مقدمة في اسم الديوان

كان الربيع وتلاه الصيف، وكانت لياليهما السواحر الحسان، وكان هتاف الكروان الذي لا ينقطع من الربيع إلى الخريف، ولا يزال يتردد حتى يُسكته الشتاء. وأكثر ما يسمعه السامع في حوافي مصر الجديدة حيث أَسْكنُ وحيث يَكثُر هذا الطائر الغريب؛ لأنه يألف أطراف الصحاري على مقربة من الزرع والماء، كأنه صاحب صومعة من تلك الصومعات التي كان يسكنها الزهَّاد بين الصحراء والنيل؛ فله من مصر الجديدة مرتاد محبوب.

ولي بالكروان ألفة من قديم الأيام، نظمت فيه القصيدة النونية التي أقول في مطلعها:

هل يسمعون سوى صدى الكروان
صوتًا يرفرف في الهزيع الثاني

وأودعتها الجزء الأول من الديوان.

ثم أعادني طائف من طوائف النفس إلى النظم فيه، فاجتمعتْ عندي قصائدُ عدةٌ في مناجاته. وكأنني كنت أعارضه وأساجله بكثير من القصائد الأخرى التي اشتملت عليها هذه المجموعة، فصحَّ على هذا المعنى أن يُسمى الديوان كله «هدية الكروان».

ولوصف الكروان وشرح طباعه ومشاربه مقام آخر غير هذا المقام؛ فأمَّا غناؤه فقد تقال فيه كلمة هنا؛ لأننا نتكلم عمَّا فيه من شعر يوحي الشعرَ، فليس أصلح لهذا الكلام من صدر ديوان.

تسمعه الفينة بعد الفينة في جنح الليل الساكن النائم البعيد القرار، فيشبِّه لك الزاهدَ المتهجِّدَ الذي يرفع صوته بالتسبيح والابتهال فترةً بعد فترةٍ، ويشبِّه لك الحارسَ الساهرَ الذي يتعهَّد الليل بالرعاية بين لحظة ولحظة، وينطلق بالغناء في مفاجأة منتظرة أو انتظارٍ مفاجئ، فلا تدري، أهي صيحة جذل أم هي صيحة روعة وإجفال؟ ولكنك تشعر بالجذل والروعة والإجفال تتقارب، وتتمازج في نفسك حتى لا تتفرق، كأنك تُصغي إلى طفل يرتاع وهو جذلان، ويجذل وهو مرتاع! ويطلب الخطر ويشتهيه؛ لأن للخطر في حسِّه طرافةً وحركةً، فهو من عالم التفاؤل والإقبال لا من عالم التشاؤم والنكوص.

ويطلع عليك بهتافه من هنا ومن هناك، وعن اليمين وعن الشمال، وعلى الأرض وفوق الذرى، فيُخيَّل إليك أنك تستمع إلى روح هائم لا يقيده المكانَ ولا يعرف المسافةَ، أطلقوه في الدنيا على حين غرة، فسحرته فتنة الدنيا وخلبته محاسن الليل، فهو لا يعرف القرار ولا يصبر في مطار. فأنت تتلقَّى من صوت هذا الطائر الأليف النافر عالمًا من معانٍ وأشجان يتجاوب فيه تقديس المصلي القانت، وحدب الحارس الأمين، وروح الطفولة، ومناجاة الخطر المقبول، وهيام الروح المنهوم بالحياة والجمال؛ عالم لا نظير له فيما نسمع من غناء الطير بهذه الديار.

ومن العجيب أنك لا تقرأ صدًى للكروان فيما ينظم الشعراء المصريُّون، على كثرة ما يُسمع الكروان في أجوائنا المصرية من شمال وجنوب!

وأعجب منه أنك لا تقرأ فيما ينظمون إلا مناجاة البلابل وأشباهها على قلة ما تُسمع في هذه الأجواء!

فكأنَّما العامَّة عندنا أصدق شعورًا من الشعراء؛ لأنهم يُلقِّبون المُغَنِّي بالكروان ولا يلقبونه بالبلبل، فيصدرون عن شعور صادق ويتحدثون بما يعرفون.

وليس عن تعصب منَّا للوطن نؤثر الكروان على البلبل وما إليه؛ لأنَّ التعصب الوطنيَّ على هذه الصورة حماقةٌ لا معنى لها في الشعر والشعور، ولكننا نؤثره لأن الإعجاب به صحيح يصدر من الطبع الصادق. أمَّا الإعجاب بالطير الذي لا نسمعه، فذاك محاكاة منقولة تصدر من الورق البالي وتؤذي النفس كما يؤذيها كلُّ تصنُّعٍ لا حقيقةَ فيه، وأخفُّ موقعٍ له في نفوسنا أن يضحكها ويغريها بالسخرية، كذلك الأصمِّ الذي أراد أن يخفي صممَه في مجلس الغناء، فأوصى صاحبه أن يغمزه كلما وجب الصياح والاستحسان، فلما نام وراحوا يوقظونه آخر الليل قام يصيح ويستحسن ولا سماع هناك ولا سامعين!

وإذا لم يشعر الشاعر بتغريد الطير على اختلافه، فبماذا عساه يشعر؟! إن الطير المغرد هو الشعر كله؛ لأنه هو الطلاقة والربيع والطرب والعلو والتعبير والموسيقية. فمن لم يأنس به لم يأنس بما في هذه الدنيا من طبيعة شاعرة، ولم يختلج له ضمير بما في الحياة من فرح وجيشان وتعبير.

والطير بعدُ هو حجة الطبيعة لشِعر الإنسان وغناء الإنسان، فهو عند الشاعر وثيقةٌ لا يُعرض عنها ولا يُفلتها من يديه، فإذا قال الجفاة الجامدون: إن الشعر لغوٌ في الحياة، قال الشاعر: إن التعبير الموسيقيَّ عنصر من عناصر الطبيعة، وإنَّ الطير يغني ويهتف، وإن الطير يفرغ للغناء وحده إذا شبع وأمن، كأنَّ الغناء والتعبير عن الشعور هما غاية الحياة القصوى، لا ينساها الحيُّ إلا لعائق يشغله ويغضُّ من حياته.

والجفاة الجامدون يقولون كثيرًا عن الشعر في الزمن الأخير، يقولونه على الرغم من هذا الشعر الذي تفيض به الطبائع الحية، ولا سيما الأحياء المغرِّدة الطائرة، ويقولونه على الرغم من ملازمة الشعر لكلِّ أمَّة ولكلِّ قبيلة ولكلِّ لغة، فلو كان شيئًا عارضًا في الحياة الإنسانية لما وُجد حيث توجد الحياة الإنسانية، ولو كانت الموسيقية نافلةً في الدنيا لما وُجدت في أمَّة الطير، وإذا وُجدت في لسان الطائر فلماذا تحرم على لسان الإنسان؟ ولماذا يكون الكلام الإنسانيُّ وحده بمعزل عن الأوزان والأشجان؟

فبين الطائر المغرِّد والشاعر الشادي محالفةٌ طبيعيةٌ لا تحنث فيها الطير، ولا تُقصِّر في إسداء حصتها الخالدة، والشعر مهما أسلف من ثناء على الطير وتمجيد للتغريد لن يوفي كلَّ دَيْنه، ولن يستنفد كلَّ حصته، فلتكن «هدية الكروان» بعض الهدايا التي يتَّصل بها السبب بين عالم الطير وعالم الشعراء.

عباس محمود العقاد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤