، فألغت الرقابة كلَّ الصحف السياسية، وصادرت المطبوعات السياسية، ووُضعت الرسائل الخاصة (الخطابات) تحت رقابة الدولة، وفتح «الرقيب» خطابات العظماء أنفسهم مثل؛ «ستين»، «نيوبور»، وشليجل Schelegel إلخ، ومنعت «الرقابة» نشر أو إعادة طبع طائفة من الكتب لم تكن بحالٍ من الأحوال من طراز المطبوعات المثيرة للخواطر، من ذلك الكراسات التي ظهرت في القرن السادس عشر لأحد الفرسان (صغار النبلاء) الألمان؛ ألريك فون هتن Hütten،٢٧ ثم محاضرات «فيشته» المشهورة وَالْمُوجَّهة «للأمة الألمانية»، ومنعت الرقابة تمثيل مسرحيتي أجمونت Egmont، ﻟ «جيته» ووليم تل Teel ﻟ «شيلر»، وعَيَّنت طائفة من المفتشين «لتطهير» القاعات العامة المخصصة للقراءة والمطالعة.
ولقد تعاونت مع سياسة الضغط على الأذهان هذه، سياسة دينية غرضها إخضاع الروح وترويضها على طاعة الحكومة، فاتبع الملك البروسي مع شعبه من البروتستنت سياسة تفرض اتحادًا بالقوة بين الكنيسة اللوثرية والكنيسة الْمُصْلِحة، ولم يلبث أنْ نشأ نوع من الأرثوذكية «المتورعة»، تتسم بالتطرف والتعصب، كان أهم الدعاة إليها؛ فردريك جوليوس ستاهل Stahl الذي أنشأ «صحيفة الصليب»٢٨ لسان حال هذه الجماعة من «المتورعين»، ومع ذلك فقد كان «ستاهل» يهوديًّا اعتنق البروتستنتية، ثم ما لبث حتى أضاف إلى مبادئ «التقليديين» أو المتمسكين بالتقاليد التي نادى بها «هالر» صوفية جديدة، وأما الكاثوليك، فقد بقي أساقفتهم في السنوات الأولى يخضعون لتوجيهات الحكومة، وعلى نحو ما كانوا يفعلون أثناء السيطرة النابليونية. واستمر الحال على ذلك حتى بدأت الحكومة تعمل لتحويل أهل المذاهب الأخرى إلى البروتستنتية، فأخذ الأساقفة الكاثوليك يتقلبون عليها، وسرعان ما قام النضال بينهم وبين الحكومة في صورة علنية، حول مسألة الزواج المختلط بين الكاثوليك وأصحاب العقائد الأخرى، وتفاقم الخطب لدرجة أن عمدت الحكومة إلى سجن كل من رئيس أساقفة كولونيا وبوزن.

ولقد كان بسبب هذه السياسة إذن، أنْ انقطع ذلك التَّيَّار الذي كان من المنتظر أن يحمل معه أصحاب الآراء الحرَّة والمجددين، وكل أولئك الذين شعروا بالكراهية للنمسا نحو تأييد بروسيا المتمذهبة بالمبادئ «الحرَّة»، وبمعنى آخر، من الحركة القومية.

فشهدت بروسيا الإدارة (والحكومة) تسيطر سيطرة كاملة على «الدولة»، ولم تلبث أنْ انكمشت إلى مجرد إصلاحات إدارية بسيطة، كل تلك الوعود السَّخيَّة بالإصلاح الواسع الشامل التي كان المسئولون في بروسيا قد بذلوها أيام «المحنة» الوطنية، ففي ١٥ يونيو ١٨٢٣ صدر قرار أنشأ وأدخل إصلاحات على المجالس الإقليمية (الدياط)؛ أي تلك المجالس التي يرجع تاريخها إلى العصور الوسطى، والتي تألَّفت من نوَّاب عن ثلاث هيئات أو طبقات Curia، ينتخبهم أصحاب الأملاك العقارية وحدهم فقط، فهيئة أو طبقة النبلاء لهم وحدهم حق انتخاب نوابهم مباشرة، أمَّا الطبقتان أو الهيئتان الأخريان، فهما طبقة أو هيئة البرجوازي (الطبقة المتوسطة)، وطبقة أهل الريف (من المزارعين إلخ)، وليس لأهل هاتين الطبقتين حق الانتخاب المباشر، بل يجري انتخاب نوَّابهم على درجتين، وكان عدد المجالس (الدياط) الإقليمية ثمانية، لكل إقليم «دياط» واحد، وقد أُنشئ كل منهما بمقتضى قرار خاص منفصل، وذلك لإقامة الدليل على أنَّ إنشاءها لم يكن مبعثه الرغبة في استصدار «دستور» للدولة، وأما سلطات هذه المجالس (الدياط) الإقليمية فكانت ضئيلة ولا قيمة لها، فهي إنما تُدعى للانعقاد فقط حتى تستشيرها الحكومة فيما تريده هذه من قوانين تراها «الحكومة» ضرورية، وحتى تنظر هذه المجالس الشئون المحلية، مثل مد الطرق وتعبيدها، أو تقديم العرائض بشأن المطالب التي تريدها، وحتى فيما يتعلق بهذه العرائض، لم تكن الحكومة ملزمة بالإجابة عليها إلا بعد أن تصل إلى «برلين» العرائض التي من هذا القبيل من المجالس الثمانية بأجمعها، فلم يكن والحالة هذه للمجالس (الدياط) الإقليمية أي طابع تمثيلي، أو أي سلطة سياسية.
وفي الحقيقة قامت الإدارة في بروسيا على قاعدة المركزية الكاملة، فالدولة مقسمة إلى ثمانية أقاليم، على رأس كل منها «مدير» أو رئيس أعلى،٢٩ وهذه الأقاليم مُقَسَّمة إلى (٢٥) مديرية Bezirke، على رأسها حكومة إدارة مشتركة أو متضامة Recierung، وأما هذه المديريات فكانت مُقَسَّمة إلى نواحٍ أو دوائر Kreise بلغ عددها ثلاثمائة، يقوم على إدارتها رئيس ناحية أو مأمور Landrat، إلى جانب مجلس الناحية أو الدائرة، وقد أُنشئ هذا المجلس في سنة ١٨٢٥ ليزود بالمرشحين منصب المأمور، وهكذا وُجد في بروسيا نظام خاص بها للحكم والإدارة، كان بمثابة الحل الوسط الذي ينال موافقة الحكومة من ناحية وطبقة النبلاء من ناحية أخرى، ولقد تركت الحكومة النبلاء يتمتعون بنفوذ عظيم في إدارة شئون الحكم المحلية، عندما كان للنبلاء السيطرة في المجالس الإقليمية، ولأن المأمورين Landrate كانوا يُختارون من بين هؤلاء النبلاء، ويقترحهم مجلس الناحية أو الدائرة. فَشَبَّه المؤرخون هؤلاء النبلاء «بالمستنبت» الذي يمد بروسيا برجال الحكم والإدارة، وزيادة على ذلك فقد تركت الحكومة هؤلاء النبلاء يتمتعون بسلطة مطلقة على «فلاحيهم»، وفي نظير ذلك احتفظت الحكومة لنفسها بالهيمنة على كل المرافق العامة.

وهكذا أوجد هذا النظام البروسي جنبًا إلى جنب، وفي الوقت نفسه طبقة إقطاعية وطبقة «وظيفية» أي من الموظفين، فاقتسم الدولة حينئذٍ نوعان من الأرستقراطية؛ أرستقراطية النبلاء، وأرستقراطية البيروقراطية، ومن الواضح أن تنظيم الدولة بهذه الصورة، إنما يتفق مع النظريات والآراء التي أتى بها «هيجل»، وحرصنا على تحليلها وتوضيحها في الصفحات السابقة.

ومع ذلك فقد كانت هذه الإدارة أو هذه البيروقراطية من النوع الجيد، ويرجع الفضل في ذلك إلى عملية «الاختيار» الطويلة التي يتم بها ترشيح الموظفين لمناصبهم في الدولة، وعقد امتحانات المسابقة، ووضع اللوائح التي تُؤمِّن هؤلاء على معاشهم أثناء الخدمة وعند تقاعدهم، وتمتع رؤساء المصالح أو الإدارات بحق واسع في تصريف شئون مصالحهم، مما تضافر جميعه على إنشاء «إدارة» امتازت بكفاية أعضائها وأمانتهم، الأمر الذي أوجد إدارة نشيطة وحازمة كذلك، ولكن هذه «الإدارة» لم تكن محبوبة من الشعب؛ بسبب «استقلاء» أفرادها، ومعاملتهم سواد الناس بالغلظة والخشونة.

وهذه «الإدارة» استطاعت مع ذلك تأدية خدمات جليلة لبروسيا، من ذلك تنظيم شئون المالية، وحل مشكلة الأراضي — وإنْ كان ذلك في صالح النبلاء — وإعادة إنشاء الجيش وتنظيمه، ووضع الترتيب الذي أمكن به إدماج المقاطعات الجديدة التي أُعطيت إلى بروسيا في سنة ١٨١٥، وهي بروسيا الراينية، ووستفاليا، ولقد أمكن أنْ يبقى كل هذا العمل الذي تَمَّ على يَدِ هذه «الإدارة» النشيطة — وخصوصًا خلال السنوات الأولى من قيام هذا النظام — أمكن أن يبقى حتى وفاة فردريك وليم الثالث سنة ١٨٤٠، بل وفي وسعنا القول: أنه ظل باقيًا في الحقيقة حتى سنة ١٨٤٨؛ لأن الثورات التي قامت في هذه السنة الأخيرة، هي وحدها التي كان في وسعها هدم هذا النظام، وتقويض أركانه فعلًا.

وعلى ذلك فقد كانت تبدو بروسيا في ألمانيا وقتئذ دولة لا تدين بالمبادئ الحرَّة، ولكن دولة تقوم على «نظام» محكم، ويصح لذلك اتخاذها نموذجًا لما يجب أنْ تكون عليه «الحكومة» والإدارة في سائر أنحاء ألمانيا، وثمة ملاحظة أخرى، هي أن بروسيا مع أنها النموذج الذي تحتذيه الدول والحكومات الألمانية، فلا يجب أن يغيب عنا أن الشعور العارم بالمحلية والإقليمية البحتة كان يسودها، فكانت دولة «بروسية» لحمًا ودمًا، ولا يمكن بحالٍ اعتبارها «ألمانية».

بيد أنَّ هذه «الإدارة البروسية» كانت صاحبة الفضل في خلق أو صنع ذلك الاتحاد الجمركي، الذي انتهى الأمر بامتداده حتى شمل القسم الأعظم من ألمانيا، ونعني بذلك «الزولفرين»، و«الزولفرين» هو الحادث الثاني إلى جانب إعادة تنظيم بروسيا، الذي كان له أكبر الأثر في مصنع الاتحاد الألماني في النهاية، وبزعامة بروسيا نفسها كذلك، وبالتالي تطور فكرة القومية الألمانية.

(٧) الزولفرين Zollverein

لقد ساد الاعتقاد طويلًا، بأن إنشاء «الزولفرين» — الاتحاد الجمركي — كان نتيجة حركة تلقائية نبتت في الأوساط الاقتصادية في ألمانيا، تستهدف وحدة البلاد، ويدفعها الرأي العام بشكل أجبر الحكومة على السير في الطريق الذي أرادته هذه الحركة؛ أي إنَّ مبعث «الزولفرين» كان قيام حركة قومية مستندة على شعور قومي يسود ألمانيا وقتئذ، ومع ذلك فقد اتفق رأي المؤرخين بعد البحوث المستفيضة في هذا الموضوع في السنوات الأخيرة، على أنَّ القول بأن الزولفرين كان نتيجة «حركة قومية»، إنما هو قول خاطئ، لقد استندت هذه الأسطورة على بعض الكتابات والمشروعات التي تقدَّم بها على وجه الخصوص اثنان من الناشرين من أهل ألمانيا الجنوبية هما؛ فردريك ليست List، وكارل فردريك نبنيوس Nebenius.

وكان فردريك ليست (١٧٨٩–١٨٤٦) أستاذًا للاقتصاد السياسي بجامعة «توبنجن»، وصاحب شهرة كصحفي نابه، روَّج لفكرة إنشاء اتحاد كونفدرائي لإزالة الحواجز الجمركية بين مختلف الإمارات الألمانية، ووضع تعريفة موحدة، وإنشاء الوحدة الاقتصادية، وقد تأسَّست بالفعل في غضون سنة ١٨١٩ في فرانكفورت جمعية من التجار ورجال الصناعة الألمان؛ لحث الحكومة على قبول الاتحاد الكونفدرائي، وقد اختير فردريك ليست أمينًا عامًّا لهذه الجمعية، وسرعان ما صار هو روحها وقوتها الدافعة، وأعد بلسان هذه الجمعية «عريضة» في ٢٤ مايو من السنة نفسها، قدمت «الدياط» تطلب اتحادًا جمركيًّا، وإنشاء برلمان مشترك لألمانيا، ووضع دستور مشترك للإمارات الألمانية. ولقد بقي «ليست» خلال السنوات التالية يقوم بحملة واسعة من أجل إلغاء الضرائب الجمركية الداخلية، وأشرف على إصدار مجلة بعنوان «لسان حال التجارة والصناعة الألمانية» لترويج هذه الآراء ذاتها.

على أنَّ مشروعات فردريك ليست وكتاباته كان يغلب عليها الخيال، ولم يعنِ «ليست» بتحري الدقة في بيان ما يريد تصويره، كما أنَّ مشروعاته لم تستند في رأي كثيرين على نظام تجاري معين، فرفض «الدياط» العريضة المقدمة إليه، ولم يلبث أن شُغل «ليست» بمسألة أخرى، فَسُمِّى مندوبًا أو نائبًا عن بلدته روتلنجن Reutlingen في ورتمبرج سنة ١٨٢٠، ولكنه سرعان ما طُرد من المجلس، وحُكِم عليه بالسجن عشرة شهور عندما شرع ينقد نظام البيروقراطية في هذه «الدولة»، ثم لجأ إلى فرنسا للعيش بها، وزار إنجلترة وسويسرة، ثم قفل عائدًا إلى ألمانيا بعد سنوات قليلة، ولكنه لم يلبث أن سُجن ثانية في «ورتمبرج»، فقرَّر عند الإفراج عنه الهجرةَ إلى أمريكا (١٨٢٥)، وكان «لفاييت» الذي قابل «ليست» قبل ذلك في باريس قد وعد بالترحيب بهذا الأخير عند ذهابه إلى أمريكا. ولم يعد «ليست» إلى ألمانيا إلَّا في سنة ١٨٣٢، وكان «ليست» عندئذٍ قد صار صاحب ثروة كبيرة، وله أصدقاء عديدون، ووجد أنَّ الحركة التي كان قد قادها منذ ثلاث عشر سنة من أجل الإصلاح الجمركي قد بلغت ذروتها، ولكن بغير الصورة التي كان ينتظرها، من حيث إنَّ هذه الحركة لم تكن تستهدف إصلاحًا جمركيًّا عامًّا كما كان يريد «ليست»، ثم من حيث إنَّ النمسا لم تكن هي المتزعمة لها، وعلى نحو ما كان «ليست» يريد في الحالتين، بل إنَّ بروسيا كانت هي المحور الذي دارت حوله حركة الاتحاد الجمركي، كما أن هذا الاتحاد كان قد أخذ يتم على مراحل بطريق اتفاقات عامة بين مختلف «الدول».
أمَّا كارل فردريك نبينوس، فكان صاحب فضل كبير حقيقة في قيام «الزولفرين»، وكان «نبينوس» من رجال الاقتصاد، نجح كوزير في تنظيم مالية «بادن»، وكان صاحب نشاط ظاهر في المؤتمرات «الوزارية» التي عُقدت في فينا في شتاء ١٨١٩-١٨٢٠، من أجل الاستماع لآراء «جمعية التجار ورجال الصناعة الألمان»، وكان «فردريك ليست» من بين الذين أدلوا بوجهات نظرهم، وطالب بضرورة إنشاء الوحدة التجارية؛ أي اتحاد الأمة الألمانية اقتصاديًّا، وفي هذه المؤتمرات أعدَّ «نبينوس» مذكرة قوية، وفي عبارات دقيقة واضحة؛ لإنشاء نظام لاتحاد جمركي فدرائي، ويقترح عدة مقترحات لتنفيذ هذا النظام، تشبه لحد كبير الخطوات التي اتُّخذت فيما بعد لإقامة «الزولفرين»، ولو أنَّ أسلوب العمل الذي أوصت به هذه المذكرة، كان يختلف اختلافًا جوهريًّا عن ذلك الذي اتبع فعلًا في إنشاء الزولفرين، أَضِفْ إلى هذا أنَّ أحدًا من المسئولين البروسيين الذين أشرفوا على تنفيذ السياسة التي أسفرت عن وجود «الزولفرين» لم يكن يعرف شيئًا — على ما يبدو — عن هذه المذكرة طوال الأربعة عشر عامًا التالية؛ أي إلى الوقت الذي نشر فيه «نبينوس» مذكرته في سنة ١٨٣٥،٣٠ مما جعل جميعه متعذرًا القول بأن «نبينوس» كان نفسه مبتدع «الزولفرين».

والحقيقة في رأي كثيرين أنَّ «الزولفرين» لم يكن في فكرته الأساسية وبالطريقة التي تم صنعه بها، من «خلق» فردريك ليست، أو كارل بنينوس، فقد كان كلاهما يدين بوجهة نظر «ألمانية»، وليس بوجهة نظر «بروسية»، بل إن مشروعاتهما كانت «ترتيبات» مبعثها المعارضة ضد بروسيا، وَكَردِّ فعل لنشاط بروسيا ومحاولاتها من أجل إصلاح نُظُمِها الجمركية.

والجدير بالذكر — بعد هذه الحقيقة الأولى — أنَّ «الزولفرين» كان إجراءً اقتصاديًّا، وليس عملًا سياسيًّا، ولم يكن من صنع رجال السياسة القوميين، بل كان من تنفيذ الإداريين البروسيين؛ فون ماسن «كارل جورج» Maassen، من رجال الاقتصاد المعدودين، ومن أنصار حرية التجارة، والذي شغل منصب وزير المالية من ١٨٢٥ إلى ١٨٣٠، ثم فون موتز «كريستيان أدولف» Motz، أحد الذين شغلوا هذا المنصب كذلك، وأخيرًا آيشهورن (جوهان ألبرت فردريك) Eichhorn وزير الخارجية، وقد سبقت الإشارة إليه.

فقد حدث في سنة ١٨١٥، عندما أُعيد «النظام القديم» إلى ألمانيا، استرجعت ألمانيا كذلك نظامها الجمركي، فصارت الحواجز الجمركية تحيط بأعضاء «الاتحاد الكونفدرائي الألماني الثماني والثلاثين» بوصف هؤلاء حكومات مستقلة، ثم في داخل هذه الدول أُعيدت رسوم المرور (المكوس) الداخلية، والرسوم الجمركية على البضائع، وضرائب عبور الحدود على البضائع المنقولة من دولة إلى أخرى، ثم الاحتكارات الحكومية، إلى غير ذلك، على أنه كانت هناك ثغرات معينة في نظام هذه الضرائب الداخلية، والحواجز الجمركية، منشؤها وجود «هانوفر»، والمدن الألمانية الحرَّة من ناحية، ثم تقرير حرية الملاحة في الأنهار الألمانية، على نحو ما جاء في قرار مؤتمر فينا النهائي سنة ١٨١٥ من ناحية أخرى؛ لأنه صار ممكنًا بهذين الطريقين أن تتدفق المتاجر من منتجات المصانع الإنجليزية على ألمانيا، بالرغم من النظام الجمركي القائم، وزاحمت هذه المتاجر الإنجليزية منتجات الصناعة الألمانية الحديثة العهد.

وتضافر عاملان على إخراج «الزولفرين» إلى عالم الوجود، أحدهما تلك الشكايات التي كان يرددها التجار ورجال الصناعة في البلاد الراينية، وهم الذين كادت تحطمهم المزاحمة الإنجليزية تمامًا؛ لأن «وضع» هؤلاء من الناحية الإدارية لم يكن قد تَعَيَّن بعد، فطلب التجار ورجال الصناعة الراينيون منذ سنتي ١٨١٦ و١٨١٨ من الحكومة البروسية، التي صاروا الآن مرتبطين بها (منذ تسوية فينا سنة ١٨١٥)، أن تضع حلًّا لمسألة الضرائب الجمركية مستندًا على المبادئ الحرَّة. وأما العامل الآخر، فقد كان ذلك الارتباك الضريبي الذي انغمست فيه بروسيا، عندما كانت تتألَّف من أربعة أجزاء مختلفة، تسود في داخلها كل أنواع الأنظمة والقواعد القديمة، لدرجة أنه صار يوجد في بروسيا سبع وستون تعريفة جمركية مختلفة، ولو أنها مرتبطة بضريبة «غير مباشرة» معينة تدفعها المدن على السلع المستهلكة داخليًّا، هي: «ضريبة الإنتاج»،٣١ فكانت الضريبة الجمركية ممتزجة بهذه الضريبة الإنتاجية، وكان من أجل الخروج من هذا التشويش والارتباك، أنْ صدر أول قانون لهذه الغاية في ١١ يونيو ١٨١٦، ألغى المكوس النهرية؛ أي رسوم المرور والملاحة في الأنهار، كما ألغى الضرائب الجمركية الداخلية والإقليمية، وجعل تحصيلها عند حدود المقاطعة؛ أي حدود كل إقليم من الأقاليم البروسية، ثم صدر قانون ثانٍ في ٢٦ مايو ١٨١٨ أوجد «تعريفة» موحدة لكل بروسيا، وقد كانت هذه التعريفة معتدلة لدرجة لا تشجع «التهريب»، فكان الغرض من هذين القانونين: «تبسيط» النظام الضريبي، وتوحيد الضرائب الجمركية في الأراضي البروسية ذاتها، على أنه كانت توجد في داخل الأراضي البروسية جيوب Enclaves؛ أي مساحات معينة من الأراضي التابعة لدول أخرى ألمانية غير بروسيا، فكان حوالي الاثنتي عشرة من هذه الدول الألمانية الخارجية، تملك عددًا من هذه «الجيوب»، بلغ سبعة وعشرين في داخل الأراضي البروسية، وكان كل واحد من هذه «الجيوب» — وعلى نحو ما هو متوقع — تحيط به الجمارك البروسية من كل جانب، ومن ناحية أخرى، فإن هذا النظام الضريبي — كما ذكرنا — كان يشمل الضرائب غير المباشرة الْمُحَصَّلة على السلع المستهلكة «ضريبة الإنتاج» إلى جانب الضرائب الجمركية ذاتها، وكانت هذه الضرائب بنوعيها تُحَصَّل معًا، ثم كانت هناك تعريفة مرور للمتاجر الخارجية التي تمر عبر الأراضي البروسية في أي قسم من أقسامها، وكانت «ضريبة المرور» هذه مصدر ربح للحكومة في الوقت نفسه، بالأداة التي تستطيع أن تضغط بها اقتصاديًّا على الحكومات (والدول) المجاورة لها، ولقد كانت كل الطرق تقريبًا الذاهبة من شمال ألمانيا إلى جنوبها، تخترق الأراضي البروسية في جزء من أجزائها؛ وذلك بسبب «موقع» بروسيا وامتداد أراضيها شرقًا وغربًا في وسط ألمانيا، فلم يشذ عن ذلك غير طريقين؛ الخط من همبورج إلى هانوفر وكاسل في الغرب، ثم طريق «ليبزج» التجاري مع بولندة وروسيا؛ ولذلك فقد أثارت الضرائب الجمركية البروسية تذمر «الدول» الألمانية الأخرى وغضبها.
وعندما أنشأت بروسيا نظام التعريفة الجمركية الموحدة، وهي التي صارت مطابقة لفرض ضريبة مرور Transit مُوَحَّدة، اشتدت نقمة الحكومات التي لحق بها الأذى، وتزايد صخبها، فأعلنت هذه أنَّ بروسيا قد صارت اللصوصية الحقيقية سياستها، وأنها تريد نهب سائر الألمانيين، وتعتدي على حقوق السيادة التي للدول الأخرى، وأنها خرقت بعملها هذا على وجه الخصوص المادة التاسعة عشرة من وثيقة الاتحاد الكونفدرائي، التي أعلنت وجوب إنشاء نظام للضرائب الجمركية، بالاشتراك فيما بين الدول أعضاء هذا الاتحاد، واحتجت هذه الحكومات على بروسيا في المؤتمرات التي عُقدت في كارلسباد وفينا (١٨١٨–١٨٢٠)، ولكن الحكومة البروسية لم تعِر هذه الاحتجاجات أي التفات، وصممت على التمسك بتعريفتها الجمركية، وأمام هذا التصميم إذن، لم تجد بعض الحكومات مناصًّا من الدخول في مفاوضات فيما بينها؛ لتدبير خطة للدفاع عن نفسها ضد التعريفة البروسية، وكان بفضل جهود وزير هس دارمستاد، دي تيل du Thil؛ أن أسفرت هذه المفاوضات مؤقتًا عن إنشاء مجموعتين في سنة ١٨٢٤؛ مجموعة من دول أو حكومات الراين، وأخرى مؤلَّفة من يفاريا وورتمبرج.
ولقد نشأ عن وجود «الجيوب» التي ذكرناها في الأراضي البروسية متاعب وإزعاجات كثيرة لحكومة بروسيا، فقد كانت هذه الجيوب تشجع «التهريب» كما كانت هي ذاتها، تعاني مضايقات كثيرة بسبب «الجمركية» التي فرضتها بروسيا حولها، والتي حرمت أهل هذه «الجيوب» حرية الحركة والانتقال من الدول (أو الجيوب)، التي ينتمون إليها إلى أماكن أخرى، ولقد نجم من هذه المتاعب المتزايدة التي صارت تعانيها هذه الدول (الجيوب)؛ أن عمدت إحداها «شوارز بورج – سوند هاوسن»٣٢ إلى التفاهم مع الحكومة البروسية، وطلبت من هذه الأخيرة إدماجها في نظام التعريفة البروسية، ووافقت بروسيا على ذلك في ٢٥ أكتوبر ١٨١٩، ولم تمضِ ثلاث سنوات حتى حذت (في سنة ١٨٢٢) ثلاثة «جيوب» أخرى حذوها، فأُلغيت الضرائب الجمركية في هذه «الدول» الصغيرة التي صارت تشملها التعريفة البروسية، وصارت تدفع لها الحكومة البروسية، نصيبها من حصيلة الجمارك العامة، كل واحدة بنسبة سكانها. ثم إن بروسيا بقيت تحترم حقوق السيادة العليا التي لهذه الدول الصغيرة، من حيث إنَّ حكومة هذه الدول استمرت تنظر المسائل الخاصة بالتفتيش، ومراقبة تجارة التهريب ومصادرة المتاجر، واستصدار الأحكام في هذه القضايا.

وواضح أنَّ هذا «الترتيب» الذي أدخل عددًا من الدول الصغيرة في نطاق التعريفة الجمركية البروسية، بالشروط التي رأيناها، لم يكن شيئًا مذكورًا، فلم يكن يتعدى هذا الدور الأول في تاريخ الزولفرين، مجرد إنشاء تعريفة مشتركة أو مُوَحَّدة يسري تطبيقها على الأرض البروسية جميعها، وعلى عدد من «الجيوب» التي كانت تحيط بها هذه الأراضي البروسية ذاتها، والذي يجدر ذكره أنه لم يكن من المستطاع خلال عشر السنوات التالية، التقدم بهذا التنظيم أو الترتيب خطوات أكثر أو أوسع مدى.

على أنَّ مرحلة جديدة لم تلبث أنْ بدأت عندما تقلَّد «فون موتز» منصب وزير المالية في بروسيا في سنة ١٨٢٥، ذلك أنَّ «فون موتز» لم يلبث أنْ افتتح هذا الدور الثاني في تاريخ الزولفرين باتباعه «سياسة جمركية هجومية» — إذا صح هذا التعبير — ضدَّ الحكومات (الدول) الألمانية الأخرى، فقد بدأ «فون موتز» بإصلاح الإدارة المالية في بروسيا، وإعادة النظام إلى مالية الدولة، ووضع «ميزانية» صحيحة وقويمة، كما عمل جميع كل فروع الإدارة الاقتصادية في مملكة بروسيا في يد وزير المالية، حتى إذا انتهى من هذا التنظيم الداخلي، شرع يعمل لإدخال «الجيوب»، التي بقيت تقاوم النظام الجمركي البروسي ضمن هذا النظام نفسه، وهكذا أمكن بين عامي ١٨٢٦، ١٨٢٨ أن «تندمج» هذه الجيوب الواحد بعد الآخر في نظام «التعريفة» البروسية، فاختفت تجارة «التهريب»، وأسفرت إصلاحات «فون موتز» عن اقتصاد ملحوظ في نفقات الإدارة، وتبسيط الإجراءات الإدارية المالية.

وأما هذا النجاح الذي أدركته بروسيا، بفضل إصلاحات «فون موتز»، من حيث إنشاء الإدارة المبسطة، والتعريفة الْمُوَحَّدة الظاهرة، ومن حيث الاقتصاد في نفقات الإدارة، فإنه لم يلبث أنْ صار مثالًا يجب أن تحتذيه الحكومات المجاورة، وذلك في الوقت الذي كانت فيه هذه الحكومات المجاورة ذاتها لا تزال تتجادل فيها بينها حول خير الطرق لإنهاء صعوباتها المالية، وكانت غراندوقية هي درمستاد — إحدى الدول المجاورة لبروسيا — تعاني آنئذ على وجه الخصوص أزمة مالية قاسية، فبادرت بطلب المفاوضة مع بروسيا.

وكانت هي درمستاد تتألَّف من جزءين مفصولين عن بعضهما بعضًا، وتقع علاوة على ذلك بين قسمي بروسيا، بروسيا الراينية والوستفالية في الجانب الغربي، والأقاليم البروسية الوسطى من الجانب الشرقي، مما خنق نشاطها «هس درمستاد» الاقتصادي والصناعي بفضل الحواجز (أو الضرائب) الجمركية البروسية المقامة على جانبيها، وعلى ذلك فقد اقترحت «هس درمستاد» في يوليو ١٨٢٧ على بروسيا المفاوضة لعقد معاهدة تجارية معها، واستغرقت المفاوضات بعض الوقت، ودارت في جو من السرية والكتمان، إلى أنْ انتهت أخيرًا بإبرام معاهدة في ١٤ فبراير ١٨٢٨، ومع ذلك فإن هذه لم تكن معاهدة تجارية، بل كانت متعلقة بانضمام «هس درمستاد» إلى النظام الجمركي البروسي، في صورة اتحاد جمركي بين الدولتين، وعلى أنْ يكون القانون الجمركي البروسي الصادر في سنة ١٨١٨ (٢٦ مايو)، هو أساس التعريفة الجمركية بين الدولتين، والذي تجدر ملاحظته أنَّ هس درمستاد قد تفاوضت مع بروسيا مفاوضة النِّدِّ للندِّ، واحتفظت كل «دولة» منهما باستقلالها الإداري الداخلي، وصار لكل منهما حق الاعتراض Veto والمناقشة بشأن كل ما يتعلق بتعديل التعريفة الجمركية، وأما مدة هذه المعاهدة فكانت ست سنوات، وهكذا نرى أن تحولًا قد حدث، انتقل بفضله الاهتمام من مجرد وضع تعريفة جمركية بروسية مُوَحَّدة، إلى إنشاء اتحاد جمركي بين دولتين معنيتين، أدى إلى إنشاء «الزولفرين».

ولقد أثارت هذه المفاوضة بين بروسيا وهس درمستاد، عاصفة من التذمر والاحتجاج الشديدين في بقية ألمانيا، فلم يلبث أنْ أسفر هذا التذمر عن إنشاء اتحاد جمركي بين بفاريا وورتمبرج، كانت قد بدأت المفاوضة من أجله من مدة سابقة، ثم صار التوقيع على معاهدته في ١٨ يناير ١٨٢٨، ثم سرعان ما برزت إلى الوجود، نتيجة لهذا التذمر كذلك، كتلة جمركية ثالثة و«وسطى» بمقتضى معاهدة وُقعت في فرانكفورت في ٢١ مايو ١٨٢٨؛ وكانت هذه الكتلة تتألَّف من سبع عشرة «دولة» أهمها؛ هانوفر، وسكونيا، وهس كاسل، وكانت مدة هذا الاتفاق ست سنوات.

وأشارت هذه التكتلات غضب «فون موتز»، الذي أعلن أنه سوف يقوم ضد هذه الاتحادات الجمركية «بحرب جمركية» دون رحمة أو شفقة، وهدد بإغلاق الطرق التجارية في وجهها، على أنَّ الدول (الحكومات) الجنوبية سرعان ما وجدت أنَّ الاتحاد الذي حصل بينها، لا يمكن أنْ يدر عليها ربحًا ملحوظًا، فاقتصاديات «بفاريا» تشبه شبهًا كبيرًا اقتصاديات «وربمترج»، حتى إنه ليتعذر على إحداهما أن تجني أية فائدة من هذا الاتحاد الجمركي، فكانت متحصلات الجمارك ضئيلة، حتى تكلف جباية الضرائب الجمركية (٤٤٪) من قيمة هذه المتحصلات، أضف إلى هذا أنَّ إحدى مقاطعات بفاريا — البلاتينات البفارية — كانت معزولة عن سائر أقاليم المملكة؛ لوقوعها على الضفة الأخرى من الداين، في حين تفصلها هس درمستاد وبادن عن بقية المقاطعات، وعلى ذلك لم تلبث بفاريا وورتمبرج أنْ رأتا ضرورة المفاوضة مع بروسيا، فبدأت المفاوضات في يناير ١٨٢٩، من أجل إبرام معاهدة تجارية، وأسفرت عن عقد هذه المعاهدة في ٢٧ مايو ١٨٢٩، ولم تكن هذه تستهدف اتحادًا جمركيًّا، بل كانت متعلقة بتخفيض الضرائب الجمركية بصورة تدريجية بين الكتلتين أو الاتحادين، على أن يكون مفهومًا أنَّ إلغاء الضرائب الجمركية كلية بين هذين الاتحادين، هو ما يجب الوصول إليه في النهاية.

ولقد حاولت بروسيا كذلك التغلب على الصعوبة التي أوجدها اتحاد الوسط الجمركي، باختراق الحواجز الجمركية التي امتدت من هذا الجانب صوب ألمانيا الجنوبية، فبدأت بروسيا بالتفاهم مع «دولتين» من صغرى الدول الواقعة خارج بروسيا، والتي كان يوجد بينهما مع ذلك «جيب» بروسي، واللتان كان يهمهما الانضمام إلى الاتحاد البروسي؛ لتسهيل التجارة، أما هاتان الدولتان، فكانتا؛ ساكس كوبرج Saxe-Coburg، ساكس ماييننجن Saxe Meiningen، فتم الاتفاق على إنشاء طريق تجاري، يتحمل نفقاته الأطراف الثلاثة، يصل إلى بروسيا وهاتين الدولتين، ويبدأ من لانجنسالزا Langensalza في بروسيا، فيمر من ساكس كوبرج، وساكس ماينتجش، ومن «الجيب» البروسي، حتى ينتهي من جانب عند ورتزبرج Wurtzburg في بفاريا، ومن جانب آخر عند بامبرج Bamberg في ورتمبرج؛ أي إنَّ هذا الطريق الذي يمر عبر الاتحاد الأوسط، صار يربط الأراضي البروسية بالأقاليم الجنوبية.
ثم إنَّ بروسيا قد عمدت كذلك إلى الاتفاق مع غراندوقية مكلنبرج Mecklenberg في شمال ألمانيا، والواقعة على ضفة نهر الألب اليمنى، لإنشاء طريق يمتد بطول نهر الألب على ضفته اليمنى، ويصل إلى «همبورج».

وبفضل هذين الطريقين إذن صوب الجنوب إلى بفاريا وورتمبرج، وصوب الشمال إلى همبرج، ظفرت بروسيا بطريق للمواصلات التجارية مستقل عن «اتحاد الوسط» الجمركي، وبذلك تكون بروسيا قد تغلبت على الصعوبة التي أوجدها تشكيل «اتحاد الوسط»، وهو الذي اعترض طريق مواصلاتها مع البحر في الشمال من ناحية، ومع دول الجنوب من ناحية أخرى، ولا جدال في أنَّ مركز بروسيا الاقتصادي قد ازداد قوة بفضل هذه الجهود التي قام بها «فون موتز».

ولم تلبث أنْ بدأت بعد ذلك المرحلة الثالثة والأخيرة في تاريخ الزولفرين، وهي المرحلة التي انتهت بإنشاء هذا الاتحاد الجمركي في صورته الكبرى، فالمعروف أنَّ «الزولفرين» — كما رأينا — كانت حتى هذه اللحظة تشمل دولتين فقط، هما؛ بروسيا، وهس درمستاد، أما في هذه المرحلة الثالثة، فإن «الزولفرين» سوف يشمل عددًا آخر من الدول الألمانية.

ففي سكسونيا كان يشكو الأهلون من أزمة اقتصادية مستحكمة، ثم إنَّ الحركات التي قامت في ألمانيا متأثرة بثورة يوليو ١٨٣٠ في باريس، قد أزالت من ناحية أخرى عددًا من الحكومات (الوزارات) الرجعية في ألمانيا، والتي عُرفت بعدائها الشديد لكل نظام جديد، وفي حين كان الاتحادان البروسي والجنوبي يصلان إلى اتفاق بشأن تخفيض الضرائب الجمركية بينهما (معاهدة ٢٧ مايو ١٨٢٩ التي سبقت الإشارة إليها)، وكانت دول اتحاد الوسط الصغيرة، والواقعة خصوصًا بين الاتحادين الكبيرين، قد أخذت تشعر بحدة الأزمة الاقتصادية، وتبدي رغبتها في الانضمام إلى الاتحاد الجمركي البروسي، فتم انضمام ساكس فايمر في ١١ فبراير ١٨٣١، ثم هس كاسل في ٢٥ أغسطس من السنة نفسها، وكان انضمام ساكس فايمر وهس كاسل إلى الاتحاد الجمركي البروسي خطوة كبيرة الأهمية؛ لأن هس كاسل تتاخم الأراضي البروسية من كل جانب، فهي تتاخم المقاطعات الداينية في الغرب، ثم المقاطعات الوسطى؛ وهي لذلك بمثابة الحلقة التي تربط بين قسمي الدولة البروسية، وقد اضطرت سكسونيا إلى التسليم في النهاية (في مايو ١٨٣٤).

أما المفاوضات مع دول الجنوب، فقد استطالت قرابة ثلاث سنوات، ولكنها انتهت إلى إبرام معاهدة في ٢٢ مارس ١٨٣٣، دخلت بفضلها بفاريا وورتمبرج في اتحاد جمركي مع «الزولفرين» لمدة ثماني سنوات، ثم لم تلبث أنْ انضمت سكسونيا إلى الزولفرين في ٣٠مارس ١٨٣٣، ثم ثورينجيا Thuringia في ١٠ مايو، (على أن يبدأ تنفيذ الاتحاد في أول يناير من العام التالي)، ثم انضمت إلى الزولفرين في السنوات التالية كل من غراندوقية بادن (١٢ مايو ١٨٣٥)، ودوقية هس نساو Hesse-Nassau (١٠ ديسمبر ١٨٣٥)، وأخيرًا مدينة فرانكفورت الحرَّة في ٢ يناير ١٨٣٦، وبذلك صار الزولفرين يشمل وقتئذ (٢٥) دولة، يبلغ عدد سكانها ستًّا وعشرين مليون نسمة. كان عدد سكان بروسيا وحدها ثلاثة عشر مليونًا، أما هذه الكتلة الكبيرة فقد تمتعت بنظام جمركي موحد، قام على أساس التجارة الحرَّة بين أعضاء هذا الاتحاد، ثم المشاركة في حصيلة الضرائب الجمركية بنسبة عدد سكان كل عضو من الاتحاد، ومما تجدر ملاحظته أنه في حين كانت حدود بروسيا الجمركية في سنة ١٨١٩ تبلغ ١٠٧٣ ميلًا، صارت حدود الزولفرين الجمركية الآن — أي في سنة ١٨٣٥ — تبلغ ١٠٦٤ ميلًا؛ أي أقل مما كانت تبلغه الحدود الجمركية التي لبروسيا وحدها قبل الزولفرين.

على أنَّ الذي يعنينا على وجه الخصوص في تاريخ الزولفرين في هذه الدراسة، إنما هو معرفة الصلة بين هذا الاتحاد الجمركي وفكرة القومية الألمانية، أو بقول آخر؛ مدى تجاوب الزولفرين مع القومية الألمانية، والوقوف على مبلغ تشجيع الزولفرين للحركة القومية في ألمانيا.

والذي تجدر ملاحظته في هذه المسألة، أولًا؛ أنَّ الزولفرين لم يكن يشمل كل ألمانيا، بل بقيت خارجة عن هذا الاتحاد الجمركي ثلاث عشرة «دولة»، كانت على نوعين مختلفين، أنشأت جماعة منها نوعًا من الاتحاد الجمركي كذلك، عُرف باسم ستورفرين Steuerverein أي الاتحاد الضريبي، أعضاؤه؛ هانوفر، وبرنسويك، وأولد نبرج، وبرمن، وهمبورج، مما يدل على أنَّ هذا الاتحاد «ستورفرين» كان يتألَّف من الأقاليم البحرية المطلة على بحر الشمال، والتي تقوم العلاقات التجارية الوثيقة بينها وبين إنجلترة، وأما بقية الدول (الثمان) فقد احتفظت بوضعها المستقل عن كلا الاتحادين «الزولفرين» و«الستورفرين».

وفيما يتعلق بالدول أو الحكومات التي يتألَّف منها الزولفرين، فمع أنه كان يربط بينها جميعًا الاتحاد الجمركي، فقد احتفظت كل منها بأنظمتها الخاصة في مسائل الضرائب غير المباشرة والموازين والمقاييس، والعملة المتداولة، والمكوس الداخلية، وغير ذلك.

وهكذا لم يكن يتشكل من كل ألمانيا، ولا من الزولفرين نفسه ما يمكن تسميته من وجهة النظر الاقتصادية والتجارية بدولة موحدة، وتلك حقيقة لا جدال في أنها كانت تجد بصورة من الصور قيمة هذا الاتحاد الجمركي (الزولفرين) من الناحية القومية.

وثمة حقيقة ثانية تبدو أهميتها الجوهرية بالنسبة لعلاقة الزولفرين بالحركة القومية في ألمانيا، وتلك هي أنَّ الزولفرين لم يكن يلقى تأييدًا من جانب حركة معينة تعتمد على تغذية الرأي العام لها، ودفعها للمطالبة بالاتحاد الجمركي وتشجيعه، أو حتى للترحيب به بعد إنشائه، بل إن الزولفرين على العكس من ذلك، لم يلبث أنْ قوبل بالعداء الشديد في كل «الدول الألمانية»، فاقتضى الأمر في هس درمستاد تأجيل المجلس التمثيلي بها؛ لأنه كان من المحقق أن يرفض المجلس المعاهدة المبرمة مع بروسيا (١٨٢٨)، ومع أنَّ المجلس قبل المعاهدة في العام التالي، فقد كان واضحًا أنه إنما فعل ذلك على غير إرادته، أما في بفاريا وورتمبرج، فقد أبدت الأوساط الوطنية الرجعية من جانب، والأوساط التجارية من جانب آخر عداءها الشديد ضد الاتحاد (١٨٢٩)، وفي هس الانتخابية (هس كاسل)؛ أثار توقيع معاهدة الاتحاد متاعب خطيرة (١٨٣١)، وحاولت الجماهير المتهيجة شنق رجال الجمرك البروسيين، وفي سكسونيا أثار قبولها الاتحاد، احتجاجات الصناع، واحتجاجات التجار في «درسدن» و«ليبزج»، ثم في مدن نهر الألب، وكذلك احتجاجات أصحاب العقارات، وفي غراندوقية بادن كان ثلاثة أرباع أهلها يعادون الاتحاد، ومع أنَّ المجلس التمثيلي وافق على المعاهدة، فقد أظهر مجلس من الأعيان جمعته الحكومة عدم رضائه عنها، فوافق على المعاهدة ستة وثلاثون عضوًا من بين خمسة وستين، وأخيرًا فإن فرانكفورت لم تنضم إلى الاتحاد إلا بعد تردد طويل وعلى أسف منها، ولاقتناعها بأن الامتناع عن قبول الاتحاد، سوف يعزلها عن جيرانها المحيطين بها، ولقد كان من الواضح أنَّ «الحكومات» هي التي اضطرت لأسباب سياسية، إلى الضغط على الطبقة المتوسطة (البورجوازية)، وهي «الطبقات الاقتصادية» — أي ذات الأثر في حياة البلاد الاقتصادية — حتى ترضى بالمعاهدات التي قام بفضلها «الزولفرين» كحقيقة واقعة.

وهكذا لم يظهر الزولفرين إلى عالم الوجود؛ نتيجة «لحركة» مبعثها يقظة الشعور أو الضمير العام الألماني إلى الحاجة له، بل كان الشعور بالمحلية والإقليمية لا يزال قائمًا، بالرغم من تأسيس هذا الاتحاد الجمركي، ولا يزال العداء مستعرًا ضد الزولفرين في طول البلاد وعرضها، ولقد كان بعد مضي وقت طويل، وعندما أفضى هذا الاتحاد الجمركي إلى نتائج اقتصادية طيبة، أن بدأ الرأي يتحول عن العداء ضد الزولفرين إلى الرضى به، ثم إلى مناصرته وتأييده أخيرًا.

وثمة مسألة أخرى يجب بحثها، هي تحديد الأثر الذي كان للزولفرين في إنشاء وحدة ألمانيا السياسية، فمن الآراء المسلَّم بها عند جمهرة الْكُتَّاب والمؤرخين؛ أن «الزولفرين» قد مهد للوحدة الألمانية، وأن الألمان منذ أن تسنى لهم تحقيق هذا الاتحاد الجمركي، قد بدءوا يعملون لتأسيس وحدتهم السياسية.

حقيقة أنَّ عددًا من الألمان عقدوا آمالًا كبيرة على الاتحاد الجمركي كوسيلة مؤدية للاتحاد السياسي، فيكتب «فون موتز» نفسه — صاحب مشروع الاتحاد الجمركي — غداة إبرام المعاهدة مع هس درمستاد في سنة ١٨٢٨؛ «أن من الواضح كحقيقة فعلية أنَّ وجود الجمارك إنما هو نتيجة لذلك الانفصال القائم سياسيًّا بين الدول المختلفة، ويجب أنْ يكون صحيحًا كذلك؛ أن اتحاد هذه الدول (أو الحكومات) في مجموعة جمركية واحدة، ينبغي أن يفضي إلى اتحادها في نظام سياسي واحد فقط.» ثم أضاف: «ويقتضي الواجب بروسيا أن تنشئ اتفاقًا وثيقًا مع الإمارات التي تتمثل فيها المصالح الألمانية فعلًا، فإذا حدث أنْ انحل الاتحاد الكونفدرائي الألماني؛ ليعاد تأليفه ثانية بعد استبعاد العناصر الخليطة، فسوف يكون حينئذٍ لنظام «بروسيا» التجاري أهمية بالغة. فإن «دولة ألمانية» حرَّة وقوية، في الداخل والخارج معًا، سوف تتولد من هذا الاتحاد الْمُؤَسَّس على المصالح التي هي طبيعية لأقصى درجة، والذي يجب بالضرورة أن يمتد ليشمل الدول (أو الحكومات) الوسطى.»

وهكذا يكون «موتز» قد توقع أنْ يسفر الاتحاد الجمركي «فيما بعد» عن نتائج سياسية، ومع ذلك فهناك تحفُّظان ظاهران في كلام «موتز» الذي نقلناه؛ أولهما: حديثه عن استبعاد العناصر الخليطة، أنه يشترط أن يقوم الاتحاد الألماني السياسي عند إعادة تأسيسه على عناصر ألمانية صحيحة، ومعنى ذلك أنَّ «موتز» إنما يريد استبعاد النمسا من هذا الاتحاد، وثانيهما: توقعه أن يسفر الزولفرين «فيما بعد» عن نتائج سياسية، وذلك عند تحقق الحادث الذي تكلم عنه؛ أي عند انحلال الاتحاد الألماني الكونفدرائي وإعادة تشكيله في «دولة» جديدة؛ أي مغايرة لهذا الاتحاد الكونفدرائي القائم، فلم يكن «موتز» نفسه يتوقع إذن أية نتائج سياسية من وجود الزولفرين إلا بعد مضي زمن طويل، أو «فيما بعد» كما قال. ثم إنه لم يكن واضحًا في تحديد هذه النتائج السياسية والبعيدة ذاتها.

ولقد أثار مخاوف آخرين، هذا الاحتمال نفسه أن يسفر الزولفرين عن نتائج سياسية معينة، فكان غداة إنشاء الزولفرين الأول، أن كتب دي روميني Rumigny القائم بالأعمال، الفرنسي، في «ميونخ» إلى حكومته في ٤ أبريل ١٨٢٩ أنَّ هذا الاتحاد «الجمركي» هو أكبر حادث شهدته ألمانيا منذ حركة الإصلاح الديني، وأوضح «دي روميني» مخاوفه من هذا الحادث، فقال: إنَّ الاتحاد الجمركي الذي حصل سوف يزيد من أهمية بروسيا بدرجة عظيمة، حيث إنَّ هذه الدولة «سوف تصبح في مقدورها أن تحتل بين أترابها مكانًا رفيعًا، فيعلو نفوذها على الدول المشتركة معها، بصورة لم يسبق لها نظير في هذه الناحية، حتى أيامنا هذه، ويفوق كل ما يمكن أن يتخيله المرء.» بيد أنَّ الحكومة البفارية بادرت بتهدئة خواطر حكومة باريس، فأكدت لهذه الأخيرة أنَّ مشروع الاتحاد الجمركي المنتظر لا ينطوي على شيء قد يتسبب في إزعاج الخواطر من وجهة النظر السياسية، وأنه إنما يعني فقط بتقديم تسهيلات تجارية، وأن الحكومة البفارية جد حريصة على استمرار العلاقات الطيبة مع الحكومة الفرنسية، وعلى ذلك فقد عادت الطمأنينة إلى نفس «دي روميني»، فكتب إلى حكومته ثانية في يناير ١٨٣٠ ينفي أية أهمية كبيرة لهذا الاتحاد الجمركي، وذلك يدل على أنَّ أحدًا في ذلك الوقت لم يكن يتوقع أنْ ينجلي الاتحاد الجمركي (الزولفرين) عن أية أخطار سياسية، ولم تكن على وجه الخصوص الدول الثلاث؛ إنجلترة وفرنسا والنمسا، وهي التي يعنيها مباشرة أنْ تبقى ألمانيا دون حدوث أي تحول أو تغيير سياسي بها، لم تكن واحدة من هذه الدول، تشعر أنَّ هناك أية أخطار سياسية من هذا الاتحاد الجمركي، بدرجة تحمل هذه الدول الثلاث على اتخاذ أية إجراءات وقائية من جانبها، في شكل تعديل أو تخفيف أنظمتها الجمركية، وتغيير سياستها الجمركية.

أما النتائج السياسية التي انجلى عنها الزولفرين، من ناحية صنع وإتمام الوحدة الألمانية، فقد اقتضى مرور زمن طويل قبل تحققها، حيث إنه كان في سنة ١٨٦٧ فقط؛ أي بعد مضي ثلاثين سنة ونيف، أن تأسَّس الاتحاد الألماني الكونفدرائي الجديد بزعامة بروسيا، وخلال هذه السنوات الثلاثين لم يخمد الزولفرين شعور الإقليمية أو المحلية، ولم يكن للزولفرين أي أثر إيجابي في ثورة ١٨٤٨، ثم إنَّ الزولفرين لم يستطع منع الدول الألمانية في سنة ١٨٦٦ من إعلان انضمامها إلى النمسا، في الحرب الدائرة بين هذه الأخيرة وبين بروسيا، والانحياز إلى جانب النمسا ضد بروسيا، وتلك جميعها «حقائق» تنهض دليلًا في نظر الكثيرين، على أن الزولفرين، لم يمهد للوحدة السياسية في ألمانيا، ولم يكن الأداة التي جعلت ألمانيا تسير مسرعة في طريقها، وذلك مثلما لم يكن أصلًا الزولفرين في الوقت نفسه منشئ الحركة القومية الألمانية أو وليدها.

(٨) الأحرار «ورد الفعل» ضد بروسيا

وفي وجه هذه الحكومات الألمانية القوية، وذات السلطات المطلقة والتي استندت على ذلك النوع من «الأيديولوجية» القائم على تمجيد الدولة وتبرير سلطان الأمراء المطلق، وفي وجه الحكومة البروسية الذي تزايد تعزيز مركزها السياسي والاقتصادي بفضل إنشاء الزولفرين، لم يكن في وسع «الأحرار»، فعل شيء ذي قيمة لمقاومة الآثار «الرجعية» المترتبة على هذا كله، ومهما يكن من أمر النتائج التي سوف ينجلي عنها الزولفرين في المستقبل، فقد كان الأثر الظاهر مباشرة الآن، هو تدعيم الشعور بالإقليمية والمحلية، فقد اعتبر الألمان الزولفرين مشروعًا بروسيًّا موجهًا ضد ألمانيا الفدرائية، ودعم الزولفرين النزعة الإقليمية المحلية من حيث إنه كان سببًا في تدعيم قوة بروسيا الداخلية، ومن حيث إنه دعَّمَ كذلك بسبب رد الفعل الذي حدث روح الإقليمية والمحلية في الدول (أو الحكومات) الألمانية الأخرى، ولقد كان من أثر ذلك إذن، أن أخذ الأحرار الألمان ينفصلون عن بروسيا، وهؤلاء الأحرار هم الذين اعتبروا أنفسهم مخدوعين، بكل تلك الوعود «الحرة» التي صدرت عن المسئولين في بروسيا أثناء حرب الإنقاذ للتحرر من السيطرة النابليونية والتي ظهر لهم الآن أنها كانت وعودًا مزيفةً، عندما نكصت بروسيا عقبيها فتجاهلت هذه الوعود، وتخلت الآن — في نظرهم — عن «الرسالة» التي كانت لها أثناء الحرب التحريرية (١٨١٣–١٨١٥).

ولقد وضح تخلِّي الرأي الألماني العام عن بروسيا، في ذلك التدهور الذي أخذت جامعة برلين تسير في طريقه، فقد انطفأت الجذوة التي كانت قد أوقدت نار الحماس في نفوس أساتذة هذه الجامعة أثناء حرب التحرير (١٨١٣–١٨١٥)، فلم يعد لهؤلاء الأساتذة الآن عمل أو نشاط، ولم يعد لعلمائها اللاهوتيين النفوذ الذي تمتعوا به قديمًا، فصار الآن «شلاير ماخر» — وقد سبق الكلام عنه — رجلا مسنًّا، ولا نفوذ له وتخلف زملاؤه، مثل أوجست نياندر Neander مؤرخ الكنيسة، فعجزوا عن اللحاق بالحركة الفكرية، وأما اللغويون فقد وجد من بينهم بعض المشهورين، مثل أوجست بوخ Bockh وكارل لاشمان Lachmann، ولكن هؤلاء المشهورين كانوا من المتخصصين في دراساتهم، ولم يقوموا بأي عملٍ سياسيٍّ، أضف إلى هذا أنَّ المؤرخين، فردريك راومر Raumer، ليوبولد فون رانكه Ranke لم يكونا من الأحرار، وفيما عدا «فردريك هيجل» الذي كان صاحبَ نشاطٍ إيجابيٍّ، فَقَدَ أساتذة جامعة برلين، النفوذ الذي كان لهم سابقًا في ألمانيا، فاختفت تلك الصلة التي كانت أوجدتها جامعة برلين مع الروح أو العبقرية الألمانية، كما اختفت القوة الإنسانية المحركة لهذه الروح، والتي كانت لها سابقًا.
على أنَّ هناك حقيقة على جانب كبير من الأهمية، هي أنَّ «المذهب الحر» لم يلبث أن وجد موئلًا يلجأ إليه، أمام الحواجز السياسية التي حالت دون قيام حياة مشتركة في ألمانيا، هذا الموئل كان عالم الفكر، فقد استمر الاتجاه نحو الرومانتيكية، وهو اتجاه قومي وحر، ونفس الاتجاه الذي كان قائمًا في سنة ١٨١٣، وصار يمثل هذا الاتجاه، الآن، الكاتب والناشر وولفجانج مِنزل Wolfgang Menzel.
و«مِنزل» كان أحد الذين ساهموا في تأسيس «اتحاد الرفقاء» (أو البورشنشافت)، فَطُرِد لذلك من «ألمانيا»؛ ليعيش لاجئًا في سويسرة، فأسس هناك في سنة ١٨٢٤ جريدة بعنوان صفحات (أوراق) أوروبية٣٣ ثم صدر عنه العفو بعد بضع سنوات، فعاد إلى «شتوتجارت»، وكانت «شتوتجارت» قد صارت وقتئذ مركز الفكر والثقافة الرئيسي في ألمانيا، ويعيش بها على وجه الخصوص البارون كوطا Cotta «جوهان فردريك كوطا» وهو ناشر كبير أشرف على نشر أعمال «جيته» و«شيلر»، وجمع حول شخصه كل أنواع الكتَّاب الألمان ذوي الميول المختلفة، بما في ذلك الكتَّاب المتقدمين في آرائهم، ولقد أسس «كوطا» وتولى إدارة طائفة من المجلات مثل «الفازيتة العامة»٣٤ التي ظهرت في أوجسبرج، والتي صارت تُسَمَّى في فرنسا «بفازيتة أوجسبرج»، ثم «الحوليات السياسية»،٣٥ وكلتاهما كانتا مجلتين سياسيتين، ثم «صحيفة الصباح»،٣٦ وكانت أدبية يشرف على تحريرها أحد الشعراء، سرعان ما صارت ميدانًا مفتوحًا لأقلام الكتَّاب من ألمانيا الجنوبية خصوصًا، ثم مجلة اقتصادية سياسية بعنوان Hesperus يُشْرف عليها أحد رجال الاقتصاد من الأحرار فرانز شولتز Schulze، ولقد عهد «كوطا» إلى «مِنزل» في يوليو ١٨٢٥، بإدارة «ملحق أدبي» لصحيفة الصباح بعنوان صحيفة الأدب،٣٧ سرعان ما صارت تحت إشراف «مِنزل»، لم يلبث أن نشر في سنة ١٨٢٨ مؤلفًا أحدث ضجةً كبيرةً، باعتبار أنه تناول تحت عنوان «الأدب الألماني»٣٨ دراسةً شاملةً للأدب الألماني المعاصر، وأدرك هذا الكتاب نجاحًا عظيمًا؛ لأنه جاء متجاوبًا مع الروح الجديدة، وعرض الاتجاهات الحرة، التي كانت تدين بها المدرسة الفكرية التي نشأت حديثًا. أما بين هذه الجماعة التي التفت حول «مِنزل»، فقد كانت تسودها نفس الروح التي سادت جماعات «البورشنشافت»؛ أي الأخذ بالمبادئ الحرة والاعتقاد بالوطنية، والتمسك بالروح الدينية. وهدف «مِنزل» إلى إنشاء علاقة قوية بين الحياة والكتب، وإلى اتحاد الأدب بالسياسة؛ وذلك كما قال لأن الآراء والفكرات اليوم، تأخذ مكان الرجال، فلم يعد الناس يناضلون من أجل سيد من الأسياد، ولكن في سبيل مبدأ معين، ومن أجل نصر هذا المبدأ وتقريره، فالحرية وحدها مخصبة ومثمرة، في حين تبقى العبودية مجدبة وعقيمة، والنضال من أجل الحرية، إنما هو واجب حتمي، كما أنه حقٌّ لكل إنسان.
ولقد خضعت الحياة الأدبية في ألمانيا لقيود قاسية حقًّا — سبق أن ذكرنا أسبابها — منشؤها الرقابة الصارمة التي فرضتها السلطات أو الحكومات على الحركة الفكرية والثقافية في البلاد، ومع ذلك، فقد كان من أثر هذه الرقابة الشديدة أن صارت الأفكار تتجه نحو المبادئ الحرة، ولعل أصدق مثال لذلك كان ما حدث للكاتب لودفيج بورن Borne (١٧٨٦–١٨٣٧).
كان «بورن» ناشرًا يتقن الهجو والتقريع في كتابته، استولده مصرفيٌّ يهوديٌّ من فرانكفورت في سنة ١٧٨٦، درس الطب، ثم القانون، والتحق بخدمة الحكومة؛ وكانت بلاده وقتئذ تحت الإدارة الفرنسية، ثم لم يلبث أن أعفي من الخدمة في سنة ١٨١٣ عندما تسلمت السلطات الألمانية الجديدة شئون الحكم؛ وذلك لأنه يهودي، فأخذ «بورن» على عاتقه من هذا الحين الدفاع عن حقوق «مواطنيه»، وانبرى يطالب على وجه الخصوص بحرية الصحافة، ثم إنه اعتنق المسيحية في سنة ١٨١٨؛ ليستطيع الظفر بأحد المناصب، ولكنه ظل مبعدًا، فاستمرت حملته من أجل حرية الصحافة، ونشر في سنة ١٨١٩ كراسة ضد نظام الرقابة، وعطلت السلطات جريدتين اشترك «بورن» في تحريرهما أو تأسيسهما، واحدة بعد الأخرى، فقرر السفر، وزار «هايدلبرج» و«باريس» و«همبورج» و«فينا»، وعرض عليه «مترنخ» في فينا منصبًا، في نظير أن يغلق فمه، ولكنه رفض، وذهب إلى باريس، ولقد نشر «بورن» مؤلفًا عن رحلته الأولى إلى باريس بعنوان «صور من باريس»،٣٩ يصف فيه الحياة السياسية والأدبية … إلخ في العاصمة الفرنسية أثناء سنوات ١٨٢٢–١٨٢٥، وأسس «بورن» جريدة بعنوان «الميزان»،٤٠ ثم إنه لم يلبث أن جعل إقامته مستقرة في باريس منذ بداية عام ١٨٣٠، واستمر «بورن» يناضل من أجل الحرية الألمانية بحماسٍ وعنفٍ، وذلك في أسلوبٍ من التهكم اللاذع بكل «الرجعيين» الألمان.

ولكن هؤلاء المفكرين الألمان، من الأحرار، كانوا قليلي العدد جدًّا، فهم على قلتهم مبعثَرون في أنحاء ألمانيا، وألمانيا آنئذ لا زالت بلادًا زراعية وفقيرة، و«الطبقة المتوسطة» بها قليلة العدد كذلك، ولم يكن لحركة المفكرين أو المثقفين الأحرار لهذا السبب أثرٌ عظيمٌ.

ولقد تسلم السياسيون الأحرار من ألمانيا الجنوبية زمام هذه الحركة لإنعاشها وترويجها، ولكن أحرار ألمانيا الجنوبية كانوا يقفون دائمًا تحت تأثير الآراء الفرنسية؛ ولذلك فقد أنشأ هؤلاء ما يمكن تسميته «بمدرسة دستورية» لمواجهة «المدرسة التقليدية»، و«مدرسة الحقوق التاريخية» اللتين سبق الحديث عنهما، ويعتبر روتيك Rotteck وويلكر Weleker — وهما من غراندوقية بادن — أهم مَنْ يمثلون هذه المدرسة الدستورية. أما «كارل فون روتيك»، فقد كان أستاذًا بجامعة «فريبورج»، نشر في عام ١٨١٩ كراسةً بعنوان «آراء عن مجالس (طبقات) الدولة»، وتحوي هذه الآراء أنَّ «مجالس الطبقات» تمثل الشعب، وأن الحكومة لا تعدو أنْ تكون منوبة عن الشعب؛ ولذلك صار الواجب أن يكون لدى المجالس (مجالس الطبقات) كل سلطات الشعب حتى تهيمن على عمل الحكومة. وابتداء من سنة ١٨٣٤ نشر «روتيك» بالاشتراك مع «ويلكر»، «معجمًا سياسيًّا»،٤١ صار إنجيل الأحزاب الدستورية في ألمانيا، أما «كارل تيودور ويلكر» فكان مؤرخًا ومن علماء الآثار القديمة، كما كان أستاذًا بجامعة بون، ثم صار أحد نواب «الفرقة الثانية» في مجلس غرندوقية بادن، وكتب «تاريخًا عامًّا»٤٢ ظهر في تسع مجلدات بين عامي ١٨١٢، ١٨٢٧، كان له تأثير كبير على القارئ الألماني العادي خصوصًا، ولقد طالبت هذه الجماعة، بدستور يكفل للمواطنين الحرية والمساواة، ويمنع الحكومة، وكذلك طبقتي النبلاء والأكليروس من إساءة استخدام سلطاتها، ومما يجب ذكره أنه لم يكن مستطاعًا في هذا العصر إقامة صرح الحرية في أي مكان في ألمانيا غير الحكومات أو الدول الصغيرة، مع ملاحظة أنَّ هذه الحكومات أو الدول الصغيرة، هي التي كان يسود بها شعور المحلية الإقليمية في أعنف مظاهرة.
ولقد قام بترويج الآراء التي تمسك بها هذا الحزب الدستوري، ونشط لتنفيذها، النواب من أعضاء «الفرقة الثانية» في مجالس الدولة (مجالس الطبقات)، في الدول التي يقوم بها الدستور في ألمانيا الجنوبية، وكان هؤلاء النواب فخورين بالتقدم والرقي الذي بلغته الحياة الاجتماعية في دولهم، والحريات التي كانت لهم، وذلك كان تقدمًا اجتماعيًّا، وتلك حريات، لم يظفر بها الألمانيون في الشمال أو يبلغوها، وأما هذه المجالس «التمثيلية» فكانت قائمة في كل من كارلسروه Karlsruhe وشتوتجارت، وميونخ، وفيزبادن.

وكان هؤلاء النواب من أعضاء «الفرقة الثانية» في هذه المجالس التمثيلية في ألمانيا الجنوبية، من الذين عُرفوا بالتواضع والخُلُق المتين، واتصفوا بالأمانة وحب السلام، والذين عنوا بالتفاضل، واشتهر عنهم العناد والتصلب في الرأي، والذين كانوا — وكما هو واضح — أناسًا يعوزهم اتساع الأفق، ولا يتقيدون بمبدأ نظري معين، والحقيقة أنه لم يكن يوجد وقتئذ بألمانيا الجنوبية طبقات اجتماعية على درجة كافية من الثقافة، يمكن أن تمتد الحياة السياسية بالعناصر اللازمة لها؛ أي برجال السياسة أو النواب الذين يفقهون واجبات المواطن السياسية ويقدرون على الاضطلاع بها، وعلى ذلك فقد كانت أكثر المجالس التمثيلية في ألمانيا الجنوبية، تأتي بمعظم نوابها من بين موظفي الدولة، الأمر الذي جرد هذه المجالس التمثيلية من استقلالها، ومع ذلك فقد أسدى هؤلاء الرجال السياسيون خدمة طيبة، من حيث إنهم ناضلوا دائمًا من أجل الكرامة الإنسانية، وحرصوا دائمًا على صيانة حرية الضمير، وعملوا كثيرًا على تطويع الحياة السياسية للمبادئ الأخلاقية، وهؤلاء «النواب» — من الدستوريين في الجنوب — هم الذين جعلوا ممكنًا — بفضل الرقابة التي فرضوها على نشاط الحكومة والتوجيهات التي قدموها لها — قيام إدارة مالية، وتطبيق القوانين بالعدل والقسطاس، والتقدم خطوات ملحوظة في طريق الإصلاح الاجتماعي، مثل إلغاء أعمال السخرة، وإلغاء ضرائب العشور المستديمة، وتشجيع وتنمية الملكيات الصغيرة.

ولقد كان أعظم ما فعلته هذه الجماعة الدستورية، من «النواب» ورجال السياسة الدستورية في ألمانيا الجنوبية، وأعمق أثرًا في نتائجه المباشرة والبعيدة، هو «المحافظة» على الحرية، والحيلولة دون اضطهاد المبادئ الحرَّة وأصحابها، فمع أن هؤلاء «الدستوريين» لم يكن في مقدورهم التقدم بمطالب سياسية جدية لعجزهم عن معرفة هذه المطالب، فإنهم من ناحية أخرى، قد أفحلوا في تأييد مفهوم «الحرية» أي تدعيم المبادئ الحرة ونظرتها، على أن الذي يجب ملاحظته هو أنَّ الفكرة «القومية» لم تكن ضمن الأهداف التي أرادوها، ولم يكن يرقى إليها تفكيرهم، فهم كانوا يعتبرون «الحرية» الفرض الجوهري والأساس من حياتهم، ويؤمنون بتقدم الحرية على الفكرة الوطنية، والفكرة القومية، وواضح أن هذا «الترتيب» في تفكير هؤلاء «الدستورية» الآن، الذي وضع الحرية في مرتبة متقدمة على الوطنية — وعلى القومية — إنما كان ترتيبًا جاء بعكس ما كان عليه الحال أثناء حرب التحرير بين سنتي ١٨١٣–١٨١٥ في ألمانيا.

(٩) ثورة (١٨٣٠)

ولقد كان للثورة التي قامت في باريس في يوليو ١٨٣٠ نفس الصدى في ألمانيا، الذي كان لها في كل مكان آخر، من حيث تأييد حركة التفكير السياسي، وذيوع الآراء السياسية، ولم تكن تهتم بألمانيا الدولتان الرئيسيتان اللتان تزعمتا الرجعية في أوروبا، وأخذتا على عاتقهما منع «الثورة» من الانتشار، إلى جانب العمل على إخمادها بكل قسوة، وهاتان الدولتان — كما عرفنا — كانتا روسيا والنمسا، فعمدتا بسبب انشغالهما إلى ترك الحكومات المحلية (الإقليمية) في ألمانيا وشأنها، الأمر الذي أعطى الأحرار في ألمانيا الفرصة للعمل مباشرة.

ومع ذلك، فإنه مما سوف يستبين من أحداث هذه الثورة (١٨٣٠) أنَّ الشعب الألماني كانت تعوزه التربية السياسية، وأن الروح القومية كانت محدودة، وضئيلة الأهمية، وأن الألمان لا نشاط لهم لا آراء أو فكرات معينة لديهم يسترشدون بها؛ لتحقيق أغراض أسمى مما اصطلحت عليه وقتئذ واصطنعته حياتهم العادية، فلم تعدُ هذه «الثورة» مجرد القيام بمظاهرات، ذات صخب وضوضاء وحسب، ولم تكن ترقى بحال حتى إلى مرتبة محاولة ثورية، على خلاف ما شهدناه تمامًا في «ثورات» ١٨٣٠ التي حدثت في إيطاليا.

ولقد رحب الأحرار جميعهم — وعلى نحو ما كان منتظرًا — «بالثورة». بل لقد قامت المظاهرات الصاخبة في بعض المدن، من ذلك ما حدث في همبورج مثلًا، التي صارت ترفرف عليها الأعلام الفرنسية، وضعت النساء شارة «الجوكارد» على ملابسهن، وفي الدول الشمالية، وفي سكسونيا وهانوفر، وهس كاسل، وبرنسويك، تزعَّم المظاهرات أساتذة الجامعات، وتألَّفت مواكبها من الطلبة والموظفين، وينضم إلى هؤلاء بعض رجال القضاء المحليين من المدن المجاورة الصغيرة، وقد استطاع هؤلاء الظفر من حكوماتهم ببعض الحقوق، كما حصلوا أحيانًا على الدستور في هانوفر وسكسونيا، وذلك دون مقاومة كبيرة، أو أنهم تمكنوا من تغيير الوزارة واستبدال وزارات أقل رجعية، بتلك التي عُرفت برجعيتها الشديدة.

على أنَّ الدهشة التي أثارتها هذه «الثورات» — أو المظاهرات — لم تلبث أن تبددت، فاستعادت الحكومات جأشها، وطفقت تسترجع تلك «الحقوق» التي كانت تنازلت عنها؛ أي منحتها الثوار والأحرار وقت محنتها، واستبعاد الخوف بها، فاستأنف سياسة الضغط والتضييق.

والجدير بالذكر، أن هذا الضغط والتضييق لم يشمل إلغاء بعض «الحقوق» التي كان الثوار والأحرار قد حصلوا عليها، كما أنه لم يمحُ بعض النتائج التي انجلت عنها هذه «الثورة»، فاختفت عمومًا أخطر المساوئ المرتبطة بالنظام الإقطاعي القديم، وتزايد نشاط الحياة الذهنية لدرجة كبيرة، وأخذت الحكومات بأساليب اقتصادية جديدة، وكانت تلك جميعها إصلاحات، انكمشت بفضلها الفوارق بين «الدول» الألمانية الشمالية التي حدثت فيها «الثورة»، وبين دول ألمانيا الجنوبية.

وكان طبيعيًّا — مع ذلك — أن تكون الحياة السياسية في هذه الدول الجنوبية أكثر نشاطًا منها في الدول الشمالية، فقد أسفرت الانتخابات التي أُجريت خلال سنوات الثورة هذه — في الدول الجنوبية — عن دخول كثيرين من الأحرار مجلس «البرلمان»، وكان هؤلاء أكثر تحمُّسًا بالمبادئ الحرَّة من أسلافهم، بل واعتنق فريق منهم المبادئ الحرَّة المتطرفة (أو الراديكالية)، وتجاوبت الصحف مع هذا الحماس «الثوري»، بالرغم من وجود الرقابة الشديدة، حتى عمدت الحكومات إلى محاكمة محرريها وإلغائها، فعاشت الطبقة الوسطى (البورجوازية) في ألمانيا الجنوبية عددًا من الأسابيع، وربما بضعة شهور، في حالة من «الانهيار»، وصفها أحدُ الكُتَّاب بأنها كانت تشبه «حلم اليقظة»، أو حال السائر في نومه كما يسير المستيقظ. فاستصدر «البورجوازيون» في مختلف المجالس التمثيلية في الجنوب قرارات التأييد لبولندة وثورتها (١٨٣١)، ووُضعت الأناشيد لتحية البولنديين، ونادى الأحرار «بأخوة الشعب»، وذلك كله بالرغم من وجود «الرقابة»، وبالرغم من قرار كان قد اتخذه «الدياط» في فرانكفورت منذ ٣٠ أكتوبر ١٨٣٠ لمنع العرائض أو المطالب الجماعية.

وهكذا دَلَّ هذا كله على وجود يقظة في الحياة السياسية، لم يكن مستطاعًا إخمادها في السنوات التالية، بالرغم من تدخل الحكومات للقضاء عليها، ولقد أمكن تأسيس اتحاد للصحف، أعان الأحرار على تحمُّل نفقات القضايا والمحاكمات التي تعرضت لها صحفهم، بل لقد وقعت مظاهرات على نطاق أوسع من الاضطرابات المحلية العادية، فقد نظم احتفال سياسي عظيم في هامباك Hambach، إحدى بلدان بفاريا الراينية أو «البلاتينات البفارية» يوم ٢٧ مايو ١٨٣٢، سرعان ما انقلب إلى مظاهرة عنيفة اشترك فيها خمسة وعشرون ألف ألماني، ورفع المتظاهرون على أبراج «قصر هامباك» علم البور شنشافت المثلث الألوان «الأسود والأحمر والذهبي»، وأُلقيت الخطب الحماسية ضد «الحلف المقدس»، ولتأييد سيادة الشعب، كما طالب المحتفلون والمتظاهرون، باتحاد الدول الحرَّة الألمانية، وباتحاد الدول الحرَّة في أوروبا، والحقيقة الجديرة بالملاحظة هنا؛ أن فرنسيين وبولنديين وتشيكيين، كانوا يشتركون في هذه المظاهرات إلى جانب الألمانيين، ولكن قوات الحكومة «البفارية» بقيادة المارشال فون فريد Wrede، لم تلبث أن شتتت هذه المظاهرات بكل سهولة، وألقي القبض على نفر من المتظاهرين، واضطر الأحرار بسبب إجراءات القمع التي اتخذتها الحكومات، أن يؤلِّفوا الجمعيات السرية لتستمر حركتهم، وحاول المتطرفون منهم في حماسهم، وكانوا عمومًا من الطلاب، ويختلط بهم فريق من البولنديين، أن يشنوا هجومًا على «فرانكفورت» — أي يحدثوا «انقلابًا» يستولون بفضله على الحكومية بها، ووقعت هذه المحاولة الانقلابية Pustch يوم ٣ أبريل ١٨٢٣، ولكن سرعان ما أخفقت هذه الحركة، التي انجلت عن قتل تسعة وجرح ثمانين شخصًا، والواضح من كل ما تقدم أنَّ هذه الحركات «الثورية» — أو المظاهرات، لم تكن بحالٍ من الأحوال، حركات جدية، ومما يجدر ذكره كذلك أن الأقاليم البروسية، بقيت ساكنة هادئة، بالرغم من كل هذه الاضطرابات المنتشرة في أنحاء ألمانيا.
وثمة حقيقة أخرى، هي أنه لم يكن لفكرة القومية وسط هذا الهياج كله سوى أهمية ضئيلة، بل تكاد تكون معدومة، فيمكن إيجاز ما حدث، من أجل تأييد القومية، أو باعتبار أنه دليل على وجودها، في أن نائب هس كاسل، هنري «هاينريسن» فون جاجرن قد طالب المجلس التمثيلي في «هس» أن يعمل من أجل اتحاد يجمع في إطار الحرية بين المصالح المادية والروحية — أو الذهنية في ألمانيا، ومع ذلك فقد طالب «جاجرن» بهذا الاتحاد بين المصالح الألمانية، كخطوة ضرورية لمقاومة أطماع فرنسا، ولدعم مركز ألمانيا أمام روسيا القوية، وفي «كارلسروه» طالب «كارل ويلكر»، نائب بادن، الذي سبق الحديث عنه إنشاء مجلس كونفدرائي، وفي مظاهرات هامباك كان الصحفي البفاري الدكتور فيرت Wirth — على ما يبدو — أنه بمفرده من بين المتظاهرين الذي يستطيع تقديم بعض الآراء المحددة، وذلك عندما صار يدعو لاتحاد ألمانيا في شكل فدرائي، وفي سنة ١٨٣٢ نشر ماندت Mundt وهو كاتب من أصل بروسي استقر به المقام في سكسونيا كراسة عن «وحدة ألمانيا» عن طريق نموها السياسي والروحي، وكان تفكيره يدور حول إنشاء وحدة سياسية، تفسح المجال لإقامة الأنظمة الدستورية، ويكون من واجبه المحافظة على طابع الشعوب وخصائصها المميزة لها، الأمر الذي يتضح منه كيف أن «ماندت» كان ينشد وحدة قومية، ولكنه يريد في الوقت نفسه، وجنبًا إلى جنب، مع هذه الوحدة القومية الإبقاء على النزعات المحلية والخصائص الإقليمية وتأييدها.
وهكذا في وسعنا القول إجمالًا أنَّ الفكرة الحرَّة في حركة ١٨٣٠ هذه، إنما كانت تفوق كثيرًا الفكرة القومية، وتعلو عليها، يؤيِّد هذا القول كذلك أنَّ «كارل فون روتيك» زعيم الأحرار في جنوب ألمانيا، ذكر في خطاب له في سنة ١٨٣٢؛ أنه منحاز لوحدة ألمانيا، ويرجوها، ويريدها، ويتمناها، ويطالب بها ويصر عليها؛ لأن الوحدة وحدها فقط في حقل الشئون أو العلاقات الخارجية هي التي تجعل من ألمانيا دولة قوية، توحي بالاحترام، ولأن الوحدة وحدها فقط هي التي تمنع عن ألمانيا وقاحة الأجانب أي «الدول الأجنبية»، وتحول دون اعتدائهم على حقوق الألمان القومية أو «الأهلية»، وواضح أنَّ «روتيك» كان في تفكيره يربط ربطًا وثيقًا بين مطلب الوحدة الألمانية وبين عظمة ألمانيا الخارجية، أكثر مما كان يدعو لحصول تغيير جوهري يشمل بلاده، ولقد استمر «روتيك» يقول: «ولكني لا أريد إطلاقًا وحدة من شأنها استدراجنا إلى الدخول في حرب ضد مصالحنا العزيزة علينا وضد عواطفنا الخالصة، أو وحدة ترغمنا، فيما يتعلق بشئوننا الداخلية، نحن سكان الراين، بالرضاء بذلك القدر من الحرية الذي تكتفي به بوميراتيا أو النمسا، إني أريد الوحدة، ولكن على أن تتم هذه الوحدة، مقترنة بالحرية، بل إني أؤثر كثيرًا الحرية بدون الوحدة، على مجرد الظفر بالوحدة من غير الحرية، وإني لا أريد إطلاقًا وحدة تأتي تحت جناح النسر النمسوي، أو النسر البروسي.» ومما يجدر ذكره أن هنريسن هايني Heine — وقد سبقت الإشارة إليه كثيرًا — كان شديد الكراهية لغلاة المتطرفين في وطنيتهم، وخصوصًا الرجعيين منهم، و«هايني» هو الذي يقول: «أما بالنسبة لهؤلاء الفرنسيين Pharisiens؛ أي المرائين المتطرفين في وطنيتهم، والذين يتآخرن اليوم مع الحكومات ضد كل ما صار يثير غضب واشمئزاز هذه الحكومات، الذين يتمتعون بمحبة واحترام الرقابة المفروضة على الصحف والمطبوعات والآراء الحرة، فإني أحتقر البطولة المكرية التي يدعيها هؤلاء الخدم المتشحين بأزيائهم الرسمية، السوداء والحمراء، والمذهبة.»
وكل هؤلاء الأحرار، فصموا كل علاقة لهم مع بروسيا، وصاروا جميعًا الآن أعداء لها، عندما صارت بروسيا دولة «رجعية»، وتتبع سياسة متسمة بالأنانية وحب الذات، فقطع أحرار الجنوب كل صلة لهم ببروسيا، ولو أن «روتيك» من ناحية «كان لا يزال يرى محتملًا أن تغدو بروسيا دولة دستورية، وفعل ذلك أيضًا كل أولئك الكتَّاب الذين تألَّفت منهم فيما بعد مدرسة «ألمانيا الفتاة»٤٣ ثم «فرانز شولتز» مدير صحيفة «هيسبيروس»، التي سبقت الإشارة إليها، والذي نشر في سنة ١٨٣٢ كراسة عن وحدة ألمانيا بإنشاء تمثيل قومي، فأعلن أن من المتعذر بقاء بروسيا الدولة الرئيسية في الوحدة الألمانية، طالما بقيت هذه مكروهة من سائر ألمانيا، وهكذا أدار الجميع ظهورهم لبروسيا، ولم يكد يشذ عن هذا الإجماع غير أحد الكتَّاب والسَّاسة الأحرار بولَ پفيتزر Pfizer، من ورتمبرج، الذي نشر في سنة ١٨٣١ كراسة بعنوان «تبادل خطابات بين ألمانيين»،٤٤ موضوعها: مراسلات في موضوعات فلسفية بين «پفيتزر» وأحد الشعراء المعاصرين من ورتمبرج، كذلك فردريك نوتر Notter، ففي هذه الكراسة طالب «پفيتزر» بانفصال ألمانيا عن النمسا، وتنبأ بالهيمنة التي صارت لبروسيا فيما بعد على ألمانيا، وراح يؤيِّد السيطرة البروسية.

وموجز القول: إنَّ حركة الأحرار هذه قد تنكرت إجمالًا لبروسيا الرجعية، وأدارت لها ظهرها بصورة ظاهرة مقصودة، واستمر لذلك الامتزاج بين الفكرة الحرَّة والفكرة القومية مبهمًا ومشوشًا بدرجة كبيرة، وانتهى الأمر بالحركة المناصرة للمبادئ الحرَّة — حركة الأحرار — بإبعاد الألمان عن الدولتين الرئيسيتين في ألمانيا: بروسيا والنمسا، ولكن انفصال ألمانيا عن النمسا وبروسيا، واستبعاد هاتين الحكومتين الرئيسيتين، واللتين كان لا معدى عن وجودهما يجعل متعذرًا معرفة «العامل» الذي سوف يصنع ألمانيا، أو الطريقة التي يمكن صنع ألمانيا بها.

(١٠) إخماد الثورة

أما نتيجة حركة الأحرار هذه وثورة (١٨٣٠)، فلم تكن إلا انتصار الرجعية، ودعم أركان الحكم التسعفي، فقد اتخذ «الدياط» إجراءات «فدرائية» في ٢٨ يونيو سنة ١٨٣٢، عُرفت باسم «المواد الست»، كان المسئول عنها الوزير النمسوي «مترنخ»، صدر بها قرار «الدياط» بعد شهر واحد من مظاهرات «هامباك»، فوافق «الدياط» بالإجماع على بروتوكول بهذه المواد، وقد أراد «مترنخ» الذي كان قد حرم «الدياط» أي حق في الحد من سلطة الأمراء، أن يحرم «المجالس التمثيلية» أو البرلمانات «المحلية» في مختلف الدول أي حق في الاعتداء على المبادئ التي يقوم عليها «الدياط»، وعلى ذلك فقد فرضت المادة الأولى على كل أمير ألماني (أي كل صاحب سيادة) في حكومته واجب أن يرفض كل مطلب يتقدم به إليه «مجلس الطبقات» — المجلس التمثيلي أو البرلمان في إمارته أو مملكته — ينتقص من حقوق سيادته، التي ضمن بقاءها قرار الاتحاد الكونفدرائي نفسه (١٨١٥). ونفت المادة الثانية أنَّ لمجلس الطبقات الحق في أن يرفض تقديم الأموال التي قد يطلبها الأمير للقيام بأعباء الحكومة، أو أن يستخدم مجلس الطبقات حاجة الأمير لهذه الموارد، للحصول على حقوق دستورية بطريق التهديد يمنعها عنه، وخولت هذه المادة نفسها «الدياط» حق التدخل إذا حدث ذلك، ولقد منعت المادة الثالثة حكومات الاتحاد من استصدار التشريعات المناقضة أو المعطلة للأغراض التي يريدها «الدياط» في ضوء التفسيرات التي يراها «مترنخ» لهذه الأغراض والغايات. وبفضل المادة الرابعة تأسست لجنة فدرائية دائمة لفحص التشريعات المقترحة في مختلف «الدول» التي يتألَّف منها الاتحاد الكونفدرائي، وتقديم تقرير عن كل التشريعات التي يتضح أنها مؤذية، أو مهددة لحقوق ومصالح رؤساء هذه الدول أنفسهم، وتقرَّر في المادة الخامسة أن تعمل كل دولة على الدفاع عن «الاتحاد الكونفدرائي»، وحمايته من أي هجوم قد يتعرض له من جانب المجالس التمثيلية (البرلمانات المحلية أو مجالس الطبقات). وأيَّدت المادة السادسة والأخيرة حق الدياط الفدرائي، أن يفصل فيما إذا كانت القوانين التي تستصدرها «الدول» المختلفة، أعضاء الاتحاد، مناقضة للمبادئ التي يقوم عليها «الاتحاد» ومتعارضة معها.

حقيقة استندت هذه المواد — من الناحية النظرية — مبادئ فدرائية سليمة، ولكن أفسدها وعطل قيمتها — كان — الغرض المقصود منها، وواضح أنَّ بروتوكول ٢٨ يونيو سنة ١٨٣٢ «المواد الست»، إنما قد زَوَّد «الدياط» بالوسيلة المواتية للتدخل المستمر في شئون الحكومات الداخلية، ثم إن الدياط لم يلبث أن اتخذ قرارات أخرى (في يوليو) لمنع الاجتماعات العامة، وحمل الشعارات الثورية، ولوضع المشتبه في أمرهم تحت المراقبة، كما تجددت القوانين الصادرة ضد الجامعات، وفرضت القيود على تداول الكتب الألمانية المطبوعة في الخارج، وأعطيت الضمانات لنجدة الأمراء أو الحكام بكل سرعة عندما يطلبون النجدة، ولقد أرغمت «بادن» على وقف القوانين الحرَّة التي كانت مطبقة على الصحافة بها.

ولقد استثارت هذه الإجراءات حفيظة الأحرار والثوريين، الذين صمموا على القيام «بانقلاب» ينالون به الحرية، فتآمر هؤلاء على أن يزحف حشد من البولنديين من بلدة بيزانسون Besançon في الجنوب الغربي خارج الحدود الألمانية؛ لمهاجمة «فرانكفورت» وحلِّ مجلس الدياط، والاستيلاء على الخزانة الفدرائية، وكانت خطة الثوار إرغام ملك ورتمبرج على زعامة الحركة القومية (الأهلية) بالقوة، وتأليف حكومة مؤقتة من «روتيك»، و«ديلكر»، وسيلفستر جوردان Sylvestre Gordan زعيم الأحرار في هس كاسل، وغير هؤلاء من القادة الأحرار، ودلَّت هذه المؤامرة على خرق الرأي، وأُفْشي سرها قبل تنفيذها، ولكن المسئولين آثروا الانتظار، وحصلت محاولة الهجوم على فرانكفورت فعلًا في ١٣ أبريل ١٨٣٣، وقُضي عليها بكل سهولة، وبعد أن قُتل عدد من المتآمرين، وأفاد «مترنخ» من هذا الحادث في تقرير سياسته الرجعية.

لقد كانت تأسَّست — كما عرفنا — «لجنة تحقيق» في ماينز منذ صدور مرسومات كارلسباد في سبتمبر ١٨١٩؛ للبحث عن أصول الحركات الثورية، ودلَّت محاولة الهجوم على فرانكفورت على أنَّ لجنة ماينز بعد هذه السنين الطويلة (من ١٨١٩ إلى ١٨٣٣)، قد عجزت عن معرفة أو كشف أصول المؤامرة العامة، التي ظهرت نتائجها في هذه المحاولة السقيمة، على أثر الإجراءات الصارمة التي اتخذتها الحكومة ضد الصحف والجامعات والأحرار عمومًا، وكان في رأي كثيرين، أنه يحتمل أن يكون هؤلاء المتآمرون في فرانكفورت من أعضاء الجمعيات السرية، التي كان «جويزبي مازيني» الإيطالي الروح المسيطرة عليها؛ أي إنَّ مؤامرة فرانكفورت كانت جزءًا من مؤامرة عامة كبرى، فكان على هذا الأساس إذن أن طلب «مترنخ» من الدياط في فرانكفورت إنشاء نظام بوليسي على أوسع نطاق ممكن؛ لمواجهة هذه المؤامرة العامة.

فكان بسبب إصرار «مترنخ» إذن أن أنشأ الدياط لجنة مركزية للإشراف على الإجراءات الوقائية التي تتخذها الدول (الحكومات) من أعضاء الاتحاد، ولتدبير الوسائل الكفيلة بإحباط المؤامرات والانقلابات … إلخ، في ضوء النتائج التي تصل إليها هذه اللجنة في فرانكفورت (في يونيو ١٨٣٣).

وفي ربيع ١٨٣٤ دار البحث من جديد في فينا لرسم خطوط سياسة القمع التي يجب السير عليها، ولقد بقيت القرارات الجديدة في طي الكتمان نحو عشر سنوات، خوفًا من أن تثير إذاعتها غضب إنجلترة وفرنسا، ويبدو أن أهم المقترحات التي عرضت خلال البحث كان بشأن تعيين خمس لجان تعمل كهيئات استشارية للدياط، ثم بشأن محاكم للتحكيم يختار الملوك (رؤساء الدول) أعضاءها، ومهمتها الفصل في الخلافات التشريعية والمالية التي قد تنشب بين هؤلاء الملوك والأمراء … إلخ، ومجالس الطبقات (أو البرلمانات) في دولهم، ولقد توفي الإمبراطور فرنسيس الثاني في ٢ مارس ١٨٣٥، وخلفه الإمبراطور فردنند (الذي تنازل عن عرش الإمبراطورية في سنة ١٨٤٨)، ولم يترتب على وفاة الإمبراطور أي تغيير في سياسة النمسا، ولو أن «مترنخ» لم يعد وحده المشرف على سياسة النمسا، بل صار يشترك معه في توجيهها كل من فردنند الإمبراطور الجديد، والأرشيدوق لودفيج Ludwig، والكونت كولورات Kolowrat.
وفي الوقت نفسه اتخذت «مجالس الطبقات» المحلية طائفة من الإجراءات الصارمة ضد الأحرار، ثم بقيت اللجنة الفدرائية في فرانكفورت تعمل حتى سنة ١٨٣٦، فبلغ عدد الذين قدمتهم للمحاكمة ألفًا وثمانمائة، أُدين من بينهم (٢٠٣) طلاب، وأُلقي القبض في درمستاد على «شولتز» صاحب مجلة «هبسبيروس»، وحُكم عليه بالسجن خمس سنوات، واستطاع «شولتز» الفرار من السجن، ومات بعد ذلك في المنفى، كما لقي نفس المصير — الوفاة في المنفى — الصحفي «فيرت». وفي غراندوقية «بادن» أُجبر على الانزواء كل من «روتيك» و«ويلكر»، وهما — كما عرفنا — من الأساتذة الأحرار، وقد ذكرنا إلغاء القوانين الحرة التي كانت للصحافة بها، وفي هس كاسل أُلقي القبض على «سيلفستر جوردان» من زعماء الأحرار، والذي اشترك في وضع دستورها، فاعتبر الآن من المشبوهين، وبعد محاكمة دامت أربع سنوات حُكم عليه بالسجن خمس سنوات، ثم أُلقي القبض على فريتز رويتر Fritz Reuter — أحد الكتَّاب والشعراء الحديثين — بتهمة أنه كان في شبابه ووقت أن كان طالبًا؛ متصلًا بإحدى الجمعيات السرية، ولقد قُدِّم «رويتر» إلى المحاكمة، كما قُدِّم ٢٠٤ من الشباب للمحاكمة التي استمرت ثلاث سنوات. ثم حُكم على «رويتر» بالإعدام، واستُبدل به السجن ثلاثين عامًا، ولقد نشر «رويتر» بعد ذلك، وعلى نحو ما فعل سيلفيوبلليكو Silvio Pellico قصة محبسه، وفي كل مكان تولى رئاسة الحكومة وزراء رجعيون عُرفوا بالشدة والصرامة، فسيطر على الحكومة في بفاريا؛ فالر ستاين Wallerstein، وزميله كارل فون آبل Abel، وفي هس كاسل؛ سيطر الوزير هسينفلوج Hessenpflug، وفي بادن كان فرايهر فون بليتر سدورف Blittersdorff، ثم في بروسيا مجموعة من الرجعيين، مثل كامبتز Kamptz، وتشوب Tschoppe وغيرهما، وفي سنة ١٨٣٣ تعطل دستور هانوفر.

وهكذا ساد الركود ألمانيا، وخيم عليها الفتور سريعًا، بعد الحركة أو الاضطراب، الذي أثاره حادث الثورة في فرنسا في يوليو ١٨٣٠.

وأما هذا الخمول، الفتور، فقد استطال عدة سنوات، فلم تنفض ألمانيا عنها هذا الركود إلا عشية سنة ١٨٤٨. فلم يقع خلال هذه السنوات أي حادث، من وجهة النظر السياسية، أي أهمية، فبقيت ألمانيا حتى سنة ١٨٤٧، تخضع لنفس النظام، وتسود بها الحال التي كانت عليها في سنة ١٨١٥ وتلك الحياة السياسية التي عاشتها ألمانيا طوال هذه المدة كانت، وعلى نحو ما شهدنا، في الشطر الأكبر منها، على غاية من التواضع والقصور.

ولكن ألمانيا «الحية» لم تكن تعيش في الحقيقة، خلال هذه السنوات (١٨١٥–١٨٤٧) في عالم السياسة، وإنما كانت تعيش في عالم الفكر والثقافة، وهذه الحياة الذهنية التي عاشتها ألمانيا، هي العامل الجوهري في تطور الكيان الألماني، من ناحية الشعور بالقومية؛ ولذلك فقد صار ضروريًّا بحث هذه الحياة الذهنية؛ للوقوف على مدى اتجاهاتها القومية في ألمانيا.

(١١) الحياة الذهنية واتجاهاتها القومية

أما هذه الحياة الذهنية فقد كانت قوية عارمة، ثم إنها كانت خليطًا مبعثرًا من الاتجاهات والآراء في الوقت نفسه، فقد سادت بها الاتجاهات المناقضة لبعضها بعضًا، وتعددت بها أنظمة التفكير، فكان بعض هذه الاتجاهات والأنظمة، منفصلًا تمامًا عن كل حركة سياسية في حين كان البعض الآخر ذا صلة وثيقة بموجات الفكر الرجعية.

ومع أنَّ هذه الحياة الذهنية لم تكن متصلة بالحياة السياسية، فقد كانت مصطبغة بالسياسة، وكان لها نتائج سياسية، مما جعلها متباينة في نشاطها مع حياة الخمول والركود في العالم السياسي، وذلك إلى جانب أن الضغط السياسي الذي سار عليه النظام القائم للحد من هذه الحياة الذهنية ذاتها، قد أجبر «العلماء» ورجال الفكر على الاتجاه نحو حلول جديدة، ترفع هذا الضغط الحكومي السياسي، وهكذا فإن الحياة الذهنية الألمانية التي لم تكن مؤسسة على مسطح سياسي، سرعان ما صار لها نتائج، ظهرت آثارها في خلق روح قومي، وفي حمل الألمان على الانصراف عن تأييد، بل ومقاومة ذلك النظام القائم، والذي عطل في كل مكان نمو حياتهم الروحية.

(١١-١) الجامعات

وفي ألمانيا، كانت الجامعات هي المتمتعة بالعيش الحقيقي بفضل «الوظائف القومية» التي تؤديها للمجتمع الألماني، وفي هذا المجتمع كان لأساتذة الجامعات نفوذ يفوق كثيرًا ما كان لرجال الصحافة والسياسة، وشهدت ألمانيا دائمًا وجود عدد كبير من الجامعات بها، سواء تحت «النظام القديم» أو في عصر الثورة والسيطرة النابليونية. لقد اختفت فعلًا بعض الجامعات أثناء «الثورة» والسيطرة الفرنسية، ولكن عددًا من الجامعات قد تأسَّس كذلك بعد «الثورة»، من ذلك تأسيس جامعة «بون» في سنة ١٨١٨، والغرض من إنشائها صبغ المقاطعات الجديدة التي ضُمت إلى بروسيا في مؤتمر فينا بالصبغة البروسية، ثم تأسيس جامعة في «ميونخ» لتحل محل جامعة لاندشهوت Landshut القديمة، التي كانت بدورها قد خلفت جامعة اليسوعية الكبيرة في إنجولشتاد Ingolstadt، ولقد أنشئت كذلك جامعتان في سويسرة، أحدهما في «زيورخ» في سنة ١٨٣٣، والأخرى في «برن» سنة ١٨٣٤، وذلك إلى جانب جامعة «بال» القديمة، ولم تكن هذه جامعات ألمانية، ولكن الألمانية كانت لغة التدريس بها، فصارت لذلك ملاذ الأساتذة الألمان من الأحرار، الذين يُطردون من ألمانيا، أو يضطرون إلى مغادرتها، وكان بهذه الجامعات السويسرية أثر ونفوذ عظيمان في ألمانيا الجنوبية.
ولقد استأثرت الحياة الجامعية، بكل اهتمام الألمان، فهم لا يفوتهم حادث قد يقع في هذه الحياة الجامعية، أو تغيير يطرأ، ويسترعى نشاط هذه بعناية فائقة، المناقشات الدائرة والنزاعات الحادة بين مدرستي شلاير ماخر Schleiermacher و«هيجل» الفلسفيتين، أو محاورات علماء اللاهوت الكاثوليك؛ العقليون، أتباع مدرسة جورج هرميس Hermes، والذين عُرفوا بالاعتدال، فصاروا يُعرفون «بالهرميسيين»، من جانب، و«القوميين» — الأرثوذكسيون الذين صاروا مؤيِّدين لسلطان كنيسة روما تحت تأثير الرومانتيكية، ثم بفضل نشاط البابوية — من جانب آخر، وتلك مشاحنات كانت ذات صبغة جامعية بحتة، وعلى مستوى روحي، مسَّت مشاعر الألمانيين، وتجاوبت أصداؤها في كل أنحاء ألمانيا.
ويذكر الكُتَّاب حادثًا، وقع في سنة ١٨٣٧، للتدليل على نوع «المناقشات» الجامعية التي كان يهتم بها الرأي في ألمانيا وقتئذ، هو أن ملك هانوفر الجديد إرنست أوجستس Augustus (١٨٣٧–١٨٥١) عمد إلى إلغاء الدستور الذي كان قد أصدره والده «جورج الثالث ملك إنجلترا»، وكان هذا الدستور معطلًا قبل إلغائه، ومع ذلك احتج سبعة أساتذة من جامعة «جوتنجن» ضد هذا الإلغاء غير القانوني. فجرَّدهم الملك من وظائفهم؛ وهؤلاء الأساتذة كانوا الأخوين «جاكوب» وولهلم جريم Grimm، وعالم الفلسفة الطبيعية أو الفيزياء ولهلم ويبر Weber، والمستشرق هاينريسن إيوالد Ewald، ثم اثنين من أساتذة التاريخ والعلوم السياسية؛ جورج جرفينوس Gervinus وفردريك داهلمان Dahlmann، ولقد أثار إقصاء هؤلاء الأساتذة موجة من الاستياء، طغت على كل ألمانيا باستثناء «الحكومات» ذاتها بطبيعة الحال، فقد رفض «الدياط» مطلبًا تقدم به هؤلاء الأساتذة ينشدون تدخل الدياط في مسألتهم، وعلى ذلك فقد تأسَّست هيئة في «ليبزج» لجمع أموال واتخاذ الخطوات اللازمة لمساعدة الأساتذة، وأخذت تترى عليهم رسائل التحية والتكريم من كل مكان، وعرضت عليهم الجامعات الأخرى «كراسي» الأستاذية بها، كما مُنحوا الدكتوراه الفخرية.

لقد أُخمدت تمامًا إجراءات القمع في الحياة السياسية في الجامعات، سواء بسبب إقصاء الأساتذة، أو بسبب فرض الرقابة على الطلاب، وقد مُنع الطلاب من جماعات «البورشنشافت» من الالتحاق بخدمة الحكومة، أو الكنيسة، أو التعليم والمدارس، وصار محرمًا عليهم امتهان الطب أو المحاماة، ولكن لم يكن لهذه الإجراءات أهمية كبيرة؛ لأن الحياة السياسية ذاتها بالجامعات، لم تكن — كما ذكرنا — لها قيمة ملحوظة.

وإذا كانت الحياة السياسية ضئيلة القيمة، في هذه الجامعات، فقد توافرت الأسباب التي جعلت الجامعات تنعم بأنواع أخرى من الحياة المليئة بالنشاط، والتي كانت موضع فخر لها، ومبعث شعور بكبرياء عظيم، من ذلك أنَّ الحركة العلمية في الجامعات كانت عظيمة حقًّا، يكفي للتدليل على تعدد نواحيها ذكر بعض الأساتذة الذين اشتهروا في الرياضيات مثل: هس Hssse ولوجون ديريشلت Lejeune Dirichlet، وفي الكيمياء ليبيج Liebig، فوهلر Wohler والأخير هو مكتشف الألمونيوم، وفي البيولوجيا أو علم الحياة — «ولهلم ويبر» الذي سبقت الإشارة إليه، وهرمان هلمهولتز Helmoltz، ولقد قامت إلى جانب هؤلاء العلماء، مدرسة من أصحاب الثقافة العالية والمتأدبين، من المؤرخين مثل؛ جوهان جوستاف درويزن Droysen (١٨٠٨–١٨٨٤)، أستاذ التاريخ القديم الذي كتب تاريخ مقدونيا، وقد تحدث «درويزن» في مؤلفه هذا عن فيليب المقدوني، ومحاولاته لتوحيد بلاد اليونان؛ ولذلك فقد حوى هذا الكتاب إشارات للتاريخ الألماني وللحالة القائمة في ألمانيا وقتذاك. وكان في برلين مؤرخ عظيم آخر، هو ليوبولد فون رانكه Ranke (١٧٩٥–١٨٨٦) صاحب مدرسة البحث التاريخي التي كان لها أكبر الأثر على تطور الدراسات والبحوث التاريخية بعد ذلك، والذي نشر في سنة ١٨٣٤ تاريخًا للشعوب الرومانية والجرمانية، ومع أن «رانكه» كان مؤرخًا، منصرفًا للبحث والدراسة، فلم يشتغل بالسياسة، فقد بدأ قبل ذلك بعامين (١٨٣٢) بنشر مجلة تاريخية سياسية،٤٥ غرضها إيقاظ الروح الوطنية في بروسيا، الأمر الذي جعل الحكومة تصدر مجلة معارضة يتولى تحريرها أعلام الرجعيين، مِمَّنْ سبق ذكرهم، مثل؛ «ويتجنستين» و«كامنتز» وغيرهما من رجال الحكومة، وكان بفضل ثقافة «رانكه» الواقعية، أن صار تلاميذه متأثرين بالواقعية في تفكيرهم وكتاباتهم، وكان من هؤلاء المؤرخ هليزيسن فون سيبل Sybel الذي طالب في سنة ١٨٣٨ بأن يكون من حق المؤرخ، التعبير عن المشاعر والعواطف التي يتأثر بها والذي طالب بضرورة تشبع الجامعات بروح العصر السائدة، ولقد تميز من بين فقهاء اللغة كارل لاشمان Lachmann الذي بدأ حياته في سنة ١٨١٦ بعقد البحوث التحليلية الناقدة لأصول الأساطير الجرمانية، في القصة أو الملحمة المسماة نيبلؤو نجنليد Nipelu Ngenliea التي يرجع تاريخها إلى حوالي ١١٩٠–١٢١٠ ميلادية، والتي تقص أسطورة جنس جرماني فوق الطبيعي أو خارق للعادة يقوم على حراسة كنز انتزعه منهم بطل هذه القصة، واسمه نيبلؤو نجن Nipelu Ngen ونشر «جاكوب جريم» قواعد للغة الألمانية سنة ١٨١٩، ثم نشر بعد تسع سنوات (١٨٢٨) مؤلفه عن القوانين القديمة أو القضاء الألماني في الأزمات المالية، كما نشر في ١٨٣٧ كتابه عن الميثولوجيا الألمانية.٤٦
وإلى جانب هؤلاء اللغويين والمؤرخين، برز علماء متخصصون في الدراسات المتعلقة بالكتاب المقدس، وتفسير عباراته لغويًّا وتاريخيًّا وقانونيًّا … إلخ، في الميدان الذي اشتهرت به ألمانيا من قديم، فقامت في هذه البلاد «مدرسة» بذاتها متفرغة لهذه الدراسة، توفرت على دراسة النصوص الأصلية الأولية، والبحث في تاريخ الكنيسة في عهودها المتقدمة. ولقد قامت هذه المدرسة في «توبنجن»، حيث التفَّ التلاميذ حول كريستان بور Baur الذي أكسب جامعة «توبنجن» شهرة ذائعة بفضل دراساته العميقة عن الصفات الخلقية والاتجاهات التي كانت للقديسين الأربعة؛ متى ومرقص ولوقا ويوحنا، ثم بفضل بحوثه عن رسائل بولس الرسول.
وأما هذه «المدرسة» فقد كان من خير نتاجها مؤلف — أحدث ضجة عظيمة عن حياة السيد المسيح — للعالم اللاهوتي دافيد فرديك ستراوس Strauss (١٨٠٨–١٨٧٤)، واتبع «ستراوس» في كتابة هذا التاريخ الأسلوب النقدي والتاريخي؛ كي يتمكن من استخلاص الحقائق التاريخية، وعزلها عن الأحداث التي تشكلت منها كل تلك الأساطير التي أحاطت حياة السيد المسيح في نظره بقصص من نسج الخيال وحسب، ولكن «ستراوس» عندما فرغ من تحليل هذه الحقائق والأساطير التي تألَّفت منها سيرة السيد المسيح، كان قد انتهى إلى اعتبار أنه لم تكن هناك وقائع تاريخية صحيحة تستند عليها حياة السيد المسيح. وراح «ستراوس» يفسر هذه «الحياة»، إذن كمجموعة من الأساطير، ولا شيء غير ذلك، ونشر «ستراوس» كتابه في سنة ١٨٣٥، وانعقد رأي المؤرخين على أنَّ هذا الكتاب كان أجرأ محاولة قام بها أحد الفقهاء حتى هذا الوقت؛ للتخلي عن كل تلك الجهود التي كانت تبذل من أجل التوفيق بين المعتقدات القائمة على قوة الإيمان وحسب، وبين تلك التي يجب أن تقوم على الحقيقة المدعمة بالأدلة والبراهين، ثم محاولة تطبيق أساليب البحث الناقد على الأسس التي شيدت عليها صروح المسيحية.
ولقد كان من أثر وجود هذه «المدرسة التأويلية» المختصة بتفسير الكتاب المقدس أن انطلقت الآن الحملة التي كانت وقتئذ موجهة ضد الدين، والتي تزعمها كتَّاب من طراز «أرنولد روج» Ruge ١٨٠٢–١٨٨٠ الفيلسوف والناشر — وأصله من بوميرانيا — والذي أخذ ينشر ابتداء من سنة ١٨٣٧ صحيفة حوليات هال Halle — وسوف يأتي الكلام عنها في موضعه — أو آنسلم فويرباخ Anslem Feuerpach، من تلامذة «هيجل» اليساريين، الذي أثار الأوساط المثقفة في ألمانيا بمؤلفه عن «جوهر المسيحية»٤٧ في سنة ١٨٤١، عندما أراد أن يقيم الحجة على أنَّ «الدين» أو العقائد الْمُوحى بها من عند الله لا تعدو أن تكون «تأليهًا» للإنسانية، وأنكر «فويرباخ» أن الميتافيزيقا (علم المعقولات أو ما فوق الطبيعة) صحيح أو موافق للعقل، ورجع بالفلسفة إلى المشاهدات العينية، ولقد انتهى الأمر بهؤلاء الهيجليين اليساريين — أرنولد روج، وآنسلم فويرباخ وإضرابهما — إلى نكران الدين كلية، وكان من أشد هؤلاء عنفًا برونو باور Bruno Bauer (١٨٠٩–١٨٨٢) الذي نشر في سنة ١٨٤٣ مؤلَّفه عن «المسيحية بعد إزاحة الستار عنها».٤٨

وأمكن توثيق الصلة بين العلماء عن طريق المؤتمرات التي صار يعقدها هؤلاء، فابتداء من سنة ١٨٢٢ صارت تنعقد مؤتمرات المتخصصين في العلوم الطبيعية وفي الطب، ثم من سنة ١٨٢٨ مؤتمرات الفقهاء اللغويين، وفي الأيام التي سبقت «ثورة ١٨٤٨» أصبحت هذه المؤتمرات — وكما كان الحال في إيطاليا — الأداة الأساسية التي أمكن بها إذاعة الفكرة القومية، حيث قد بدأ «الجرمانيون» أنفسهم يجتمعون في مؤتمرات خاصة بهم في سنة ١٨٤٦.

ومع أنَّ هؤلاء العلماء لم يكونوا بحالٍ من الأحوال من رجال السياسة، فإن نشاطهم والمؤتمرات التي عقدوها، كان عملًا على جانب كبير من الخطورة، من حيث إنه قد ساعد على نمو روح البحث والتنقيب العلمي وراء الحقائق، والمناقشة الناقدة، وهي الروح التي اصطدمت بنظام المراقبة السياسية، والتي أدت بسبب هذا الاصطدام إلى زيادة التذمر والغضب من هذا النظام نفسه، وعلى خلاف الحياة السياسية التي اتسمت بالخمول والركود، لم تلبث أنْ صارت هذه الحياة الثقافية أو الذهنية ذات النشاط العظيم، مبعث فكرة ثانية للمقاومة من أجل الدفاع عن كيانها ذاته ضد إجراءات الضغط والقمع المتبعة معها.

ومن ناحية أخرى، فإن هؤلاء العلماء والمؤرخين والفلاسفة … إلخ، بالرغم من أن كل واحد منهم كان ينشط في ميدان تخصصه، متفرقين عن بعضهم بعضًا، فإنهم قد أفلحوا في خلق روح تماسك وارتباط قومي، فيقول «جاكوب جريم» في كلام له فيما بعد وهو يذكر بحوثه اللغوية: «إنه كان يعتبر هذه البحوث اللغوية دائمًا كواجب جدي ولازم الأداء، والغرض المعين منه خدمة الوطن المشترك، والاحتفاظ بمحبة هذا الوطن.»

وهكذا، فإنه يصح لنا القول بأن هذه الحياة الذهنية (الثقافية) والجامعية كانت ترعى الفكرة القومية، وتحفظها، ولكن في المعنى الذي كان يتصوره «جوهان هردر»٤٩ أكثر مما كان يدور في ذهن «العقليين» الفرنسيين، على أن العمل الذي قام به هؤلاء العلماء الألمان، لم يكن من المنتظر على كل الأحوال أن تظهر آثاره في هذه الناحية القومية خصوصًا، إلا بعد مُضي زمن طويل.

(١١-٢) الحركة الأدبية «السانسيمونية»٥٠

ولقد كان طبيعيًّا أن تسترعى الحركة الأدبية قدرًا أكبر من انتباه الناس، مما فعلته الحركة العلمية. فالمشتغلون «بالأدب» أكثر عددًا، وجمهور المهتمين «بالأدب» وتتبع الحركة الأدبية، أكبر الجماهير المثقفة. وفي ألمانيا نشطت هذه الحركة الأدبية نشاطًا عظيمًا في ذلك الوقت، ولكن دون أن تكون لها قيمة مرموقة. فهناك مدرسة للشعر، من أعلامها؛ فردريك روكيرت Ruckert، وبلاتن Platen، وعلى الخصوص: لودفيج أوهلاند Uhland، وهناك كُتَّاب القصة أو الروائيون، مثل؛ «إيمرمان» الذي سبقت الإشارة إليه، وبرتولد أورباخ Auerbach الذي علَّم «الفلاحين» تذوق الأدب، وأثار اهتمام «البلاط» به. ثم كان هناك كُتَّاب المسرحيات (الدراما)، مثل؛ جراب Grappe الذي تخصص في المسرحيات التاريخية، وهيبل Heppel٥١ الذي بدأ حياته الأدبية في هذا العهد وبلغ نتاجه ذورته في العهد التالي.

والذي تجدر ملاحظته أن هذه المدرسة الأدبية، قد قطعت كل صلة الرومانتيكية ووجهت عنايتها لملاحظة الحياة الواقعية الطبيعية.

ولقد وُجِد من بين هؤلاء الكُتَّاب ورجال الأدب جماعة قصرت اهتمامها على السياسة، واتخذت لنفسها اسم «ألمانيا الفتاة»، وصارت تُعرف به، وهي الجماعة التي تألَّفت على هامش حوادث ١٨٣٠، وغداتها، وهؤلاء الجماعة — ألمانيا الفتاة — هم الذين صاروا يشتركون الآن في حركة تقوم على المبادئ الحرَّة والقومية، وتختلف اختلافًا شديدًا عن حركة سنة ١٨١٣، وذلك من حيث إنَّ الحركة الحالية كانت روحية وحسب، وليست حركة «عمل» أو فعل «مادي»، ثم إنها كانت كذلك، وعلى نحو ما كان عليه الحال في القرن الثامن عشر، حركة «أممية» أي مختصة بكل أمم العالم، وليست قاصرةً على ألمانيا وحدها، كما لم تكن مُوجَّهة ضد فرنسا؛ أي مصطبغة بشعور العداء ضد هذه الأخيرة، على خلاف ما كان عليه الحال في حركة ١٨١٣.

أما هذا «العالم المثقف» في ألمانيا، فقد وجد أنه صار يعيش في اضطراب وقلق عظيمين، وتطفى عليه موجة من القنوط وعدم التشجيع، وذلك غداة إجراءات القمع والضغط التي ذكرناها في سنة ١٨٣٢، ولقد بقي هؤلاء «المثقفون» يمرون بهذه التجربة في السنوات من ١٨٣٢ إلى ١٨٣٥، ولقد ظهر كأنما قد قضى خضوع ألمانيا لسلطان الحكومات القائمة في شتى دولها؛ على كل نزعات الحرية، قضاء مبرمًا، حتى إن أقصى ما قد يحق وقتئذ للمرء أن يطمع في الظفر به، لم يكن يعدو — على ما يبدو في هذه الظروف — مجرد إنقاذ البقية الباقية من الحريات، التي تسنى لها البقاء في ألمانيا الجنوبية، كما كان يبدو كذلك أنَّ من الواجب أنْ يطرأ تغيير روحي (أخلاقي) واجتماعي على ألمانيا، قبل أن يتمكن أحد من الوصول إلى «نتائج» — أو إحداث تغييرات — سياسية؛ وذلك لأن «التحول» الأخلاقي والاجتماعي، كان شرطًا أساسيًّا لا مندوحة من توفره سلفًا، وذلك تمهيدًا «للتحول» السياسي المنشود.

على أنه حتى يمكن «تنفيذ» هذه «الثورة» الخلقية والاجتماعية، لم يكن هناك بد من أن يستعين هؤلاء «المثقفون» من الشباب الألماني «بالنفوذ» الأجنبي؛ المتمثل في المذهب الحر الفرنسي، أو في مذهب السانسيمونيين الجديد. وهؤلاء الأخيرون ينتسبون لمؤسِّس جماعتهم؛ كلود هنري كونت دي سان سيمون St Simon (١٧٦٠–١٨٢٥)، وهو من أعلام الاشتراكيين في فرنسا الذين أرادوا بناء العوالم المثالية. ومن المعروف أن سان سيمون كان يرى هذا العالم المثالي في إنشاء الدولة الصناعية التي يدبرها العلم الحديث، نشر أول مؤلَّف له في سنة ١٨٠٣ بعنوان «رسائل أحد المقيمين في جنيف أو سكانها»٥٢ كان بمثابة الإنذار بالخطر الذي يتهدد أصحاب الأملاك بالثورة من جانب الذين لا أملاك لهم، ثم لم يلبث أنْ نشر طائفة من «الكراسات» يُؤيِّد فيها فكرته القائلة بأن عهد طبقة النبلاء قد ولى وانقضى، وأن الوقت قد حان كي يتولى «الصناعيون» توجيه المجتمع. فيعمل هؤلاء على إسعاد المجتمع وتنمية ثروته، وتنظيمه وإشاعة الهدوء والسكينة فيه، وذلك بأن يسترشدوا في نشاطهم لبلوغ هذه الغاية بعبادة محبة الناس، والبشرية، وضرورة التعاضد والتكافل، وهي العبادة التي سوف تصبح «المسيحية الجديدة».
ولقد تأسَّست «مدرسة السانسيمونيين» في فرنسا، بعد وفاة سان سيمون نفسه، تحت زعامة اثنين من تلاميذه؛ أرمان بازارد Armand Bazard وبروسبر إنفانتان Prosper Enfantin، وقد ألقى «بازارد» خصوصًا سلسلة من الدروس العامة في باريس في سنتي ١٨٢٨ و١٨٢٩، أوضحت الأفكار والمبادئ الأساسية التي قام عليها مذهب السانسيمونيين وعقيدتهم، وفي رأي السانسيمونيين أن الإنسانية (البشرية) تمر في أدوار أو عهود تنظيمية (عضوية) تخضع البشرية أثناءها لنظام اجتماعي مقبول من الشعوب، ويقره الدين، كما تمر في عهود أو أدوار يتعرض فيها هذا النظام الاجتماعي للنقد، وتبحث الإنسانية أثناءها عن نظام جديد، ودور «النقد» هو ذلك الذي تعانيه الإنسانية أو البشرية الآن، وقد بدأ منذ أن بدأ انحلال المسيحية في القرن الثامن عشر، وسوف يخلفه عهد تنظيمي (عضوي)، تسوده الديانة الجديدة القائمة على المحبة، ولقد استند تاريخ البشرية حتى الوقت الحاضر على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ولقد اتخذ هذا الاستغلال صورًا مختلفة متلاحقة، بدا فيها «مخففًا» في كل واحدة منها عن سابقتها، فكانت العبودية Esclavage، ثم الاسترقاق (المتعلق برق الأرض) Servage، ثم الاستخدام نظير أجر معين، أو التوظف Salariat. ويرى السانسيمونيون أن من الواجب الاستعاضة عن العداء الناشب بين «الممتلكين» — أصحاب الأملاك و«غير الممتلكين» بمبدأ المشاركة، وأن يقوم مجتمع شيوعي، مكان المجتمع القائم على الملكية الفردية، ولم تكن الشيوعية التي أرادها السانسيمونيون تسوي بين الناس — بل كانت تضع الناس في مراتب متفاوتة، بحيث لم يكن ينال المرء في نظام هذه الشيوعية إلا قدر الجزاء الذي تستحقه، عملًا بالقاعدة القائلة: «ليأخذ كل فرد حسب طاقته، وليأخذ صاحب هذه الطاقة حسب العمل الذي تؤديه طاقته.»٥٣ والعداء الناشب اليوم بين الطبقات، صار يصحبه عداء بين الشعوب، وذلك عداء سوف يختفي كذلك بفضل «المشاركة العامة» التي سوف تعم الدنيا بأسرها والمؤسسة على العاطفة الدينية.
وابتداء من يناير ١٨٣١ قامت «مدرسة السانسيمونيين» بدعاية كبيرة في «ألمانيا»، وذلك بفضل الكراسات والنشرات العديدة التي صارت تأتي من فرنسا، وأيَّدت جريدة لوجلوب Le Globe، وهي التي صارت صحيفة السانسيمونيين، اهتمامًا فائقًا بشئون ألمانيا، وسرعان ما ظهر «أدب سانسيموني» في ألمانيا ذاتها، إما لبيان المبادئ السانيسمونية وتأييدها، وإما للطعن على هذه المبادئ ومحاولة دحضها. ونشر بوشهولتز Bucholtz موجزًا لآراء السانسيمونيين ومذهبهم، كما توفر موريس فايت Veit خصوصًا على إصدار البحوث العظيمة لتوضيح «السانسيمونية»، وذلك في عامي ١٨٣٢ و١٨٣٤، ونشرت الصحف في هذه الفترة ذاتها مقالات عديدة، تناولت بالقدح أو المديح هذه «السانسيمونية»، إلى جانب معالجة مسائلها معالجة مستفيضة، بل ومما ينهض دليلًا على مبلغ الدعاية النشيطة التي لقيتها السانسيمونية في ألمانيا، ومبلغ خطورة هذه الدعاية في الوقت نفسه، أن الأساقفة صاروا يصدرون المنشورات والتنبيهات لتحذير الناس من السانسيمونية.
ولقد استمسك الألمان — وبالأقل فريق معين منهم — بطائفة من الأفكار والآراء التي نادت بها «المدرسة السانسيمونية»، فاستمسك الألمان بفكرة التناقض القائم بين الغنى والفقر، والمقاومة الناشئة بين الطبقات الغنية والفقيرة، وهي «الفكرة» التي أفضت إلى قيام حركة ديمقراطية جديدة في ألمانيا، تنشد أهدافًا ديمقراطية واشتراكية معًا وفي الوقت نفسه. وأما الذي صار يمثل هذه الحركة، فكان الكاتب الشاب جورج بوشنر Buchner «الديمقراطي» المتحمس، الذي شكَّل جمعيات سرية في هس كاسل، ونشر كراسة بعنوان «الفلاح الهيسي»،٥٤ وَجَّه فيها حملة عنيفة ضد الأغنياء وضد الأمراء، ثم نادى بالثورة الاجتماعية، وقال «بوشنر»: إن الذي يسيطر على مُقدَّرات العالم المعاصر، إنما هو «المعدة ومسألتها الكبيرة»،٥٥ وأنشأ «بوشنر» جمعية لحقوق الإنسان في «هس» على غرار جمعية حقوق الإنسان في فرنسا، وبلغ عدد أعضاء جمعيته الأربعين، وفي سنة ١٨٣٤ نشر مسرحية عاطفية مثيرة بعنوان «موت دانتون»،٥٦ واستطاع أنْ يفلت من المحاكمة والسجن في الوقت المناسب، فغادر جيسين Giessen لاجئًا إلى ستراسبورج.
ومن الآراء الأخرى الذائعة وقتئذ، كان الاعتقاد بأن الحياة الاجتماعية تفوق كثيرًا في أهميتها الحياة السياسية البرلمانية، كما كان يسود الاعتقاد بقوة الحركة الصناعية وبضرورة تحديد الغاية، التي يجب توجيه هذا النوع من النشاط البشري إليها لتحقيق المصلحة المقصودة، وإلى جانب هذا فقد ذاع كذلك الرأي القائل «بالأممية»،٥٧ أي شعور الانتماء إلى كل الأمم، وعدم الارتباط بوطن أو بلد معين، ثم تآخي الشعوب التي يجب أن تتحد في ائتلاف عظيم من أجل استقلال موارد العالم.
ولقد استخلص الألمان من هذه الآراء والفكرات نوعًا من الصوفية، كما استخلصوا منها أفكارًا بشأن تحرير المرأة، وسرعان ما قامت حركة واسعة تحت تأثير «السانسيمونية» لتحرير المرأة في ألمانيا وقتئذ، واعتمدت هذه الحركة النسائية خصوصًا على جهود سيدتين كاتبتين؛ راهيل ليفن Rahel Levin التي نشرت «جورنالها» و«رسائلها» في سنة ١٨٣٣، وكانت «راهيل ليفن» من أعلام الحياة الثقافية في برلين مدة طويلة، أما «الكاتبة الأخرى»، فكانت بتينا فون آرنيم Bettina Von Arnim صديقة «جيته» المشهورة، والتي نشرت في سنة ١٨٣٤، وبعد وفاة «جيته» الرسائل التي تبادلتها مع هذا الكاتب العظيم، ولقد صادفت كتابات هاتين السيدتين نجاحًا كبيرًا في ألمانيا، وانكب الناس على قراءة ما صارتا تنشرانه بشغف وحماس، ولا جدال في أنهما قد تسببتا بجهودهما الأدبية تقوية الحركة النسائية في صالح إعطاء المرأة حقوقها، وتحريرها من سلطان الرجل.

وهكذا عاونت «السانسيمونية» على صنع أيديولوجية جديدة في ألمانيا، كما أنها ساعدت — من ناحية أخرى — على أن يحقق الألمان من حياتهم الصناعية نتائج مادية لنباء مجتمع أفضل.

(١١-٣) الحركة الأدبية «ألمانيا الفتاة»٥٨

أما هذه الروح الجديدة — أو هذه المدرسة الجديدة — فقد ظهرت أثرها في حركتين معينتين؛ حركة نشاطها موزع أو مشتت في أنحاء ألمانيا عمومًا وتُعرف هذه بحركة أو مدرسة «ألمانيا الفتاة»، وأخرى أكثر تحديدًا، ينحصر نشاطها في الغرب، في الأقاليم الراينية، وتُعرف باسم «المذهب الرايني الحر».٥٩

والذي يجب ملاحظته من مبدأ الأمر، أنه يجب التفريق بين «ألمانيا الفتاة» التي هي موضع دراستنا الآن وبين «ألمانيا الفتاة» التي كانت قسمًا من «أوروبا الفتاة»، التي أنشأها «مازيني» في سويسرة في الظروف التي سبق أن مرت بنا عند الكلام عن الحركة القومية وحركة الأحرار في إيطاليا. لقد أساء الخلط بين «مدرسة ألمانيا الفتاة» وهذه «الجمعية» المازينية إلى الكتَّاب الشبان الألمان، الذين لم يكن لواحد منهم في الحقيقة أي اتصال بأولئك المتآمرين الذين تألَّفت منهم «ألمانيا الفتاة» — المازينية — في سويسرة، وثمة ملاحظة أخرى، هي أن الكتَّاب المنتمين «لألمانيا الفتاة» في ألمانيا، والذين اشتغلوا بالسياسة أصلًا، أو كانت لهم ميول نحو النشاط السياسي، لم يلبثوا أن نفضوا أيديهم من السياسة قطعًا في سنة ١٨٣٢، وذلك غداة حادث المظاهرات والصخب السياسي المعروف في «هامباك»، فكانت حركة «ألمانيا الفتاة» إذن حركة فكر وأدب في جوهرها.

ومن وجهة نظر الأدب، تعتبر حركة ألمانيا الفتاة خصمًا لكل علاقة بالرومانتيكية الصوفية والمثالية، من أجل العودة إلى عالم الحقيقة والواقع؛ العودة إلى «العقل» والعودة إلى الشعب، ثم إن هذه الحركة — ألمانيا الفتاة — من ناحية وجهة النظر السياسية، فكانت تعمل لتحرير الفكر، ولتحرير الأفراد، وحركة تريد انطلاق العاطفة والشعور وظفر الأمم بحقوقها وبحرياتها، وتحقيق السعادة، ونشر ألوية السلام.

وأما الْكُتَّاب الذين تألَّفت منهم «ألمانيا الفتاة» فقد جاءوا من نواحٍ مختلفة، فمنهم الوطنيون والأحرار الذين التفوا حول «وولفجانج مِنزل»، وجريدة الصباح Morgenblatt، والذين كان من بينهم على وجه الخصوص؛ الروائي والكاتب المسرحي كارل فردنند جوتزكوف Gutzkow (١٨١١–١٨٧٨)، وكان مولد هذا الأخير في برلين، بدأ حياته صحفيًّا، ثم سرعان ما انصرف عن فلسفة «هيجل»، وأدار ظهره لها، كما أدار ظهره للعصور الوسطى، وللرجعية، بتفكيرهما وأساليبهما، ويكاد يكون «جوتزكوف» جمهوريًّا في تفكيره، وكان من بين مؤلفاتها الأولى «رسائل مجنون إلى مجنونة»، وذلك في سنة ١٨٣١، وهؤلاء الكُتَّاب الشباب اعتقدوا بضرورة معالجة أدب الشعب.
وغير هؤلاء، كان جماعة من الكُتَّاب الذين ظهروا فرادى، ولم تجمعهم رابطة معينة، وكانوا يمثلون اتجاهات متعددة ومختلفة في عالم الفكر، نذكر منهم الشاعر الصحفي هاينريش لوب Laube، والذي كان برليني المولد كذلك (١٨٠٦)، عمل في أول حياته مؤدِّبا أو معلمًا لأبناء الأسرة الكبيرة، تأثر منذ سنة ١٨٣١ «بالسانسيمونية»، فاعتنق المبادئ الاجتماعية الحرَّة، كما وقع تحت تأثير «فردريك ليست» عند عودة هذا الأخير من أمريكا (١٨٣٢). وإلى جانب «لوب» نذكر ماندت Mundt وهو بروسي المولد كذلك (١٨٠٨)، وقد عرفنا أنه كان يعيش في سكسونيا، ولم يلبث أن تحول إلى تأييد الملكية الدستورية، وفي رأيه كانت سكسونيا تمثل الدولة والدين، وذلك على خلاف الكتَّاب الآخرين، والذين كانوا عمومًا لا يؤيِّدون بروسيا، وكان «ماندت» نفسه ناقدًا أدبيًّا.
وثمة مجموعة أخرى من الْكُتَّاب المنتمين لهذه المدرسة (ألمانيا الفتاة)، وهؤلاء كانوا من المشتغلين بالجامعات، نذكر منهم وينبارج Wienbarg (وُلد في سنة ١٨٠٢)، والتحق بجامعة كييل Kiel أستاذًا من غير مرتب، ولكن معترفًا به٦٠ نشر مؤلفًا عن «هولندة خلال سنتي ١٨٣١، ١٨٣٢»، ثم نشر في ١٨٣٤، مؤلفًا بعنوان «الحقول النضرة أو الجميلة» أهداه «لألمانيا الفتاة»، والذي كان بعد هذا الإهداء، أن صارت هذه الجماعة من الأدباء تُعرف باسم «ألمانيا الفتاة».

وأخيرًا، ضمت إليها «ألمانيا الفتاة» فريقًا من الْكُتَّاب، يعتبرون طرازًا بذاته؛ بسبب ظروفهم العائلية، أو أصولهم التي نبتوا منها، مثل «لودفيج بورن» اليهودي الأصل، وقد سبق الكلام عنه، ومثل «هنريش هايني» ١٧٩٧–١٨٥٦، الذي كان يهوديًّا كذلك، وقد سبقت الإشارة إليه في مواضع متعددة، وحان الوقت لذكر طرف من سيرته.

فقد ولد «هايني» سنة ١٧٩٧ في «دسلدورف» في أسرة يهودية تشتغل بالتجارة، وتملك بيوتًا تجارية هامة، ومصرفًا كبيرًا، كان أحد هذه المؤسسات في همبورج، وحاولت الأسرة أن تزج به في هذه الحياة التجارية والمصرفية، ودرس القانون في جامعة «بون»، ثم من جامعتي «جوتنجن» و«برلين»، ولكن لم يكن القانون هو الذي يستأثر باهتمامه، فصار «هايني» يقصد كليات الآداب، وكان في سنة ١٨٢٥ أن أتم «هايني» دراسته القانونية، وحصل على دكتوراه القانون، ولكن تعذر عليه الالتحاق بخدمة الحكومة؛ بسبب يهوديته، فاعتنق المسيحية، التي بقي مع ذلك لا يؤمن بها أو بغيرها من الأديان، كما لم يفده شيئًا اعتناقه المسيحية؛ لأنه ظل معبدًا، ويعتبره الوسط الألماني منبوذًا، فكان ذلك أحد بواعث اعتناقه للمذهب الحر، مثله في ذلك مثل «لودفيج بورن».

وانكب «هايني» على الحياة التي آثرها على غيرها؛ حياة الأدب، التي استغرقت كل نشاطه، فنشر في سنة ١٨٢٢ أول مجموعة لقصائده، ثم كان في سنة ١٨٢٦ أن نشر مؤلَّفه الهام صور لأسفار Reisebilder وقد أقنع النجاح الذي صادفه «هايني» بالتفرغ للأدب تمامًا، ثم ظهر له في سنة ١٨٢٧ كتاب أغانٍ Buchder lieder، وشرع «هايني» بعد ذلك، يقوم بعدد من الرحلات لزيارة لندن، وميونخ، وإيطاليا العليا، وعندما قامت «ثورة ١٨٣٠» كان «هايني» موجودًا في همبورج، وقد تحمس الشاعر حماسًا عظيمًا للثورة ولمناصرة الفرنسيين، ولكن سرعان ما أخمدت الثورة، واستتب الأمر «للرجعية» في همبورج، وطرد اليهود منها، وأنقذ الناشر المعروف «كوطا»، هايني، عندما عرض عليه أن يعمل، ممثلًا في باريس لجريدة الفازيتة العامة Allegemeine zeitung فاستقر به المقام في باريس سنة ١٨٣١ مندوبًا لهذه الجريدة بها.
ولقد كان وجود علمين من أعلام كُتَّاب «ألمانيا الفتاة» يعيشان خارج ألمانيا، حقيقة على جانب عظيم من الأهمية، فقد سبق أن عرضنا كيف استقر «لودفيج بورن» في باريس منذ بداية سنة ١٨٣٠، وقد لحقه الآن للاستقرار بالعاصمة الفرنسية كذلك «هنريش هايني»، وكلاهما يعتبران من زعماء حركة «ألمانيا الفتاة»، وهما يعيشان الآن بعيدًا عن ألمانيا، وفي بلاد أجنبية؛ ولذلك فقد بقي من أعلام هذه الحركة، في ألمانيا ذاتها، «كارل جوتزكوف»، وبذل «جوتزكوف» الآن قصارى جهده في صيف ١٨٣٥؛ ليجمع أنصار «ألمانيا الفتاة» حول مجلة أسَّسها لهذه الغاية باسم المجلة الألمانية Deutsche Revue فالتف حوله لفيف من الناشرين والأدباء، والقصصيين، ومؤلفي المسرحيات، وكذلك أساتذة الجامعات.

وكانت هذه الحركة (حركة ألمانيا الفتاة) تخضع في الميدان السياسي لنفوذ «لودفيج بورن»، الذي يقوم على توجيهها، ولقد بقيت هذه الحركة مختلطة بحركة المذهب الحر (أو المبادئ الحرَّة) عمومًا إلى وقت حادث «هامباك» الذي عرفناه، فانفصلت من ذلك الحين حركة ألمانيا الفتاة عن السياسة.

وأخيرًا فقد خضعت حركة ألمانيا الفتاة، كذلك لنفوذ «هايني» وتوجيهه، وكان «هايني» حينئذ قد اعتنق «السانسيمونية»، ولو أنه لم يكن بحالٍ من الأحوال ديموقراطيًّا.

أمَّا برنامج هؤلاء الأعلام السياسي، فقد كان برنامج الأحرار العاديين، ولم يكن مع ذلك برنامجًا متقدمًا، ويتميز على وجه الخصوص، وقبل كل شيء ما بالطابع الجدلي والروح الناقد، وهو طابع أشد بروزًا، ويقود إلى نشاط أعظم كثيرًا في كل الميادين الأخرى خلاف ميدان السياسة.

•••

أما وقد تعرفنا إلى مدرسة «ألمانيا الفتاة» وإلى أعلامها، فإنه يجدر بنا التساؤل الآن عن قيمة هذه المدرسة أو الحركة، من ناحية وجهة النظر القومية، ولعل أول ما نلاحظه على هؤلاء الجماعة من الأدباء والمفكرين إلخ، أنهم قد تخلوا تمامًا عن شعور الكراهية لفرنسا، وأنهم يدينون «بالأممية»٦١ التي عَرَّفناها بأنها الشعور بالانتماء إلى كل الأمم، وعدم التقيد بوطن واحد، فقد عاد هؤلاء إلى اعتناق «الأممية»، وصاروا الآن يصوغون قلائد المديح لفرنسا، فينشر «لودفيج بورن» مجموعته الأولى «رسائل من باريس»٦٢ في سنة ١٨٣٢، وعددها ثمانية وأربعون خطابًا، وتفيض بالمديح لفرنسا بدرجة من الحماس، أثارت السخط، و«الفضيحة» في ألمانيا، ومع ذلك فقد نشر «بورن» مجموعته الثانية من هذه الرسائل في سنة ١٨٣٣، ثم مجموعته الثالثة منها في سنة ١٨٣٤، ولقد نشر «هايني» مؤلفه: «صور من باريس»٦٣ في فصول ظهرت تباعًا في جريدة «الفازيتة العامة» في باريس ابتداء من ٢٨ ديسمبر ١٨٣١، وأعلن «هايني» أنه صديق للفرنسيين؛ «لأنه كذلك صديق الناس جميعهم طالما أن هؤلاء معقولون وطيبون.» و«هايني» يقول فيما بعد: «إن عمل حياتي العظيم، كان بذل قصاري جهدي حتى يسود التحالف الودي بين ألمانيا وفرنسا، وحتى يتلف لصالحهما الأوهام الباطلة والعداوات الدولية.»

ولقد حدث في ألمانيا رد فعل ضد هؤلاء الأنصار والمؤيدين لفرنسا، وذلك من جانب أولئك الذين بقوا محتفظين بالروح التي سادت الكفاح الوطني في سنة ١٨١٣، خصوصًا «ولفجانج مِنزل»، الذي تعرض بسبب ذلك لهجوم عنيف وقاسٍ من ناحية «ألمانيا الفتاة»، فأصدر «لودفيج بورن» ضده كراسة بعنوان «مِنزل آكل الفرنسيين منهم وشراهة»، وذلك في سنة ١٨٣٦، ثم حمل «دافيد فردريك ستراوس» حملة عنيفة على «مِنزل»، عندما قال عن هذا الأخير: إنه إنما يريد أن يجعل مقبولًا من وجهة النظر الألمانية آراءه التي هي ذاتها لا يمكن أن تقضي من وجهة النظر الألمانية ذاتها إلا إلى الحماقات، أو إلى ما يستحيل قوله إطلاقًا، من ذلك أن من الحمق «مطاردة» نابليون، واضطهاد «ذكراه»؛ لأنه ذات يوم كان قد ألحق الأذى بألمانيا وعسف بها، فإن نابليون لم يعد له وجود الآن، ولن يستطيع إلحاق الأذى أو العسف بألمانيا ثانية. ثم قال «ستراوس»: ونحن إذا شئنا العودة إلى التفكير فيما هو جدي، يصح لنا أن نسأل كيف أجاز «مِنزل» لنفسه أن يكتب: إنَّ نابليون قد أوقع بنا الكوارث والنكبات، حتى إنه ليحق لنا نحن الألمانيين أن نغتسل مرة أخرى في نهر من دماء الفرنسيين؛ لأنه حتى هذه اللحظة لا تزال الراية الفرنسية تخفق من قمة كتدرائية (ستراسبورج)، ولم يحدث شيء حتى الآن لتحرير ألمانيا من النفوذ الفرنسي، وفي رأي «ستراوس» أن عبارات مثل هذه تصدر بعد ثمانٍ وعشرين سنة من عقد الصلح، وفي وقت لم تعُد فيه فرنسا تهدد ألمانيا — إنما تبعث على السخرية والهزؤ بكاتبها. وقال «ستراوس»: إن أناشيد الحرب، كانت ذات قيمة، وقت الحاجة إليها، وقت الحرب والكفاح، ولكن محاولة الاحتفاظ بها كأغنيات شعبية وقت السلام والهدوء، لمما يعتبر كذلك عبثًا وسخرية.

ولم يسكت «مِنزل» عن هذه الحملات القاسية الْمُوجَّهة ضده، بل إنه قد حمل هو الآخر حملات عنيفة مشابهة لها ضد كُتَّاب وأدباء «ألمانيا الفتاة»، وصار على وجه الخصوص يستثير ضدهم السلطات الحكومية.

وكان من المتوقع أن تبدي «الحكومات» سريعًا تذمرها من الروح الناقدة التي اتسم بها نشاط «ألمانيا الفتاة»، ومن ذلك الهياج في الخواطر الذي أثاره كُتَّاب «ألمانيا الفتاة» في عالم الفكر والثقافة في ألمانيا، ولقد خلطت الحكومات عامدة — خصوصًا الحكومة البروسية، حكومة فردريك وليم الثالث، وحكومة النمسا، البرنس مترنخ؛ بين الفكرات القومية، والمبادئ الحرَّة، فصارت هذه الحكومات تعتبر هذه المبادئ القومية والحرَّة، مبادئ ثورية، ثم إنها خلطت كذلك — وعن عمد — بين «ألمانيا الفتاة»، جماعة الأدب والفكر، وبين «ألمانيا الفتاة» الجمعية السياسية في «برن» بسويسرة، وكان تأثير «مترنخ» وفردريك وليم الثالث أن اتخذ الدياط قرارًا في ١٠ ديسمبر ١٨٣٥ ضد «مدرسة يعمل أفرادها الذين لا تخفى رغباتهم الحقيقة لمهاجمة الديانة المسيحية، والاعتداء على النظام الاجتماعي، وهدم الأخلاق»، ثم مُنعت من الصدور مجلة ألمانيا الفتاة — «المجلة الألمانية» — التي سبق ذكرها، وكل كتابات المؤلفين الخمسة الذين يعتبرون مسئولين عن حركة «ألمانيا الفتاة»، وكذلك كل ما قد يكتبونه في المستقبل، وهؤلاء هم؛ مايني، وجوتزكوف، ولوب، ووينبارج، وماندت، ولقد طلب كذلك من الحكومات في مختلف «الدول» الألمانية أن تقيم الدعوى ضد هؤلاء الْكُتَّاب.

وأسفرت هذه الإجراءات عن نتائج سريعة، فقد تخلى عن الحركة الجامعيون والصحفيون من المشتركين فيها، من هؤلاء؛ «ماندت» و«لوب»، وكان الأخير قد سُجن مرَّة، فلم يعد يريد استئناف التجربة، فقام كلاهما بمساعٍ في برلين، حتى لا تقام الدعوى، وتصدر الأحكام ضدهما، أما «جوتزكوف» فقد سُجن في مانهايم Mannheim، ثم انتهى الأمر بصدور حكم عليه بالسجن أربعة أسابيع، وترك «جوتزكوف» الاشتغال بالسياسة.
وفي خارج ألمانيا، كان «بورن» و«هايني»، ومعهما الشاعر الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي إدجار كينيه Quinet (١٨٠٣–١٨٧٥) — وصاحب تاريخ الثورة الفرنسية المشهور؛ يقول: إنَّ هؤلاء الثلاثة قد نصبوا أنفسهم الآن للدفاع عن «ألمانيا الفتاة» والمنتمين إليها.

وكان بعد بعض الوقت، أن رضيت الحكومات بجعل «الرقابة» مقصورة على الكتب والمؤلفات التي تم صدورها ونشرها حتى هذا الحين، فتركت لهؤلاء الْكُتَّاب الحق في الكتابة في المستقبل، ولكن لم يلبث أن أُنشئت في بروسيا (برلين) لجنة خاصة، مهمتها الإشراف أو مراقبة مؤلفاتهم وكتاباتهم، وبقيت هذه اللجنة تؤدي وظيفتها حتى سنة ١٨٤٨.

أما هذه الإجراءات التي اتُّخذت ضد هؤلاء الْكُتَّاب قبل المحاكمة والسجن إلخ، فإنها لم تلبث أن أظهرت أعلام «ألمانيا الفتاة»، في صورة «الشهداء»، فتزايدت شهرتهم لدرجة أن الأوامر التي صدرت للحد من نشاطهم، لم يكن لها أثر يُذكر من وجهة النظر الثقافية والذهنية، ولو أن إجراءات المنع والتحريم هذه، كانت على جانب كبير من الخطورة؛ لأنها دون شك قد ساعدت من الناحية المادية على وقف ذلك الحماس أو الاندفاع الذي كان يصحب هذه الحركة.

وواضح أنَّ كل هذه الأحداث التي ذكرناها مرتبطة «بألمانيا الفتاة» وتاريخها ونشاطها في هذه الفترة، إنما ينهض دليلًا على النشاط الذهني في ألمانيا، أو الحياة الفكرية الألمانية، كان نشاطًا محدودًا، إن لم يكن ضئيلًا؛ وذلك لأن هذه الحياة الذهنية، لم تكن تقوى على الصمود أمام السلطات الحكومية، بل كانت تخافها وتخشاها، الأمر الذي ترتَّب عليه أنَّ «ألمانيا الفتاة» قد استمرت إجمالًا حركة جد سطحية، وبقي أعضاء «ألمانيا الفتاة» من الْكُتَّاب والناشرين أقلية ضئيلة، لم يكن في وسعهم أن يؤلِّفوا في الحقيقة ما يصح تسميته بالمدرسة التي تستند إلى تنظيم طيب.

ومع ذلك فقد كانت حركة «ألمانيا الفتاة» تنقسم إلى قسمين؛ يسود أحدهما الميول أو الاتجاهات «الراديكالية» وأصحاب هذه الميول هم الذين اتهموا بالاشتراك في المحاولة الانقلابية الفاشلة في فرانكفورت (٣ أبريل ١٨٣٣)، وقد مرَّ بنا هذا الحادث، وهم الذين وقع عليهم ضغط الحكومة، وصاروا ضحايا لاضطهادها. وأما القسم الآخر من الحركة، فكان يتميز القائمون به بميول أو اتجاهات أكثر اعتدالًا، لم تلبث إجراءات القمع التي اتخذها «الدياط» في سنتي ١٨٣٥، ١٨٣٦ أن ألزمتهم الصمت.

ولقد كان سبب الضرر الذي نزل بأعضاء «ألمانيا الفتاة» ميولهم الفرنسية، التي عمدوا إلى إذاعتها، حتى صارت معروفة ومشهورة عنهم، وذلك في وقت كانت تبذل فيه «ألمانيا» قصارى جهدها؛ لتخلق الثقة في قدرتها، والاعتقاد في ذاتها، والعثور على «رسالتها» مرَّة ثانية، ومع ذلك فقد انجلت حركة «ألمانيا الفتاة» عن اختفاء النعرة الوطنية المتطرفة، والمغالاة في الشعور الوطني، وكانت «نعرة» صبيانية ولا مكان لها متخلفة من أحداث سنة ١٨١٣. ثم إنه لم تلبث أن أكملت الحركة الوطنية في سنة ١٨٤٠، تشتيت «ألمانيا الفتاة»، وأدت إلى محوها تمامًا.

(١١-٤) الأحرار الراينيون

ومع حركة «ألمانيا الفتاة»، سارت موازية لها — وجنبًا إلى جنب — حركة أخرى، كانت ذات نتائج أعظم أثرًا، ونعني بذلك حركة الأحرار الراينين.

فقد ترتب على إجراءات القمع التي تلت حوادثها سنة ١٨٣٢، أنه لم يعد يوجد في ألمانيا سوى مركزين للنشر وإصدار المطبوعات المستندة على المبادئ الحرَّة، أحدهما في «شتو تجارت»، حيث يقيم الناشر البارون «كوطا»، والآخر في «همبورج»، حيث مقر الناشر الكاتب والتربوي يواقيم هاينريش كامب Campe،٦٤ وعلى أنه إلى جانب هذين، كان يوجد مركز ثالث لنشاط الأحرار في إقليم الراين، وهو الإقليم الذي كان يؤلِّف دائمًا وحدة قائمة بذاتها من مجموع البلاد الألمانية.

والحقيقة أنه كانت فوارق عدة — بفضل إقليم الراين — عن سائر ألمانيا، مبعثها أنَّ هذا الإقليم بقي منفصلًا عن ألمانيا مدة العشرين عامًا ليؤلِّف قسمًا من الإمبراطورية النابوليونية (الفرنسية) متأثر كيانه تأثيرًا عميقًا بسبب خضوعه للإدارة الفرنسية كل هذه السنوات الطويلة، ولقد نشأت في إقليم الراين صناعة نشيطة، لم تلبث أن تولدت منها طبقة متوسطة (بورجوازية) غنية ومتنورة أو مثقفة، ثم كان من أثر تطبيق الفرنسي، أن مُحيت «الامتيازات» نهائيًّا، وأخذ الراينيون بقاعدة توزيع الميراث على الورثة بالتساوي، وتغلغل مبدأ المساواة في إقليم الراين، وأُعطيت الضمانات لصون حريات الأفراد وحقوقهم. وأخيرًا؛ فإن الراينيين لم يكونوا يأبهون لنوع التنظيم السياسي العام القائم في ألمانيا؛ لأن الذي استأثر باهتمامهم كان التنظيم السياسي الخاص ببلادهم، ووجهوا عناية خاصة لكل ما هو متعلق بحرية الصحافة والنشر.

واعترف الراينيون بالمكانة الرفيعة التي تمتعت بها في سنة ١٨١٥ بروسيا، التي تولى زعامتها وقتئذ رجال من طراز «هاردنبرج» و«شتيني»، فطالب أحد الناشرين والممتلكين الراينيين، بنزنبرج Bezeberg بإدماج إقليم الراين في دولة بروسيا، باستصدار دستور على المبادئ الحرة، يمتد أثره إلى هذا الأقليم أيضًا، ولكن سرعان ما وجد الراينيون أنفسهم الآن تجاه دولة بروسية، تختلف تمامًا عن تلك التي كان يبدو من وعود ومنشورات وتصريحات «هاردنبرج» و«شتيني» أنها سوف تنهض على دعائم من الحياة الدستورية الطليقة، فواجه الراينيون، بدلًا من ذلك دولة بروسية متمسكة بالتقاليد، والعادات الشخصية الموروثة؛ أي صاروا يواجهون دولة، تنعدم منها الحرية إطلاقًا؛ لتحل محلها الأنظمة البوليسية الصارمة، دولة تبذل حكومتها قصارى جهدها لتأسيس امتيازات النبلاء من جديد، على نحو ما كان عليه الحال أيام فردريك الثاني، وتحاول على وجه الخصوص أن تعيد مرة أخرى في إقليم الراين، تأسيس ما كان يُعرف باسم «الأملاك الخاصة بالفرسان راكبي الخيول»،٦٥ وهي بقول آخر؛ الأراضي أو الأملاك «النبيلة» التي لا يمكن التنازل عنها، أو نقل حقوق ملكيتها إلى آخرين، بل تؤول إلى ملاكها بالوراثة كاملة، وكان هذا النوع من «الأملاك النبيلة» قد اختفى تمامًا في الأقاليم الراينية منذ عهد «الثورة الفرنسية».

وأرادت بروسيا أن تقيد نظام الطبقات القديم في إقليم الراين، ولم تكن لمجالس الطبقات الإقليمية التي تأسست في هذا الإقليم في سنة ١٨٢٤، كما قد تأسست قبل ذلك، ومنذ ١٨٢٣ في سائر بروسيا، غير صورة عابثة ومزيفة للتمثيل الشعبي، في حين استأثرت طبقة النبلاء بكل أسباب السلطة، ثم إن روسيا أضافت إلى سياسة إرجاع الامتيازات القديمة إلى النبلاء سياسة تبغي منها نشر البروتستنتية وتدعيمها في إقليم الراين، فصارت تشجع الزيجات المختلطة بين البروتستنت والكاثوليك، على أن يعتنق الأطفال دين آبائهم، وديانة الآباء كانت عمومًا البروتستنتية، وأجبرت الحكومة العسكر، حتى الكاثوليك منهم أن يحضروا كل العبادات اللوثرية أيام الآحاد.

وثمة سبب أخير لتذمر أهل الراين؛ هو الأزمة الصناعية التي جاءت في أعقاب سنة ١٨١٥، واستمرت طوال السنوات التالية، وكان مبعث هذه الأزمة التي عطلت الصناعة في إقليم الراين، منافسة البضائع والمنتجات الإنجليزية التي صارت تدخل الإقليم عن طريق نهر الراين ومانوفر.

ولكل هذه الأسباب إذن، سرعان ما تحول الرأي بين الراينيين ضد حكومة بروسيا؛ أي ضد الدولة التي صاروا جزءًا منها، بحكم التسوية التي حصلت في فينا (١٨١٥).

وأما الراينيون، فقد بنوا مقاومتهم على أسس متعددة؛ أولها الأساس القانوني، وذلك عندما طالبوا بالقانون الرايني Droit rhénan تجاه حكومتهم، وبالتالي تجاه سائر المقاطعات البروسية، وهذا القانون الرايني، مُؤسَّس على الإجراءات أو القوانين الفرنسية، وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بالموضوعات الجنائية، ومعنى هذه الإجراءات، حصول المرافعة والمناقشات الشفوية أثناء المحاكمة، ونشر قرارات الاتهام إلخ. وقاوم رجال القضاء في إقليم الراين، وسعهم الجهد، إدخال القانون البروسي، وتسببوا في تعطيل أعمال الحكومة في سنوات ١٨١٦، ١٨٢٤، ١٨٢٥، وأفلحوا في النهاية في التمسك بمبادئ المحاكمات أو الإجراءات التي جاءت بها الإدارة الفرنسية.

وكان تنظيم مجالسهم البلدية، المسألة الثانية التي أثارت المقاومة الراينية ضد حكومة بروسيا، ولقد أراد الراينيون في هذه المسألة كذلك التمسك بالمجالس البلدية التي تأسَّست أيام الإدارة (أو الحكم) الفرنسي، والتي يقوم نظامها على قانون يكفل المساواة في الحقوق بين كل القومونات، أو الوحدات التمثيلية الأهلية في الريف والمدن، على حد سواء، وذلك في حين أرادت بروسيا إدخال تشريعاتها المستصدرة منذ ١٨٠٨ بشأن التفريق بين القومونات الريفية والمدن، والتي لم يكن يسري بها جميعًا نظام إداري واحد، وكان الموظفون المحليون هذه المرة هم الذين أثاروا المقاومة، كما فعلت الهيئة القضائية في موضوع «القانون الرايني»، ففي سنة ١٨١٦ قاوموا بعناد إدخال التشريعات البروسية الصادرة في سنة ١٨٠٨، وفي سنة ١٨٣١ أرغم ممثلوا «المدن» الحكومة على سحب مشروع كانت قد أفحلت في نيل موافقة الدياط عليه، للعمل بالتشريعات البروسية السالفة الذكر، واستطاعت «البورجوازية» إرغام الحكومة «البروسية» نهائيًّا على تأييد التشريعات الفرنسية الخاصة بالمجالس البلدية، وذلك في سنة ١٨٣٣.

ولقد كانت أوساط رجال الأعمال — في أول الأمر — أكثر ميلًا لتأييد بروسيا والانضمام إليها من الأوساط المثقفة والمؤلَّفة من الْكُتَّاب والمفكرين والأدباء وَمَنْ إليهم، ثم الأوساط القضائية، فقد رضي رجال الأعمال عن «الزولفرين»، وهو الاتحاد الجمركي الذي فتح سوقًا كبيرة لمنتجاتهم الصناعية وغيرها في مجموع المقاطعات البروسية، وكانوا على استعداد لقبول الاندماج — اندماج إقليم الراين — في بروسيا، ونتيجة لذلك، الاعتراف بأن لبروسيا «رسالة ألمانية»، على أن هذا القبول كان مشروطًا بضرورة أن تتجه الحكومة البروسية اتجاهًا «حرًّا»؛ أي تقوم سياستها على المبادئ الحرَّة، وكان ذلك هو موقف رؤساء «الغرف التجارية» في إقليم الراين، وعلى الخصوص: هانسيمان Hansemann رئيس الغرفة التجارية في «إكس لاشابل»، ثم كامبهاوسن Camphausen رئيس غرفة كولون، وقد رفع «هانسيمان» في سبتمبر ١٨٣١ مذكرة إلى الملك فردريك وليم الثالث، اقترح فيها تعاون أوساط رجال الأعمال الراينية مع الحكومة على أساس المصالح المادية، ولكن بشرط صدور دستور، يعطي دافعي الضرائب حق الانتخاب، ويكفل للطبقة المتوسطة (البورجوازية) الاستيلاء على السلطة، ويؤدي إلى تعاون هذه الطبقة مع الحكومة. ولقد تمسك الراينيون من رجال الأعمال بهذا المطلب، الذي يقسم بالطابع القومي، وذلك من ناحية العلاقة مع بروسيا، ويريد الراينيون — كما شهدنا — التمسك بأنظمتهم الخاصة بهم، والذي يستند على المبادئ الحرَّة، من ناحية موقفهم من المسألة التي أُثيرت في سنة ١٨٣٣ بشأن مد السكك الحديدية في بلادهم.

وأيَّد رجال الأعمال الراينيون إنشاء السكك الحديدية في إقليمهم، وأن تكون الدولة أو الحكومة هي التي تعهد إليها بذلك، ولكنهم فعلوا ذلك باعتبار أن السكك الحديدية إنما هي «أداة» لخدمة الصالح العام، ولجمع شتات الدولة واتحادها، وفي ضوء هذا الرأي «إذن» قدم كل من «كامبهاوسن» في سنة ١٨٣٧، و«هانسيمان» في سنة ١٨٣٨ مذكرات لحكومة برلين في هذه المسألة، ولكن البيروقراطية البروسية رفضت كل المشروعات المقدمة إليها؛ لأنه حتى يتسنى تنفيذ إحداها، وكان لا بد من المال للإنفاق منه، ولم يكن لدى الحكومة البروسية المال اللازم، ووجب لذلك اللجوء إلى عقد قرض، وذلك ما كانت لا تريده الحكومة البروسية؛ لأنها سوف تكون مضطرة لدعوة مجلس تمثيلي (برلمان) للانعقاد؛ لتحصل على تقرير القرض المطلوب، ولم تكن تفكر أو ترغب البيروقراطية والحكومة البروسية إطلاقًا، وبحالٍ من الأحوال دعوة مجلس نيابي للانعقاد.

وأخذت البيروقراطية البروسية — وبقول آخر الموظفين الحكوميين — على عتاقهم النضال بنشاط وغيرة، ضد أوساط الأحرار الذين كان رجال الأعمال منهم، ونجحت البيروقراطية البروسية في تحطيم كل جهود هؤلاء ومشروعاتهم، فلم يكن لهذا «النجاح» سوى نتيجة واحدة، هي زيادة تعلق رجال الأعمال وتمسكهم بالمبادئ الحرَّة، ومنذ سنة ١٨٣٣ كان «هانسيمان» قد نشر كراسة بعنوان: «بروسيا وفرنسا» أَكَّد فيها ولاءه الصادق للحكومة البروسية، ولكنه حمل حملة عنيفة ضد النظام المالي والضريبي في بروسيا ونظام الحكم المطلق بها، وقارن بين هذه الأنظمة القائمة على السلطة الحكومية المستبدة، وبين النظام المؤسَّس على المبادئ الحرَّة، والذي كان يسود إقليم الراين في العهد الفرنسي.

وأما النتيجة الهامة لهذا النضال ضد الحكومة المستبدة، والبيروقراطية المتسلطة، فكانت أن تولد شعور قوي بالمحلية أو الإقليمية الراينية، صار يقاوم بكل شدة كل محاولة للاندماج في بروسيا، فحرص الراينيون على الاحتفاظ بملامح ذاتيتهم وكيانهم، وتخلوا عن فكرة «الدستور الحر» الذي يصدر لبروسيا، ويمتد أثره إلى إقليم الراين، ولم يعودوا يأبهون لعدم تحقيق الوعود السخية التي كانت بُذلت في سنة ١٨١٥ (على لسان هاردنبرج، وشتيني وأمثالهما)، وغدت وجهة النظر البروسية شيئًا أجنبيًّا عنهم، لا يدركونه ولا يعنون به.

وكان المتحدث بلسان الراينيون، أحد نوابهم في مجلس الدياط الإقليمي Landtag، هو نائب كولون، مركنز Merkens الذي طالب في يناير ١٨٣١ أن يكون لإقليم الراين بشقيه؛ «المقاطعة الراينية»٦٦ في الجنوب، و«وستفاليا» في الشمال، تشريع وإدارة (حكومة)، ومجلس تمثيلي خاص به. باعتبار أن هاتين المقاطعتين إنما تؤلِّفان مجموعة، أو وحدة خاصة داخل الدولة البروسية، ولم يكن هذا المطلب «غريبًا»، فقد سبق أن جمعت الحكومة البروسية هاتين المقاطعتين تحت حكومة عسكرية واحدة، وذلك غداة ثورة ١٨٣٠، كي تتمكن من اتخاذ الإجراءات الضرورية ضد «الثورة الفرنسية — ثورة يوليو المعروفة في فرنسا»، وكانت هذه الحكومة برياسة البرنس غليوم، شقيق ولي العهد البروسي، وفي ١٨ أبريل ١٨٣١ ألقى «مركنز» خطابًا في اجتماع حضره في «دسلدورف» مندوبون عن المدن الراينية، يمثلون الطبقة المتوسطة (البورجوازية)، وشرح «مركنز» في هذا الخطاب «العظيم» وجهة النظر التي استند عليها مطلب توحيد البلاد الراينية تحت حكومة واحدة، والاحتفاظ لإقليم الراين بكيان خاص ضمن الدولة البروسية، والتفت حول «مركنز» جماعة من أعضاء مجلس الراين الإقليمي «لاندتاج»، كان من بينهم؛ جورج هرويج Herwegh — من كولون، وهو شاعر كذلك — ثم كوخ Koch، وكامبف Kampf، وديلبرفيلد D’elberfeld، ولقد حاول هؤلاء إعداد عرائض لتقديمها إلى الحكومة في سنتي ١٨٣٢، ١٨٣٣، ولكن دون طائل، فقد استطاعت الإدارة كل مرة وقف هذه الحركة.
ولقد عبر عن هذا الشعور بالإقليمية أو المحلية الراينية طائفة من الكتَّاب نذكر منهم على وجه الخصوص الصحفي والناشر والرايني جاكوب فينيدي Venedey الذي اضطر إلى الالتجاء إلى فرنسا بعد حوادث القمع الذي حصل في سنة ١٨٣٢، فنشر كراسة في سنة ١٨٣٩ بعنوان؛ «بروسيا والبروسيانية»،٦٧ وكان «فينيدي» على صلة — وكما هو منتظر — بكل أوساط اللاجئين الألمان في باريس، والذين كانوا من الثوريين بدرجات متفاوتة، وأنشئوا في باريس ما أسموه «بحلف العدول»،٦٨ وكان إنشاء جمهورية ألمانيا هو الفكرة التي اعتنقها «فينيدي»، وراح يؤيدها ويدافع عنها، فجاءت كراسته عن «بروسيا والبروسيانية» اتهامًا قاسيًا وعنيفًا مُوجَّهًا ضد بروسيا، فأعلن أن بروسيا الدولة الرجعية، لا يمكن بحالٍ أن تكون «وطن» الراينيين.
وسرعان ما ظهرت كراسة أخرى، من طراز كراسة «فينيدي»، ومن نفس المعدن، وذلك في فرنسا كذلك، ولو أن الكراسة الجديدة لم تكن من صنع أو وحي أوساط اللاجئين الألمان، بل كانت من وحي الأوساط الراينية الخالصة، حيث كان مسئولًا عن صدور هذه الكراسة أخوان من كولون هما؛ أوجست، وبيير Bierre  رايشنسبرجر Reichensperger، واللذان كانا أصلًا ينتميان للحزب الكاثوليكي الرايني، فقد أوحيا إلى كاتب فرنسي، يُدعى دي فايلي De Failly بالآراء والفكرات التي ضمَّنها هذا الأخير كراسة نشرها في سنة ١٨٤٠ «عن بروسيا وسيطرتها من وجهتي النظر السياسية والدينية، وعلى الخصوص في المقاطعات الجديدة.»٦٩

وتضمنت كراسة «دي فايلي» هذه عرضًا للآراء والنظريات الراينية، القائلة بجودة وتفوق الأنظمة الفرنسية، و«القانون الرايني» على الأنظمة البروسية، وأكَّدت هذه الكراسة وجود حياة محلية مستندة على المبادئ الحرَّة، وحياة إقليمية ذات كيان «حر» خاص بها، ومنفصلة عن بروسيا، وراح «دي فايلي» يسوغ هذا الكيان «الحر» لإقليم الراين تجاه بروسيا بقوله: «هناك فعلًا سيطرة بروسية، ولكن لا يوجد إطلاقًا أمة بروسية!» ومما يجب ذكره أن الراينيين لم يكونوا يعتبرون بروسيا دولة ألمانية فعلًا، بل دولة سلافية، والبروسيون لذلك ليسوا من جنس نقي ألماني، ولا يمكن أن يتساووا مع الألمان الخلص والأنقياء الذين يعيشون على شاطئ الراين.

وكان من أثر هذه الإقليمية أو الشعور بالمحلية في إقليم الراين اختفاء تلك الوطنية العنيفة، التي شهدناها مُوجَّهة ضد الفرنسيين في سنة ١٨١٥، ويذكر القارئ كيف اضطر «جوريز» صاحب عطارد الراين إلى الفرار إلى سويسرة بسبب إقليميته ومعارضته لبروسيا الرجعية، وفي إقليم الراين اختفت منذ ١٨٢٠ الحركة الْمُوجَّهة ضد فرنسا، ولقد حدث ذلك في وقت كانت حكومة شارل العاشر في فرنسا، تسير في سياسة رجعية جعلت المركزية الكاملة أساس النظام الإداري الفرنسي، الأمر الذي لم يكن يتفق بتاتًا مع أغراض الأحرار الراينيين، واللامركزيين في إقليم الراين، على أن انتصار المبادئ الحرَّة في فرنسا بفضل ثورة يوليو ١٨٣٠، سرعان ما أزال مخاوف الرانيين من هذه الناحية، أضف إلى هذا أن إقليم الراين — كسائر الأقاليم الفرنسية — لم يلبث أن شهد ذيوع الأسطورة النابليونية، وتلك أسطورة ترسم صورة لحكم؛ تقوم على المبادئ الحرَّة على يد «لويس نابليون» — نابليون الثالث فيما بعد — وهو ابن شقيق الإمبراطور نابليون الأول، والذي قالت هذه الأسطورة: إن «الثورة» الفرنسية متجسدة في شخصه، ولقد بقي الإمبراطور نابليون الأول، يتمتع بذكرى عاطرة بين أهل الراين، حتى إن أحد الناشرين ليهن Lehne، كتب سلسلة من المقالات في «غازيتة مايتر»٧٠ في تاريخ نابليون، ونشر أحد الرهبان العلمانيين من أكس لاشابل ويُدعى سمتز Smets مجلدًا من القصائد التي نُظمت في مديح الإمبراطور، واحتفل الراينيون بحادث نقل رفاة الإمبراطور في سنة ١٨٤٠ إلى فرنسا، فصدرت طائفة من التعليقات؛ لتكريم ذكرى الإمبراطور، أظهرت مبلغ محبتهم له، بل إن الكاتب والشاعر الفرنسي فيكتور هوجو Victor Hogo عندما قام برحلته المعروفة في نهر الراين بعد بضع سنوات، لم يلبث أن فوجئ بقوة العواطف التي بدت من جانب الراينيين نحو فرنسا، ومحبتهم لها، كما دهش لتعلق هؤلاء بالذكريات النابليونية.
ولقد كان تحت تأثير هذه الذكريات النابليونية، والآمال التي أحياها قيام ملكية يوليو في فرنسا، وهي الملكية المستندة على المبادئ الحرة، أن استيقظ شعور العطف نحو فرنسا في أقاليم الراين بعد سنة ١٨٣٠، وخصوصًا في وادي الموزيل، ووادي السار Saare، فكان أن قامت في تريف Treves في ١٢، ٢٥ يناير ١٨٣٤ المظاهرات العدائية ضد بروسيا ولتأييد فرنسا، وصار الفرنسيون يغالون في تقدير هذه العواطف الطيبة نحوهم، وشجَّعت المظاهرات أطماع الفرنسيين الأحرار القومية، واعتقد «إدجار كينيه» الذي جاب أنحاء إقليم الراين وقتئذ، أن الراينيين مستعدون للانضمام إلى فرنسا، وفي ١٤ أكتوبر ١٨٤٠ كتبت الصحيفة الفرنسية لوناشونال Le Nationnal:

إن القلوب في كل البلدان على ضفتي الراين، إنما هي قلوب فرنسية.

ولكن الحقيقة هي أن «الفرنسيين» كانوا مخدوعين في آمالهم وفي آرائهم؛ لأن عطف الراينيين على فرنسا ومحبتهم لها، لم يكن معناه أنهم لم يعودوا يشعرون بألمانيتهم، ولم يلبث أن اتضحت حقيقة شعورهم، عندما حدثت أزمة المسألة الشرقية في سنة ١٨٤٠ — وعلى نحو ما سيأتي ذكره — بل إن «فينيدي»، قد نشر في بداية هذه السنة نفسها (١٨٤٠) كراسة بعنوان «فرنسا وألمانيا والمقاطعات الراينية»، وفي هذه الكراسة عمد «فينيدي» إلى توضيح أن الراينيين، إنما هم ألمانيون بشعورهم، في حين أنه راح يؤكِّد في الوقت نفسه وجود الإقليمية أو المحلية الراينية من جهة، ثم العطف على فرنسا من جهة أخرى، وإلى جانب هذا، فقد تأسَّست في إقليم الراين مجلة بعنوان «الحوليات الراينية»٧١ غرضها جمع المذكرات والوثائق الخاصة بالحضارة الراينية.

•••

وهكذا دل تطور الفكر في ألمانيا على أنَّ الشعور بالقومية قد استمر بقاؤه، وهو شعور لدى أعداد قليلة جدًّا من الألمان، ظل يحتفظ بالروح الوطنية التي سيطرت على حوادث ١٨١٣–١٨١٥ (أي أثناء حرب التحرير والخلاص)، ولكن هذه الحركة القومية عمومًا، كان يعلوها الشعور الحر، ويتقدم عليها حركة المطالبة بالحريات والحقوق المشروعة، لدرجة أنَّ المذهب الحر لدى الألمان؛ أي اعتناق هؤلاء للمبادئ الحرَّة، قد جعلهم يعودون للأخذ بالآراء الفرنسية.

وأدت سياسة الحكومات الرجعية، خصوصًا حكومة بروسيا، إلى تقوية النزعات الإقليمية (المحلية)، حتى لدى هذه الحكومات الرجعية ذاتها، وكانت الكراهية التي أثارتها بروسيا والسياسة البروسية، ضد هذه الدولة من العوامل الجوهرية في تقوية هذه الإقليمية (والمحلية)، كما كان من بين هذه العوامل، ضرورة العمل من أجل الظفر بالحريات والحقوق المنشودة، ووجه الأهمية في هذا كله تقرير أن المطالبة بالحريات كانت تأتي دائمًا قبل المطالب القومية، ولم يكن مستطاعًا الحصول على هذه الحقوق والحريات إلا في نطاق المحلية أو الإقليمية؛ ولذلك فقد كانت القومية الألمانية بين سنتي ١٨٣٠، ١٨٤٠ تجنح نحو استرجاع الشكل القديم الذي كان لها؛ أي الشعور بأن هناك أدبًا وثقافة مشتركة، تسهم فيها ألمانيا بأسرها دون شك، ولكن من غير أن يتطلب ذلك حتمًا أن يتجسد هذا الشعور بالمساهمة المشتركة في الصعيد السياسي في صورة وحدة أهلية (أو قومية).

بل لقد أخذت تتشكل — على العكس من ذلك — عناصر جديدة لشعور قومي بعد سنة ١٨٤٠، فحدث في ألمانيا تطور سار على نفس الخطوط التي سار عليها تطور الشعور القومي في إيطاليا، فطرأ تغيير أو تعديل على الأفكار السائدة، ثم تتابعت الحوادث إثر بعضها بعضًا وبسرعة زائدة، حتى إن مشكلة القومية لم تعد قائمة كمسألة خاصة بألمانيا وحدها وحسب، بل صارت معضلة أوروبية، تحتم على إيطاليا مواجهتها، كما تحتم على مختلف الأقطار التي تألَّفت منها النمسا مواجهتها أيضًا، فقد حدث تحول في «الجو» الخلقي أو الروحي، وطرأ تغيير على اتجاهات الرأي، خلف ذلك الستار من شبه الجمود الذي أقامه النظام السياسي.

(١٢) عناصر الشعور القومي الجديد (١٨٤٠–١٨٤٧)

(١٢-١) العامل الخارجي: أزمة المسألة الشرقية ١٨٤٠

وبعد سنة ١٨٤٠، كان العامل الخارجي هو أول العناصر التي أحدثت هذا التعديل أو التغيير الذي طرأ على شعور القومية، ونعني بالعامل الخارجي، أزمة المسألة الشرقية في سنة ١٨٤٠، وهي الأزمة السياسية التي كانت تزج بأوروبا في حرب عامة بسبب الصراع الذي شهدناه بين محمد علي باشا مصر والسلطان العثماني.٧٢

وتجاه هذه المسألة الشرقية، لزمت ألمانيا الهدوء التام، ولم تثر الأزمة اهتمامها، ولم يكن هناك عداء بينها وبين فرنسا، بل لم تكن لديها أية نوايا غير طيبة نحوها، وعمدت الحكومتان البروسية والنمسوية إلى التوسط بين الوزير الإنجليزي «بلمرستون» والحكومة الفرنسية، وأوضحت الحكومة البروسية على وجه الخصوص أنها لا تريد التورط في النضال، أو أية حرب أوروبية، بل واشترطت لتعاونها مع الحكومة الإنجليزية في المسألة الشرقية التمسك بالحياد في سياستها العامة.

غير أنَّ أزمة المسألة الشرقية سرعان ما أثارت شعور الفرنسيين، فاحتاج الرأي العام الفرنسي ذلك الاهتياج، الذي عرفنا كيف كاد يفضي إلى دخول فرنسا الحرب، تحت حكومة تيير Thiers لمؤازرة محمد علي ضد الدولة العثمانية.

وهو التهديد الذي لم يلبث أن تبدد عند سقوط وزارة «تيير» في أكتوبر ١٨٤٠، لرفض «لوي فيليب» الدخول في حرب ضد أوروبا، وعلى نحو ما كان منتظرًا، اقترن بفورة وطنية تسودها روح عسكرية عنيفة، سرعان ما وجدت لها منفذًا في المطالبة بضم شاطئ الراين الأيسر إلى فرنسا، وانبرت على وجه الخصوص صحيفة «لوناشونال» — التي سبق ذكرها — تؤيِّد هذا المطلب بكل شدة.

ولقد قوبلت حركة الرأي العام الفرنسي هذه للمطالبة بشاطئ الراين الأيسر بحدوث ردِّ فعل عنيف كذلك في ألمانيا، فقد أذهلت المفاجأة الألمان في أول الأمر، ولكن لم تلبث أن استيقظت روح الكفاح القديمة في سنة ١٨١٣. ولما كان القسم الغربي من ألمانيا، مجردًا من السلاح، ولم يكن بهذا القسم أية قلاع فدرائية، فقد استبد القلق بالألمان في هذه الجهات خصوصًا من الناحية العسكرية، وكذلك كانت ألمانيا الجنوبية مفتوحة لأي غزو قد يأتيها من الخارج، فلم يكن هناك جيش حقيقي في «ورتمبرج»، ولا تكاد بفاريا تستطيع الدفاع عن «البلاتينات»، وكانت بروسيا وحدها في أقاليمها الشمالية؛ المقاطعة الراينية، ووستفاليا، هي التي يسعها اتخاذ الإجراءات الوقائية العسكرية، وقد فعلت ذلك.

وتولد من هذا القلق، ومن رد الفعل الذي حصل ضد المطالب الفرنسية، هياج الخواطر في ألمانيا، وانطلاق حركة فكر ورأي عنيفة لدرجة بعيدة، فوصف هذه الحركة الفكرية العنيفة أحد الْكُتَّاب الفرنسيين سان رينيه تايلاندييه Taillandier في كتاب «ذكرياته عن الراين»،٧٣ وكان يقيم وقتئذ في «هايدلبرج» فقال: «تجيء كل يوم الصحف من جميع المدن في ألمانيا، تحمل إلينا السباب والشتائم، وتستفزنا للمبارزة، وتكيل لنا الإهانات، وتوجه إلينا الافتراءات، ينزل علينا ذلك كله بشكل متلاحق، كسقوط الرصاص الذي يطلقه طابور من العسكر …»
واستعاد العسكريون «روح ١٨١٥»، وصاروا يرددون المطالب التي سبق أن نادوا بها وقتذاك، فأخذ «شارنهورست» يؤكد أن الحرب مقدر وقوعها بين فرنسا وألمانيا، وأن الحرب سوف تنتهي بتقسيم فرنسا، وفي رأيه؛ أن الواجب يقتضي إفناء فرنسا، وإزالتها من الوجود، «وبدون ذلك لا يمكن أن يكون هناك إله في السماء!» وانبرى فون مولتكه Moltke وهو أحد العسكريين الذين سوف يكون لهم شأن بعد ذلك يطالب بالألزاس، ومن قوله: «إن فرنسا قد عمدت إلى أعمال اللصوصية ضد ألمانيا؛ لتظفر بكل تلك الأراضي التي ضمتها داخل حدودها الشرقية، وذلك منذ القرن الثالث عشر.»
ثم إنه سرعان ما ظهر «أدب وطني» يعيد إلى الأذهان، أناشيد الحرب لسنة ١٨١٣، وكانت أشهر المقطوعات قصيدة من نظم نيكلاس بيكر Niklas Becker بعنوان «الراين الألماني»،٧٤ وقد أُلقيت هذه القصيدة في مسرح فرانكفورت يوم ١٥ أكتوبر ١٨٤٠، وقوبلت بحماس منقطع النظير، وقد اجتمع مائتان من الملحنين في التو والساعة لتلحين قصيدة «بيكر» ووضع موسيقاها، ولقد اشتهرت أغنية أخرى في الوقت نفسه، هي أنشودة «حراسة الراين»٧٥ لصاحبها ماكس شنكنبرجر Schenckenburger، وقد صارت هذه النشيد الوطني (القومي) الألماني في سنة ١٨٧٠، وسرعان ما وُضعت الموسيقى لهذه الأنشودة كذلك، وكان واضعها «كارل ويلهكم»، وأما أنشودة الحرب الثالثة وقتئذ، فقد كانت بعنوان «ألمانيا فوق الجميع»٧٦ لصاحبها هوفمان فون فالرسليبن Hoffmann Von Fallersleben الشاعر والسياسي وأستاذ فقه اللغة الألمانية بجامعة برسلاو، (والذي أقصته الحكومة من كرسي الأستاذية لغضبها عليه في سنة ١٨٤٤)، أما هذه الأنشودة (ألمانيا فوق الجميع)، فقد صارت فيما بعد أنشودة الحرب، التي تغنى بها الألمان أثناء الحرب العالمية الأولى (١٩١٤)، ولقد حدث في سنة ١٨٤٢ أن تَمَّ بناء كتدرائية كولون، فكان الاحتفال بالفراغ من بنائها عظيمًا، ولم يكن الاحتفال في هذه المناسبة «راينيًّا» وحسب، بل كان عيدًا قوميًّا شرب في أثنائه ملك بروسيا، وملك ورتمبرج الأنخاب لتمجيد «الوطن العام المشترك».
ومما يجب ذكره أن أبرز ملامح هذه اليقظة القومية، وعودة الروح الوطنية التي شوهدت في حروب التحرير (١٨١٣–١٨١٥)، وقد تجلَّت فيما حدث، من اتجاهات ذهنية وعاطفية في الأقاليم الراينية؛ أي في تلك الأقاليم التي تأصَّلت فيها المشاعر الطيبة نحو فرنسا في السنوات السابقة، فإن «بيكر» صاحب أنشودة «الراين الألماني» من بلاد الراين، ويعمل مسجلًا بمحكمة كولون، ونشر رهفوس Rehfus وكيل جامعة بون «رسالة من أحد البروسيين الراينيين إلى السيد موجوان»،٧٧ وكان موجوان Mauguiu أحد زعماء اليساريين الفرنسيين، وأحد الوطنيين الذين يطالبون بضم شاطئ الراين الأيسر إلى فرنسا، فسأله «رهفوس» في الخطاب الذي وجَّهه إليه، إذا كان ممكنًا أنه يعتقد بأن تلك المحبة التي ربطت أهل المقاطعة الراينية بفرنسا، لا تزال قائمة، أو أن الراينيين لا يزالون يريدون أن تبسط عليهم فرنسا مرة أخرى سلطانها، وقال «رهفوس»: إن شعور الود نحو فرنسا موجود منذ عشر سنوات في إقليم الراين، ولكن هذه العواطف أو الميول الفرنسية لا تمنع أنْ يكون الراينيون ألمانًا، وأن يشعروا بشعور الألمانيين، وتساءل «رهفوس»: «كيف يصيب العمى بصائرنا، فلا نرى الطريق لصون شرفنا القومي، ولا نعرف مكان مصالحنا المادية والروحية، فنرغب في الانفصال عن أمة نقتسم معها ذكريات قرون عديدة؟»
وثمة «شهادات» أخرى كثيرة، تؤكد هذا الشعور «القومي» في إقليم الراين، نحو البقاء «ألمانيًّا»، ورفض الانضمام إلى فرنسا، بالرغم من شعور العطف على هذه الأخيرة فتلك حقيقة قد أكَّدتها كل تقارير الحكام والمديرين في كولون، ودسلدروف وتريف، وتقع جميعها في الأقاليم الراينية، أكَّدتها حملات الصحف الراينية وقتئذ، أضف إلى هذا أن «فينيدي» لم يلبث أن أصدر كراسة ثانية بعنوان «فرنسا وألمانيا وحلف الشعوب المقدس»،٧٨ لبيان أن الأطماع الفرنسية لامتلاك الراين، إنما هي عقبة كأداء في طريق السلام بين الشعوب، وذلك في حين أن هذه الأطماع وهمية خيالية؛ لأن المقاطعات الراينية بلاد ألمانية، بفضل اللغة التي يتخاطب بها أهلها، وعادات هؤلاء وتقاليدهم، والأفكار التي تدور في أذهانهم، والعواطف التي تجيش في صدورهم.

وعلى ذلك فقد كان هذا العامل الخارجي — الماثل في أزمة المسألة الشرقية سنة ١٨٤٠ — بمثابة نقطة التحول في إقليم الراين والاتجاه صوب بروسيا، الأمر الذي تبعه كذلك تحول في حركة الأحرار الراينية التي شاهدناها بعد سنة ١٨٣٠، فصارت هي الأخرى تتخذ اتجاهًا مخالفًا لما كانت قد دُرجت عليه.

ومع أن هذه الوطنية الألمانية «المشتعلة» لم تستمر طويلًا، فقد كانت على جانب كبير من الأهمية؛ لأن الأزمة — أزمة المسألة الشرقية سنة ١٨٤٠ — قد أيقظت تلك «الوطنية» التي كان يبدو أنها قد خمدت تمامًا، ولأنها أظهرت أن شعور الكراهية ضد فرنسا متغلغل دائمًا في قلوب الألمانيين، ومسيطر — وإن كان ذلك بصورة غامضة — على أذهانهم، وتلك حقيقة كان «هنريش هايني» قد رددها من قبل، وأعلن بها الفرنسيين، ولقد كانت هذه الوطنية المتسمة بالكرامة لفرنسا هي السند الصحيح للعاطفة القومية في ألمانيا، وعلى ذلك فقد قضت أزمة ١٨٤٠ قضاءً مبرمًا على شعور الأممية Cosmopolotisme؛ أي شعور الانتماء إلى كل الأمم، وعدم التقيد بوطن واحد، وهو الذي كان قد ظهر مرة ثانية في ألمانيا في العقد الثالث خصوصًا، ولقد صفيت بفضل هذه الأزمة حركة «ألمانيا الفتاة» تصفية نهائية.

(١٢-٢) عامل «القومية الاقتصادية»

وثمة عنصر آخر جديد أحدث هذا التحول الملحوظ في الأفكار بعد سنة ١٨٤٠؛ ونعني بذلك ظهور «شيء» جديد في تاريخ ألمانيا، وهو ما صار يُعرف باسم «القومية الاقتصادية» فقد شهد العصر الذي ندرسه قيام نهضة اقتصادية في ألمانيا وفي الأقاليم الراينية خصوصًا، فبدأ استخدام الآلات في الصناعة، فزاد عدد أنوال نسيج الأقمشة من (٣٫٥٠٠) في سنة ١٨١٦ إلى عشرة آلاف في سنة ١٨٣٧، وكان عدد «الماكينات» التي تُدار بالبخار في سنة ١٨٣٦؛ أي عند بداية استخدامها (٤٢١) فقط، فبلغت في سنة ١٨٤٦ (١٫١٣٩)، ثم بدأ التعدين على نطاق واسع، وبُني أول «فرن» بفحم الكوك في سنة ١٨٤٠، كما بدأ استغلال حوض الرور، ثم تزايد عدد السكان بسرعة عجيبة، ففي إقليم الراين، سرعان ما نمت القرى حتى صدرت مدنًا كبيرة، وفي «كولون» بلغ عدد السكان في سنة ١٨١٥ تسعة وأربعين ألفًا، فصاروا في سنة ١٨٤٨ اثنين وتسعين ألفًا، وفي البرفيلد El Berfeld وهي مدينة صناعية، ومركز لنسج الأقمشة، كان عدد سكانها سنة ١٨١٥ واحدًا وعشرين ألفًا، فبلغوا في سنة ١٨٤٨ خمسة وأربعين ألفًا، وفي هذه الأقاليم الغربية من ألمانيا بلغ في سنة ١٨٤٦ طول السكك الحديدية ثلاثة آلاف كيلومتر؛ أي بما يزيد بنحو الثلث على مجموعها في فرنسا وقتئذ، ومع ذلك فقد كانت لا تزال في بدايتها هذه الحركة التي أخذت بالأساليب الحديثة في الصناعة، وفي بناء النظام الاقتصادي في ألمانيا، وكان النظام المصرفي — خصوصًا — لا يزال يعجز عن مسايرة هذه النهضة الصناعية الاقتصادية.
والذي يجدر ذكره أنَّ هذا التطور الصناعي لم يكن مقصورًا على المقاطعات الراينية وحدها فقط، بل كان يحدث كذلك في سكسونيا، التي نمت فيها صناعة نسج الأقمشة من الجوخ والقطن إلخ، ثم صناعة اختصت بها سكسونيا، هي إنتاج الآلات الموسيقية، وسرعان ما صارت «ليبزج» أحد مراكز التجارة الهامة في أوروبا، كما صارت شمنتز Chemnitz، وتزفيكاو Zwickaw، مدنًا كبيرة ومراكز رئيسية لصناعة المنسوجات وللتعدين، وحدث هذا التطور الصناعي كذلك في كل من إقليمي «ثورينجيا»، و«فرانكونيا»، وبدأت «برلين» ذاتها تنمو كمركز للصناعة، فتأسَّست بها في سنة ١٨٣٧ المصانع العظيمة للمنشآت الميكانيكية (الآلية)، وعلى وجه الخصوص لبناء القاطرات، كما أُنشئت في ضواحي برلين «المسابك» العظيمة.
ولقد ازدهى الألمان بهذا التطور الصناعي، والنمو الاقتصادي، واعتقدوا أن ما فعلوه في هذا الميدان، إنما يجب أن يكون مضرب الأمثال في كل أنحاء العالم. فيتحدث بانسن Bansen أحد وزراء بروسيا عن «ذلك الكشف العظيم الذي حدث في هذا القرن، وهو أن هناك قومية ألمانية، وأن اتحادًا «كونفدرائي» من الشعوب، مؤسَّس عليها.» وذلك زهو وافتخار، كان لكل أمير أو حاكم صغير في ألمانيا نصيب منه، لم يلبث أن أفضى إلى نتيجة عجيبة، حتى من وجهة النظر الاقتصادية ذاتها؛ وذلك لأن هذا الزهو والافتخار سرعان ما أخذ يتجسد مباشرة في رغبة ملحة في التوسع الخارجي، وعلى وجه الخصوص صوب بلجيكا.

وكان «مفلسف» القومية في شكلها التوسعي الجديد، وواضع «نظريتها» هو «فردريك ليست»، الرجل الذي اقترن اسمه كثيرًا بتاريخ الزولفرين، وكان «ليست» — كما عرفنا — نائبًا في «ورتمبرج»، جُرِّد من النيابة في سنة ١٨٢٠ لاتهامه بتأييد المبادئ الحرَّة، ثم سُجن، ثم رحل إلى أمريكا، ثم عاد إلى ألمانيا سنة ١٨٣٢؛ أي في الوقت الذي حصل فيه ذلك الاتحاد الجمركي (الزولفرين) الذي كان قد أيَّد قضيته، والذي تحقق الآن بصورة تختلف تمامًا عَمَّا كان يريده «ليست» نفسه، من حيث إن هذا الزولفرين لم يكن كاملًا، وأن بروسيا هي التي صنعته، كخطوات مُوجَّهة ضد النمسا، في حين أن «ليست» كان يريد أن يشمل هذا التنظيم الجمركي كل ألمانيا، وبما في ذلك النمسا.

ولم يكن «الزولفرين» سوى تعريفة جمركية مخفضة، بلغت ١٠٪ في المتوسط، ولدرجة أن الأوساط الصناعية أخذت تطالب بفرض ضرائب لحماية الصناعة تتيح الفرصة لنموها وتقدمها، وقام رجال الصناعة بحملة كبيرة يطالبون فيها بالحماية الجمركية، وذلك على وجه الخصوص في الوقت الذي ظهرت فيه الرغبة لتجديد «الزولفرين» بين الدول الأعضاء في هذا الاتحاد الجمركي، ومن المعروف «تجديد» الزولفرين قد تَمَّ فعلًا في سنة ١٨٤٢، وكان قبل ذلك قد أخذ يتحطم ذلك «الاتحاد الضريبي» (ستورفرين)، الذي ذكرنا أنه يتألَّف من هانوفر، وبرنسويك، وأولد نبرج، وبرمن، وهمبورج، فقد طلبت «برنسويك» منذ سنة ١٨٤١ الانضمام إلى الزولفرين، كما لبثت أن انضمت إلى الزولفرين ليب-ديتمولد Lippe-Detmold وشاومبرج Schaumburg، و«لكسمبرج» في سنة ١٨٤٢، وكان بعد ذلك بسنين أن أمكن الاعتراف بالزولفرين دوليًّا، عندما وقَّع «الزولفرين» معاهدة مع بلجيكا في سنة ١٨٤٤ بعد حرب جمركية عنيفة بين الطرفين.
وعندما كان لا يزال البحث جاريًا بشأن تحديد الزولفرين في سنة ١٨٤١، بين أنصار التمسك بالوضع الراهن، الذين يميلون للتجارة الحرَّة، (والضرائب الْمُخفضة) من جانب، وبين الذين يريدون سياسة أنشط تقوم على حماية التجارة (أي فرض ضرائب مرتفعة) من جانب آخر، دخل «فردريك ليست» المعركة، بإصدار مؤلَّفه المشهور عن «النظام القومي للاقتصاد السياسي»،٧٩ وقد عرض «ليست» في كتابه هذا نظرية «الحماية الجمركية» الجديدة، ومع ذلك فإن «النظام القومي» لم يكن مؤلَّفًا لبيان نظرية أو مبدأ معين، أو فلسفة خاصة بالاقتصاد السياسي، بل كان مؤلَّفًا مُوجَّهًا للجماهير، يعرض على القارئ العام القضية التي انبرى «ليست» لتأييدها ضرورة الحماية الجمركية، كما كان «النظام القومي» ثمرة تجارب واقعية واعتبارات عملية. لقد لاحظ «ليست» نفسه في مقدمة مؤلَّفه «إن تاريخ كتابه إنما هو تاريخ لنصف الحياة التي عاشها»، وكان في وسعه أيضًا أن يضيف إلى قوله هذا؛ أن كتابه كذلك تاريخ لألمانيا في أربعين سنة، من ١٨٠٠ إلى ١٨٤٠، فلم يكن بمحض الصدفة أن يبني «ليست» نظامه الاقتصادي على قاعدة من القومية وحسب في ألمانيا، عندما توفرت العوامل، وعلى نحو ما شاهدنا؛ لوجود «شعور قومي»، في ميدان الفكر والأدب، الجانب الروحي للأمة الألمانية، ولحدوث يقظة قومية في الميدان السياسي، هي التي نحاول معالجة مظاهرها وآثارها في هذه الدراسة، والصحيح هو أنَّ مؤلَّف «ليست» كان نتاج الظروف التي مرَّت بها ألمانيا فعلًا.

وبدأ «ليست» موضوع «النظام القومي» ببحث الشروط التي يجب توفرها من وجهة النظر الاقتصادية، في دولة حديثة النشأة، ولا تزال تعمل لتأسيس صناعتها، الأمر الذي لا غنى عنه إذا أرادت أن تكون ذات شأن في المستقبل، ودولة كبرى — وذلك حتى تتمكن هذه الدولة الناشئة من الصمود في وجه منافسة قاسية من جانب دولة أخرى تهدم كيانها بفضل ما لهذه الأخيرة من تفوق في آلاتها ومصانعها، وما تتمتع به من سيطرة اقتصادية — وهي إنجلترة، وكان في رأي «ليست» أن الواجب يقتضي الألمان أن يفيدوا من التجارب الاقتصادية التي مرَّت بها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية في هذا الميدان، وأن ينتفع الألمان على وجه الخصوص «بالحل» الذي وصلت إليه فرنسا و«الولايات المتحدة»؛ لتنمية الصناعة الناشئة بهما وتقويتها، ذلك «الحل» كان الحماية التجارية أو الجمركية، فقد أراد «ليست» أن تفيد ألمانيا من نتيجة التجارب التي شاهد «ليست» نفسه الولايات المتحدة تفيد منها وتجني ثمرتها.

وحمل «ليست» على مدرسة الاقتصاديين الأحرار، وبنى نقده لهؤلاء الأخيرين على أنهم لا يرون في عالم الاقتصاد سوى شيئين اثنين وحسب أساسًا للاقتصاد السياسي؛ الفرد، والمصلحة الفردية، باعتبار أن الاقتصاد السياسي إنما يستهدف توفير الغنى والسعادة للأفراد في طرف، ثم في أقصى الطرف المقابل للجماعة البشرية في العالم، فينظر هؤلاء الاقتصاديون الأحرار إلى مجموع العالم الاقتصادي، باعتباره كلًّا واحدًا، تسوسه الحرية والمصلحة الاقتصادية المشتركة، بما هو مفروض أن ينطوي عليه ذلك من دعم أركان الحرية، ونشر ألوية السلام.

وبنى «ليست» نقده لهذه الآراء على أن نتيجة هذا «الاقتصاد الحر»، لا تعدو أن تكون التضحية بكل شيء لخدمة مصالح الدولة والبلاد المتقدمة عن غيرها في حياتها الاقتصادية، والتي يغزو اقتصادها اقتصاد الدول أو البلاد الأخرى؛ ولذلك فقد صار ضروريًّا في رأي «ليست» أن يوجد طرف متوسط أو وسيط من الناحية الاقتصادية، بين «الفرد» و«الجماعة البشرية»، وأما ذلك «الطرف الوسيط» فهو «الأمة»، التي أسقطها الاقتصاديون الأحرار من حسابهم، بالرغم من أن كل «فرد» إنما يؤلِّف جزءًا من هذه «الأمة»، ويتوقف رخاء الفرد على القوة السياسية والاقتصادية التي تكون للأمة.

وهكذا جعل «ليست» تحقيق الرخاء والسعادة «للأمة» غرض الاقتصاد السياسي، وليس توفير الرخاء والسعادة للأفراد أو للعالم (الجماعة البشرية عمومًا)، على نحو ما أراد الاقتصاديون الأحرار، ولم تكن الأمة أو الدولة في رأي «ليست» جمعية أو ارتباطًا سياسيًّا وروحيًّا، أو خلقيًّا وأدبيًّا، يؤلِّف التاريخ وحدتها وحسب، بل إنَّ الأمة والدولة كما يراها «ليست»، إنما هي ارتباط اقتصادي كذلك، ويعتبر «ليست» أنَّ هذا الارتباط أو الائتلاف في جماعة اقتصادية، هو الذي يقرِّر مبلغ القوة التي يجب أنْ تكون للدولة، وهو الذي يُعَيِّن كذلك نوع السياسة التي يتحتم على الدولة أن تتبعها.

وتتفاوت درجات القوة التي تبلغها الأمم والدول، ويتفاوت مستوى سياساتها، ولا تستطيع أن تقف جميعها من الناحية الاقتصادية في صعيد واحد؛ ولذلك فقد تصور «ليست» سلسلة من المراتب والدرجات السياسية؛ أي من ناحية الحكم، ومراحل تلي بعضها بعضًا من الناحية الاقتصادية، فهناك أوَّلًا المرحلة البدائية المتوحشة، يأتي بعدها دور الرعي، ثم دور الزراعة، ومن بعده المرحلة الزراعية الصناعية، ثم ليتوج هذه المراحل جميعًا، ويقف على رأس الهيراركية الاقتصادية الدور الزراعي الصناعي التجاري، وهي المرحلة التي يجب أن ينتهي إليها كل التاريخ الاقتصادي. ويرى «ليست» أنَّ من الواجب أنْ تخدم السياسة الاقتصادية والتجارية في أي بلد من البلاد، المثل الأعلى التاريخي والاقتصادي، وهو الذي يحتم كضرورة أساسية قيام المصانع، وتقدم الصناعة، فلا يجب أن يكون غرض «الدولة» والحكومات حينئذٍ مجرد توفير أسباب الرخاء والسعادة للأفراد، وزيادة ثراء هؤلاء الأفراد، بل يجب على «الدولة» أن ترسم خططًا للمستقبل، وأن تبذل قصارى الجهد لدفع التنمية الاقتصادية دفعًا، واستغلال «القوى الإنتاجية» لأقصى درجة، الأمر الذي قد يتطلب تضحيات في الوقت الحاضر، ولا يجب التردد في تحمل هذه التضحيات في الوقت الحاضر، إذا ترتَّب على هذه التضحية زيادة النمو الاقتصادي في المستقبل.

وفي رأي «ليست» أنَّ هذه القوى الإنتاجية في بلد من البلاد، إنما هي من أنواع مختلفة، فهناك قبل كل شيء الأنظمة الحرَّة، الأخلاقية والسياسية، وهي التي قرن بها «ليست» برنامج الأحرار، وجعل هذا البرنامج والنظريات القائمة على المبادئ الحرَّة، جزءًا لا يتجزأ منها، ولكن إلى جانب مجموع هذه الأنظمة الأخلاقية الحرَّة كانت الصناعة — دون شك — هي القوة الأساسية من بين «القوى الإنتاجية»؛ لأن الإنتاج الصناعي لا يقف أثره عند خلق الثروة والغنى، بل إن للصناعة آثارًا خلقية معينة، «فالصناعة» تنمي في الفرد الرغبة في أن تستمر ثروته في ازدياد، وهي التي تحفز الأفراد على المباراة لبلوغ هذه الغاية، وتدعو إلى التشبث بالحرية، في حين أنَّ «الزراعة» إنما تسبب الخمول الذهني والكسل، تتولد منها عادة السير في شئون الحياة على وتيرة واحدة؛ أي عدم إعمال الفكر لابتكار وسائل أو طرائق جديدة في الحياة، وأخيرًا فإن الصناعة «قوة» منتجة لرأس المال وللعمل معًا؛ ولذلك فإن الواجب على الأمة أنْ تبذل كل ما ملكت من جهد للوصول إلى هذا الغرض بتنمية حرياتها الداخلية من خلقية وسياسية، ومثل كل شيء تنمية صناعتها.

وتناول «ليست» الوسائل التي يمكن بها تنمية هذه الحريات الداخلية، وتنمية الصناعة، فقال: إنَّ الطريق لذلك إنما يكون بفرض نظام الحماية التجارية أو الجمركية، والذي تجدر ملاحظته أن «الحماية» التي طالب بها «فردريك ليست» لم تكن من نوع الحماية المطلقة الصارمة (أو المانعة)، التي أخذ بها في فرنسا في القرن السابع عشر وزيرها المشهور جان بابتيست كولبير Colbert (١٦١٩–١٦٨٣)؛ و«كولبير» من زعماء «النظام التجاري»٨٠ السائد في عالم الاقتصاد وقتذاك، فكان غرض الحماية التجارية في نظر «ليست» هو تلقين الأمة وتربيتها تربية صناعية، كما قد يكون غرضها كذلك الدفاع عن أمة متأخرة ضد منافسة أمة أكثر تقدمًا وقوة منها. و«الحماية التجارية» كما يراها «ليست»، هي الوسيلة التي يمكن بها الدفاع عن ألمانيا ضد إنجلترة، على أنَّ هذه «الحماية التجارية» يجب أنْ تقف في اللحظة التي يبدو فيها أنَّ النمو الضروري والذي تتطلبه الصناعة في هذه الأمة المتأخرة قد وصل إلى الدرجة المنشودة، فلم تكن «الحماية التجارية» إذن قاعدة «جديدة» يتعذر التخلي عنها، بل يجب أن تمتنع هذه الحماية التجارية بمجرد أنْ تقف الصناعة على قدميها، ويبدو أنه قد تدعمت أركانها. وأخيرًا فلا يجب بحالٍ من الأحوال تطبيق هذه «الحماية التجارية» أو الجمركية على الزراعة، وإنتاج المواد أو السلع الضرورية، والتي تقوم بها أود الحياة.
وتابع «ليست» الحملة، التي كان قد بدأها كتابه «النظام القومي» في صالح حماية التجارة والاتحاد الجمركي، فأصدر كراسات عديدة خلال السنوات التالية، وأسَّس في سنة ١٨٤٣ جورنال أو جريدة للاتحاد الجمركي٨١ لتقوية هذه الحملة، ومما يجب ذكره أنَّ الضرائب الجمركية العالية لحماية التجارة، لم تكن عند «ليست» سوى إحدى الوسائل التي تتحقق بها التنمية الصناعية، فهو قد فكر في وسيلة أخرى؛ إنشاء السكك الحديدية.

وواضح أن «ليست» كان يعهد — لذلك كله — إلى «الدولة» بدور هام في الحركة الصناعية، فكما أن الدولة مُكَلَّفة بتحقيق وحدة البلاد السياسية والمحافظة على هذه الوحدة، فإنها كذلك — في رأي «ليست» — مُكَلَّفة بخلق وحدتها الاقتصادية والمحافظة عليها، فالدولة يجب أن تعمل لتطويع المصالح المحلية، وإخضاعها للمصلحة العامة، والدولة هي التي يجب أن تُنشئ حركة التبادل الداخلي، والدولة هي التي يجب أن تُشرف على مد السكك الحديدية وفق خطة قومية؛ لتبني شبكة من المواصلات داخلها، والدولة هي كذلك التي يُعهد إليها بشئون تداول العملة بإنشاء المصارف (البنوك) الحكومية (بنك الدولة)، والدولة أخيرًا هي التي يجب أنْ تعمل لتوحيد التشريعات الاقتصادية.

وعلى ذلك، فإن «ليست» — بخلاف ما فعله الاقتصاديون الأحرار — قد أعطى الدولة سلطة كبيرة للتدخل في الحياة الاقتصادية، فهو يرى الدولة قوة (قوية) دائبة على التحرك والنشاط «ديناميكية»، وذات دور عملي في ميدان الاقتصاد، ولا تقف موقفًا ساكنًا كمتفرجة وحسب على سير الحياة الاقتصادية؛ أي غير متحركة.

ولقد كان من المنتظر أنْ تكون ألمانيا ذاتها الميدان الذي يجري فيه تطبيق هذه النظريات التي نادى بها «ليست»، والحقيقة أن «ليست» كان يعتقد أنَّ ألمانيا قد جمعت في داخلها كل عناصر القوة الاقتصادية في أعلى مراتبها، وفي رأي «ليست» أنَّ الذي كان ينقص ألمانيا لتحقيق هذه القوة الاقتصادية، إنما هو افتقارها للاتحاد والقدرة على الدفاع عن نفسها ضد الأجنبي، وللوصول إلى هذه الغاية، في وسع ألمانيا — ولذلك صار من واجبها — أن تزيد في رقعة سلطانها الاقتصادي، فيقول «ليست»: «إنَّ هولندة وبلجيكا والدانمرك، بلاد يجب إقناعها بتأليف دولة واحدة بحرية، وأنَّ هذه البلدان يجب أن ينتهي بها الأمر إلى النظر في انضمامها هي ذاتها أو اندماجها في «قومية» أكبر حجمًا منها، كشيء مرغوب فيه ولا ندحة عنه»؛ أي إنَّ «ليست» كان يبغي أن تضم ألمانيا إليها في كيان اقتصادي واحد، وفي دولة واحدة، كلًّا من هولندة وبلجيكا والدانمرك، وذلك الاتساع أو التوسع الذي طلبه «ليست» كان — كما هو ظاهر — من ناحية الغرب.

ولكن «ليست» أراد اتساعًا أو توسعًا ألمانيًّا من ناحية الشرق كذلك؛ فقد اعتقد أن المجر (هنغاريا) قُطر ضروري لألمانيا؛ لأنها بالنسبة لألمانيا بمثابة «المفتاح» الذي يفتح أمامها الباب للامتداد إلى تركيا، وبلاد الليفانت (البحر المتوسط الشرقي)، وعلاوة على ذلك، وكما قال «ليست»: «لأن النار الاستعمارية، سوف تذيب البرودة الألمانية.»

ولذلك فقد استطاع «ليست» من وجهة النظر الاقتصادية أن يزود ألمانيا «برسالة» معينة، عندما راح يقول: «إن الجنس الجرماني — وذلك أمر لا شك فيه إطلاقًا — قد هَيَّأه المولى واصطفاه؛ بسبب طبعه الفطري، وخلقه وسجيته ذاتها؛ ليجد حلًّا لهذه المعضلة الجسيمة؛ توجيه وإدارة شئون العالم قاطبةً، وتمدين البلاد المتبربرة والمتوحشة، وتعمير تلك التي لا زالت خالية ولا يسكنها أحد.»

وواضح أنَّ هذه النظريات التي نادى بها «ليست» كانت تستند على تفكير أصيل قطعًا، من حيث إنه تناول الاقتصاد باعتبار أنه قوة فَعَّالة، وأراد أنْ يؤسِّس وحدة ألمانيا على اقتصاد صناعي، وذلك شيء جديد، ولكن «ليست» لا يلبث حتى يرتد في تفكيره خطوة إلى الوراء، تجعله في مستوى الفلاسفة والأدباء ورجال السياسة في عصره، من الذين مَرَّ بنا ذكرهم، وذلك عندما راح يقول: إنَّ لألمانيا «رسالة» مُسندة إليها من قِبل الإله! وعلى ذلك فقد صار يبدو اتحاد ألمانيا الاقتصادي، كما ارتسمت صورته في ذهن «ليست» في أساسه فكرة تسلطية «إمبيرالية»، والذي يدعو للعجب فعلًا أنه في هذا الوقت الذي كان يبدو فيه حقيقة واقعة — من وجهة النظر السياسية الاقتصادية — أنه لم يكن هناك وجود لألمانيا، وأن هذه البلاد تحتفل على الأكثر مكانًا متواضعًا في الميدان السياسي الاقتصادي، نقول: كان مثار العجب حقًّا، أن تسيطر على أذهان الألمان أحلام الوحدة الكاملة والقوية، والسيطرة السياسية والاقتصادية على العالم بأسره.

(١٢-٣) نشاط «الجامعيين»

لقد لاحظنا كيف أن اليقظة أو الانتفاضة القومية التي حصلت في سنة ١٨٤٠، قد جعلت الفكرة القومية أو المذهب القومي يؤلِّف قسمًا من برنامج الأحرار في ألمانيا؛ على أن الذي يجب ذكره أن هذه الحركة لم تكن تختص بها ألمانيا وحدها، بل إن الشعور القومي قد أخذ ينمو كذلك في إيطاليا — وعلى نحو ما شهدنا — كما لم يلبث أن تولد في الأملاك النمسوية — وذلك موضع دراسة مقبلة، ولم يكن في هذه المرة جماعة «ألمانيا الفتاة» أو الداعون للأممية Cosmopolitisme، هم الذين أدخلوا هذا الاتجاه الجديد في برنامج الأحرار؛ أي نحو القومية، بل إن الذي فعل ذلك كان الجامعيون — أساتذة الجامعات — الذين تسلموا زعامة الحركة الألمانية. فقد انطلق الجامعيون كافتهم، ينشرون الآن القومية، وكان المؤرخون والقانونيون في طليعة هؤلاء الجامعيين، ولقد تميز من بين هؤلاء الأساتذة اثنان، تزعما الحركة القومية وأوضحا أهدافها، هما: «داهلمان» و«جرفينوس»، وفردريك كريستوف داهلمان Dahlmann (١٧٨٥–١٨٦٠)، كان أصلًا من «مكلنبورج» بألمانيا، قضى شبابه في الدانمرك، حيث درس بجامعة كوبنهاجن، واشتغل بعض الوقت أستاذًا بجامعة كييل Kiel في ألمانيا، ثم لم يلبث أن رجع ثانية إلى الدانمرك في سنة ١٨١٢، وفي سنة ١٨١٥ صار سكرتيرًا لوفد شلزويج هولشتين لدى دياط فرانكفورت، وكانت الدانمرك تعتبر دوقية شلزويج جزءًا لا يتجزأ من مملكة الدانمرك، في حين أرادت الدوقيتان شلزويج-هولشتين Schleswig-Holstein استمرار الاتحاد بينهما، وعدم انفصال الأولى «شلزويج». وكان «داهلمان» أحد الذين أيَّدوا هذه القضية إلى جانب أستاذ آخر بجامعة كييل، هو نيقولاس فالك Flack، وأصله من شلزويج الشمالية، فقد كانت «هولشتين» ضمن الاتحاد الألماني الكونفدرائي، في حين اعتبر الدانمركيون «شلزويج» من أملاكهم. وقامت حركة كبيرة في الدوقيتين تطالب الانضمام بعد ذلك بسنوات عدة (١٨٤٨) إلى الاتحاد الألماني، وكان أثناء السنوات التي قضاها «داهلمان» في فرانكفورت، أن ظهرت «وطنية ألمانية»، وذلك فيما صار يقوم به من دعاية واسعة، أهاجت خواطر الأهلين الألمان في هاتين الدوقيتين ضد الحكومة الدانمركية، وكان أهل شلزويج هولشتين خليطًا من الألمان والدانمركيين، وكان الألمان في هولشتين أشد تأثرًا، وكادت هذه الأخيرة تكون «ألمانيَّةً» بحتة.
وعندما كان «داهلمان» يشغل منصب الأستاذية في «كييل»، أنشأ صحيفة نالت شهرة واسعة، وإن لم تعمر طويلًا، هي صحيفة كييل Kieler Blatter لترويج آراءه ولإثارة الخواطر ضد الدانمرك، ثم حدث في سنة ١٨٢٢ أن تقدم ممثلو طبقتي الفرسان، ورجال الدين في الدوقيتين بعريضة إلى مجلس الدياط في فرانكفورت، يشكون من الخطر الذي يتهدد حقوق الدوقيتين، ويطلبون وساطة الدياط، وكان «داهلمان» هو واضع هذه العريضة، وأهل الدياط هذه العريضة، الأمر الذي أقنع الدانمرك وقتئذ أن «شلزويج هولشتين» لن تجد مساندة وتأييدًا من جانب ألمانيا، أما «داهلمان» فقد تعيَّن بعد بضعة سنوات (١٨٢٩) أستاذًا للتاريخ والعلوم السياسية بجامعة «جوتنجن»، وكان «داهلمان» أحد الأساتذة — مع رفيقة «جورج جريفوس» — اللذين جردهما ملك هانوفر من وظائفهما في الحادث، الذي مَرَّ بنا ذكره عند الكلام عن أثر الجامعات في «الحياة الذهنية واتجاهاتها القومية» — وهو الاحتجاج ضد تعطيل الدستور في هانوفر على يد الملك الجديد «إرنست أوجستس» — وذلك في سنة ١٨٣٧، ولقد ذكرنا كيف أن الجامعات الأخرى عرضت على هؤلاء العمل بها، فَرَحَّبت جامعة «بون» بفردريك داهلمان، الذي صار أستاذًا للعلوم السياسية بها.
أما سمعة «داهلمان» العلمية، فقد بدأت تذيع منذ أن أخذ ينشر في سنتي ١٨٢٢، ١٨٢٣ «بحوثه»٨٢ في تاريخ ألمانيا، وفي هذه البحوث حاول «داهلمان» تحديد مدى التوسع — الذي كان إقليميًّا — والذي حدث من جانب ألمانيا على ممر العصور، ثم إنه (أي داهلمان) لم يلبث أن أكَّد نوع هذا التوسع وحدوثه في بحث مستفيض ظهر في سنة ١٨٣٠ ونال شهرة كبيرة، عالج فيه «داهلمان» مصادر التاريخ الألماني، وفي مؤلَّفه هذا أظهر «داهلمان» ازدراءه للطريقة التي يعمد بها نفر من الْكُتَّاب إلى التدليل في بحوثهم على فكرات أو آراء معينة، كانت راسخة في أذهانهم سلفًا، وقبل أن يبدءوا بحوثهم، وقال: إنه إنما يعتمد في «تاريخه» وكتاباته على معرفة الوقائع التاريخية الصحيحة، وتُبنى دراساته على الوثائق والأسانيد، فهو إذن لا يُسَمِّي نفسه باحثًا نظريًّا، ولا يرضى أن يشغل فكره في المعاني المجردة وحسب، دون التنقيب عن حقيقة الواقع، ومع ذلك فالرأي منعقد على أن آراءه التاريخية إنما تشبه بعضها آراء غيره من المؤرخين، الذين شاء «داهلمان» تقليدهم في تفكيرهم أو نسخ آراءه من آرائهم، في حين أن بعضها الآخر قد استوحاه «داهلمان» من آراء معينة لِكُتَّاب ومؤرخين معروفين، مثل المؤرخ الفرنسي أوجستان تييري Thierry (١٧٩٥–١٨٥٦)، وزميله الفرنسي «فرانسوا جيزو» — (١٧٨٧–١٨٧٤)، وقد عرفناه في أزمة المسألة الشرقية خصوصًا، وكلاهما قد سجلا في مؤلفاتهما آراء معينة لإظهار تفوق ونفوذ الطبقة المتوسطة (البورجوازية).
ومع أنَّ «داهلمان» كان كما قال «واقعيًّا» ومؤرخًا، يعتمد على الحقائق والوثائق والأسانيد في بحوثه، فقد كان في الوقت نفسه «مذهبيًّا»؛ أي يدين بمبادئ معينة؛ لأنه كان يؤمن بأن من الخير أن تكون هناك «نظريات» مقبولة، ويؤمن بأنه صاحب رسالة، وقد جعله هذا الإيمان متعصبًا لآرائه «ومذهبيًّا» لا يحيد عن المبادئ التي اعتقد صحتها، ولقد ظهرت هذه «المذهبية» على الخصوص في شئون السياسة التي لم يكن «داهلمان» يرضى فيها إطلاقًا بأية حلول وسط، وفي سنة ١٨٣٥ نشر «داهلمان» مؤلَّفًا نال كذلك شهرة ذائعة، عن السياسة التي يجب أن تكون الظروف القائمة فعلًا، القاعدة التي ترتكز عليها، والعامل الذي يوجهها،٨٣ وواضح من عنوان هذا الكتاب أنه يتناول «مذهبًا» معينًا، هو مذهب السياسة التجريبية، وفي هذا المؤلَّف شرح «داهلمان» فكرته القائلة بأن الواجب يقتضي الدول الألمانية أن يكون المبدأ الذي يسترشدونه، هو التجمع حول بروسيا عند تحول هذه إلى دولة مؤسَّسة على المبادئ الحرَّة.

على أن إنتاج «داهلمان» ابتداء من سنة ١٨٤٠، كان سياسيًّا بقدر ما كان تاريخيًّا، فنشر بين عامي ١٨٤٠، ١٨٤٣ ثلاثة مجلدات في تاريخ الدانمرك، تشيع منه الروح القومية الألمانية، ثم إنه نشر «تاريخًا لثورة إنجلترة» في القرن السابع عشر في سنة ١٨٤٤، كما نشر في العام التالي (١٨٤٥) تاريخًا للثورة الفرنسية، وكان الغرض من هذين المؤلَّفين تقريب هذه الحوادث، والمعنى الذي انطوت عليه من أذهان القراء العاديين.

وكان جوج جرفينوس Gervinus (١٨٠٥–١٨٧١) الزعيم الآخر الذي تزعَّم — إلى جانب «داهلمان» — هذه الحركة الجديدة القومية، وهو من «هس درمستاد»، ولا ينتمي للأوساط البورجوازية — كما هو حال «داهلمان» — بل كان من الطبقات الشعبية، اشتغل أوَّلًا في التجارة، واستطاع أن يعلِّم نفسه بنفسه، فترك حانوت التجارة ليلتحق بالجامعة، وحصل على درجة الدكتوراه في سنة ١٨٣٠، وانتهى به الأمر ليصبح أستاذًا بجامعة «هايدلبرج»، ثم صار أستاذًا بجامعة «جوتنجن»، وكان أحد الذين أُقصوا — مع زميله «داهلمان» — من هذه الجامعة في حادث ١٨٣٧ المعروف.
ولقد كانت المحاضرات التي ألقاها «جرفينوس» بجامعة «هايدلبرج»، هي الأساس الذي قامت عليه دراسته الرئيسية والكبيرة، والتي بدأت في سنة ١٨٣٥، وذلك عندما اقترح «جرفينوس» على ناشره أنْ يختار بين أن يكتب «جرفينوس» تاريخ الشعر الألماني٨٤ في خمسة أجزاء (من ١٨٣٥ إلى ١٨٤٢)، ومع ذلك فقد كان هذا التاريخ في حقيقة الأمر دراسة سياسية جدلية، مُقَدَّمة من صاحبها إلى الشباب الألماني، وتهدف إلى توجيه الشباب نحو الواقعية، والاهتمام بشئون السياسة، باعتبار أنَّ «الأدب» الخالص — كما قال «جرفينوس» — قد انتهى وقته، وكان لهذا التاريخ الضخم غرض آخر، هو إقامة الحجة على أن ألمانيا تحتل مكانًا رفيعًا وهامًّا في عالم الفكر، وأن من الواجب أن تكون لها نفس المكانة في عالم السياسة كذلك، وفي سنة ١٨٤٢ نشر «جرفينوس» موجزًا لهذا التاريخ، كي يتسنى للجمهور قراءته، ومع ذلك فقد عنى «جرفينوس» بعد سنة ١٨٤٥ عناية خاصة بكتابة ونشر الكراسات في شتى الموضوعات السياسية، ولم يكن «جرفينوس» رجلًا موهوبًا، أو صاحب أسلوب يفيض بالحماسة، ولكنه كان يوحي بالثقة في تفكيره، ولقد كان شديد الإعجاب بقدرته العلمية، محبًّا للتفاخر بها، متصلبًا في آرائه ونظرياته بدرجة تفوق كثيرًا عناء «داهلمان» وتعصبه، كما كان أقل اندفاعًا في الفكر منه، ولكن «جرفينوس» كان أكثر تأييدًا للحرية من «داهلمان»، ولقد رفض «جرفينوس» فيما بعد، تأييد سياسة بسمارك، ورفض تضحية الحرية من أجل الوحدة، حقيقة قَبِلَ «جرفينوس» أنْ تتولى بروسيا «صنع» ألمانيا، ولكن بشريطة أنْ تكون بروسيا ذاتها دولة تدين بالمبادئ الحرَّة.
وأمَّا هذه الدعاية التي قام بها أساتذة الجامعات، والتي استندت على «حقائق» التاريخ الألماني بالصورة التي رسمها هؤلاء الأساتذة والناشرون، فقد خلفت في ألمانيا آثارًا تفوق في قيمتها ما قد تسفر عنه مثل هذه الدعاية من آثار في بلاد أخرى، فالألمانيون يميلون بسهولة لتصديق ما يذكره التاريخ، سواء أكان تاريخًا صحيحًا أم مصطنعًا؛ ولذلك فقد انتعشت انتعاشًا عظيمًا هذه الدعاية «البروبجندا» السياسية المستندة على التاريخ في السنوات التالية، من ذلك أنَّ المؤرخ درويزن Droysen — وقد سبق الحديث عنه، وكان أستاذًا بجامعة «كييل» — ألقى خطابًا عظيمًا بمناسبة مرور ألف سنة على معاهدة التقسيم المشهورة في فردان (١٨٤٣)، فعقد مقارنة مخزية بين ما كانت عليه «ألمانيا» من عظمة ورفعة شأن، وقت توقيع هذه المعاهدة بين أبناء لويس، التقى الثلاثة لاقتسام إمبراطورية شارلمان، وبين ما انتقل إليه الحال في السنوات التالية، ثم ما صار عليه الوضع في الوقت الحاضر (١٨٤٣)، فقال «درويزن»: إن أشقاءنا في الألزاس، يتنكرون لنا ويرفضوننا، وإن أشقاءنا في بلاد فرسان التيتون ليسوا جزءًا من الاتحاد الكونفدرائي الألماني، وأشقاءنا الألمان في الأقاليم الشرقية البعيدة مهددون في صميم حياتهم «القومية»، ولكن «درويزن» لم يفقد الأمل، بل وَجَّه في خطابه نداءً للألمان جميعًا، كي يبذل كل فرد منهم كل ما يملك من جهد ضروري «ليصنعوا» مرة ثانية ألمانيا مُوَحَّدة.
وواضح مِمَّا تقدم أنَّ هؤلاء «الدعاة» المثقفون كانوا يختصون «القومية الألمانية» بعناية أكبر في تفكيرهم و«دعايتهم» من اهتمامهم «بالحرية»، ولا شك أن البون كان شاسعًا بين هذا الموقف، وبين موقف أولئك الأحرار الذين ذكرنا طائفة منهم في بداية هذه الدراسة من طراز «مِنزل» و«بورن» و«ورتيك» و«ويلكر» وغيرهم، وكذلك «هايني»، و«هايني» هو الذي كتب، حتى في بداية سنة ١٨٤٠:

أنَّ الأداة (أو العتلة) الضخمة التي عرف كيف يحركها ويستخدمها في الزمن السابق، كل أولئك الأمراء الأذكياء، والذين كانت لهم أطماع كبيرة، قد أضحت عالية، وقليلة الآن، وتلك الأداة كانت القومية بأباطيلها وأحقادها، لقد حطم فعل الحضارة الأوروبية العامة، كل تلك الخصائص الخشنة التي انفرد بها كل شعب من الشعوب، فلم يعد هناك وجود لأمم في أوروبا، بل إنَّ ما يوجد اليوم لا يعدو أن يكون فرقًا أو أحزابًا وحسب.

على أنه لم تمضِ سنوات قليلة، حتى كانت الأحداث في ألمانيا، قد كذَّبت أقوال «هايني» هذه تكذيبًا تامًّا.

فإنه لم يلبث أن التف حول الأساتذة الجامعيين جماعة من الْكُتَّاب من كل الفرق والأحزاب في ألمانيا؛ ليتعاونوا جميعًا في خدمة الفرض المشترك، نذكر من هؤلاء على سبيل المثال؛ الشاعر الهسي — نسبة إلى هس — فرانز دينجلشتد Dingelstedt، ثم الشاعر الهانوفري، «هوفمان فون فالرسليبين» صاحب أنشودة «ألمانيا فوق الجميع»، والذي سيكون له دور ملحوظ في حوادث ثورة ١٨٤٨ على رأس حركة اجتماعية، ثم «جورج هيرويج» الشاعر السوابي — نسبة إلى سوابيا — وقد سبق ذكر هذين الأخيرين، وهكذا غيرهم كثيرون، ولقد جمع بين هؤلاء جميعًا عاملان؛ شعور الكراهية للاستبداد، والعاطفة المتقدة للقومية.
وأما «هايني» وقد عرفنا أنه يعيش في فرنسا، فقد انضم إلى هذه الحركة في ذلك القسم من نشاطها الْمُوجَّه للكفاح عن المبادئ الحرَّة، وبقي «هايني» يناضل من أجل الحرية، وهكذا تدفق من كل أنحاء ألمانيا سيل من الكراسات والمنشورات، والقصائد والأناشيد، وبصورة متزايدة بقدر تقدم الحركة القومية و«الحرَّة» ذاتها، وبالرغم من الرقابة الصارمة المفروضة على المطبوعات، وأخيرًا لم يلبث «جرفينوس» أن أنشأ في «هايدلبرج» في يوليو ١٨٤٧ «الفازيتة أو الصحيفة الألمانية»٨٥ لعرض آراء جماعته وترويجها. وتولى «جرفينوس» إدارة هذه الجريدة بمعاونة ثلاثة من الْكُتَّاب؛ المؤرخ لودفيج هاوسر Hausser، والكاتب السياسي كارل ماتي Matty، ثم القانوني والسياسي كارل ميترماير Mittermaier، وقد رسم هؤلاء الْكُتَّاب مع «الفازيتة الألمانية» صورة اتحاد كونفدرائي يضم إليه كل ألمانيا، على أن تقوم في نفس الوقت حكومة دستورية في داخل كل «دولة» يتألَّف منها هذا الاتحاد، ويتضح من إنشاء هذه الجريدة والآراء التي راح هؤلاء الْكُتَّاب يروجونها، كيف صارت «الحرية» و«القومية» تمتزجان مع بعضهما بعضًا.
ولقد تشكَّلت إلى جانب هذه الحركة، وبالأصح إلى يسارها، حركة راديكالية، وصلت في سيرها في هذا الطريق إلى «الاشتراكية» ذاتها، أما هذه الحركة الراديكالية، فقد خرجت من جناح «الهيجلية» اليساري، وكان لسان حالها «حوليات هال للعلوم والفنون الألمانية»،٨٦ ويشرف على تحريرها الفيلسوف «الهيجيلي اليساري» والناشر أرنولد روج Ruge، الذي سبق أن تحدثنا عنه، كما تأسَّست «الفازيتة الراينية للسياسة والتجارة والصناعة»٨٧ في كولون؛ لتؤدي في الغرب نفس المهمة التي تؤديها في «الشرق» الصحيفة الأولى «حوليات هال»، وكان يشرف على إدارة الفازيتة الراينية الناشر و«الهيجيلي اليساري» كذلك أرنست يونجنتز Jungnitz،٨٨ ولم تعمر هذه الصحيفة سوى شهور ثلاثة، فقد ظهر أول أعدادها في أول يناير ١٨٤٣، وخرج آخر أعدادها في أول أبريل من السنة نفسها، حيث عطلتها الحكومة، ولقد تعاون مع «يونجنتز» في تحريرها «برونو باور» والذي عرفنا أنه كان من تلاميذ «ستراوس».

وكان لهؤلاء الراديكاليين، أحد الأندية في برلين، باسم «نادي الرجال الأحرار»، وربطوا أنفسهم بالفلسفة التي كان علماها؛ «فردريك ستراوس» و«آنسلم فويرباخ»، وهما — كما عرفنا — من تلامذة «هيجل» اليساريين، فكان هؤلاء الراديكاليون من أعداء المسيحية، وتنكروا لدينها، وعلى النقيض مِمَّا عُرف به المؤرخون الذين ذكرناهم — مثل «درويزن» وغيره — كانت هذه الجماعة الراديكالية من «النظريين» كثيري الخيال، الذين أرادوا إصلاحًا للدولة وللمجتمع على المبادئ الهيجلية.

واستمدت هذه الحركة الراديكالية قوتها الفعلية من الخارج، أكثر مِمَّا استمدته من قوة من داخل ألمانيا ذاتها؛ وذلك لأن اللاجئين الألمان في الخارج، وفي فرنسا على وجه الخصوص، هم الذين كانوا يغذونها. فاللاجئون في باريس هم الذين صاروا يصدرون صحيفة بعنوان إلى الأمام Worwarts لنشر دعوتهم، وهم الذين أسَّسوا النوادي، التي كان منها «نادي العدول» في سنة ١٨٣٦ — وقد تقدم ذكره، ثم إنهم صاروا مشغولين عشية ثورة ١٨٤٨، بتأسيس «حلف الشيوعيين»،٨٩ وكان يتولى قيادة هذه الحركة على وجه الخصوص ثلاثة من الرجال هم: ولهلهم وايتلنج Weitling (١٨٠٨–١٨٧١)، وكان شيوعيًّا «مذهبيًّا»، قال عنه «إنجلز» وعن زملائه: إنَّ رءوسهم محشوة بالعبارات المبهمة التي يرددها الأدباء من صغار البورجوازية،٩٠ ثم فردريك إنجلز Englez (١٨٢٠–١٨٩٥) صديق كارل ماركس، والمتعاون الأمين معه، وأخيرًا «كارل ماركس» نفسه (١٨١٨–١٨٨٣)، ولو أنَّ «كارل ماركس» لم يكن صاحب شهرة وقتئذ، وقد نشر «إنجلز» في سنة ١٨٤٥ مؤلَّفه عن «الحال التي عليها الطبقة العاملة في إنجلترة في سنة ١٨٤٤»،٩١ وكان المركز الثاني لهذه الحركة الراديكالية إلى جانب باريس «بروكسل» العاصمة البلجيكية.
ويذهب المؤرخون الفرنسيون إلى أن هؤلاء الراديكاليين، قد اتخذوا المبادئ الحرَّة والقومية التي سادت فرنسا وقتئذ «إنجيل» لحركتهم، وذلك بالرغم من أنهم كانوا أعداء ألداء لفرنسا، وأن حركتهم إنما ترتد في أصولها إلى تلك الكراهية لفرنسا التي انبعثت من جديد في سنة ١٨٤٠ في الظروف التي ذكرناها، ويستند هؤلاء المؤرخون في هذا الرأي إلى ما كتبه في مذكرات «إرنست» دون ساكس كوبورج Zaxe-Coupourg، وهي مذكرات تتناول هذه الفترة، وتُلقي ضوءًا هامًّا على وجه الخصوص على أصول الوحدة الألمانية، وسياسة البرنس بسمارك، وفي هذه المذكرات يقول «إرنست دون ساكس — كوبورج»: «لقد كان لفرنسا نفوذ عظيم وسيطرة كبيرة على الحياة السياسية في ألمانيا قبل سنة ١٨٤٨، لقد وجدت كتابات لوي بلان Louis Planc جمهرة كبيرة من القراء في ألمانيا، من المحتمل أنها كانت تضارع جمهرة قارئيه في فرنسا ذاتها،٩٢ لقد تغلغلت الكتابات الأكثر راديكالية في الأوساط الألمانية حتى نفذت إلى طبقات الأهلين الدنيا، وإني لا أزال أذكر جيدًا، كيف كان يثير دهشتي كثيرًا أثناء رحلة قمت بها في شبابي، تأكدي من العثور على الكتب والكراسات، التي يزعج وجودها البوليس في كل مكان، حتى في أقصى القرى، وذلك بالرغم من أنَّ وسائل المواصلات لم تكن وقتئذ متقدمة.»

أمَّا هذه الحركة الراديكالية والاشتراكية في ألمانيا، فقد تزايدت قوتها بسبب الأزمة الاقتصادية، التي ظهرت بوادرها في سنة ١٨٤٦ في صورة إضراب حصل في سيليزيا بين النساجين، كان له دوي عظيم، وَمِمَّا ترتب عليه أنْ صارت تبرز الآن المسألة الاجتماعية؛ أي مشاكل العمل والعمال وآثارها في المجتمع الألماني.

والذي تجدر ملاحظته أن حركة الآراء هذه الداعية للتجديد، لم تكن مقصورة على أهل الفكر والمثقفين وحدهم فحسب، بل ضمت إليها كذلك رجال السياسة، ولو أنها في هذه الأوساط السياسية، قد صارت تفتقر إلى كثير من تلك الشجاعة التي تميزت بها هذه الحركة في أوساط المثقفين وأهل الرأي والفكر؛ وذلك لأن آراء هؤلاء السياسيين الأحرار القوميين وبرامجهم، لم تكن تعدو المطالبة «بإصلاح» الاتحاد الكونفدرائي القائم في ألمانيا منذ ١٨١٥، فهم يريدون أنْ يستبدلوا بالاتحاد الكونفدرائي Staatenbund، دولة فدرالية اتحادًا فدرائي Bundesstaat، وكان زعيم هؤلاء الجماعة، «هاينريش فون جاجرن» النائب الهسِّي — الذي سبقت الإشارة إليه — وكان نائبًا بمجلس هس تاسل، من ١٨٣٢ إلى ١٨٣٦، ثم انسحب من السياسة ليتفرغ لأعماله الزراعية، فلم يعد إلى ميدان السياسة إلا في عام ١٨٤٦، وذلك ليشن حملة معارضة عنيفة ضد «قانون مدني» لا يستند على المبادئ الحرَّة، أرادت الحكومة الهسِّية استصداره، فانتُخب نائبًا مرَّة ثانية في سنة ١٨٤٧، وسرعان ما أصبح أحد زعماء حركة ١٨٤٨.

ولقد كانت فكرة إصلاح الاتحاد الكونفدرائي الألماني هذه بإنشاء دولة فدرالية «الحل»، أو الفكرة التي كانت أوسع انتشارًا على وجه الخصوص بين السياسيين والمهتمين بالسياسة في ألمانيا الجنوبية.

ومن جانب آخر، فإنه كان لا يزال هناك تيار من القومية، جعله مستمرًّا نشاط المدرسة التقليدية — أو التمسك بالتقاليد — التي عرفنا أنَّ «فون هالر» كان «أقوى» زعمائها، والتي اعتمدت على دروس «فون رانكه» التاريخية — الأستاذ بجامعة برلين — وهؤلاء «التقليديون» كانوا من المحافظين القوميين، ومن المعروف أنَّ «هالر» و«رانكه» لم يكونا من الأحرار، وكان في رأيهم أن في وسع ألمانيا أن تتوحد دون حاجة للأخذ بالأيدولوجية الثورية وبالمذهب الحر، وذلك بالاعتماد على طبقة النبلاء وعلى الإدارة أو الحكومة وحسب، وعلى ذلك فقد صاروا يمزجون بين فكرة القومية الألمانية — وذلك في الوحدة التي ينشدونها، وبين ما صاروا يسمونه بفكرة القومية البروسية — لضرورة استناد هذه الوحدة على «نبلاء» و«حكومة»، وهما عنصران متوافران في بروسيا، الدولة التي أنشأتها «التقاليد» في عرفهم.

وواضح أن المزج بين هاتين الفكرتين؛ القومية الألمانية، والقومية البروسية، لا يعدو أن يكون ذلك «التقليد» نفسه الذي تمسك به، وسار عليه العسكريون والنبلاء في بروسيا في عهد نابليون، وكان طبيعيًّا أن يتلقن هذه التقاليد، ويتمسك بها الإداريون «والموظفون» والعسكريون الجدد في حكومة بروسيا، فكان معنى «القومية» حينئذ لدى هؤلاء جميعًا، أن تتسع بروسيا حتى يشمل سلطانها ألمانيا، وأن تصبح بروسيا هي ألمانيا، بقدر ما كان معناها تأسيس الوحدة الألمانية، مثال ذلك ما ذكره «رادويتز»٩٣ أحد مستشاري ملك بروسيا فردريك وليم الرابع، والذي صار زعيمًا للحزب الكاثوليكي البروسي في سنة ١٨٤٨ فقد كتب في رسالة له إلى الملك في ٢٠ نوفمبر ١٨٤٧:

لقد تركنا في أيدي أعداء النظام أقوى سلاح في الوقت الحاضر، وأعني بذلك القومية، فكل النفوس مريضة بذلك الداء المتولد من الحنين إلى الوطن، والذي يبدو الآن كرغبة في رؤية ألمانيا أكثر اتحادًا وقوة، وموضع احترام أكبر في العالم الخارجي، وذلك الرأي أشد شعبية وقوة من أي رأي آخر، والوحيد الذي يسيطر على أذهان الأحزاب، والذي يمثل موضعًا دونه كل الخلافات الإقليمية والسياسية والدينية، وأشار «رادويتز» على الملك أن يتزعم هو — أي فردريك وليم الرابع — هذه الحركة القومية كي تجمع حول بروسيا كل الألمانيين.

وواضح أن اتباع هذه الخطة، يفترض تسوية للخلاف الناشب بين الرأي القومي في ألمانيا وبين بروسيا، وإعادة العلاقات أو الروابط التي كانت قد انفصمت بسبب السياسة الرجعية التي سارت عليها بروسيا.

وكان مِمَّا أتاح الفرصة لتسوية هذا الخلاف، والوصول إلى صلح بين الرأي القومي في ألمانيا وبين بروسيا، أن دخل المسألة عنصر جديد، هو اعتلاء فردريك وليم الرابع عرش بروسيا.

(١٢-٤) حكومة فردريك وليم الرابع

فقد اعتلى هذا الملك عرش بروسيا في ٧ يونيو ١٨٤٠؛ أي في اللحظة التي انفجرت فيها أزمة سنة ١٩٤٠ التي هددت بالحرب الأوروبية، وأفصح الفرنسيون عن مطالبهم «القومية» التوسعية تجاه الراين وألمانيا الغربية، وفي هذه الأزمة تجاوب الملك البروسي في التو والساعة مع الآراء والعواطف الألمانية، فهو كان يكره حقيقة فرنسا، وفي رأيه «لم يكن يوجد في فرنسا دين، ولا أخلاق، وأنها دولة متعفنة، مثلها في ذلك روما قبل سقوط الإمبراطورية «الرومانية»، وأن فرنسا — حسب اعتقاده — سوف تنهار بالطريقة نفسها»، وانضم فردريك وليم مباشرة إلى الحركة المؤيِّدة للحرب وقتئذ (١٨٤٠)، فمنح «بيكر» صاحب أنشودة «الراين الألماني» معاشًا مكافأة له على هذه الأنشودة، وفي سنة ١٨٤٢ شرب الملك نخب «الوطن الألماني»، وذلك في الاحتفال الذي أُقيم بمناسبته الفراغ من بناء كتدرائية كولون؛ وقد سبقت الإشارة إلى هذا الاحتفال، ولقد حرص فردريك وليم بشتى الطرق على إظهار احترامه وتعلقه بكل تقاليد العصور الوسطى، وبفكرة الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة، وإلى جانب هذا أقام فردريك وليم عندما كان وليًّا للعهد وقتًا كافيًا في الأقاليم الراينية، جعله يحتك بالمجتمع الجديد هناك، وساعدت الإجراءات التي اتخذها الملك في بداية عهده على الاعتقاد بأن حكمًا مستندًا على المبادئ الحرَّة، سوف يسود بروسيا، فهو قد أنهى النزاع بين أسقف كولون وبين الحكومة البروسية، وأصدر عفوًا عن الأحرار الذين كانوا في السجن، أو ظلوا موضع اضطهاد من مدة طويلة منذ حركات القمع المعروفة في سنتي ١٨١٩، ١٨٣٠، فاستطاع الشاعر «آرندت»٩٤ العودة من منفاه إلى بروسيا، وخفَّف فردريك وليم من صرامة الرقابة (سبتمبر ١٨٤١)، وجعل جلسات المجالس (الدياطات) الإقليمية علنية، فأعدت هذه من الآن فصاعدًا محضرًا لجلساتها، يوزع على الصحف لنشره، الأمر الذي أوقف الأهلين على حقيقة ما يجري في هذه المجالس، والموضوعات التي تدور فيها المناقشة، فتسنى لهؤلاء تأييد ما يريدونه منها أو إبداء معارضتهم لها، كما أتيحت الفرصة لقيام حركة تكتل حول الأحرار لتأييدهم، ثم إن الملك وعد بدعوة مجالس الدياط للاجتماع بانتظام كل سنتين مرة، وأراد أن تبعث المجالس الإقليمية عند كل دورة؛ أي كل سنتين مرة، مندوبين عنها إلى برلين، يعرضون على الملك رغبات وآراء الأهلين في الأقاليم المختلفة، وهكذا تولد في صدور الألمان والبروسيين الأمل في أن بروسيا سوف تتبع سياسة مستندة على المبادئ الحرَّة، وَمُوَجَّهة نحو تأييد القومية الألمانية، وذلك بفضل كل هذه الإجراءات الحرَّة، التي بدأ بها فردريك وليم الرابع حكمه.

ولقد كان تحت تأثير هذا الأمل، أن تشكَّلت حركة جديدة على المبادئ الحرَّة في إقليم الراين، مستندة على فكرة أن من الممكن أن تصبح بروسيا دولة تدين بالمذهب الحر.

ذلك أن الفكرة المحلية أو الإقليمية لم تلبث أن مُحيت تمامًا في إقليم الراين، عقب أزمة ١٨٤٠ المعروفة، فقد بقي حتى هذا الوقت الراينيون يصرون — كما عرفنا — على التمسك بأنظمتهم الفرنسية الحكومية، وبقوانينهم الفرنسية، فصار النمط المألوف الآن — على العكس من ذلك — هو إبراز الخصائص الألمانية الكامنة في الأنظمة الحكومية والاجتماعية، وحتى هذا الوقت تمسك الراينيون «بملامح» إقليمهم؛ أي «محليتهم» وعارضوا الاندماج في دولة بروسيا، فصاروا على العكس من ذلك، من الآن فصاعدًا يريدون نمو إقليمهم وتقدمه في نطاق الدولة البروسية، لقد كانوا يعيشون في عزلة سابقًا، ولكنهم صاروا الآن ينشئون صلات وروابط ذهنية وفكرية مع سائر الأقاليم البروسية، فهم يتتبعون ما يدور من مناقشات في المجالس الإقليمية (الدياطات) في سائر الأقاليم الألمانية، وهم يقرءون بنهم وشغف كل ما تقع عليه أيديهم من كراسات ومطبوعات يصدرها الأحرار في سائر مقاطعات بروسيا، وخصوصًا كراسة لطبيب يهودي من «كونجزبرج» يُدعى جوهان جاكوبي Johann Jacoby،٩٥ سرعان ما تزعم الأحرار هناك، عندما تألَّفت مجموعة من الشبان — أكثرهم من اليهود — من المشتغلين بالأدب، وأصحاب الآراء المتحررة من القيود، والذين بدءوا نشاطهم في «كونجزبرج»، ولقوا هناك تأييدًا، حتى من بين الطبقة المسالمة المشتغلة بالتجارة، وفي سنة ١٨٤١ نشر «جاكوبي» كراسة بعنوان «أسئلة أربعة يجيب عليها بروسي من الشرق»،٩٦ وقد ذاع تداول هذه الكراسة بين المجالس الإقليمية التمثيلية (الدياطات)، وفي إقليم الراين، وفي هذه الكراسة كانت الفكرة البارزة هي المطالبة بتأسيس تمثيل نيابي صحيح، بدعوى أن الملك مقيد بفعل ذلك، بوعد كان قد صدر عن أبيه في سنة ١٨١٥.
ونالت كراسة أخرى من هذا الطراز رواجًا عظيمًا في إقليم الراين، ظهرت حوالي هذا الوقت (١٨٤٠ دون ذكر اسم المؤلف ثم ١٨٤١) بعنوان «من أين وإلى أين؟»٩٧ لصاحبها هنريش تيودور فون شون Schon، وقد بعث بهذه الكراسة صاحبها، وكان يقيم وقتئذ في كونجزبرج، كذلك إلى الملك، لاعتقاده أن فردريك وليم الرابع يدين بالمذهب الحر، لدرجة أكبر مِمَّا يفعل شون نفسه، ويريد أنْ «ينبه» الملك الجديد إلى حقيقة الموقف وخطورته من وجهة نظر الأحرار، وحسب تقديرهم، فجأر «شون» بالشكوى من العبودية البيروقراطية، وطلب بدعوة مجلس طبقات عام للمملكة بأكملها.

ولقيت هاتان الكراستان نجاحًا عظيمًا في بروسيا الشرقية، كما تلقفها الراينيون بحماس شديد، وكانت الفكرة التي عرضتها هاتان الكراستان، تدور حول تأسيس «برلمان» بروسي باسم حقوق الأمة، والتنبؤ بما ينتظر بروسيا من مجد عظيم عند أخذها بالمبادئ الحرَّة.

وهكذا بدأ يشعر الراينيون أنهم متكتلون في الرأي مع سائر بروسيا، وانكبوا الآن يقرءون الصحف الصادرة في بروسيا الشرقية، خصوصًا «صحيفة كونجزبرج»،٩٨ وذلك بعد أن كانوا يزدرون بها، وعلى ذلك فقد شرع يندمج الآن الراينيون حتى «المحليون» منهم في الدولة البروسية، ولم يعودوا يفكرون في العيش في عزلة في هذا القسم الغربي من ألمانيا الذي تقع فيه بلادهم.
وفي سنة ١٨٤١ كتب «هانسيمان» رئيس الغرفة التجارية في «إكس لاشابل» — وقد مَرَّ بنا ذكره — «مذكرة للملك» يريد فيها «توجيه» الملك الجديد، وعلى نحو ما فعل مع سلفه «فردريك وليم الثالث» منذ حوالي عشر سنوات، وراح يوضح في هذه المذكرة أنَّ الأخذ بمبدأ الحرية ضرورة حتمية من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكأحد رجال الأعمال والإدارة في إقليم الراين، بذل «هانسيمان» كل ما يملك من جهد ونشاط في خدمة الدولة، سواء لمعالجة مسألة الضرائب الجمركية، أو في مفاوضات المعاهدة التجارية مع بلجيكا سنة ١٨٤٤، أو عند بحث موضوع الرسوم الجمركية التفصيلية التي ينتظر منها تشجيع الصناعة البروسية، وحمايتها من منافسة الصناعة الأجنبية، ولقد هدف «هانسيمان» إلى ربط البورجوازية الرأسمالية بالدولة، وأخذ يضع برنامجًا للتعاون بين الأحرار (من هذه البورجوازية الرأسمالية) والحكومة، ويوضِّح قواعد هذا البرنامج في جريدة آشن Aachen (أي إكس لاشابل)، وكانت هذه صحيفة وطنية و«حرَّة» عظيمة.
ولقد كانت هناك مدرسة أخرى، منبعثة من الجناح الهيجيلي اليساري، ومن السانسيمونية في الوقت نفسه، وكان يتزعم هذه المدرسة أحد الراينيين الأحرار من وستفاليا، جوستاف مفيسين Mevissen، وكانت المشكلات الاجتماعية، بفضل توجيه «مفيسين» الموضوع الذي استأثر على وجه الخصوص باهتمام هؤلاء الجماعة، وأنشأ «مفيسين» من البداية الصلات «بكارل ماركس»، وأسَّس «جمعية لرعاية الطبقات العاملة»، وصار يدعو لإنشاء النقابات العمالية، ومع أن الأحرار كانوا حتى هذا الوقت يقاومون تدخل الدولة في الشئون العامة ويكرهونه، فقد صاروا الآن يلتفون حول الدولة، ويدعونها للتدخل، وطلب «مفيسين» أنْ تقوم الدولة بتنظيم عام للاقتصاد السياسي في البلاد، ثم إنَّ «مفيسين» كان مبتكرًا، صار يُعرف اليوم باسم «الاقتصاد الموجَّه»، وهكذا صار «مفيسين» يحارب ميول الأحرار الإقليمية القديمة، وكانت صحيفة الراين Rheinische zeitung هي لسان حال هؤلاء الجماعة؛ حزب الاقتصاد الموجَّه، وقد تأسَّست هذه الصحيفة في سنة ١٨٤٢ في كولون، وكان كارل ماركس أحد المحررين بها، ولكن لم تلبث الحكومة أن عطلتها في سنة ١٨٤٣ بعد حياة قصيرة، أمَّا هؤلاء الاقتصاديون فقد ظلوا يطالبون «الدولة» بأن تبسط سلطان العقل، والأخلاق العامة في بروسيا؛ لتحقيق الصالح العام.
وثمة تفكير ثالث، ظهر أثره في الأوساط التجارية والملاحية في إقليم الراين، كان تفكيرًا حرًّا وعمليًّا في الوقت نفسه، يستند على المبادئ الحرَّة في شئون السياسة وعلى التبادل «التجاري» الحر في عالم الاقتصاد، وكان زعيم هذه الجماعة من الأحرار الاقتصاديين هو «لودولف كامبهاوسن»، الذي عرفنا أنه كان رئيس الغرفة التجارية في كولون، وقد صار هؤلاء الجماعة يمثلون مصالح التجار وأصحاب السفن في إقليم الراين، والذين شعروا بحاجتهم المُلحة لفتح طريق الراين — الطريق النهري العظيم — للتجارة وحرية التبادل، وعلى ذلك فقد انبرى «كامبهاوسن» يحمل بعنف على مبادئ الجماعة التجارية التي نادى بها «فردريك ليست»، ومع ذلك فإن معارضته لهذه الجماعة التجارية لم تمنع «كامبهاوسن» من إدراك قيمة الأثر الذي تحدثه المسائل الاقتصادية في الناحية القومية، مثله في ذلك مثل «فردريك ليست» نفسه، من حيث ضرورة أن تحرز ألمانيا توسعًا اقتصاديًّا، وأن تقوم وحدتها الداخلية على أساس اقتصادي، فيكتب «كامبهاوسن» إلى صديقه كوهن Kühne — وكان من رجال حكومة برلين البارزين، وكان قد أسدى خدمات جليلة في مفاوضات «الزولفرين» — كتب إليه «كامبهاوسن» في ٢٦ ديسمبر ١٨٤٦:

أن ألمانيا هي ميدان الحرب الذي تتقاتل فيه الأمم الأوروبية منذ القرن السابع عشر، ولا يمكن وضع حد لهذا الوضع، إلَّا إذا حصل اتحاد البلاد الألمانية، ولكن على أن يكون هذا الاتحاد في شكل آخر غير «الاتحاد الكونفدرائي الألماني»، وهو الذي تأكَّد عجزه، ولا بد من تشجيع الزولفرين، حتى يكون لديه الوسيلة لتحقيق الوحدة الألمانية، وذلك بطريقين؛ أن يكون لدى «الزولفرين» أوَّلًا؛ حدود بَحَرية، وأسطول تجاري، وثانيًا؛ تدعيم وتقوية الروابط التي تجمع بين البلاد في داخل هذا الاتحاد الجمركي (الزولفرين) نفسه، وعليك — يا صديقي القادر — أنْ تعمل بجد، ويقتضيك الواجب أنْ تكرس كل حياتك؛ ليتسنى للراية الألمانية أنْ تخفق في كل البحار، ولن تصبح عاجزة كل من إنجلترة وفرنسا عن التلويح بأية ادعاءات لهما على أية بقعة من الأراضي الألمانية، وحتى يبقى الاتحاد الجمركي قويًّا دائمًا وبصورة مطردة، وحتى تسترد الإمبراطورية الألمانية مكانها المرموق في أوروبا، الأمر الذي يجعلها قادرة على مواجهة البربرية الزاحفة من «الشرق»، ودفعها ومواجهة تسلطية «الغرب»، وجشع البلاد الغربية وشراهتها التوسعية ووقفها.

وواضح أنَّ فكرة القومية — كما يبسطها «كامبهاوسن» في خطابه، وكما شاهدناها دائمًا لدى هؤلاء «القوميين» الألمان — كانت دائمًا مرتبطة بفكرة التوسع والتسلطية (أو الإمبريالية)، وفي الوقت الذي لم يكن فيه وجود لراية «ألمانية»، كان هؤلاء يريدون مشاهدة الراية الألمانية تخفق فوق كل أوروبا، وهكذا كانت فكرة القومية الألمانية ترسم في أذهانهم صورة لألمانيا كدولة عظمى يمتد سلطانها إلى خارج حدودها، فالقومية الألمانية في تفكيرهم هي العظمة الألمانية الخارجية، وفكرة العظمة الخارجية هذه، هي التي أوحت إلى الألمان بفكرة الوحدة الوطنية والسياسية، أمَّا لسان حال هذه القومية البروسية المستندة على المذهب الحر، فكانت صحيفة كولون Kolnische zeitung، وهي صحيفة قديمة، كانت بعنوان آخر عند صدورها في سنة ١٧٩٤٩٩ خلفًا لجريدة رسمية، وسرعان ما صارت تُسَمَّى «بصحيفة كولون»، وابتداء من سنة ١٨٤٥ انضمت إلى هذه الحركة.
وعلى ذلك يكون قد تغير موقف الراينيين السياسي تمامًا، ففي مجلس الراين الإقليمي Landtag في سنة ١٨٤١ لم يعد اهتمام أعضاء هذا المجلس مقصورًا على الشئون المحلية الإقليمية وحسب، بل لم يلبث أن تشكَّل رويدًا رويدًا حزب قومي، كان أعضاؤه مِمَّنْ ينتمون لغير طبقة النبلاء ومن غير الكاثوليك، ومنذ أن أمكن حل مسألة المجالس البلدية في سنة ١٨٤٣ — وقد سبقت الإشارة إليها — اختفت الإقليمية، كما اختفت الفوارق المذهبية (الدينية)، وفي سنة ١٨٤٥ طالب «كامبهاوسن» بدعوة برلمان بروسي للاجتماع، وفي سنة ١٨٤٧ كان أهل الراين جميعًا مستعدين للاشتراك في الحياة العامة مع بروسيا «الدستورية» جنبًا إلى جنب مع سائر مقاطعات الدولة، وفي فبراير ١٨٤٨ كتب المصرفي هرمان فون بيكرات Beckerath — وكان من كبار الأحرار في كريفيلد Crefeld إحدى مدن الراين في «صحيفة كولون» — لقد أصبح شعور الأمة البروسية الوطني قويًّا وجياشًا، لدرجة أن صار كل عنصر من عناصر الإقليمية موضع تحقير وزراية وتتضافر جميع المقاطعات على التعاون فيما بينها، يحدوها لفعل ذلك الأمل في بلوغ مرتبة عالية من مراتب القومية السياسية، وهكذا أضحى الأحرار الألمان — وعلى الخصوص الأحرار الراينيون — على قدم الاستعداد الآن؛ لأن يسيروا جنبًا إلى جنب مع «بروسيا» كي «يصنعوا» ألمانيا.

على أنَّ هذا المثل الأعلى الذي استرشد به هؤلاء الأحرار القوميون، لم يلبث أنْ اتضح أنه كان آمالًا كاذبة، وذلك لأسباب منها أن الملك فردريك وليم الرابع لم يكن الرجل الذي تخيله الراينيون، وبنوا عليه آمالهم، فهو لم يكن واضحًا في آرائه، وتعذر على المتحدثين معه أنْ يفهموا ما يريده من أقواله، ولم يعتبر الملك غموض آرائه أو اختلاط أقواله عجزًا منه أو مقصورًا عن التعبير، بل اعتقد أنَّ ذلك من دلائل التفوق الذهني؛ لأن الفكرة العالية — كما اعتقد — يجب أنْ يتعذر على الناس فهمها، ومن ناحية أخرى كان فردريك وليم الرابع «رومانتيكيًّا»، فهو خطيب بطبعه، ويعمد لذلك عند كل مناسبة يتحدث فيها إلى إلقاء الخطب، ويتحمس عندئذ لدرجة التفوه بعبارات، قد ينساق إلى التفوه بها من باب البلاغة وحسن البيان، ولكنه لم يكن في حقيقة الأمر يقصد شيئًا من المعاني التي تفيض هذه العبارات الرنانة بها؛ ولذلك فقد نشأ سريعًا «سوء تفاهم» كبير بينه وبين الرأي العام، وكان من المتوقع أن يحدث ذلك؛ لأن الملك لم يكن من الأحرار، بل كان من تلامذة زعيم «التقليديين» كارل فون هالر، فهو يرد كل شيء إلى أصله التاريخي، ويرعبه التفكير في الدساتير النظرية؛ لأنه — كما قال — لا يريد أن «يترك قصاصة من الورق تنسل بينه وبين شعبه»، ولأنه كان شديد الحساسية أو التأثر في كل ما يتصل بسلطاته كملك.

وفي الوقت نفسه كان فردريك وليم الرابع يدين بالمذهب القومي، ولكن كانت ترتسم في ذهنه صورة خاصة لألمانيا، تختلف عن تلك المرتسمة في أذهان الأحرار، لقد أظهر حماسًا وطنيًّا ملحوظًا، ولا جدال في أنه كان مقتنعًا تمامًا بقصور «الاتحاد الكونفدرائي الألماني» وعجزه، ولكن الدولة أو المملكة التي أرادها كانت غير تلك التي أرادها الأحرار تمامًا، فالرايخ Reich — أو الإمبراطورية التي تخيلها فردريك وليم — يجب أنْ تستمد وجودها من «التاريخ»، وتقوم على قاعدة تاريخية، وهو لذلك يريد الاحتفاظ بالنمسا على رأس «الرايخ» الألماني؛ لأن النمسا استندت على حق تاريخي في قيامها بدور الزعامة والقيادة في ألمانيا دائمًا، فهو يشعر بالاحترام للنمسا دائمًا، وإنْ كان احترامًا ممزوجًا بالخوف منها، وهو شعور سوف يحمله في سنتي ١٨٤٨ و١٨٥٠ خصوصًا على تعطيل الإجراءات المتخذة ضد النمسا، ومن ناحية أخرى كان يصعب عليه الابتعاد عن الأساليب القديمة، والتخلي عن الآراء التقليدية — أي نبذ التمسك بالتقاليد — وأما في هذا «الرايخ» الجديد، فإنه لم يكن يرى لبروسيا أي عمل غير تأدية رسالة عسكرية، وفي رأيه كان يتوقف حل مشكلة إنشاء هذا «الرايخ» بقيام الاتحاد بين بروسيا والنمسا، وأن هذا الاتحاد بين بروسيا والنمسا هو الذي يضمن الوحدة الألمانية، وهو الذي يحقق لألمانيا العظمة المنشودة. وصفوة القول أن فردريك وليم الرابع كان شديد الارتباط بالماضي، فهو لا يشاء هدم الصرح التاريخي الذي شيَّدته بروسيا، ثم هو لا يشاء كذلك هدم الصرح التاريخي الذي شيَّدته النمسا.
وهكذا لم يلبث أن تَبَيَّن للأحرار في ألمانيا أنهم مخدوعون خديعة كبرى في ملك بروسيا، وكان طبيعيًّا أن يمر بعض الوقت قبل أن يتأكَّد هؤلاء من هذه الحقيقة، فكان في ميدان السياسة الداخلية البروسية أن تبددت الآمال التي عقدوها على الملك، كما حدث ذلك أيضًا في ميدان النشاط القومي في حوادث سنة ١٨٤٨، فقد قاوم فردريك وليم الرابع بصلابة وعناد إصدار دستور لشعبه بدعوى «أن الملك في بروسيا يجب أن يكون — كما قال — القائد في وقت السلم، كما هو القائد في وقت الحرب»، وعهد إلى المختصين دائمًا ببحث مشروعات الإصلاح، الذي يرضي الرأي العام، ويحفظ في الوقت نفسه حقوق الملك، ولم يكن من السهل تحقيق هذه الغاية، وأسفرت كل هذه المشروعات التي يقبلها تارة ويرفضها تارة أخرى بسبب تردده المستمر، على إشاعة الفوضى في الإدارة البروسية، وإلحاق الأذى والضعف بتلك الحكومة، التي بقيت حتى هذا الوقت تقوم بوظائفها خير قيام، الأمر الذي نجم منه زيادة التذمر، ثم ازدياد المطالبة بالإصلاح، وإتاحة الفرصة لتآمر أعدائه، وانتهى الأمر بأن أصدر فردريك وليم قرارًا في ٣ فبراير ١٨٤٧ بإنشاء دياط لاندتاج Landtag مُوحَّد لبروسيا.
وهذا الدياط الْمُوحَّد (لاندتاج)، سوف يكون بمقتضى قرار إنشائه مجلسًا يجتمع في برلين، ويضم إليه كل الدياطات الإقليمية، التي تنعقد معًا لبحث المسائل المالية، والتي تتوزع في هيئتين أو طبقتين Curia هيئة أو مجلس السادة، ثم مجلس الطبقات الثلاث الأخرى؛ النبلاء، والطبقة المتوسطة (البورجوازية) في المدن، وطبقة أهل الريف — المزارعين — وواضح أنَّ طبقة النبلاء كانت صاحبة الغلبة أو الأكثرية في هذا الدياط الْمُوحَّد (لاندتاج)، الذي تألَّف من «دياطات» الأقاليم مجتمعة، وكان النبلاء أصحاب الغلبة والأكثرية كذلك في هذه الدياطات الإقليمية، ويملك هؤلاء النبلاء في هذا (اللاندتاج) ثلاثمائة صوت، في حين أنهم يبلغون حوالي عشرة آلاف، يملكون عقارًا؛ ومن المعروف أنَّ أصحاب الأملاك العقارية (والأرض)، هم الذين كان لهم وحدهم من قديم الزمان حق الانتخاب،١٠٠ وأما سائر الطبقات، فلم يزد عدد الأصوات لها على واحد وثمانين صوتًا، في حين بلغ عدد أفرادها أربعة ملايين، ثم إنه لم تكن لهذا الدياط الْمُوحَّد (لاندتاج) غير سلطات أو اختصاصات محدودة وضيقة، لا تعدو الاقتراع على الضرائب الجديدة وتقديم العرائض، في حين احتفظ الملك لنفسه بحق مشاورة «اللاندتاج» في القوانين التي يبغي استصدارها، وزيادة على ذلك، لم يكن ينعقد هذا الدياط الْمُوحَّد في دورات معينة، ولكن الذي ينعقد كل سنة، حسب قرار إنشائه، كان لجنة مؤلَّفة من ثمانية أعضاء، كل واحد منهم يمثل مقاطعة معينة، ومهمة هؤلاء الاستماع للتقارير التي تعرضها الحكومة.

وواضح أنَّ هذا الإصلاح كان إصلاحًا وهميًّا ولا قيمة له، زاد من وهميته أنَّ الملك في خطاب افتتاح «اللاندتاج» في ١١ أبريل ١٨٤٧، حرص على تأكيد مفهومه عن سلطاته وحقوقه الملكية، كما كان يمارس الملوك والأمراء هذا السلطان وهذه الحقوق طوال العصور الوسطى، وأنكر أنَّ للشعب أية حقوق أو أي سلطان.

ولقد قوبل هذا الإصلاح البروسي — إذن — بشعور عميق بخيبة الأمل، حتى إنه سرعان ما أخذت تظهر في داخل المجلس الجديد (لاندتاج) مقاومة من العناصر الحرَّة، غرضها حمل الملك على زيادة السلطات أو الحقوق التي «تنازل» عنها للمجلس، وأَيًّا كان الأمر فقد دَلَّ اجتماع الدياط الْمُوحَّد (لاندتاج) كهيئة ذات كيان معترف به في الدولة مع وجود «الملك»، على أنَّ بروسيا القديمة، الدولة التي تهيمن عليها الملكية والأرستقراطية النبيلة، والتي لم يكن قط يخطر ببال المسئولين منها أن ثمة تعاون قد يقوم بين أهل البلاد والحكومة؛ نقول: دَلَّ اجتماع «اللاندتاج» على أن هذه الدولة قد ماتت وانقضت أيامها فعلًا، وراح البرنس وليم «غليوم» شقيق الملك — والإمبراطور غليوم الأول فيما بعد — يندب — والأساسي يمزق أحشاءه — اختفاء بروسيا التي عرفها من زمن بعيد بروسيا «القديمة».

(١٣) مسألة شلزويج هولشتين

وفي الوقت الذي قامت فيه حركة الإصلاح الذي أوضحنا معالمه في بروسيا، أُثيرت في ألمانيا في سنة ١٨٤٦ مسألة «شلزويج هولشتين»، الدوقيتين اللتين تملكهما الدانمرك، وتلك مشكلة سبقت الإشارة إليها عند الكلام عن «فردريك داهلمان»، وذات أهمية فردية من حيث إنها تكشف عن «أطماع» الحزب القومي الألماني، والأساليب التي عمد إليها في تحقيقها، ولقد سبق أن تكلمنا عن الحركة التي قامت في هاتين الدوقيتين من أجل الانضمام إلى الاتحاد الألماني، أما المسئولون عن إثارة الكراهية في الدوقيتين، وخصوصًا في هولشتين ضد الحكومة الدانمركية، فكان أساتذة جامعة «كييل» وهم الذين استثاروا الأهلين للمطالبة بالانضمام إلى ألمانيا، وكان «داهلمان» هو محرك هذه الحملة من مدة سابقة في العقدين الثاني والثالث من هذا القرن (التاسع عشر). ولقد حدث ابتداء من سنة ١٨٤٠ أن قويت هذه الدعاية «البروبجندا» الألمانية في الدوقيتين، بفضل مساهمة أساتذة آخرين في الحركة، ومن نفس جامعة «كييل» أيضًا، نذكر على الخصوص «جوهان درويزن» — وقد سبق الكلام عنه — ثم نيقولاس فالك Falck، وكان الأخير شلزويجي المولد، تزعم الوطنيين بالدوقيتين بعد رحيل «درويزن» في سنة ١٨٢٩، عندما تَعَيَّنَ أستاذًا بجامعة «جوتنجن».
وقد أثار هؤلاء الفقهاء والمؤرخون الألمان مسألة متعلقة بحقوق وراثة الحكم في الدوقيتين، وذلك أنه كان لملك الدانمرك «كريستيان الثامن» ولد واحد، ولم يكن لهذا الابن وارث للعرش، فأثار الألمان ترشيح فردريك من أسرة أوجستنبرج Augustenburg، وبسبب هذه «المطالب» الألمانية إذن، وقع الملك في كوبنهاجن تحت تأثير الحزب الوطني الدانمركي إيدر دانسك Eider-Dansk — نسبة لنهر «الإيدر» الصغير الذي يفصل الدوقيتين عن سائر الدانمرك، فأعلن كريستيان الثامن في «خطاب مفتوح» في ٨ يوليو ١٨٤٦ حلًّا لموضوع الوراثة، توثقت بفضله الروابط بين شلزويج، ولونبرج Launberg — والأخيرة دوقية تتألَّف منها مملكة الدانمرك كذلك — وبين الدانمرك، في حين أعلن الملك استعداده للتخلي عن هولشتين، وأنْ يجعل منها تبعًا لذلك شخصية منفردة سياسية، من الواضح أنها سوف تكون «ألمانية»، وذلك في نطاق الدولة الدانمركية.
وكان معنى هذا «الحل» الذي أعلنه الملك؛ اقتسام الدوقيتين بصورة تؤدي إلى إدماج «شلزويج» في الدانمرك، وترغم الوطنيين الألمان إذا تنفذ هذا «الحل» على التخلي عنها، فكان رد الفعل الذي حدث عظيمًا، وثارت ثائرة الألمان ليس في «هولشتين» وحدها فحسب، بل وفي كل أنحاء الاتحاد الكونفدرائي الألماني، وكانت عاصفة هوجاء، فأصبح الأساتذة في جامعة «كييل» ضد هذا الخطاب المفتوح، وانهالت العرائض من كل الجامعات الألمانية تؤيِّد هذا الاحتجاج، وتناصر «قضية» الألمان في هاتين الدوقيتين، وأصدر «داهلمان» كراسة في هذا الموضوع للدعاية، وكتب الشاعر المسن «آرندت»؛ كي يُذَكِّر الناس أنَّ بَحري الشمال والبلطيق بقيا خلال ثلاثمائة سنة مياهًا ألمانية، وحتى يذكروا أنَّ الإنجليز والبلجيكيين والهولنديين قد أعتقوا بحر الشمال من الألمان، وأنَّ هؤلاء الأخيرين (الألمان) سوف يفقدون حتمًا بحر البلطيق كذلك، إذا هم تخلوا عن دوقية «هولشتين»، ثم سرعان ما ظهرت الأناشيد والأغاني الشعبية على نحو ما حدث أثناء أزمة سنة ١٨٤٠، وحتى يقيموا الدليل على اعتبار الألمان الدوقيتين أجزاء من ألمانيا، عقد في سنة ١٨٤٧ العلماء وفقهاء اللغة الألمانية، والمؤرخون … إلخ مؤتمرًا في لوبك Lubeck، وفي هذا المؤتمر انبرى الأخوان جاكوب وويلهلم جريم Grimm، والمؤرخ «داهلمان» يطالبون بضم شلزويج هولشتين إلى ألمانيا.
ولقد كانت هذه المسألة التي ظهرت في سنتي ١٨٤٦، ١٨٤٧، بمثابة تمهيد لحركة الجامعة الجرمانية Pangermanisme التي اضطلع بها «برلمان فرانكفورت»، وأكدها بعنف في العام التالي (١٨٤٨).

(١٤) ثورة ١٨٤٨

وهكذا كان هياج الخواطر قد صار عامًّا، وبلغ ذروته عشية «ثورة ١٨٤٨» في بروسيا؛ بسبب الرغبة الملحة في الحصول على إصلاحات سياسية ذات قيمة، وفي ألمانيا في صالح الوحدة الألمانية، فجمعت الأحزاب المختلفة صفوفها، واستطاع الراديكاليون الأحرار عقد اجتماع في أوفنبرج Offenburg في ١٢ سبتمبر ١٨٤٧، في حين عقد (الاتحاديون) — المطالبون بالوحدة القومية — مؤتمرًا آخرَ في هيبنهايم Heppenheim في ١٠ أكتوبر من السنة نفسها، ولقد وضع هؤلاء المعتدلون برنامجهم، على أساس المطالبة بالوحدة، وامتزجت لذلك المطالب القومية بالمطالب الدستورية (الحرَّة)، ولو أنَّ المطالب القومية كانت أكثر تعقيدًا من مثيلتها في إيطاليا؛ لأن معاني أو مدلولات «القومية» كانت — كما رأينا — متعددة في ألمانيا، بل لقد شاهدنا في ألمانيا الفكرة القومية مرتبطة كذلك بفكرات من عناصر رجعية، فيرى كثيرون أنَّ أيديولوجية القومية الألمانية، أكثر اختلاطًا وتنوعًا من أيديولوجية القومية الإيطالية، ثم إنَّ الحياة الاجتماعية في ألمانيا، كانت أكثر تعقيدًا منها في إيطاليا، ففي ألمانيا تركيب من الطبقات لا يصادفه المرء في إيطاليا، فهناك في أسفل السلم كتلة الشعب الراكد أو الخامل الذي لا يهتم بالمطالب القومية والدستورية، ولا يشترك في الهياج الذي يصحب هذه المطالب، وذلك في ألمانيا وإيطاليا على السواء، وهناك في أعلى السلم طبقة متوسطة (أو بورجوازية) مستنيرة بدرجة فائقة، استطاعت أنْ تثري ثراءً عريضًا؛ بسبب نشاطها الاقتصادي، وشرعت تعمل «لتصنيع» البلاد وخصوصًا في الغرب، وفي سكسونيا وسيلزيا، الأمر الذي لم يكن له وجود في إيطاليا، وهناك طبقة النبلاء، وكان هؤلاء — فيما عدا نبلاء الغرب — لا يزالون يتمتعون بالامتيازات الإقطاعية، وهم على كل الأحوال قد كانوا جميعًا، وفي كل مكان أصحاب أملاك وعقارات.

وواضح أنه قد وُجد في ألمانيا إذن ثلاث طبقات، تتميز كل واحدة منها عن الأخرى؛ النبلاء، والبورجوازي، والطبقة العامة أو الدنيا على أنَّ الذي يجب ذكره؛ أنه كانت هناك رابعة بين طبقتي النبلاء والبورجوازي، لا وجود لها في إيطاليا، ولا في فرنسا، ونعني بذلك ما يمكن تسميته بطبقة «الأشراف الملقبين»، وهذه تتألَّف من أساتذة الجامعات، وكبار الموظفين، والقضاة المحليين، إنَّ من أولئك الذين تشدهم الحكومة إليها، وينالون منها مرتباتهم، وألقابهم ووظائفهم … إلخ، والذين يطمحون إلى الاختلاط بالأوساط النبيلة، ويشكلون عنصر انتقال من البورجوازية، التي كانوا ينتمون إليها أصلًا، إلى الأرستقراطية التي يتطلعون للاندماج فيها.

ومما يجدر ذكره أنَّ الشعور بالإقليمية والمحلية بقي قويًّا في ألمانيا أوَّلًا؛ لأن الحكومات المحلية — أي الهيئات الإدارية والموظفين في الأقاليم — تشبثت «بالمحلية»؛ خوفًا من الاندثار، ولأن شعور المحلية استمر قويًّا لدى أقسام من الأهلين الذين في كل «دولة» أو حكومة محلية، كانوا يتميزون «بوطنيتهم» الإقليمية المتطرفة، «فالوطنيون» البروسيون، لا تزال وطنيتهم بروسية، والذين في بفاريا بقيت «وطنيتهم» بفارية، ولم يكن معنى «الوطنية» أنه قد صارت هناك «وطنية عامة» ألمانية، أي لكل ألمانيا، ثم إنه كان هناك نوع من «اللامركزية» الذهنية أو الفكرية في ألمانيا — إلى جانب هذه المحلية الحكومية والسياسية — وهي لا مركزية ذهنية، لم يكن لها نظير في فرنسا مثلًا، فكان من شأن ذلك؛ أن أضحت ألمانيا مفتقرة إلى «الرأس» المدبرة والمنسقة؛ أي ذلك «الذهن» الواحد الذي في مقدرته أنْ يفرض ما يصدر عنه من نشاط على البلاد بأجمعها، وعلى نحو ما تفعله «باريس» مثلًا في فرنسا.

وأخيرًا، فقد كان يقبع وراء كل هذه العناصر المختلطة التي تألَّف منها المجتمع الألماني، بتياراته الفكرية المختلفة، وبنزعاته المحلية والإقليمية التي تعذر اندثارها ومحوها كلية، ثم بيقظة الشعور القومي ونموه به، وزيادة التمسك بالمبادئ الحرَّة والمطالبة بالحياة الدستورية، كان يقبع وراء هذا كله دولتان «أوروبيتان» عظيمتان، هما؛ بروسيا والنمسا (أوروبيتان)؛ لأن نشاطهما السياسي والدبلوماسي كان منذ بدايته على الصعيد الإداري، ولقد صار هذا النشاط ممتزجًا الآن وجزءًا لا يتجزأ من «النشاط» السياسي والدبلوماسي العام في ألمانيا.

وعندما تحين الفرصة لانتقال الألمان من دور «التفكير» في الوحدة الأهلية (القومية) إلى دور تنفيذ هذه الوحدة التي صاروا يطالبون بها بحمية — وبقول آخر؛ عندما يحين وقت الثورة في سنة ١٨٤٨ — فإن كل المصالح، وكل النظريات المتعارضة التي شاهدناها، سوف تنطلق متخلصة من قيودها؛ لينتقض فعل كل واحد منها أثر فعل الآخر، وبدرجة أنَّ العمل من أجل تحقق الوحدة القومية قد أدى إلى انبعاث أو تولد كل قوى التفكك في ألمانيا؛ الأمر الذي يثير الدهشة حقًّا.

•••

ومع أنَّ دراسة الثورة التي قامت في ألمانيا (وفي بروسيا والنمسا خصوصًا) في غضون سنة ١٨٤٨ — عام الثورات في أوروبا — ضرورية لإدراك حقيقة القوى «المتضاربة» التي تحدثنا عنها، والتي انفكت عن عقالها الآن؛ نتيجة لكل التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي حصل في ألمانيا، ونتيجة ليقظة الشعور القومي ونمو «القومية» بها، وذيوع المبادئ الحرَّة في السياسة؛ أي قيام الحركة الدستورية، ثم إنشاء الزولفرين، نقول: إنَّ هذه «الثورة» متصلة كذلك بالإجراءات التي اتخذتها الحكومات «الرجعية» في ألمانيا وفي بروسيا والنمسا خصوصًا؛ لإخماد الثورة في السنوات القليلة التالية (١٨٤٩–١٨٥١)، بل إنَّ روسيا — الدولة الأوتقراطية الكبرى الثالثة في أوروبا — قد تدخلت لمساعدة النمسا في القضاء على الثورة الناشبة في المجر (هنغاريا)، وانتصرت القوات الروسية على الجيش الهنغاري في فيلاجوس Vilagos في ١٣ أغسطس ١٨٤٩.

ولذلك فإن ثورة ١٨٤٨ في ألمانيا (وفي بروسيا والنمسا وأملاكها)، إنما تؤلِّف قسمًا من دراسة تاريخ وسط أوروبا في الفترة التالية؛ أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

على أنه لا يجب الانتهاء من هذه الدراسة دون الإشارة على وجه الخصوص إلى الثورة التي قامت في فينا، ابتداء من يوم ١٤ مارس ١٨٤٨، والتي قامت على أكتاف الطبقة المتوسطة (البورجوازية)، مثلها في ذلك مثل الثورات التي قامت في أنحاء ألمانيا؛ في بروسيا وفي سائر المقاطعات النمسوية، وفي هنغاريا، فإنه لم تمضِ أيام ثلاثة على قيام الثورة في فينا حتى سقط «مترنخ»، واضطر إلى الفرار من فينا في ١٧ مارس ١٨٤٨.

حقيقة لم ينه سقوط «مترنخ» عهد الرجعية في أوروبا، وبمعنى آخر ذلك «النظام» الذي عرفه باسمه؛ لأن الحكومات في ألمانيا والنمسا «وفي إيطاليا» خصوصًا قد نجحت في قمع هذه الثورات واسترجاع سلطانها، ولكن الذي لا شك فيه أنه كان لكل هذه الثورات والاضطرابات التي تولدت لدرجة كبيرة، كرد فعل لهذا «النظام المترنخي» نفسه، أثر لا يمكن نكرانه، هو قيام الطبقة المتوسطة (البورجوازية)، وازدياد قوتها، والتي صارت تعتمد في حياتها على مطلبين يفوقان في أهميتها المباشرة كل مطلب آخر، ونعني بذلك مطلب إنشاء الحكومة الدستورية؛ أي المستندة على المبادئ الحرَّة، ومطلب تحقيق الوحدة الأهلية (القومية)، وكان معنى الظفر بهذين المطلبين وصول الطبقة المتوسطة (البرجوازية) إلى السلطة والحكم، «نظام» الدولة الوطنية القومية، وبذلك يكون انتهى الصراع بين البورجوازية والإقطاع في أوروبا إلى تمكين هذه البورجوازية من فرص سيطرتها على أوروبا، وحول هذه الحقيقة — سيطرة البورجوازية — يدور تاريخ أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

١  جوهان Johann جوزيف جوريز، انظر الفصل التاسع.
٢  Federal act (Bundesakte) 9-10 June 1815.
٣  Theodore anton heinrich schmalz.
٤  William lewis georga wlttgenstein prince of sayn 1770–1851.
٥  Friedrichg ludwig iahn.
٦  Frisch – trei – froh – fromm.
٧  Vernunffturnplatz (gymnasium) of reason.
٨  رفقاء Burchen = Comrades.
٩  Allegemeine deutshe burschenschaft.
١٠  من المتفق عليه أنَّ كاتب هذه الكراسة أحد الصحفيين والناشرين الأحرار من كورلاند، يُدعى؛ ليندر Lindner، وأنَّ الذي راجعها للنشر كان أحد الأساتذة هو جورج إريشزن Erichsen.
١١  Idealogie – Ideology.
١٢  Ecole Traditionaliste.
١٣  Vom beruf unserer zeit fùr gesetzgebung und rechtswis — senschaft (1814).
١٤  انظر المجلد الأول عن مونتسكيو ص١٥٠ وما بعدها، وأدموند بيرك ص٤٤٦.
١٥  انظر المجلد الأول عن مونتسكيو ص١٥٠ وما بعدها، وأدموند بيرك ص٤٤٦.
١٦  Restauration der staats – wissenschaft, oder, theorie des Natürlisch – geselligen zustandes der chimare des künstlich – bürgerlichen entgegengesetzt.
١٧  Niebuhr-B. G. romische geschichte (1814).
١٨  Gazette de bamberg.
١٩  La Phénoménologie de l’esprit.
٢٠  Science de la logique.
٢١  Encyclopédie des sciences philosophlques.
٢٢  Les principes de la philosophie du droit. وله ترجمة إنجليزية بقلم دان Dyde في سنة ١٨٩٦ The philosophy of right.
٢٣  نُشرت ترجمة إنجليزية لهذه الدراسة صاحبها سيبري J. Sibree سنة ١٩٠٠ بعنوان: The philosophy of history.
٢٤  Individualisme.
٢٥  Bürgerliche gesellschaft.
وقد عَرَّبه البعض بالمجتمع البورجوازي، ولكن هذا المعنى كان بعيدًا عن ذهن «هيجل».
٢٦  انظر كتابنا؛ ألمانيا النازية، دراسة في التاريخ الأوروبي المعاصر (١٩٣٩–١٩٤٥)، القاهرة ١٩٤٨.
٢٧  انظر كتابنا (بالاشتراك)؛ أوروبا في العصور الحديثة (من النهضة الإيطالية حتى الثورة الفرنسية)، طبعة ١٩٥٦-١٩٥٧، صفحة ٩٩.
٢٨  Gazette de la croix.
٢٩  Présidend supérieur.
٣٠  Nebenius, C. F. der deutche zollverein. Carlsruhe 1837.
٣١  Accise — excise Duty.
٣٢  Schwarzburg – Sonderhausen.
٣٣  Europaische blatter.
٣٤  Allegmeine zeitung.
٣٥  Politische annalen.
٣٦  Morgenblatt.
٣٧  Literatur blàtt.
٣٨  Deutsche literatur.
٣٩  Tableaux à Paris.
٤٠  La Blance.
٤١  Staatslexicon der encyclopaedie der staatswissenschaften new, ed. 12 (vols) Atlanta 1846–9.
٤٢  Allgemeine geschichte.
٤٣  Junges deutschland.
٤٤  Briefwechsel zweier deutschen.
٤٥  Historischpolitische zeitscrift.
٤٦  Deustsche Grammatik – jeutche rechtsaltertümer – deutsche mythologie.
٤٧  Essence du Christianism.
٤٨  Le christiauisme dévoilé – das entdeckte christenthum.
٤٩  راجع المجلة الأولى صفحة ٦١ وما بعدها.
٥٠  Le Saint-Simonisme.
٥١  Christian friedrich.
٥٢  Lettres d’un habitant du Genéve.
٥٣  A chacun selon sa capacité; à chacaue capalité selon, ses oe uvres.
٥٤  Le paysan hessois.
٥٥  Die grosse magenfrage.
٥٦  La Mort du danton.
٥٧  Cosmopolitisme أو العالمية.
٥٨  Junges deutschland.
٥٩  Libéralism rhenan.
٦٠  Privatdozent.
٦١  Cosmopolo tisme.
٦٢  Brfefe aus paris.
٦٣  Tableaux de paris.
٦٤  انظر كذلك المجلد الأول.
٦٥  Propriétés éguestres.
٦٦  Province rhénane.
٦٧  Prusse et prussianisme.
٦٨  Assoclation des justes.
٦٩  De la prusse et de sa dcmination sous les rapports pohitiques et religieux, specialement dans les nouvelles provinces.
٧٠  Gazette de mayence.
٧١  Rheinisches iahrbuch.
٧٢  أنظر الفصل الثالث من الكتاب الرابع في هذا المجلد.
٧٣  Souvenirs sur le rhin.
٧٤  Sie sollen ihn nicht haben, den freien deutschen thein.
٧٥  Die wacht am rhein.
٧٦  Deutschland über alles.
٧٧  Lettre d,un prussien rhéaan à m. mauguin.
٧٨  Lafrance, L’allemagne et la sainte – alliance despeuples.
٧٩  Das nationale system der politischen ockonomie (1841).
٨٠  Mercantile system – Mercantilism.
٨١  Zollvereinsblatt.
٨٢  Recherches sur le domaine de l’histoire allemande.
٨٣  Die politik auf den grund der gegebenen zustande zur – uckgefuhrt.
٨٤  Geschichte der Deutschen Dichtung.
٨٥  Deutsche Zeitung.
٨٦  Hallische Jahrpücher für Deutsche Wissenschaftuno Kunsteipzig 1838–1841.
٨٧  Rheiniache zeitung fur politik, handel und gewerbe. (ko in 1842-1843).
٨٨  توفى «يونجنتز» في سنة ١٨٤٨.
٨٩  Ligue des communistes.
٩٠  خطاب «إنجلز» إلى «ماركس» في باريس في ٢٣ أكتوبر ١٨٤٦.
٩١  هذا المؤلَّف فرغ منه صاحبه بالألمانية بين سبتمبر ١٨٤٤ ومارس ١٨٤٥، ثم نُشر الكتاب في ليبزج في سنة ١٨٤٥، ثم ظهرت الطبعتان الإنجليزية والأمريكية بعد نقل الكتاب إلى الإنجليزية في نيويورك سنة ١٨٨٧، وفي لندن ١٨٩٢ بالعنوان المذكور أعلاه؛ The Condition of the Working – Clan in England in 1844.
٩٢  لوي بلان (١٨١١–١٨٨٢) اشتراكي، لعب دورًا كبيرًا في القضاء على ملكية يوليو في فرنسا. نشر كتابه عن تنظيم العمل Grganisation du Travil سنة ١٨٤٩، وهو الكتاب الذي صار بمثابة «الإنجيل» الذي استرشدت به ثورة فبراير ١٨٤٨ بفرنسا. أنظر عنه الفصل الرابع من هذه الدراسة (والمتعلق بفرنسا من ١٨١٥ إلى ١٨٤٨).
٩٣  Joseph Maria Von radowitz.
٩٤  Ernst moritz Arndt (1769-1870).
٩٥  غير الفيلسوف فردريك هنريك جاكوبي، انظر المجلد الأول من ٤٤٢، ٤٥٢.
٩٦  Vier fragen beantwortet von einem ostprevssen.
٩٧  Woher und wotrin؟
٩٨  Konisberg Zeitung.
٩٩  صحيفة البريد Postamts zeitung.
١٠٠  انظر قبله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤