الفصل العاشر

كيف أصبحت الصين غنية

ها أنا أصيح: «يا إلهي.»

كنت وقتها أقف إلى جوار زوجتي في متنزه «رينمين جونجيوان» Renmin Gongyuan أو متنزه الشعب الذي يوجد في وسط مدينة شنغهاي، الذي يعد بمنزلة متنزه سنترال بارك ولكن على طريقة القرن الحادي والعشرين. جعلني هذا المتنزه أشعر بنفس ما شعرت به عند أول زيارة لي لحي مانهاتن الذي يوجد به متنزه سنترال بارك؛ فالسير في فضاء المتنزه أشعرني بالاندفاع الذي يصيب المرء بالدوار حيث إن هذا السير يشعرنا بالتأثير البصري الكامل لناطحات السحاب في شنغهاي. وإحدى هذه الناطحات قد بنيت على غرار ناطحة سحاب شركة كرايسلر في نيويورك ولكن بمعايير عالمنا الحديث، حيث يعلو ناطحة السحاب هذه تاج بديع له أربعة نتوءات متقابلة تتلاقى كلها في نقطة مثالية؛ وقد بني البرج بحيث يدور بأكمله حول محوره بزاوية خمس وأربعين درجة، ولهذا فإن الطوابق الأربعين العلوية تقف بمنزلة خط قطري بالنسبة إلى الطوابق الأربعين السفلية. ويفتخر مبنى آخر بقبته الزجاجية الهائلة المعلقة وتحمل فوقها ستين طابقًا تشرف على المدينة. ولم تكن كل التصميمات المعمارية تتمتع بذوق رفيع: فقد كانت إحداها ذات سقف تعلوه قبة تبدو وكأنها سُرقت من فيلم «الطبق الطائر» الذي عرض في خمسينيات القرن العشرين. أعتقد أنه يوجد هناك نحو ثلاثين ناطحة سحاب، منها ست بنيت وفق مقاييس معمارية رائعة، وجميعها تتمتع بأنظمة معمارية جديدة تمامًا.

تعجبت زوجتي فران: «يا للعجب!»

قلت: «متى كانت آخر مرة زرت فيها شنغهاي؟»

قالت: «منذ عشر سنوات.»

فكرت للحظة: «ترى كم كان عدد أمثال تلك البنايات منذ عشر سنوات؟»

قالت: «أترى ناطحة السحاب هذه؟»

قلت: «أتقصدين ذلك المبنى الإداري المكعب ذا الأربعين طابقًا؟»

قالت: «لا، المبنى الأسفل منه.» وأشارت إلى بناية ذات اثني عشر طابقًا مبنية بالطوب الأحمر، وقد جعلتها البنايات الحديثة الأخرى تبدو كالقزم بجوارها.

قلت: «نعم، رأيتها.»

قالت: «هذه كانت أعلى بناية منذ عشر سنوات.»

صحت: «يا للعجب.»

يا له من طموح مثير للبهجة. ففي غضون عشر سنوات فقط نجح أهل شنغهاي في صنع محاكاة واضحة لحي مانهاتن. فماذا كان سيفعل أهل نيويورك لو كانوا مكانهم؟ لا أدري. لقد جعلنا الصينيون نبدو نحن سكان لندن كقرويين ساذجين.

ومع ذلك فالأمر مختلف تمام الاختلاف. فالصين ظلت أفقر من الكاميرون أغلب فترات القرن العشرين. وفي عام ١٩٤٩، عندما برزت إلى الوجود جمهورية الصين الشعبية، تمزقت أكبر دولة في العالم بفعل الحرب الأهلية، وتولى زمام حكمها نظام دكتاتوري شيوعي. وفي أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، لقي الملايين من أفراد شعبها حتفهم في مجاعة أحدثتها السياسات الفاشلة التي كانت تنتهجها الحكومة. وفي الستينيات، قضت الثورة الثقافية على نظام التعليم الجامعي حينما أجبرت المواطنين المتعلمين على العمل في الأرياف. وبعد هذا كله، كيف أصبحت الصين الدولة صاحبة أعظم نجاح اقتصادي في التاريخ؟

(١) ثورتان زراعيتان

زيارة واحدة إلى شنغهاي تكفي لإثارة هذا السؤال الذي يمكنك أن تجد مفاتيح إجابته في جميع أنحاء الصين. وقد عثرت على بعض هذه المفاتيح أثناء رحلتي بالقطار إلى مدينة زينجزو الصينية الداخلية Zhengzhou.

كان القطار نفسه أول مفتاح: فقد كان غاية في الراحة، وأسرع، وأكثر انضباطًا من القطارات التي تركتها ورائي في إنجلترا. وبدا جليًّا أن طرق الصين وشبكة قطاراتها في حالة رائعة. أما ثاني المفاتيح فهو أنه من الواضح أن الصينيين لديهم نظام تعليمي ممتاز؛ إذ تلقيت هزيمة ساحقة في لعبة الشطرنج على يد شاب لم يتعد حدود الأدب بعد فوزه علىَ وهو حاصل على درجة الدكتوراه في علم الاقتصاد ولم يغادر الصين قط، بيد أنه كان يتحدث الإنجليزية على نحو معقول، وكان يُحسن اختيار الكلمات. وثالث المفاتيح هو أنه على الرغم من ازدحام القطار، لم يكن بينهم إلا عدد قليل من الأطفال أو عائلات ذات أعداد كبيرة. والواقع أن سياسة «الطفل الواحد» التي تنتهجها الصين خلقت مجتمعًا يمكن أن تجد فيه المرأة وقتًا للعمل، وتجد معظم الشعب من متوسطي العمر، فلا هم بشيوخ ولا هم بأطفال، ممن يدخرون للمستقبل. وقد قدمت هذه المدخرات الهائلة ما يلزم من مال للاستثمار في الطرق والقطارات إلى غير ذلك من المرافق. تمتلك الصين، على أقل تقدير، الموارد البشرية، والبنية التحتية، ورءوس الأموال التي تتطلبها الأنماط التقليدية للنمو الاقتصادي. ومع ذلك، فلم يبدو دائمًا أن هذه الموارد قد استخدمت على نحو جيد؛ ونحن نعلم بالفعل أن هذه الموارد سوف تهدر ما لم توجد الدوافع المناسبة لاستغلالها.

وفي ظل حُكم الزعيم ماو Mao، كان الإهدار هائلًا. في البدء ارتكزت جهود التنمية الصينية على دعامتين: أولاهما، الاستثمار العملاق في الصناعات الثقيلة مثل الصلب. والأخرى تطبيق تقنيات زراعية خاصة لضمان حصول العدد الهائل لسكان الصين على الطعام. أما ما كانت تحاول تلك السياسة أن ترمي إليه، فقد كان مفهومًا. فالمقاطعات الشمالية في الصين غنية بالفحم عالي الجودة، الذي يمكن أن يشكل من الناحية المنطقية أساسًا للثورة الاقتصادية. وفي حقيقة الأمر فقد كان الفحم، والصلب، والصناعات الثقيلة بمنزلة الأساس الذي قامت عليه الثورة الصناعية في الاقتصاديات القائدة في العالم مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة وألمانيا. وفي الوقت نفسه، كان لزامًا أن تعد الزراعة أولوية بالنسبة لأي حكومة صينية لأن الأراضي الخصبة كانت شحيحة، وتكفي بالكاد لإطعام أفواه شعب يبلغ تعداده مئات الملايين من البشر. تطلعت من نافذة القطار المتجه إلى مدينة زينجزو إلى مقاطعة هينان Henan أكثر المقاطعات الصينية كثافة من حيث عدد السكان. وكانت صحراء تقل درجة الحرارة المئوية فيها عن الصفر.
أما هذه الدفعة التنموية ثنائية الاتجاه، فقد اصطلح على تسميتها باسم «قفزة عظيمة للأمام» Great Leap Forward. صحيح أنها كانت تبدو ذات مغزى، إلا أنها مثلت أكبر فشل اقتصادي عرفه العالم في تاريخه. فالزعيم ماو انتهج سياسة اقتصادية قائمة على منطق خفي بأنه إذا بذل الشعب ما في وسعه من جهد، فسيغدو المستحيل ممكنًا، فالحماس وحده كافٍ لإحداث المعجزة. وعندما طُلب إلى القرويين بناء أفران الصلب في الأفنية الخلفية لمنازلهم في حين يعوزهم الحديد الخام الذي سيصهرونه في هذه الأفران، لجأ بعض القرويين إلى صهر أدواتهم المصنوعة من الحديد ومن الصلب بل وحتى مقابض الأبواب؛ لتحقيق حصص الإنتاج التي كانت تطلبها منهم الدولة. حتى إن الطبيب الشخصي للزعيم ماو أعرب عن قلقه من حكمة سياسة تهدف إلى «تدمير السكاكين لإنتاج السكاكين.» وفي حقيقة الأمر فقد كان الصلب الخارج من تلك الأفران لا يصلح للاستخدام.

وإذا كانت السياسة الصناعية بمنزلة مسرحية هزلية، فقد كانت السياسة الزراعية بمنزلة مأساة تراجيدية. فقد انتزعت «القفزة العظيمة للأمام» العديد من الفلاحين من عملهم في الحقول للعمل في هذه الأفران، أو في أعمال الخدمة العامة مثل السدود والطرق. كما طلب ماو إلى الشعب قتل الطيور التي تقتات على الحبوب، فانفجر طوفان من الآفات الحشرية نتيجة لهذا التصرف. حتى إن ماو نفسه أعاد تصميم التقنيات الزراعية الصينية، فجعل نثر البذور يتم بطريقة قريبة جدًّا من بعضها البعض، وجعل بذرها على عمق أكبر لزيادة كثافة المحاصيل. ولكن ما حدث هو أن الأرز الذي زرعت حباته قريبة جدًّا من بعضها لم يتمكن من النمو، وفي الوقت نفسه، ومن أجل الرغبة في إسعاد الزعيم ماو، كان المسئولون في الحزب الشيوعي يقدمون عروضًا زائفة — أشبه بالعروض المسرحية — عن نجاح الزراعة والصناعة. وعندما سافر ماو بالقطار ليمتع عينيه بثمرات نجاح سياسته، بني المسئولون المحليون أفران الصلب بعضها إلى جوار بعض بطول شريط القطار، وجلبوا شتلات الأرز من أماكن تبعد أميالًا لإعادة زرعه، بنفس الكثافة المحددة رسميًّا في التقنيات الزراعية الخاصة، وفي حقول متجاورة. ولم تكن لتفلح تلك التمثيلية دون استخدام المراوح الكهربائية لتوزيع الهواء، وحماية شتلات الأرز من التعفن.

وبالطبع تراجع إنتاج المحاصيل، ولكن حتى ذلك كان من الممكن عدم النظر إليه ككارثة إذا لم يكن هناك هذا الإصرار الحكومي على أن هذه السياسة يمكن أن تأتي أُكلها. فعندما أثار وزير الدفاع في اجتماع وزاري قضية تعرض الشعب الصيني للمجاعة، عوقب وطلب منه أن يكتب في نفسه «نقدًا ذاتيًّا». أما المسئولون الأقل نفوذًا الذين أنكروا وجود فائض إنتاج في الدولة، فقد عُذبوا. فبينما كانت المحاصيل تتلف، ضاعفت الصين، كدليل على نجاحها، صادراتها من الغلال في الفترة من عام ١٩٥٨ إلى عام ١٩٦١. وفي مقاطعة هينان — التي نمر عليها الآن في راحة بعد خمسة وأربعين عامًا فقط من تلك الأحداث — كانت مخازن الغلال تحوي طعامًا كافيًا للشعب، إلا أنها ظلت مغلقة لأن الوضع الحكومي الرسمي يفيد بوجود فائض في الغلال. وفي الوقت نفسه فقد لقي الناس حتفهم جوعًا وهم محاصرون بالثلوج خارج هذه المخازن. وبينما تركت بعض الجثث دون دفنها، فقد أكل بعض اليائسين من الأحياء جثث الموتى من عائلاتهم؛ وكلا الأمرين غير مألوف.

تراوحت تقديرات أعداد الموتى بسبب المجاعة فيما بين عشرة ملايين إلى ستين مليون ضحية، أي ما يقارب عدد سكان إنجلترا، أو عدد سكان ولاية كاليفورنيا وتكساس مجتمعين. والمفارقة هي أن مسئولي الحكومة الصينية بعد اعترافهم فيما بعد بموت ثلاثين مليون شخص، ألقوا باللوم على سوء الأحوال الجوية.

وبالطبع لا يمكن لمثل هذه الكوارث أن تحدث في «عالم الصدق» الذي صغناه معًا في الفصل الثالث. صحيح أنه لا مناص في ذلك العالم من الأخطاء، بل ربما تكون أكثر عددًا في ظل التخطيط المركزي، ولكن الأخطاء تظل غير فادحة، ويطلق عليها في اقتصاديات السوق اسم «التجارب» وإذا ما دعم الرأسماليون المغامرون هذه التجارب، فإنهم لا يتوقعون أن ينجح منها الكثير، فعندما تنجح هذه التجارب، فإنها تجعل بعض الناس أثرياء وتقدم أفكارًا جديدة للاقتصاد ككل. أما عندما تفشل، وهو أمر وارد الحدوث بنسبة أكبر، فإن بعض الناس سوف يتعرضون للإفلاس ولكنها لن تتسبب في موت أحد من الجوع. فالأنظمة الاقتصادية الموجهة حكوميًّا هي وحدها التي تساعد على حدوث التجريب بمثل هذا المقياس المتطرف على نحو قاتل وكذلك قمع أي نقد ذي حس مستنير. (لم يكن ماو الوحيد من نوعه. فالرئيس السوفييتي «نيكيتا خروتشوف» Nikita Khrushchev، ارتكب خطأً مماثلًا بعد زيارته للولايات المتحدة عندما طلب أن يعيد السوفيت زراعة الحقول بالذرة التي رآها تنمو في ولاية أيوا، وكان فشله نكبة). ويجدر بنا تذكر أن فشل الأسواق، على الرغم من خطورته في بعض الأحيان، إلا أن المآسي الناتجة عن هذا الفشل أقل بكثير إذا ما قورنت بالفشل الذي تتسبب به حكومات مثل حكومة ماو.
وفي عام ١٩٧٦، بعد ارتكابه العديد من الجرائم إزاء شعبه، مات ماو، وبعد فترة انتقالية وجيزة، حل محله هو وأعوانه الزعيم «دينج زياوبينج» Deng Xiaoping وحلفاؤه في ديسمبر عام ١٩٧٨. وبعد خمس سنوات فقط، شهد اقتصاد الصين تحولًا صعب التصديق. ونما الإنتاج الزراعي، الذي طالما كان يصيب المخططين الصينيين بالصداع، بنسبة ٤٠٪، لماذا؟ لأن هؤلاء المُخطِطين صنعوا «العالم الصادق» في الصين. وكما اكتشفنا في الكاميرون من قبل، فإن الدوافع لها أهمية كبيرة، وقبل عام ١٩٧٨ تأثرت الصين بوجود بعض من أكثر الحوافز الضارة في العالم.

وقبل أن يعتلي دينج كرسي السلطة، كانت الزراعة الصينية تُنظم على المستوى المحلي عبر مزارع جماعية بحيث تتكون كل مزرعة من عشرين أو ثلاثين عائلة من المزارعين. وكان الأجر الذي يحصل عليه الناس يقاس ﺑ «نقاط العمل» التي كانت تمنح بِناءً على إنتاج المزرعة ككل. وهكذا لم تكن هناك فرصة كبيرة لتحول الفرد نحو الأفضل سواء عن طريق بذل الجهد الإضافي، أو عن طريق الإبداع. ونتيجة لذلك لم يكن هناك لا جهد إضافي ولا إبداع.

وقامت الحكومة أيضًا بشراء وإعادة توزيع الغذاء من المناطق التي يفيض إنتاجها منه، ولكنها كانت تفعل ذلك بسعر متدنٍ للغاية متسببة بذلك في الأمر الذي حط من همة المزارعين في العديد من المناطق الخصبة، ومنعهم من تحقيق أقصى استفادة من أراضيهم الزراعية. عمل الكثيرون من العمال القرويين لفترات مؤقتة، وكانت المفارقة أن النظام الذي أضعف الزراعة في الصين هو نفسه النظام الذي وضع من أجل زيادة الإنتاج الزراعي بها وجعلها دولة تتمتع بالاكتفاء الذاتي من الغذاء. وكان نصيب المواطن الصيني من الحبوب ضئيلًا عام ١٩٧٨ نفس ضآلته في منتصف الخمسينيات، أي قبل «القفزة العظيمة للأمام».

ولم يكن لدى دينج كثير من الوقت لمثل هذه الحماقة فبدأ على الفور في تنفيذ برنامج إصلاحي أعلن فيه أن «الاشتراكية لا تعني الفقر» ولأجل تحسين الزراعة، كان عليه أن يضع يده على الدوافع الصحيحة؛ إذ بدأ برفع السعر الذي كانت تدفعه الحكومة للمزارعين مقابل محاصيلهم بمقدار الربع تقريبًا. وارتفع السعر المدفوع للمحاصيل الفائضة بنسبة تزيد عن ٤٠٪، وقد ساعدت بالفعل على تحفيز المزارعين بالأراضي الخصبة لإنتاج مزيد من المحاصيل.

وفي الوقت ذاته، قامت بعض المزارع الجماعية بتأجير الأراضي الزراعية من الباطن إلى أسر صغيرة. وبدلًا من وضع القيود كالمعتاد، سمحت الحكومة بالابتكار لترى ما إذا كان سيثبت نجاحه أم لا، تمامًا مثلما يسمح اقتصاد السوق بتجارب ضيقة النطاق. وهكذا فقد أصبح لدى الأسر التي تؤجر الأرض من المزارع الجماعية كل الدوافع التي تحثها على العمل الجاد، وابتكار طرق أكثر ذكاءً لإنجاز العمل؛ لأنهم باتوا يحصلون على أجرهم مباشرة عبر نجاحهم. وسرعان ما زاد إنتاج المحاصيل، وانتشرت التجربة: ففي عام ١٩٧٩ كانت نسبة المزارع الجماعية التي تستخدم «نظام المسئولية الأسرية» ١٪ فقط، ولكن بحلول عام ١٩٨٣ تحولت نسبة ٩٨٪ منها إلى هذا النظام.

وارتبطت تلك الإصلاحات بعدد من مظاهر أخرى للتحرر: سُمح لسعر التجزئة للغلال بالزيادة، وبالتالي زاد الدافع لإنتاج ما كانت هناك حاجة إليه مسبقًا. وخُففت القيود على التجارة الداخلية بين الأقاليم وبعضها، وبات لكل إقليم إمكانية التمتع بميزته النسبية. وبعد ذلك رفع نظام حصص الإنتاج بالكامل.

وكانت النتائج مثيرة: فقد زاد الإنتاج الزراعي بنسبة ١٠٪ سنويًّا خلال النصف الأول من الثمانينيات من القرن العشرين، والأكثر إثارة أن أكثر من نصف هذه الزيادة لم يكن سببها العمل الجاد أو استخدام مزيد من الميكنة الزراعية وإنما كان سببها استخدام طرق فعالة في الزراعة والحصاد. وفي الحقيقة فقد عزوت زيادة الإنتاج لحد كبير إلى نظام المزارع الجماعية. وفي الخمسة أعوام التالية لهذه الإصلاحات، تضاعف متوسط الدخل الحقيقي للمزارعين. وهكذا فقد كان دينج وليس ماو هو الذي حقق القفزة العظيمة للأمام بفضل استخدام قوة الأسواق والأسعار.

يمكن فهم هذه الإحصائيات فهمًا جيدًا بمراجعة الفصل الثالث وما يقود إليه عالم الصدق. قدم دينج عالم الصدق إلى الزراعة الصينية بالصدفة حينًا وبالتجاهل حينًا وحينًا بالتخطيط. وهكذا فقد أقبلت الدنيا على ذوي الأفكار الجيدة والحظ السعيد وعلى الذين عملوا بجد واجتهاد. وسرعان ما تخلى الناس عن الأفكار السيئة، وانتشرت الأفكار الجيدة بسرعة كبيرة، وزرع الفلاحون المحاصيل التي تدر كثيرًا من الربح وخصصوا قدرًا أقل من الجهد للمحاصيل صعبة الزراعة؛ ولم يخرج هذا عن كونه النتيجة الطبيعية لتزويد السوق بنظام أسعار. من هنا بدأت الصين تخطو خطواتها الأولى على ما يسمى بالطريق الرأسمالي capitalist road.

لم يكن من الممكن أن تقتصر رحلة الإصلاحات على الأرز وحده، حيث عمل النجاح الذي حظيت به الإصلاحات الزراعية على خلق التأييد الشعبي والقوة الدافعة لدينج حتى يستمر. وهكذا فقد وجب تحويل الاهتمام إلى باقي الأنشطة الاقتصادية — وإلى مدن مثل مدينة زينجزو.

(٢) الاستثمار للمستقبل

ليست مدينة زينجزو بالمدينة المبهرة كمدينة شنغهاي. فهي قبيحة ومزدحمة ومعزولة نوعًا ما مع أنها نقطة تقاطع رئيسية للقطارات، وقد قضينا بها قرابة الأسبوع، ولم نر وجهًا أجنبيًّا واحدًا. ومع ذلك فإن زينجزو بطريقتها الخاصة لا تقل إبهارًا عن شنغهاي. فهي مدينة نائية عن العالم الغربي في حجم مدينة لندن، وقد وصفها الدليل السياحي الذي أحمله وصفًا رقيقًا بأنها «نموذج مُوسَّع للتخطيط المدني المعيب». أما أدنى ما يمكن أن تبرزه لنا زينجزو، فهو امتداد ثورة الصين الاقتصادية لما وراء المقاطعات الساحلية. وترى فيها البنايات شاهقة الارتفاع ذات الأربعين طابقًا مُطلة في ثبات على محطة القطار الشاسعة، وتجد عددًا كبيرًا من البنوك الحديثة، والمتاجر الضخمة ذات الأقسام المتعددة، والفنادق، والجسور الخراسانية القاسية. كما ترى الإعلانات في كل مكان.

كانت هناك حاجة لاستثمارات ضخمة من أجل إنشاء مثل هذه المباني والسكك الحديدية والطرق. يطلق خبراء الاقتصاد اسم «رأس المال» على الطرق والمصانع والمنازل والمباني الإدارية التي تنشأ نتيجة للاستثمار، وبطبيعة الحال فإن كل مظاهر التنمية المستدامة تحتاج إلى رأس مال. يمكن أن يكون مصدر رأس المال من المستثمرين الأشخاص، وطنيين أو أجانب، الراغبين في جني الأرباح من وراء استثماراتهم. أو قد تكون الحكومة مصدره إما عن طريق فرض الضرائب على المواطنين واستثمار العوائد، أو بموجب برنامج ادخار إجباري.

تخبرك الفطرة أنك إذا كنت تبغي أن تصير في الغد أكثر ثراءً مما أنت عليه اليوم، يجدر بك استثمار الأموال بدلًا من إنفاقها على السلع والخدمات التي ستتمتع بها في التو واللحظة. يمكنك أن تستثمر المال في الحصول على تعليم أو بشراء منزل أو بوضعه في حساب مصرفي. فإذا كان استهلاكك اليوم قليلًا لأنك تستثمر المال بأي طريقة من هذه الطرق، فلسوف تغدو أكثر ثراءً في الغد، هذا إذا كانت استثماراتك ناجحة. (بناء الأفران اللافحة في الحديقة الخلفية للمنزل لن يجدي نفعًا وكذلك بناء مكتبة يسرب سقفها الماء.)

يرتكز قدر كبير من تنمية الدول على نفس هذا المبدأ البسيط ألا وهو أن مدخرات واستثمارات اليوم تزيد من ثرائك مستقبلًا. من هنا، ارتفعت معدلات الادخار ارتفاعًا كبيرًا في الأنظمة الاقتصادية سريعة النمو في الدول الواقعة على حافة المحيط الهادي Pacific Rim. ومع هذا، فذلك ليس بالحقيقة الكاملة، كما تعلمنا من الفصل الثامن، فاقتصاد السوق لا يمكنه أن يتخذ ببساطة قرارًا بزيادة الادخار والاستثمار. فمعظم شعب الكاميرون لا يعبأ بالادخار؛ إذ إنهم متيقنون من إمكانية تعويض استثماراتهم في البنية التحتية الأساسية مثل بناء الطرق إلا أن لديهم قليلًا من الثقة في تعويض استثماراتهم إذا ما بنوا مصانع أو متاجر. أما الاستثناءات القليلة، مثل قطاع الهواتف الخلوية، الذي يمكن تمويله عن طريق بطاقات الشحن المدفوعة مقدمًا فقد سجل نجاحًا منقطع النظير. تسعى العديد من الأنظمة الاقتصادية الفقيرة وراء الاستثمار الأجنبي، إلا أنها غير قادرة حتى على الاحتفاظ بثقة شعبها، الذي بات يتوق ليستثمر أمواله في الخارج. فلا عجب إذن أن تكون معدلات الادخار منخفضة، وأن تكون النسبة المئوية لهذه المدخرات المستثمرة داخل الكاميرون منخفضة أيضًا. فمن دون توفير البيئة الآمنة للاستثمار، ستغدو الحكومة الكاميرونية قليلة الحيلة إزاء تشجيعه.

لم يكن لدى حكومة الصين الاشتراكية أية مشكلة تحول دون حصولها على رأس المال. فبينما لا يمكن لنظام السوق أن يتخذ ببساطة قرار زيادة الادخار والاستثمار، فإن النظام الاقتصادي الاشتراكي يمكنه. يأتي رأس المال من برامج الحكومة؛ فكل المدخرات تقريبًا تأتي إما من الحكومة أو من الشركات التي تمتلكها الحكومة. وفي كلا الحالتين فإن المال يُحَصَّل من جيوب المواطنين؛ وتستثمره الحكومة نيابة عنهم. توفَّرَ أيضًا قدر كبير من رأس المال: كان ثلث الدخل القومي يجري ادخاره بدلًا من إنفاقه، وهو الدخل الذي يساوي تقريبًا ضعف نظيره في الكاميرون. في البدء تمكنت الصين من الحصول على عوائد جيدة جدًّا من رأس المال هذا. وعندما كانت المهمة الأساسية تقتضي إعادة بناء البنية التحتية الأساسية والصناعية في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، كان استثمار مبلغ ١٠٠ يوان يضيف ٤٠ يوان للناتج السنوي الصيني، وهو عائد مذهل بالطبع إلا أنه لم يكن مفاجأة. كانت المهام التي واجهت الحكومة الصينية واضحة بما يكفي وخاصة مهمة إصلاح ما أعطبته الحرب والثورة. أما ما كان ضروريًّا، فهو أن تشرع الحكومة في إعطاء التوجيهات.

ثم برزت المشكلة لاحقًا. فحتى بعدما نَحَّتْ جانبًا الفوضى التي سببتها القفزة العظيمة للأمام والثورة الثقافية، وجدت الصين نفسها عاجزة أكثر فأكثر عن الحصول على مكاسب مالية من الاستثمارات التي قامت بها. فعند وفاة ماو عام ١٩٧٦، كان استثمار مبلغ ١٠٠ يوان يضيف ١٨ يوانًا فقط لإجمالي الناتج السنوي الصيني. وكان ذلك أقل فعالية بمقدار النصف عما كانت عليه قبل ذلك التاريخ بعشرين عامًا مضت. ولمّا كانت الحكومة والشركات الحكومية يستثمران سويًّا قدرًا هائلًا من دخل الدولة، كان يعد هذا النقص في فعالية الاستثمار إهدارًا مُعرقِلًا.

قد يتوصل أحد المراقبين المتعاطفين إلى أنه لا مفر من تراجع العوائد بعد الاستثمارات الواضحة التي أقيمت. قد ينطبق هذا على أحدث الاقتصاديات مثل اليابان والولايات المتحدة، ولكن في عام ١٩٧٦ كانت الصين لا تزال تعاني الفقر الشديد. كانت هناك فئة قليلة فقط تمتلك السيارات وتتمتع بخدمات الهاتف والكهرباء أو المياه الجارية. وفي مثل هذه الدولة الفقيرة، يمكن للاستثمارات المناسبة أن تحقق عوائد مرتفعة ارتفاعًا كبيرًا عن طريق توفير مثل هذه الخدمات التي تعتبر من أساسيات الحياة الحديثة. كانت هناك وفرة في الاستثمارات الفعالة التي يمكن تنفيذها إلا أن الدولة لم تكن تعرف كيفية تنفيذها.

ومع ذلك فلم يكن هذا يهم ما دامت الرؤية واضحة بشأن الذي تطلب من شعبها أن يفعله أو يبنيه أو يزرعه. ولكن مع تعاظم عدد السكان، أضحت التكنولوجيا في تقدم، ودخلت الاستثمارات التي طال انتظارها قيد التنفيذ، وباتت الاقتصاديات الشيوعية تغيب أكثر وأكثر عن ذاكرة نظام السعر. تتغير اقتصاديات السوق الحقيقية سريعًا، ففي كوريا الجنوبية، كان من ٨٠٪ إلى ٩٠٪ من العمال، والأراضي، ورأس المال يعملون أو يُستخدمون لأغراض مختلفة في السبعينيات من القرن العشرين أكثر مما كان يحدث عام ١٩٦٠ عندما كان يمثل الإنتاج الزراعي نسبة ٤٥٪ من الاقتصاد ويمثل التصنيع نسبة ١٠٪. ولكن بحلول مطلع السبعينيات، تفوق الإنتاج الصناعي على نظيره الزراعي. والأكثر أهمية في هذا الشأن هو أن العمال، داخل هذين القطاعين، كانوا يتدربون ثم يعاد تدريبهم حيث كانت الشركات كثيرًا ما تفتتح أبوابها للعمل ثم تتوقف عن العمل فيما بعد. اعتادت الشركات العاملة في مجال التصدير في كوريا على تصنيع لعب الأطفال، والملابس الداخلية، إلا أنها الآن تقوم بتصنيع رقائق الذاكرة الإليكترونية والسيارات. فلو كان أحد المخططين بحكومة كوريا الجنوبية قد حاول إدارة الاقتصاد بناءً على معلومات عفا عليها الزمن تعود إلى عام ١٩٦٠، لكانت النتيجة كارثة، ولكن لحسن الحظ أن أحدًا لم يفعل هذا في كوريا الجنوبية. وفي حقيقة الأمر فقد تركت تلك الحماقة ليرتكبها الكوريون الشماليون. فالأنظمة الاقتصادية الموجهة حكوميًّا، بدءًا من كوريا الشمالية، وحتى الاتحاد السوفييتي والصين؛ تنقصها ببساطة المعلومات اللازمة التي تجعلها تواصل اتخاذ القرارات الصحيحة.

وبعكس الكاميرون، التي ليس لدى أفرادها وشركاتها كثير من الدوافع للاستثمار، لم يكن لدى الصين تحت حكم ماو أية مشكلة مع الدوافع، فقبل كل شيء، كان لقادتها سلطة الحياة والموت على أتباعهم، ولكن الدوافع وحدها ليست كافية. أوضح لنا الفصل الثالث أن العالم الصادق الذي تخلقه الأسواق يسفر عن نتائج جيدة، ليس فقط لأنه يوفر الدوافع، وإنما لأنه ينتج المعلومات عن تكاليف ومنافع كل أنواع السلع والخدمات استنادًا إلى نظام الأسعار. صحيح وفرت الأنظمة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي والصين أقوى الدوافع التي يمكن تخيلها، إلا أنها لم توفر المعلومات الضرورية لاستخدام هذه الحوافز الاستخدام الأمثل. وبدلًا من الاستجابة لمطالب الأسواق العالمية، مثلما فعل الكوريون الجنوبيون، استجابت الصين لمطالب ماو، ألا وهي بذر بذور المحاصيل قريبة جدًّا بعضها من بعض، وقتل الطيور، وإذابة الأدوات المعدنية لصناعة أدوات جديدة مشابهة.

ومن أجل الحصول على أي استفادة مالية من الأموال الهائلة لرأس مال الاستثمار المتاح، شرعت الحكومة الصينية في التحول التدريجي إلى نظام السوق. وبينما مهدت الإصلاحات الزراعية الناجحة الطريق فقد تبعتها إصلاحات مركبة وعميقة التأثير طبقت على الاقتصاد بأسره. وبعد خمسة عشر عامًا من تولي دينج زمام السلطة، تضاعفت العوائد من الاستثمار بأربعة أضعاف: فكان ينمو الناتج الصيني السنوي بمقدار ٧٢ يوانًا عن كل استثمار يبلغ ١٠٠ يوان، وكان كل استثمار يغطي تكاليفه بعد ٥٠٠ يوم فقط من الشروع في تنفيذه. ولم يكن هذا لأن الحكومة قللت استثماراتها وانتقت أفضل المشروعات فقط. وإنما العكس، فقد كانت مستويات الاستثمار مرتفعة في السبعينيات. فلا عجب إذن أن ينمو الاقتصاد نموًّا مذهلًا. ولكن كيف تحققت هذه العوائد المرتفعة من الاستثمار؟

(٣) الخروج عن الخطة

مثلما كان الحال في النظم الاقتصادية في الكتلة الشيوعية، كان يمسك بزمام القطاع الصناعي بالصين مجموعة من المُخططِين. وكانت الخطة الموضوعة تقتضي مثلًا أن ينتج مصنع ما للصلب كمية محددة من الصلب على أن يستخدم بعد ذلك لأغراض معينة، وعلى أن الكمية المعيارية من الفحم (لإنتاج طن من الصلب، قيل إن الأمر يحتاج إلى ٠,٨ طن من الفحم) سوف يتم توصيلها لمصنع الصلب لكي يواصل عملية الإنتاج، وهكذا. وكانت الحسابات المطلوبة غاية في التعقيد، حتى إنها كانت تفترض أن صغار البيروقراطيين كانوا ينقلون المعلومات الصادقة عن التكاليف والجودة. (كان لدى الجميع دافع للشكوى من أن الآلات والمواد التي يستعملونها غير كافية وتفتقر إلى الجودة، كل هذا حتى مع ضخامة إنتاجهم وتفوقه. فدون العالم الصادق يستحيل الكشف عن القصة الحقيقية.) ومع ذلك، فإذا نحينا جانبًا نزوات ماو المثالية القاتلة، يمكن أن يُكتب لمثل هذا النظام تحقيق نجاح لا بأس به لفترة ما؛ لأنه في كل عام يكون لدى المخططين خطة العام الأسبق لترشدهم.

ومع نمو الاقتصاد وتجدده، فإن عملية تعديل متطلبات الإنتاج والقيام باستثمارات رأسمالية على نحو حصيف أصبحت صعبة أكثر فأكثر؛ وهذا هو السبب في أن عوائد رأس المال في الصين كانت أقل بكثير عام ١٩٧٦ عنها في الخمسينيات من القرن العشرين. فنظام السوق كان سيبلي بلاءً أفضل، ولكن خلقه لم يكن بالأمر السهل. فالأسواق لا تعمل على النحو الأمثل دون وجود المؤسسات التي تدعمها؛ إذ يحتاج الناس في اقتصاد السوق إلى البنوك من أجل القروض التجارية، وإلى قانون للعقود لحل الخلافات، وإلى ثقة في أن أرباحهم لن تُصادر. ومثل هذه المؤسسات لا يمكن إنشاؤها بين عشية وضحاها. وفي الوقت ذاته، ينخرط العديد من العمال في النظام الاقتصادي الاشتراكي في أنشطة غير مُنتجة، وقد يئول بهم الحال ببساطة إلى الموت جوعًا ما لم تحدث عملية التعديل تدريجيًّا، أو ما لم يحصلوا على نوع ما من التعويض. كانت تلك المشكلات شديدة الخطورة على القطاع الصناعي في الاقتصاد؛ لأنه كان على ارتباط وثيق بنظم التخطيط، وكان الجهازَ الذي تستخدمه الحكومة لجلب المدخرات، كما كان مصدرًا لأكبر استثمارات الحكومة.

إذا كان دينج قد قرر أن يتخلى عن الخطة، ويتحول إلى نظام السوق في غمضة عين؛ فإن النتيجة المحتملة كانت ستكون خطوة صعبة نحو وضع حقوق الملكية، وانهيارًا للقطاع المالي (لأن كثيرًا من البنوك التي تديرها الحكومة منحت القروض التي لن يمكن سدادها أبدًا)، وانتشارًا للبطالة، بل وحتى الموت جوعًا. كان من المفهوم أن الأمور كلها ربما كانت ستئول سريعًا إلى الأفضل ولكن هذا لم يحدث (تسبب «العلاج بالصدمة» الذي انتهجه الاتحاد السوفييتي السابق في التسعينيات في انهيار اقتصادي.)

بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الإصلاحات المتطرفة كانت ستضر العديد من جماعات المصالح — بما في ذلك تلك الأعداد الهائلة من المواطنين العاديين — وكانت من الممكن أن تصير مستحيلة سياسيًّا. إن دينج، الذي نحّاه ماو عن العمل السياسي مرتين ومع ذلك عاد ليقود الدولة، استوعب جيدًا أهمية المصداقية السياسية.

لذا فإن دينج وأقرانه المُصلحين ذوي الفكر المشابه انتهجوا استراتيجية أكثر حذرًا. ففي عام ١٩٨٥ تجمد حجم «الخطة»، ولم تنمو مستويات الإنتاج التي حددتها الحكومة مع نمو الاقتصاد، وفي المقابل، سُمح للشركات والمصانع المملوكة للدولة أن تفعل ما تشاء بالإنتاج الزائد. ووجدت مصانع الفحم التي تتسم بفعالية الإنتاج أن مصانع الصلب الفعالة تبغي شراء المزيد من الفحم لتصنع المزيد من الصلب، الذي ستشتريه شركات البناء الفعالة. أما الشركات غير الفعالة التي حاولت أن توسع نشاطها فقد ذهبت جهودها أدراج الرياح ….

لقد تبين أن هذه الاستراتيجية أثبتت نجاحها لعدة أسباب:

  • أولًا: كان يسهل فهمها، وكان الالتزام بتجميد حجم الخطة أمرًا معقولًا. فمثل هذا الالتزام الجدير بالثقة كان مهمًّا: فإذا حاول واضعو الخطة باستمرار توسيع وتحديث الخطة في ضوء المعلومات التي تظهر من السوق الثانوية؛ فإن هذه السوق سرعان ما تتوقف عن تقديم معلومات نافعة. فمديرو المصانع الذين أدركوا أن أي تغييرات ناجحة يقومون بها سوف تمتصها سريعًا خطة العام المقبل؛ لم يبتعدوا عن الاختيارات الآمنة.

  • ثانيًا: لمّا كان هناك حفاظ على ثبات الخطة، كان هناك ضمان بتحقيق قدر من الاستقرار، فالعمال أصحاب الوظائف يمكنهم الاحتفاظ بوظائفهم. وكان ثمة ضمان ألا تنحدر الأمور إلى الأسوأ. أما إذا نتج عن الخطة نمو اقتصادي، فإن هناك احتمالًا أن تسمو الأمور إلى الأفضل. تشبث الكثيرون بذلك الاحتمال الأخير، وفضلوا العمل في ظل الظروف السيئة، والمكوث لساعات طويلة في مصانع النسيج، حتى وإن كان لزامًا عليهم الاغتراب عن عائلاتهم، والسفر لآلاف الأميال ليعودوا أدراجهم إلى عملهم السابق عندما كانوا يحاولون كسب عيشهم — أو عندما يفشلون في ذلك — في الأراضي الزراعية الهامشية المجدبة.

  • ثالثًا: عملت السوق بالضبط في المكان الذي كانت في حاجة لأن تعمل فيه ألا وهو على الهامش. تذكر أن التكاليف والفوائد الحدية (الهامشية) هي ما يهم بالضبط من أجل فعالية الاقتصاد. تخيل مدير مصنع وهو يحاول اتخاذ قرار بشأن إنتاج طن إضافي من الصلب قد يمكنه من تحقيق الأرباح. فإذا عرف تكلفته الحدية (وهي تكلفة إنتاج طن إضافي من الصلب)، وعُرض عليه سعر السوق (الذي يعكس الفوائد العائدة على شخص آخر مقابل الطن الإضافي)، فلسوف يتخذ القرار المناسب، أي أنه سينتجه إذا كان السعر أعلى من التكلفة الحدية. وستُسبغ الفعالية على إنتاج المصنع.

ولا يهم ما سيحدث لما تبقى مما تم إنتاجه من الصلب طالما كان حجم الإنتاج يتسم بالفعالية. فكل تسعة من عشرة أطنان يمكن إنتاجها وتوزيعها في ضوء الخطة، ولكن يبقى السؤال عن الفعالية يحوم حول هذا الطن العاشر.

وفحوى ذلك أن الشركات الفعالة توسع نشاطها لتلبية الطلب الإضافي، مثل إنتاج الطن الحادي عشر والثاني عشر بعد إنتاجها الطن العاشر. إذ ينبع هذا الطلب من توسع قطاعات الاقتصاد، التي كانت تحتاج بالفعل إلى إمداد، ولاسيما من المُخططين. وعلى المديرين تحقيق الربح وإعادة استثماره، والتسلح بدوافع للتأكد من ربحية الاستثمارات.

وفي المقابل، تقيد نمو الشركات التي تتسم باللافعالية. فطالما لا تنفك الحكومة تقدم لها الدعم في ضوء هذه الخطة (توقفت تدريجيًّا عن القيام بذلك في التسعينيات)؛ فسوف يسير نهجها على نفس الوتيرة مدى الحياة. ولمّا كان اقتصاد الصين تضاعف أكثر من أربعة أضعاف عام ٢٠٠٣ عن ما كان عليه عندما تجمدت الخطة عام ١٩٨٥، انكمشت سريعًا الأهمية النسبية لتلك الشركات. وخرج الاقتصاد — بالمعني الحرفي للكلمة — عن الخطة.

(٤) دخول السوق وقوة الندرة

ها قد عرفنا أن نظام السوق يحجم قوة ندرة الشركات والمؤسسات التجارية؛ إذ إن معظمها يواجه منافسة، وتنمو لدى قطاعات الاقتصاد التي لا تحتد بها المنافسة نزعة لجذب المنافسة بمرور الوقت. فالمنافسة والدخول الحر للشركات الجديدة إلى السوق، الذي يحد من قوة ندرة الشركات الموجودة بالفعل؛ يدفع الإنتاج الفعال دفعًا قويًّا نحو المضي قدمًا، وكذلك الأفكار الجديدة واختيار المستهلك.

كان المصلحون الصينيون بحاجة لتشجيع الشركات الجديدة لدخول السوق، وتقليص الندرة دون اللجوء إلى استراتيجية تحررٍ اقتصادي خطيرة وغير متوقعة النتائج. ولكنهم أملوا في تحسين أداء قطاع الحكومة، وتقديم شركات قطاع عام جديدة إلى الساحة التجارية كمنافسين، وتشجيع القطاع الخاص تدريجيًّا، وفتح الطريق أمام المنافسة الدولية على نحو متأنٍّ. فإن فشلت إحدى هذه الطرق الباعثة على المنافسة، تبقى هناك دائمًا طريقة أخرى. في البدء كان يتمثل أهم المنافسين في المجتمعات التجارية المحلية المملوكة للدولة، المسماة «المؤسسات التجارية للقرى والمدن الصغيرة» Township and village enterprises. وبعكس التسمية، فقد كانوا عمالقة في الصناعة، ودخلوا تحت مظلة القطاع الخاص فيما بعد. كما فُتح الطريق أمام الشركات الأجنبية لترسي تجارتها وتكشف عن قوتها، هي الأخرى.

وبعد ذلك، وفي عام ١٩٩٢، لم يتعدَ إنتاج شركات القطاع الخاص والشركات الأجنبية ١٤٪ فقط من الإنتاج الصناعي، في حين أخذت الحكومة على كاهلها إنتاج نصف الإنتاج الآخر تقريبًا. أما باقي الإنتاج، فلم يُنسب معظمه إلا «للمؤسسات التجارية للقرى والمدن الصغيرة». ولم يكن مبعث المعجزة الصينية الاقتصادية هو الخصخصة في واقع الأمر؛ إذ لم يكن يهم إلى من ترجع ملكية الشركات، ولكن كانت الشركات في وضع يجبرها على المنافسة في سوق حرة نسبيًّا، مقلصة بذلك قوة الندرة، آتية بالمعلومات والدوافع إلى عالم الصدق.

وفي الغالب، يمكن قياس ما لهذا من تأثير. تذكر أننا في الفصل السابق اكتشفنا سويًّا أن الأرباح العالية علامة على قوة الندرة. فمتى شرع دخول المنافسة الجديدة القوية في محو قوة ندرة شركات القطاع العام؛ فسيكون من المتوقع أن تتجه معدلات الربح إلى مصيرها المحتوم ألا وهو الانخفاض.

وهذا ما تشهده أرض الواقع بالضبط. فالشركات الصينية في الثمانينيات باتت تتمتع بمعدلات ربح مرتفعة للغاية: إذ شهد العديد من القطاعات معدلات ربح تزيد عن اﻟ ٥٠٪ (فبالنسبة لنظام اقتصادي يتمتع بتنافسية عادلة، لا يتوقع المرء أن يزيد معدل الربح عن ٢٠٪، وأحيانًا أقل). وتفاوتت الأرباح كثيرًا من قطاع إلى آخر استنادًا على نظام الأسعار الاعتباطي الموضوع في الخطة، إذ شهد قطاع تكرير النفط معدل ربح يبلغ ١٠٠٪ تقريبًا، في حين شهد قطاع التعدين ٧٪ فقط. وفي كل الأحوال، كانت الحكومة تصادر الربح لإعادة استثماره.

وبينما بدأت تأثيرات العواقب السيئة لحركات الإصلاح الاقتصادية في الظهور، بدأت الأرباح تنخفض؛ كما بدأت أيضًا تتقارب عندما وجدت أكثر القطاعات المدرة للأرباح نفسها في أشرس منافسة مع الشركات الأجنبية، والخاصة، والحكومية. وخلال التسعينيات، انحدرت معدلات الربح بمقدار يزيد عن الثلث؛ وفي أكثر القطاعات انتعاشًا انخفضت بمقدار النصف على الأقل. وكان لكل هذا تأثيرٌ رَمَى إلى تقليص الإهدار، ومنح المستهلكين الصينيين عائدًا أفضل مقابل أموالهم، وجعل الصين لاعبًا محتملًا في الأسواق العالمية، وانقشعت قوة الندرة.

(٥) الصين والعالم

هناك فترات في تاريخ الصين كانت فيها متقوقعة على ذاتها. أما الآن، فهي ليست كذلك. فحتى في المدينتين الداخليتين البعيدتين عن الساحل زيان Xi’an وزينجزو لم نجد أدنى صعوبة في العثور على الكوكاكولا، وماكدونالدز، وملاهي البلياردو، ومقاهي الإنترنت. أما في شنغهاي، فمن المستحيل على المرء أن يحيد بصره عن الماركات المألوفة الشهيرة.

يستطيع كل من زار الصين في أوائل التسعينيات أن يخبرك أن كل هذا التطور وليد سنوات قليلة. إلا أنه أكبر من مجرد انطباع قصصي، فللإحصاءات نفس الرأي. فالصين لم يكن يتعدى حجمها السمكة الصغيرة في بحر التجارة العالمية حتى عام ١٩٩٠، وكانت صادرات كل من الولايات المتحدة وألمانيا تزيد بمقدار عشر مرات عن صادراتها، وفي العام المنصرم، أضحت الصين رابع أكبر دولة مصدرة في العالم، حتى إن الولايات المتحدة وألمانيا انخفضت صادراتهما عن صادرات الصين بمقدار الضعفين، وهذا ليس محض صدفة، فدخول الصين المباغت إلى ساحة الاقتصادية العالمية فصل من الفصول الأخيرة في عملية الإصلاح الاقتصادي الصيني.

لماذا احتاجت الصين إلى العالم؟ فدولة يزيد سكانها عن المليار نسمة تبدو وكأن أفضل وضع لها هو وضع الاكتفاء الذاتي. كان اقتصاد الصين ضئيلًا عام ١٩٧٨ — إذ كان يقل حجمه عن حجم اقتصاد بلجيكا — حينها أدرك المعنيون بالإصلاح أن الانخراط مع العالم يمكن أن يفيد، وكان لهذا الأمر ثلاث مميزات:

  • أولاها: أن الصين سيغدو بإمكانها مد الأسواق العالمية بالسلع التي تحتاج إلى عمالة كثيفة، مثل: لعب الأطفال، والأحذية، والملابس.

  • وثانيها: أن العملة الأجنبية التي تدرها تلك الصادرات سيتم إنفاقها على المواد الخام، وعلى التكنولوجيا الجديدة للمساعدة في تطوير الاقتصاد.

  • وأخيرًا: عندما يدعون المستثمرين الأجانب للمجيء إلى بلادهم، سيغدو بإمكان الصينيين تعلم تقنيات الإنتاج والعمل الحديثة منهم، وهو أمر عظيم الأهمية لبلد كانت شيوعية لعشرات الأعوام. وفي العام الماضي، نجحت كل من الصين وهونج كونج في جذب أكثر من ٤٠٪ من الاستثمار الأجنبي المباشر إلى دول العالم النامي. (بينما جذبت الهند، العملاق الآسيوي الآخر، ما يزيد بقليل عن ٢٪). وكما تناولنا في الفصل التاسع، فإن أحد مميزات هذا النوع من الاستثمار أنه يغذي الاقتصاد برأس المال الذي لا يمكن نزحه متى شعر المستثمرون بعدم الراحة، الأمر الذي وقع للدول المجاورة للصين أثناء أزمة العملات الآسيوية عام ١٩٩٧ حينما سُحبت سريعًا في ذعر جماعي تلك الاستثمارات المالية البحتة مثل القروض. صحيح أن الاستثمار الرأسمالي يزيد من قدرة الاقتصاد المستقبلية، ولكن كما رأينا بالفعل، لم تكن الصين في حاجة إلى الأجانب لتزويدها برأس المال، وإنما كانت الخبرة هي التي تهم: الخبرة على سبيل المثال في مراقبة الجودة أو في الإدارة العملية لعدد هائل من البشر والمعدات.

قامت كل من الشركات الأمريكية واليابانية باستثمارات في مجالي النقل والإلكترونيات في الصين، دافعة إياها إلى صناعة التكنولوجيا عالية الجودة. يمكنك أن ترى نتيجة تلك الاستثمارات متى اطلعت على الإحصائيات، فالصين الآن أكبر المنتجين لمعظم الأجهزة الإلكترونية التي تهم المستهلك؛ فأكثر من نصف إنتاج العالم من مشغلات أقراص الدي في دي والكاميرات الرقمية تصنعه الصين. يمكنك أيضًا أن ترى تأثير ذلك إذا تجولت في الصين ذاتها. أذكر مثلًا أنني عندما كنت أستقل إحدى الحافلات في مدينة زينجزو رأيت أناسًا حولي يتحدثون في آلة متقدمة لم أرها من قبل، والتي لم تصل إلى موطني حتى بعد شهور. فالمستثمرون الأجانب الذين جعلوا تلك التكنولوجيا ممكنة يأملون الحصول على عائد جيد من استثماراتهم، ولكن يبدو جليًّا للعيان أن كثيرًا من المال قد بقي في جيوب المستهلكين الصينيين.

وللاستثمارات الأجنبية أثر مهم لكي تتابع الإصلاحات الصينية سيرها إلى الأمام. فالشركات الأجنبية لم تجلب معها رأس المال فحسب، ولم تجلب كذلك الخبرة والاتصال باقتصاد العالم فحسب، بل إنها لم تنفك عن منافسة حركات الإصلاح السابقة بدخولها في منافسة مع الشركات الصينية المحلية دافعة إياها نحو تحسين وتطوير فعاليتها.

فإذا كان الاستثمار الأجنبي يعد بمنزلة هدية للاقتصاد، فكيف إذن فعلتها الصين وجذبته على ذلك النحو؟ لماذا لم تنل الهند كل هذه الأموال بدلًا منها؟ لماذا لم يكن للكاميرون نصيب هي الأخرى؟ لا شك أن الحظ لعب لعبته، فبعكس الكاميرون، تجتذب الصين، التي تتمتع بسوق محلية متنامية بسرعة وثبات؛ المستثمرين الأجانب. فلم يتمكن قائد كاميروني، مهما كانت موهبته، من محاكاة هذا، بل كان للقدر مشيئة أخرى إزاء الكاميرون. ومع ذلك، لم يكن للحظ دور في اهتمام الصينيين بالتعليم — وهو أحد الجوانب المشرقة في ميراث سنوات الشيوعية — وهو ما جعل الصين بحلول عام ١٩٧٨ ترزح تحت مخزن عملاق لعمالة مدربة من المحتمل أن تكون ذات إنتاجية عالية، تنتظر أن تغمر الاقتصاد بالموهبة عندما يتفجر سد الاقتصاد المتحكم. فقد أضاعت الكاميرون على نفسها فرصة تعليم أبنائها في السبعينيات عندما كانت الدولة أكثر ثراءً مما هي عليه اليوم. ولكن كان للهند هي الأخرى سوق محلي متنامٍ وقوة عاملة متعلمة، حتى وإن لم يكن التعليم بها متاحًا بقدر كبير مثلما كان في الصين. وبالرغم من أن الإحصاءات تكشف عن هستيريا سائدة بشأن إسناد الأعمال إلى شركات أجنبية، إلا أن ذلك لم يكن وحده كافيًا لجذب الاستثمار الأجنبي.

ولدى الصين مميزات أخرى طبيعية لا تملكها الهند. فعملية الائتلاف الاقتصادي الدولي المُوجعة في أغلب الأحيان تمت على نحو أكثر سلاسة وفعالية بسبب روابط الصين بهونج كونج وتايوان اللذين كانتا تتمتعان كلاهما بنظام اقتصادي مندمج دوليًّا وناجح، في الوقت الذي كانت فيه الصين في منأى عن أسواق العالم، وعلى اختلاف أنظمتهما الاقتصادية، كان ثمة روابط وثيقة من أنساب وصداقات بين رجال الأعمال في الأنظمة الثلاثة الاقتصادية. وعوضت تلك الروابط ضعف النظام القانوني الصيني في أوائل سنوات الإصلاح. فقد كانت الصين (ومازالت) تكدح لتحسين هيكلها التجاري لحقوق الملكية وقانون العقود، الذي تحتاجه كافة الأنظمة الاقتصادية الناجحة. فمن دون ذلك الهيكل يغدو من الصعب التحلي بالثقة عند القيام بالمشروعات. فكيف تثق أنك لن تقع ضحية احتيال شركائك في المشروع؟ كيف تشعر بالأمان إذا كان مسئولو الحكومة قادرين على مصادرة أرباحك أو أملاكك؟

أما بالنسبة لأصحاب المشروعات في هونج كونج وتايوان، فإن العلاقات الشخصية كانت تعني أنهم قادرون في معظم الأحيان على الاعتماد على الوعود وحدها دون عقود قانونية مُلزمة. بالطبع يمكن لعقد مسبق أن يكون أفضل، ولكن تبقى كلمة صاحب المشروع هي الفاصل إذا بدت فرصة الربح جذابة.

وفي تلك الحالة، كانت بالفعل جذابة. فقد كان التناغم مثاليًّا بين الصين وهونج كونج. فالشركات الصينية التي تنتج السلع الرخيصة، ولكنها لا تألف الصفقات الدولية؛ تستغل خبرة تجار هونج كونج. فصادرات الصين إلى هونج كونج تعاظمت تعاظمًا كبيرًا في الثمانينيات التي كانت بدورها تعيد تصديرها مرة أخرى إلى العالم. ثم انضمت إليهما تايوان في التسعينيات. وكما أبدى الخبير الاقتصادي دوايت بيركينز Dwight Perkins ملاحظته آنذاك: «اتحدت مواهب هونج كونج وتايوان التسويقية الرائعة مع القدرة الصناعية للصين.»

أما الهند، فقد تخلفت عن الركب الذي سارت فيه هونج كونج وتايوان، بالإضافة إلى افتقارها إلى أدنى اهتمام بالترحيب بالاستثمار الأجنبي. أذكر أن رجل الاقتصاد الهندي البارز جاجديش باجواتي نعت سياسات حكومته في الفترة من الستينيات إلى الثمانينيات على أنها «ثلاثون عامًا من السياسات المتعصبة المطلقة»، بعبارة أخرى، فإن الحكومة أحكمت قبضتها على السوق، وبذلت أقصى ما في وسعها لمنع التجارة والاستثمار.

من ناحية أخرى، تعمل الصين جاهدة لجذب الاستثمار الأجنبي والاستفادة القصوى من اتصالاتها بهونج كونج وجيرانها. وكانت الخطة رامية إلى خلق «مناطق اقتصادية خاصة»، مثل مدينة شينتشين Shenzhen الصينية التي لا تطبق فيها القوانين العادية لنظام الاقتصاد المفروض على المستثمرين الأجانب. وفي الوقت ذاته، ما لبثت البنية التحتية لتلك المناطق أن تطورت على وجه السرعة، وهو ما ساهم في وضع اللمسات الأخيرة على علاقة الصين بهونج كونج وماكاو Macao، وتايوان، فكانت تلك المناطق تنحصر في مقاطعة جوانجدونج Guandong المتاخمة لهونج كونج وماكاو، ومقاطعة فوجيان Fujian المتاخمة لتايوان. فأكثر من نصف جميع الاستثمارات الدالفة إلى الصين عام ١٩٩٠ شقت طريقها من «هونج كونج» الصغيرة، في حين أن ربع الاستثمارات فقط أتت من اليابان والولايات المتحدة معًا. والأحرى من ذلك أن مقاطعة جوانجدونج حصلت على نصف حجم الاستثمارات تقريبًا تاركة «فوجيان» في المرتبة الثانية. فمدينة شينتشين، الكائنة على حدود هونج كونج، والتي لم تخرج عن كونها قرية للصيد صارت منطقة اقتصادية خاصة عام ١٩٨٠. وبعد عشرين عامًا أضحى المخططون العمرانيون يهدمون ناطحات السحاب الموجودة بالفعل لبناء ناطحات أخرى أكبر. يقول الصينيون: «سوف تظن أنك غني إلى أن تطأ قدمك مدينة شينتشين.»

وبالرغم من تقسيمها الاعتباطي غير العادل، تفوقت المناطق الاقتصادية الخاصة في جذب المستثمرين دون قلب موازين الدولة الصينية بأسرها، هذا بالإضافة إلى أنها كانت بمنزلة إشارة إصبع إلى حيث يجب أن يمتد الإصلاح. وعندما أثبتت القوانين السارية على الشركات الأجنبية نجاحها وتفوقها، أخذ الإداريون يطبقونها على الشركات المحلية داخل المناطق الاقتصادية الخاصة، ثم أخذوا يطبقونها على الشركات المحلية خارج المناطق الخاصة. ونظرت المقاطعات الساحلية الأخرى إلى اقتصاد مقاطعتي فوجيان وجوانجدونج التي باتت تتقلب في الازدهار والنعيم؛ وبدأت تطالب بامتيازات مشابهة. وسواء كانت تلك القوانين غير عادلة أو ملتوية فإنها قد شُذبت وصُقلت مع رفض المستثمرين الأجانب أي تحيز من أي نوع للشركات المحلية، في حين ضيقت الشركات المحلية الخناق على أي تحيز من أي نوع أيضًا للشركات الأجنبية عندما غسلت أموالها في هونج كونج، وجلبتها مرة أخرى على أنها «استثمار أجنبي». وكما هو الحال مع باقي برنامج الصين الإصلاحي، قام الحمقى في الدول الأخرى بنسخها بتقليد أعمى، الذين سرعان ما انحدر اقتصادهم إلى الحضيض.

(٦) خاتمة: هل الاقتصاد مهم؟

صحيح أنني اخترت عنوان «كيف أصبحت الصين غنية» لهذا الفصل من الكتاب، إلا أنها عبارة مبالغ فيها قليلًا؛ فالصين لم تصبح غنية بعد، ولكنها تعدو في طريقها نحو الثراء أسرع من أي دولة أخرى في التاريخ.

ولكن … ماذا في ذلك؟ يصاحب هذا النمو الاقتصادي ثورة هائلة، والصينيون حيارى؛ فالعديد منهم عاطل أو في منأى عن الصين الحديثة، حتى إن مجموعة من عمال «سيشوان» يظنون أن الزعيم «ماو» يدير مصنعًا في الحياة التي يحياها بعد موته، وهذا طبيعي وفقًا للمبادئ الاشتراكية. وتزعم إحدى الروايات أن بعض أفراد هذه المجموعة قتلوا أنفسهم ليلحقوا به.

تعرض الأفلام الصينية المعاصرة قصصًا عن الحيرة وفي بعض الأحيان عن البحث المضني. فهناك العديد من الأفلام مثل Shower، وHappy Times Hotel التي أظهرت عائلات تفككت بعدما يرحل أحد أفرادها ليجرب حظه في مدينة شينتشين. لم تعرض هذه الأفلام الثراء وإنما عرضت فقط المعاناة العاطفية. وكانت رسالتها هي أن الفرص الجديدة تدمر طريقة العيش القديمة. والاضطراب الكامل هو موضوع مشترك آخر في الأفلام، إذ يكتشف ساعي البريد التعس الذي سُرقت دراجته في فيلم Beijing Bicycle أن الملكية إنما هي سرقة، وأن محاولته للانخراط في النظام الرأسمالي تنتهي بالبؤس والعنف. يحكي الفيلم الكوميدي المؤثر Happy Times Hotel عن مجموعة من الأصدقاء سليمي النية العاطلين بعدما أُغلق مصنعهم والمنشغلين للغاية بمحاولة الاعتناء بفتاة كفيفة باختلاق امتلاكهم لمشروع تجاري حيث لم يفلحوا في إدراك أنه سيكون من الأكثر سهولة أن يؤسسوا مشروعًا تجاريًّا حقيقيًّا. وستبقى الفتاة، التي صارت شابة في تسعينيات القرن العشرين، هي الوحيدة التي تتراءى لها الحقيقة واضحة وهي أن لديها القدرة على كسب عيشها بنفسها.

ليس بالأمر الهين أن تكون جزءًا من ثورة، فمن بلغوا مبلغ الشباب بالمناطق الريفية في سبعينيات القرن العشرين عملوا كجزء من مجتمع زراعي، يجمعون «نقاط عمل»، ويفعلون كما يؤمرون، ويذهبون أينما يؤمرون، ويحصلون على الاحتياجات الأساسية التي يوفرها لهم المجتمع والدولة. شبّ أبناؤهم وبناتهم في صين مختلفة في الثمانينيات والتسعينيات. كانت الحياة لا تزال شاقة إلا أن الأموال أضحت متوفرة على نحو أكثر وزادت الخيارات المتاحة زيادة كبيرة جدًّا. أصبحت الأراضي ذات قيمة؛ إذ تحسنت طرق الزراعة، وكان ما يزال هناك حاجة قليلة في المزارع إلى العمال الإضافيين. فعل البعض ما حُرم آباؤهم من فعله؛ باعوا أراضيهم، وانتقلوا إلى المدن بحثًا عن عمل. مزقت الهجرة العائلات والأسر تمزيقًا. وبينما ظهرت فرص جديدة، انهارت مجموعة الخدمات التي كانت تقدمها الحكومة في الماضي لمواطنيها بعدما أصبحت بعض المؤسسات الحكومية لا حاجة لها.

في الوقت ذاته تبقى ظروف العمل في المصانع مريعة؛ إذ يعمل الموظفون، الذين يحصلون على أجور غير مرضية، لنوبات عمل طويلة في ظل ظروف مشكوك في سلامتها. نقلت إحدى الصحفيات في إذاعة البي بي سي BBC قصة موت السيدة لي تشون ماي Li Chun Mei التي توفيت في أواخر عام ٢٠٠١ بعد نوبة عمل استمرت ست عشرة ساعة، إذ وجدها زملاؤها في العمل صريعة على أرضية المرحاض تنزف الدماء من أنفها وفمها. ذكرت الصحفية أيضًا قصة السيد زو شين بين Zhou Shien Pin الذي انصهرت قدمه بعدما لامس سلكًا ذا جهد عالٍ في مصنع للطلاء. أهذا ثمن النمو الاقتصادي؟ أهو ثمن يستحق الدفع؟
لقد حاول الخبراء الاقتصاديون أمثال بول كروجمان Paul Krugman، ومارتن وولف، وجاجديش باجاوتي مرارًا وتكرارًا المحاججة بأن المؤسسات المستغلة الصينية أفضل البدائل، إلا أن هذا الرأي لا يحظي بشعبية. أذكر أنه بعدما نُشر عرض لكتاب مارتن وولف Why Globalization Works في جريدة جارديان ويكلي Guardian Weekly، نشرت الجريدة خطابًا ساخطًا من قارئ تخيل في سعادة رؤية وولف مجبرًا على العمل في المؤسسات المستغلة.

ورد الفعل هذا يتماثل في قسوته مع تمني الحكم بالموت جوعًا على كل من يرتدي قميصًا يحمل صورة ماو، ولكنه أقل منطقية. والحقيقة أن وولف كان صائبًا في قوله إن المؤسسات المستغلة أفضل من الويلات التي سبقتها، وأنها خطوة على الطريق نحو غدٍ أفضل. أما «القفزة العظيمة للأمام» لماو، فلم تكن إلا قفزة عظيمة للجحيم.

ليس من الظلم أو الخروج عن السياق في شيء أن نقارن الصين الحديثة بالعالم المثالي من وجهة نظر ماو. وإذا دققنا نجد أن الدول الغنية أو تلك التي تعدو مسرعة في طريق الثراء قد اعتنقت الدروس الأساسية في علم الاقتصاد التي تعلمناها في هذا الكتاب مثل: محاربة قوة الندرة والفساد، وتقويم التأثيرات الخارجية، ومحاولة الحصول على أكبر قدر من المعلومات، والحصول على الدوافع الصحيحة، والاتصال بالدول الأخرى، والأهم من هذا كله، قبول فكرة الأسواق، التي تقوم بمعظم هذه المهام في نفس الوقت. أما فقر الكاميرون، فيزهق الأرواح — فالفقر قاتل — كما يسلب الناس استقلاليتهم وقدرتهم على اختيار الخيارات الصائبة فيما يخص شئون حياتهم. فالهند، مع أنها أبلت بلاءً أفضل من الكاميرون فإنها متخلفة كثيرًا عن الصين، وما تزال تعاني فقرًا شوه إلى الآن نصف مليون هندي بمرض الجذام الذي يمكن الاستشفاء منه بثمن زجاجة جعة، بينما قتلت كل من الصين والاتحاد السوفييتي ذواتا المذهب الشيوعي عشرات الملايين بسبب الفشل الاقتصادي التام في أغلب الأحيان، فالأنظمة الاقتصادية لها أهميتها. فالفوارق الواضحة بين الكاميرون والهند أو الصين في عهد ماو، وبين الولايات المتحدة، أو بريطانيا، أو بلجيكا؛ فوارق عظيمة.

وفي الخاتمة نقول إن علم الاقتصاد هو علم يعنى بالناس، وهو الأمر الذي عجز علماء الاقتصاد عن شرحه كما ينبغي. كما يعني النمو الاقتصادي توفير حياة أفضل لكل فرد يتمتع فيها بمزيد من الاختيارات وقليل من الخوف، وقليل من المشقة والعناء. أما عن رأيي، فإنني مثل علماء الاقتصاد الآخرين أؤمن بأن المؤسسات المستغلة أفضل من بدائلها، وأنها دون شك أفضل من الموت جوعًا في ظل «القفزة العظيمة للأمام»، أو في كوريا الشمالية «الحديثة». ولكن لو لم أؤمن أيضًا أنها خطوة نحو غدٍ أفضل، فسأتخلى عن كوني مؤيدًا متحمسًا لحركة الإصلاح الصينية.

لهذا السبب ابتهجت لآخر الأخبار القادمة من الصين. فالثروة لم تتوزع بالتساوي، ولكنها تتسلل رويدًا داخل البلاد من «ساحل الذهب» لمدينتي شنغهاي وشينتشين. فقد نما اقتصاد الصين الداخلي نموًّا قويًّا جدًّا — بلغت نسبته ٧,٧٪ سنويًّا في الفترة ما بين عامي ١٩٧٨ و١٩٩١. ونما ثلثا المقاطعات الصينية في الفترة ما بين عامي ١٩٧٨ و١٩٩٥ أسرع من أي دولة أخرى على الخريطة. والأدهى من ذلك، أن شعب الصين بات يشعر بالفرق. فبعد أعوام من دفعها الرواتب المنخفضة — بسبب سيل العمالة المهاجرة من الصين — تقلصت أعداد العمال في المصانع في ساحل الذهب. وباتت المصانع المملوكة لأجانب تدفع أجورًا تزيد قليلًا لتنهال عليها العمالة ويتمسك العمال بوظائفهم. فلم يعد من مجال للتملص من زيادة الأجور وتحسين الظروف؛ لأن الصين في ازدهار مستمر.

وفي عام ٢٠٠٣، فعلت يانج لي ما فعله العديد من العمال، إذ غادرت مدينتها لتعمل في مؤسسة مستغلة في دلتا بيرل ريفر. وبعد شهر، وبعد العمل ثلاثة عشر ساعة في نوبة العمل الواحدة قررت العودة إلى مدينتها وافتتاح مشروعها الخاص ألا وهو صالون لتصفيف الشعر. تقول: «كل يوم في المصنع كان مجرد عمل في عمل … ولكن حياتي هنا مريحة.» لقد كُتب لوالدها يانج العيش في كنف الثورة الثقافية، وكُتب لجديها العيش في كنف القفزة العظيمة للأمام. أما «يانج لي»، فلها اختيارات حقيقية، فقد عاشت في كنف دولة تعني فيها الخيارات الكثير بالنسبة لنوعية حياتها. فها هي جربت العمل في المصانع، وقررت أنه لا يناسبها. والآن تقول إنها «تستطيع إغلاق الصالون وقتما تشاء». ويعني علم الاقتصاد باختيارات يانج لي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤