الفصل الثالث

حياة ابن الرومي

كما تؤخذ من معارضة أخباره على شعره

ذلك كل ما عثرنا عليه من أخبار ابن الرومي متفرقًا في كتب الأدب والتاريخ، لم نترك منه إلا نبذًا قليلة تجيء في مواضعها من فصول هذا الكتاب، وإلا الفضول الذي لا ينتظم في مادة الترجمة ولا يزيدنا علمًا بالرجل أو بأدبه وشعره.

وكل هذا الذي عثرنا عليه وما يشابهه في مادته لا يجزئ في ترجمة وافية، أو فيما يقرب من ترجمة وافية؛ لأنه مفرط الزيادة في مواضع، ومفرط النقص في مواضع أخرى، وبين أجزائه فجواتٌ بعيدة لا تترك خلوًا، ولا حيلة لنا الآن في ملئها، فلا خبر عن صباه ولا عن دراسته ولا عن أهله، ولا عن أمر مفصل موثوق به من أمور معيشته، وبغير هذه العناصر الجوهرية لا تقوم ترجمة، ولا يكمل تصوير رجل، وعلى هذه القلة في الأخبار التي بين أيدينا لا نراها تسلم من الخطأ حينًا، ومن المبالغة أحيانًا، فنحن — على حد المثل الذي اخترناه — كمن يُؤتَى له بعظام ناقصة ليبني منها بنية جسم كامل، وفيها مع هذا عظام مدسوسة لا تدخل في بنية الجسم الذي يراد تركيبه!

إلا أن ابن الرومي يعوضنا بعض العوض من ذلك النقص الكبير بخاصة فريدة فيه ليست في غيره من الشعراء هي: مراقبته الشديدة لنفسه، وتسجيله وقائع حياته في شعره.

فما من أحد كان له شأن في حياته إلا وجدت اسمه في ديوانه ممدوحًا أو مَهْجوًّا أو موصوفًا أو مردودًا عليه، وما عاب أحدٌ مشيتَه أو أكله أو لبسه العمامة أو طريقته في النظم إلا كان لذلك خبر مفيد في ديوانه، ولم يعرف عنه أنه كان يشتهي طعامًا أو فاكهة إلا وذلك معروف من شعره قبل أن يُعرف من نوادر المتحدثين عنه، وما خاطر طويته خلق محمود أو مذموم إلا شهد به على نفسه كأنه في حرج من أمر كتمانه.

أقر على نفسي بعيبي لأنني
أرى الصدق يمحو بينات المعايب
لَؤُمت — لعمر الله — فيما أتيته
وإن كنت من قوم كرام المناصب
ولا بد من أن يَلْؤُم المرء نازعًا
إلى الحمأ المسنون ضربة لازب

على أنه يشهد بخلة الكذب على نفسه كما يشهد لها بهذا الصدق المقرون بإظهار العيوب، فيقول في أصرح عبارة:

وإني لذو حلف كاذب
إذا ما اضطررت وفي الأمر ضيق
وهل مِن جُناح على مرهق
يدافع بالله ما لا يطيق؟!

ويقول في تسجيله حرصه وجبنه:

وأصبحت في الإثراء أزهد زاهد
وإن كنت في الإثراء أرغب راغب
حريصًا جبانًا أشتهي ثم أنتهي
بلحظي جناب الرزق لحظ المراقب
أخاف على نفسي وأرجو مفازها
وأستار غيب الله دون العواقب
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي
ومن أين؟ والغايات بعد المذاهب

ويتوهم أن أناسًا سيعيبون مجونه في مجلس الشراب، ويرون أنه لا يليق بما يدعي من العلم والوقار، فيسبقهم إلى ذاك ويقول:

وأرى أن معشرًا سيقولو
ن: سخيف من الرجال لعوب
أين عنه وقار ما يدعيه
من علوم لحامليها قطوب؟
ولعمري إن الحكيم وقور
ولعمري إن الكريم طروب

ويحس دبيب الشيخوخة في مآرب نفسه وخلجات قلبه؛ فيخشى أن يفوته تسجيل ذلك كله كأنه محاسبٌ عليه معاقبٌ على تفويته، فيقول لقرائه:

اكتهلت همتي فأصبحت لا
أبهج بالشيء كنت أبهج به
وحسب من عاش من خلوقته
خلوقة تعتريه في أربه

وهكذا في الصغائر والكبائر، وفي وقائع العيش وخواطر السريرة، وفيما يلقى به الناس ويلقى به الله.

وقد تجد في الشعراء من تتعرف بعض وقائعه من قراءة شعره، ومن تستطلع خلائقه من ثنايا كلامه، ولكن ابن الرومي لا يحوجك إلى التعرف والاستطلاع؛ لأنه يعفيك من الملاحظة بما يقوم به هو من ملاحظة نفسه، وتقييد شوارد فكره، وهمسات فؤاده، وسبحات أحلامه، فكأنما هو رقيب على بواطنه وظواهره، وكأنما أُعطي نفسه ليجربها ويقيد تجاربه فيها! فكان ديوان شعره كناشة الرقابة أعدها ليحصي فيها كل ما يحصيه الرقيب الحسيب.

هذه الخصلة في الشاعر تعوضنا كثيرًا مما ضيعته التواريخ من حوادثه وأوصافه، فعلى ما جاء في ديوانه نعتمد في تصحيح الأخبار المسطورة وتكميلها على وجهٍ نستوفي به الترجمة جهد المستطاع، فهو حسبك من مُترجِمٍ لحياته وصَّافةٍ لحقيقته. ولولا أن الشعر لا يسجل الأرقام ولا يتقصى كل ما فات الشاعر قبل أن يصبح شاعرًا؛ لكان هو حسبك من رواية لا تحتاج بعده إلى تدوين رواية.

أصله ونشأته

«ولد أبو الحسن علي بن العباس بن جريج الرومي يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر، لليلتين خلتا من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين، ببغداد في الموضع المعروف بالعقيقة ودرب الختلية في دار بإزاء قصر عيسى بن جعفر بن المنصور.»

وقد رجعنا إلى كتب المضاهاة بين التاريخ الهجري والتاريخين الميلادي والقبطي، فوجدنا في كتاب «التوفيقات الإلهامية»، لصاحبه محمد مختار باشا، أن أول رجب من تلك السنة يوافق الثلاثاء، الذي يقع في العشرين من شهر يونيو سنة ٨٣٥ ميلادية، وفي السادس والعشرين من شهر بؤنة سنة ٥١٢ قبطية، فاليوم الثاني من رجب هو يوم أربعاء، وهو مما يحقق صحة تاريخ المولد الذي لم يختلف فيه مؤرخوه.

وكان ابن الرومي مولًى لعبد الله بن عيسى بن جعفر بن المنصور، وجعفر هو الابن الثاني للمنصور لم يتول الملك، ولم تكن له ولاية عهد، ولا كانت بعده لأحد من ولده الذين نشأ فيهم الشاعر.

ولا يدع ابن الرومي مجالًا للشك في أصله الرومي، فإنه يذكره ويؤكد في مواضع شتى من ديوانه كقوله:

ونحن بنو اليونان قوم لنا حِجًى
ومجد وعيدان صلاب المعاجم

وقوله في مدح بعض مواليه من بني العباس:

ومتى اختل ابن روميكم
فأياديكم حرى منه قمن

وقوله فيهم:

مولاهُمُ وغذي نعمتهم
والروم، حين تنصني، أصلي

وغير ذلك كقوله:

قد تحسن الروم شعرًا
ما أحسنته العريب

و:

آبائي الروم توفيل وتوفلس
ولم يلدني ربعي ولا شبث

و:

يا بني السمري قد لزمتكم
حرمة الروم — ويحكم — فاحفظوني

و:

إذا ما حكمت والروم أهلي
في كلام معرب كنت أهلا

و:

إذا الشاعر الرومي أطرى أميره
فناهيك من مُطرًى وناهيك من مُطْر

و:

إن لم أزر ملكًا أشجى الخطوب به
فلم يلدني أبو الأملاك يونان
بل إن تعدَّتْ فلم أُحسن سياستها
فلم يلدني أبو السُّواس ساسان

أو كقوله — وهو كما تقدم في نسب أبيه وأمه:

كيف أغضي على الدنية والفر
س خئولي والروم أعمامي؟!

واسم جده مع هذا جريج أو جورجيس، وهو اسم يوناني لا شبهة فيه، فلا معنى إذن للشك في أصله، ولا ينبغي الالتفات إلى من قال: إنه سُمِّي ابن الرومي لجماله في صباه.

أبوه

ولم يرد لأبي الشاعر ذكر خاص في ديوانه، إلا حيث يقول من قصيدة بائية يذكر فيها مناقبه ومناقب آبائه:

وكم من أب لي ماجد وابن ماجد
له شرف يربي على الشرف المربي!
إذا أمطرت كفاه بالبذل نوَّرت
له الأرض واهتزت رياها من الخصب

وإلا حيث يقول:

شاد لي السور بعد توطئة الأُ
سِّ أبٌ قال: أنت للشرف

والبيتان الأولان فخر يراد به وقع الكلام، واستيفاء باب من أبواب الشعر التي كان الشعراء ينظمون فيها من نسيب ومدح ورثاء وهجو وفخر ونحوها، فليس فيه خبر ولا رواية، ولكنه معالجة فنية كهذه الموضوعات التي يعالجها الشاعر المعاصر لتصوير الأطوار النفسية، ووضع الأماثيل على لسان الحال، ثم لا يعني بها الإخبار عن نفسه وإن جاءت بضمير المتكلم، وقد كان الشاعر القديم يأبى أن يخلو ديوانه من باب من أبواب الشعر المعروفة، ويأنف أن يظن به التقصير في واحد منها؛ فهو لهذا يشبب ويفخر، ويقول في الفخر ما يهول وقعه لا ما يصدق خبره! والفخر على هذا الاعتبار عمل فني يؤخذ على هذا المعنى، ولا يستمد منه التاريخ أو يرجع إليه في تقرير الوقائع.

والبيت الثالث يلحق بهذين البيتين في الفخر والإشادة بالنسب من ناحية «الفن» لا من ناحية «التاريخ»، إلا أننا نستخلص منه أن أباه كان يتوسم فيه الذكاء، ويرجو أن يشرف بعلمه وأدبه، كما شرف بالعلم والأدب كثيرون من أبناء الموالي ارتفعوا إلى مناصب الوزارة من طريق الكتابة والمساجلة ومعاشرة العظماء المتأدبين. وكان أبوه صديقًا لبعض العلماء والأدباء منهم محمد بن حبيب الراوية الضليع في اللغة والأنساب، فكان الشاعر يختلف إليه لهذه الصداقة، وكان محمد بن حبيب يخصه لما يراه من ذكائه وحدة ذهنه، وحدث الشاعر عنه فقال: «إنه كان إذا مر به شيء يستغربه ويستجيده يقول لي: «يا أبا الحسن، ضع هذا في تامورك».»١
ونرجع أنه فقد أباه وهو صغير لم ييفع؛ لأنه لم يرثه حين وفاته مع أنه قال الشعر وهو صبي في المكتب؛٢ ولأنه كان يسمي أخاه «والدًا» كأنما كان له عليه فضل تربية وكفالة.

أمه

وقد علمنا أن أمه كانت فارسية من قوله: «الفرس خئولي والروم أعمامي.» وقوله: «فلم يلدني أبي السواس ساسان.» بعد أن رفع نسبه إلى «يونان» من جهة أبيه، ولا يخفى أن انتماءه إلى ساسان لا يقصد به أنه من أبناء الملوك الساسانيين، وإنما هو كقول المصري اليوم: إنه من أبناء الفراعنة. ولا علاقة في النسب بينه وبينهم.

وربما كانت أمه من أصل فارسي، ولم تكن فارسية قُحًّا لأبيها وأمها، وهذا هو الأرجح؛ لأنه علمه بالفارسية — كما سيأتي — لم يكن علم رجل نشأ في حجر أم تتكلم هذه اللغة، ولا تحسن الكلام بغيرها.

وماتت أمه وهو كهل أو مكتهل كما يقول في رثائها:

أقول — وقد قالوا: أتبكي كفاقد
رضاعًا، وأين الكهل من راضع الحلم؟
هي الأم — يا للناس — جرعت فقدها
ومن يبك أمًّا لم تُذم قط لا يُذم

وكانت تقية صالحة رحيمةً كما يؤخذ من أبياته في رثائها:

لقد فجعت فيك الليالي نفوسها
بمحيية الأسحار حافظة العتم
ولم تخطئ الأيام فيك فجيعة
بصوامة فيهن طيبة الطعم
وفات بك الأيتام حصن كنافة
دفيء عليهم ليلة القرِّ والشَّبم
رجعنا وأفردناك غير فريدة
من البر والمعروف والخير والكرم
فلا تعدمي أنس المحل فطالما
عكفت فآنست المحاريب في الظلم

وجزع عليها جزعًا شديدًا ينمُّ عليه قوله:

ألا من أراه صاحبًا غير خائن
ألا من أراه مؤنسًا غير محتشم
ألا من تليني منه في كل حالة
أبرُّ يدٍ برَّت بذي شعث يُلم
ألا مَن إليه أشتكي ما ينوبني
فيفرج عني كلَّ غم وكل هم
نَبَا ناظري يا أمُّ عن كل منظر
وسمعي عن الأصوات بعدك والنغم
وأصبحت الآمال — مذ بِنْتِ — والمنى
غوادر عندي غير وافية الذمم
وصارمت خلاني وهم يصلونني
وقد كنت وصَّال الخليل وإن صرم
وآنسني فقد الجليس وأوحشت
مشاهدهُ نفسي، ولم أدر ما اجترم

وكانت لها أخت ماتت قبلها، فهو يقول إذ يرثيها: إنه كان له جناحان من عطفها وعطف أمه:

أراني وأمي بعد فقدان أختها
وإن كنت في رَفه بها وصلاح
كفرخ قطاة الدوِّ بانَ جَناحه
فباء إلى حصن بفرد جَناح

أخوه

ويظهر أن أبويه لم يعقبا من البنين غيره وغير أخيه محمد المُكنَّى أبا جعفر، وهو أكبر منه لأنه يقول:

بأخي بل بوالدي بل بنفسي

وهو يتفجع بذكراه، وشقيقه لأنه يقول في موضع آخر:

بأخ شقيق بعد أم برة
بالأمس قطَّع منهما أقرانه

ويذكره بمثل ذلك في غير موضع.

وكل ما وصل إلينا عن هذا الأخ قصة جاءت في ديوان الشاعر نعلم منها أنه كان أديبًا: «وكان يكتب لرجل فعُزل بعد مدة، فعبث به آل أبي شيخ أصدقاؤه وقالوا: عزَله شؤمك. وكان بين آل أبي شيخ وابن سعدان — مؤدب المؤيد — مودة، فخرجوا إليه في أيام المؤيد فأقاموا مدة، وكان من المؤيد ما كان وتشتت أصحابه، فكتب إليهم أبو جعفر يُولع٣ بهم ويقول: إن شؤمي عزال وشؤمكم قتال، وسيأتيكم في هذا نظم علي بن العباس — يعني أخاه.» ومن ذلك النظم قوله:
أنا شؤمي فيما تقولون عزَّا
لٌ ولكنَّ شؤمكم قتَّالُ
بالذي أدرك المؤيد منكم
وابن سعدان تُضرَب الأمثالُ
زُرْتموه والصالحات عليه
مقبلاتٌ فأدبر الإقبالُ

•••

إن شؤمًا حلت به عقدة الملـ
ـك لشؤم تزول منه الجبالُ

ونعلم من هذه القصة أن محمدًا عاش إلى سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وهي السنة التي قتل فيها المؤيد، وكان ابن الرومي في تلك السنة قد بلغ الحادية والثلاثين، فالأرجح أن محمدًا قد عاش بعدها بضع سنوات؛ لأن الشاعر ذكره في رثاء أمه حيث قال: «أقاسي وصنوي منه كل شديدة.» أي ذكره وهو كهل جاوز الحادية والثلاثين؛ لأنه كان كهلًا حين ماتت أمه كما مر بنا في رثائها، والحادية والثلاثون ليست بسن كهولة، إلا أن يكون الذين لاموا الشاعر لفرط جزعه على أمه قد تعمدوا تكبير سنِّه لاستيجاب الملام.

ونرى في موضعين من الديوان أبياتًا يستعطف بها الشاعر لأخيه رئيسًا غضب عليه، وكأن أخاه مات وهو يعمل في خدمة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، أحد أركان بيت بني طاهر المشهور في دولة بني العباس؛ فإن الشاعر يقول من قصيدة يخاطب بها عبيد الله، ويذكر أخًا شقيقًا مات بعد أم برة:

فليحيه الملك الهمام فلم يفت
محياه قدرته ولا سلطانه
وحياته لي أن أقوم مقامه
وأسُدُّ من دار الأمير مكانه
فالشاعر يتكلم عن نفسه على ما نرجحه كثيرًا، ويطلب أن يحل في دار عبد الله محل أخيه،٤ والمجزوم به بعد هذا كله أن محمدًا مات بعد موت المؤيد، وأنه كان على شيء من الأدب ومعرفة الكتابة، وحب العبث والدعابة.

وقد حزن عليه ابن الرومي حزنًا طويلًا مُلحًّا بقي يعاوده إلى آخر أيامه، فلم يفتأ يذكره ويعيد ذكره في شعره إذا مدح أو عتب أو استعبر، ومن ذاك أنه قال يرثيه:

وتسليني الأيام لا أن لوعتي
ولا حزني كالشيء يُنسى فيعزب
ولكن كفاني مسليًا ومعزِّيًا
بأن المدى بيني وبينك يقرب

وقال لصاحب كان يحسده ويغري به:

أيها الحاسدي على صحبتي العسـ
ـر وذمي الزمان والإخوانا
… … … … …
… … … … …
ليت شعري ماذا حسدت عليه
أيها الظالمي إخائي عيانا؟
أعَلى أنني ظمئت وأضحى
كل من كان صاديًا ريانا؟
… … … … …
… … … … …
أم على أنني ثكلت شقيقي
وعدمت الثراء والأوطانا؟

وقال وهو يعاتب القاسم بن عبيد الله:

أنا ذاك الذي سقته يد السقـ
ـم كئوسًا من المرار رواءَ
ورأيت الحمام في الصور الشنـ
ـع، وكانت لولا القضاء قضاء
ورماه الزمان في شقة النَّفـ
ـس فأصمى فؤاده إصماء

وقد مرض واشتد مرضه بعد موته، فهو يقول حين أجلي عن مسكنه:

فيه عافانيَ الإله من الشَّكْـ
ـو وفكَّ البلاءُ عني كبولَهْ
بعد جهد حملت منه ضروبًا
ليس أثقالهن بالمحمولهْ
ومصاب بشقة النفس مني
ضمَّن الجسم سقمه ونحولهْ

ولم يبق لابن الرومي بعد موت ذلك الأخ الوحيد أحد يعوَّل عليه من أهله، أو من يحسبون في حكم أهله، إلا أناس من مواليه الهاشميين العباسيين كانوا يبرونه حينًا، ويتناسونه أحيانًا، وكان هو لعهد الهاشميين الطالبيين أحفظ منه لعهد الهاشميين العباسيين، كما يظهر مما يلي. أما ابن عمه الذي أشار إليه في قوله:

لي ابن عم يجر الشر مجتهدًا
إليَّ قدمًا، ولا يصلي له نارا
يجني، فأصلى بما يجني، فيخذُلني
وكلما كان زندًا كنت مسعارا

فلا ندري أهو ابن عم لح أو ابن عم كلالة، ومبلغ ما بينهما من صلة المودة ظاهر من البيتين.

أولاده وزوجته

ورزق ابن الرومي ثلاثة أبناء؛ هم: هبة الله، ومحمد، وثالث لم يذكر اسمه في ديوانه، ماتوا جميعًا في طفولتهم ورثاهم بأبلغ وأفجع ما رثى به والد أبناءه، وقد سبق الموت إلى أوسطهم محمد فنظم في رثائه الدالية المشهورة التي يقول منها:

توخَّى حمام الموت أوسط صبيتي
فلله كيف اختار واسطة العقد؟
على حين شمت الخير في لمحاته
وآنست من أفعاله آية الرشد

ومنها في وصف مرضه.

لقد قل بين المهد واللحد لبثه
فلم ينس عهد المهد إذ ضمَّ في اللحد
ألح عليه النزف حتى أحاله
إلى صفرة الحادي عن حمرة الورد
وظل على الأيدي تساقط نفسه
ويذوي كما يذوي القضيب من الرند

ويذكر فيها أخويه الآخرين:

محمد ما شيءٌ تُوهِّم سلوةً
لقلبي، إلا زاد قلبي من الوجد
أرى أخويك الباقيين كليهما
يكونان للأحزان أورى من الزند
إذا لعبا في ملعب لك لذَّعا
فؤادي بمثل النار عن غير ما عَمْد
فما فيهما لي سلوة بل حزازة
يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي

فابنه محمد إذن قد مات منزوفًا في حياة أخويه الصغيرين، وهو فيما بين الرابعة والخامسة؛ لأنه يقول فيه: «لقد قل بين المهد واللحد لبثه.» ويقول: «وظل على الأيدي تساقط نفسه.» وإنما يحمل الطفل المريض على الأيدي في مثل تلك السن، ولا يحتمل أن يكون أصغر من ذلك؛ لأن أخاه الصغير كان في سن اللعب، وهي لا تكون قبل الثالثة ونحوها، أما ابنه هبة الله فقد ناهز الشباب على ما يفهم من قوله في رثائه:

يا حسرتا فارقتني فننًا
غضًّا، ولم يثمر لي الفنن

والبيت من قطعة مُرَّة دفينة الحزن أشبه بالنشيج منها بالنحيب يقول فيها:

أبُني إنك والعزاء معًا
بالأمس لُف عليكما كفن
تالله لا تنفك لي شجنًا
يمضي الزمان وأنت لي شجن
ما أصبحت دنياي لي وطنًا
بل حيث دارك عندي الوطن
… … … … …
… … … … …
أولادنا أنتم لنا فتن
وتفارقون فأنتم محن

وكأنها لم تشف لوعته أو كأنه لام نفسه على حزنه الصامت، فعاد يقول وهو موزع القلب بين الصبر والجزع:

شجًى أن أروم الصبر عنك فيلتوي
عليَّ، ولؤمٌ أن يساعدني الصبر
فيا حزني ألا سُلو يطيعني
ويا سَوْءَتي من سلوتي، إنها غدر

وفي الديوان أبيات بائية يرثي بها ابنًا لم يذكر اسمه، وهي هذه الأبيات:

حماه الكرى همٌّ سرى فتأوَّبا
فبات يراعي النجم حتى تصوبا
أعينيَّ جودا لي فقد جدت للثرى
بأكثر مما تمنعان وأطيبا
بنيَّ الذي أهديته أمس للثرى
فلله ما أقوى قناتي وأصلبا
فإن تمنعاني الدمع أرجع إلى أسى
إذا فترت عنه الدموع تلهبا

ويبعد أن تكون رثاء لابنه الأكبر هبة الله، فهي — على الأرجح — رثاؤه لأصغر أبنائه الذي لم يذكر اسمه، ولا ندري هل مات قبل أخيه أو بعده، ولكن يخيل إلينا بالمقابلة بين هذه المراثي أن الأبيات البائية كانت آخر ما رثي به ولدًا؛ لأنها تنم عن فجيعة رجل راضه الحزن على فقد البنين حتى جمدت عيناه، ولم يبق عنده من البكاء إلا الأسى الملتهب في الضلوع، وإلا العجب من أن يكون قد عاش وصلبت قناته لكل هذه الفجائع، وقد كان رثاؤه لابنه الأوسط صرخة الضربة الأولى، ففيها ثورة لاعجة تحس من خلال الأبيات، ثم حل الألم المر محل الألم السوار في مصيبته الثانية، فوجم وسكن واستعبر، ثم كانت الخاتمة، فهو مستسلم يعجب للحزن كيف لم يقض عليه، ويحس وقدة المصاب في نفسه ولا يحسها في عينيه.

ولقد غشيت غبرة الموت حياته كلها، وماتت زوجته بعد موت أبنائه٥ جميعًا، فتمت بها مصائبه، وكبر عليه الأمر، وقل فيه العزاء؛ فهو يقول:
عينيَّ سحَّا ولا تشحَّا
جل مصابي عن العزاء

ورثاها في موضع آخر يقول فيه:

فاستغزرا درة الشئون على
بدركما، بل على قضيبكما

ويلوح منه أنها ماتت وهي فتية توصف بما توصف به الفتيات، ويغلب أنه هجر الزواج بعدها زمنًا، فلم يتزوج إلا في أواخر عمره إذا صح ما استخلصناه من بعض أبياته.

ونقول: ما استخلصناه؛ لأننا لا نعتمد على خبر صريح في أمر زواجه الآخر، ولكننا لا بد أن نقف في هذا الصدد عند أبيات قالها للقاسم بن عبيد الله وهي:

وهب خادمًا لم يوف نعماك شكرها
فبدل عرفٌ عنده بنكير
فما ذنب طفل كان تسبيب كونه
رجاؤك، يا مرجو كل فقير؟
أيحسن أن جر العيالَ رجاؤكم
وخاب نداكم، وهو خير خفير؟
غياثكم يا آل وهب فإنني،
وإن لم أكن أعمى، أضر ضرير

وأبيات أخرى لعل المخاطب بها هو القاسم أيضًا، وهي:

منعت الكفاف الذي لم تزل
تجود به كفك الموسعهْ
فإن كنت مسلم ذي حرمة
لقول أعاديه، ما أضيعهْ!
فعجله بالسيف كي يستريـ
ـح، إن كنت من مثله في سعهْ
أتسلمنا للردى ستة
وقد كنت ترحمنا أربعهْ؟

لا بد أن نقف عند هذه الأبيات، ولا بد أن نفهم منها أنه تزوج في أواخر عمره، ورزق ولدًا فأصبح أهل بيته ستة بعد أن كانوا أربعة، ولا يمكن أن تكون الإشارة في الأبيات الرائية إلى طفله الأول وزوجته الأولى؛ لأن الأبيات قيلت للقاسم بن عبيد الله، والقاسم ولد حوالي سنة خمس وخمسين ومائتين، فلا يبلغ من السن المبلغ الذي يرجى فيه ويمدح إلا حوالي سنة خمس وسبعين، ولا يعقل أن ابن الرومي بقي عزبًا إلى تلك السنة ثم تزوج زواجه الأول ورزق أولاده الثلاثة.

وكيفما كانت جلية القول في هذه الأبيات، فقد كانت له زوجة عندما هجا عمرًا حاجب القاسم؛ لأنه قال فيه:

أيركب عمرو حوله من يحفه
ويعوزني قوت أعول به عرسي؟

ولا يكون ذلك قبل سنة خمس وسبعين ونحوها، كذلك لا شك في أنه لما قارب الستين لم يكن متزوجًا؛ لأنه يقول في قصيدة نظمها في نحو تلك السن:

ومبيتي بلا ضجيع لدى القـ
ـر، وللوغد شادن مخضوب
ولم يذكر أحد من مؤرخيه — ولا الناجم الذي حضر وفاته — أنه ترك ولدًا بعده، فإذا صح ما استخلصناه من أمر زواجه الثاني، فهناك فجيعة أخرى أصيب بها في ولد جديد٦ قبل وفاته، فمات ولا زوج له ولا بنون.

تعليمه

ذلك كل ما استطعنا أن نجمعه من الأخبار النافعة عن نشأة الشاعر وأهله، ولا محصل للبحث في المصادر التي بين أيدينا عن أيام صباه وتعليمه، ومن حضر عليهم، وتتلمذ لهم من العلماء والرواة، فإن هذه المصادر خلو مما يفيد في هذا المقام، إلا ما جاء عرضًا في الجزء السادس من الأغاني، حيث يروي ابن الرومي عن «أبي العباس ثعلب، عن حماد بن المبارك، عن الحسين بن الضحاك»، وحيث يروي في موضع آخر «عن قتيبة، عن عمرو السكوتي بالكوفة، عن أبيه، عن الحسين بن الضحاك»، فيصح أن تكون الرواية هنا رواية تلميذ عن أستاذ؛ لأن ثعلبًا ولد سنة مائتين، فهو أكبر من الشاعر بإحدى وعشرين سنة. أما قتيبة — والمفهوم أنه أبو رجاء قتيبة بن سعيد بن جميل الثقفي المحدث العالم المشهور — فجائز أن يكون ممن أملوا عليه وعلموه؛ لأنه مات وابن الرومي يناهز العشرين.

وقد مر بنا أنه كان يختلف إلى محمد بن حبيب الراوية النسابة الكبير، وسنرى هنا أنه كان يرجع إليه في بعض مفرداته اللغوية، فيذكر شرحها في ديوانه معتمدًا عليه، قال بعد هذا البيت:

وأصدق المدح مدح ذي حسد
ملآن من بغضة ومن شنف

«قال لي محمد بن حبيب: «الشنف ما ظهر من البغضة في العين».» وأشار إليه بعد بيت آخر وهو:

بانوا فبان جميل الصبر بعدهم
فللدموع من العينين عينان

إذ فسر كلمة «عينان» فروي عن ابن حبيب أنه قال: «عان الماء يعين عينًا وعينانًا إذا ساح.»

فهؤلاء ثلاثة من أساتذة ابن الرومي على هذا الاعتبار، ولا علم لنا بغيرهم فيما راجعناه، وحسبنا مع هذا أن الرجل — كيفما كان تعليمه وأيًّا كان معلموه — قد نشأ على نصيب وافٍ من علوم عصره، وساهم في القديم والحديث منها بقسط وافر في شعره، فلو لم يقل المعري: إنه كان يتعاطى الفلسفة، والمسعودي: إن الشعر كان أقل آلاته، لعلمنا ذلك من شواهد شتى في كلامه، فهي هناك كثيرة متكررة لا يلم المتصفح ببعضها إلا جزم باطلاع قائلها على الفلسفة، ومصاحبة أهلها، واشتغاله بها حتى سرت في أسلوبه وتفكيره، وما كان متعلم الفلسفة في تلك الأيام يصنع أكثر من ذلك ليتعلمها، أو ليُعدَّ من متعلميها، فأنت لا تقرأ لرجل غير مشتغل أو مُلمٍّ بالفلسفة والقياس المنطقي والنجوم كلامًا كهذا الكلام:

لما تؤذن الدنيا به من صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها
لأرحب مما كان فيه وأرغد

أو:

سأمدح بعض الباخلين لعله
إذا اطرد المقياس أن يتسمحا

أو:

غاب تحت الحس حتى
ما يرى إلا قياسا

أو:

إذا احتج محتج على النفس لم تكد
على قدر يُمنَى لها تتعتب

أو:

يا باطلًا أوهمَتْنِيه مخايله
بلا دليلٍ ولا تثبيتِ برهان

أو:

رجوت صلاح القبل بالبعد فانبرى
لنا ظلمكم فاستفسد القبل بالبعد

أو ما قاله في أصحاب الجدل:

لذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم
حجج تضل عن الهوى وتجور
وهن كآنية الزجاج تصادمت
فهوت، وكلٌّ كاسر مكسور
فالقاتل المقتول ثم لضعفه
ولوهيه، والآسر المأسور

أو ما قاله في هجاء صاعد وابنه أبي عيسى، ومنه:

وثنى بابنه السفيه المعنى
بأساطير أرسطاطاليس
والذي لم يُصِخ بأُذْنيه إلا
نحو ذوثوريوس أو واليس٧
عاقدًا طرفه ببهرام أو كيو
ان أو هرمس أو البرجيس
أو بشمس النهار والبدر والزهـ
ـرة عند التثليث والتسديس
واجتماعاتهن في كل قيد
وافتراقاتهن عن كل قيس

فهو في الأبيات الأخيرة يذكر الفلاسفة والرياضيين بأسمائهم المعروفة في الكتب المنقولة، ويذكر أكثر الكواكب بأسمائها الفارسية، ويذكرها في غير هذه الأبيات بأسمائها المعروفة عند العرب، وخصائصها التي كانت معروفة عند الكلدانيين والفرس الأقدمين، ونقلها منهم اليونان ولا تزال مشهورة إلى اليوم في آداب الغربيين، فيقول في مدح إسماعيل بن بلبل — وكان كاتبًا قائدًا:

وافى عطاردُ والمريخ مولده
فأعطياه من الحظين ما اقترحا

لأن عطارد كان رب الكتابة والحكمة والفنون عندهم، والمريخ كان رب الحرب والشجاعة.

ويقول في مدح عبيد الله بن سليمان بن وهب:

إذا صبت زهرته صبوةً
قال له هرمسه: هندسي
وإن عدا هرمسه حده
قالت له زهرته: نفسي

والزهرة هي ربة الجمال واللهو، وهرمس هو اسم عطارد عند الفرس، وهو رب الكتابة والحكمة كما تقدم، يعني أن ممدوحه يميل مع اللهو والجمال، فتهيب به الحكمة والمعرفة، ويرهق نفسه بهذه فتدعوه الزهرة إلى التنفيس.

وربما أعطاك شواهد مساهمته في معارف زمانه كلها من أساطير مأثورة، وعلوم قديمة وحديثة في بيت واحد؛ كقوله يداعب المرثدي حين أخلف وعده في هدايا السمك:

أألحوت حوت الأرض أم حوت يونس
لك الخير أم حوت السماء أروم؟

فحوت الأرض هو الحوت الذي تزعم الأساطير أنه يحمل الثور الكبير الذي يحمل الأرض، وحوت يونس هو الحوت الذي ابتلع النبي يونس، وجاء نبَؤُه في القرآن، وحوت السماء هو البرج المعروف باسم الحوت.

وبين أيدينا خبران عن اقتناء الكتب — إذا لاحظنا قلة أخباره في كل شأن من شئونه — علمنا أنهما يدلان على شيء كثير: أحدهما أتى به المعري في رسالة الغفران، وفيه أنه: «كان يتعاطى الفلسفة، واستعار من أبي بكر السراج كتابًا فتقاضاه به، فقال ابن الرومي: لو كان المشتري حدثًا لكان عجولًا.»

والخبر الثاني مأخوذ من ديوانه إذ يعاتب أبا الحسين محمد بن المعلى لتضييعه كتابًا استعاره منه، فيقول له من قصيدة:

منحتك مصباحًا فأعشاك ضوءُه
وقد كان ظني أنه سيُريكا

وخبران من هذا النوع في حياة قليلة الأخبار يشفَّان — مع شواهد شعره الكثيرة — عن شغف دائم بالتحصيل ومدارسة العلوم إلى ما بعد سن الكهولة؛ فإنه لا يقول: «لو كان المشتري حدثًا لكان عجولًا» إلا وهو كهل أو شيخ جاوز الكهولة.

•••

ومن الحق له وللتاريخ ألا نهمل أخباره عن نفسه في هذا الباب؛ للإبانة عن منزلته من العلم والدراسة كلما كانت هذه الأخبار مطابقة لما نعرف من مجمل حاله، ففي بعض شعره يقول عن نفسه: إنه أدمن الدرس ورفض المكاسب في سبيل إدمانه، كما جاء في هذه الأبيات:

إن امرأ رفض المكاسب واغتدى
يتعلم الآداب حتى أحكما
فكسا وحلَّى كل أروع ماجد
من حُر ما حاك القريض ونظما
ثقة برعي الأكرمين حقوقه
لأحقُ ملتمسٍ بألا يُحرما

وأظهر من ذلك قوله في الهمزية الكبيرة للقاسم:

إن أكن غير مُحسن كل ما تطـ
ـلب إني لَمُحسِنٌ أجزاء
فمتى ما أردت صاحب فحص
كنتُ ممن يشارك الحكماء
ومتى ما أردت قارض شعر
كنت ممن يساجل الشعراء
ومتى ما خطبت مني خطيبًا
جل خطبي، ففاق بي الخطباء
ومتى حاول الرسائل رسلي
بلغتني بلاغتي البلغاء

وأظهر من هذا وذاك أبياته التي يمدح بها أبا سهل النوبختي، ويذكره فيها مودة آل النبي، واشتغالهما معًا بالتفكير في إدحاض شبهات الفلاسفة والمتكلمين، ومنها:

ويدمج أسباب المودة بيننا
مودتنا الأبرار من آل هاشم
وإخلاصُنا التوحيد لله وحده
وتذبيبنا عن دينه في المقاوم
بمعرفة لا يقرع الشك بابها
ولا طعنُ ذي طعن عليها بهاجم
وإعمالُنا التفكير في كل شبهة
بها حجة تُعيي دهاة التراجم
يبيت كلانا في رضى الله ماحضًا
لحجته صدرًا كثير الهماهم

وهذه الأبيات أحجى أن نعتمد عليها في هذا الباب، إذ كانت تتعدى فخر الإنسان بنفسه إلى التذكير بوقائع معهودة، ومدارسات طويلة جرت بينه وبين رجل من صفوة أهل العلم والدراية في أيامه.

وقد وردت في أبياته الهمزية السابقة إشارة إلى حذقه الكتابة، ومشاركته في البلاغة المنثورة تعززها إشارة مثلها في هذا البيت.

ألم تجدوني آل وهب لمدحكم
بشعري ونثري، أخطلًا ثم جاحظا؟!
فلا بد أنه كان يكتب ويمارس الصناعة النثرية، إلا أن ما استجمعناه من منثوراته لا يعدو نُبذًا معدودة موجزة، منها رسالة إلى القاسم بن عبيد الله يقول فيها متنصلًا:

ترفع عن ظلمي إن كنت بريئًا، وتفضل بالعفو إن كنت مسيئًا، فوالله إني لأطلب عفو ذنب لم أجنه، وألتمس الإقالة مما لا أعرفه؛ لتزداد تطوُّلًا وأزداد تذلُّلًا، وأنا أعيذ حالي عندك بكرمك من واشٍ يكيدها، وأحرسها بوفائك من باغٍ يحاول إفسادها، وأسأل الله تعالى أن يجعل حظي منك بقدر ودي لك، ومحلي من رجائك بحيث استحق منك، والسلام.

ومنها رسالة كتبها يعود صديقًا: «أذن الله في شفائك، وتلقى داءك بدوائك، ومسح بيد العافية عليك، ووجه وفد السلامة إليك، وجعل علتك ماحية لذنوبك، مضاعفة لثوابك.»

وكتب إلى صديق له قدم من سيراف فأهدى إلى جماعة من إخوانه ونَسِيَه:

أطال الله بقاءك، وأدام عزك وسعادتك، وجعلني فداءك. لولا أنني في حيرة من أمري، وشغل من فكري لما افترقنا، وشوقي — علم الله — فغالب، وظمئي فشديد، وإلى الله الرغبة في أن يجعل القدرة على اللقاء حسب المحبة، إنه قادر جواد.

ومكاننا من جميل رأيك — أيدك الله — يبعثنا على تقاضي حقوقنا قِبَلك، وكريم سجاياك وأخلاقك يشجعنا على إمضاء العزم في ذلك، وما تطولت به من الإيناس يؤنسنا بك، ويبسطنا إليك، وآثار يديك تدلنا عليك، وتشهد لنا بسماحتك. والله يطيل بقاءك، ويديم لنا فيك وبك السعادة.

وبلغني — أدام الله عزك — أن سحابة من سحائب تفضلك أمطرت منذ أيام مطرًا عمَّ إخوانك بهدايا مشتملة على حسن وطيب، فأنكرتُ على عدلك وفضلك خروجي منها مع دخولي في جملة من يعتدُّك ويعتقدك، وينحوك ويعتمدك، وسبق إلى قلبي من ألم سوء الظن برأيك أضعاف ما سبق إليه من الألم بفوت الحظ من لطفك، فرأيت مداواة قلبي من ظنه، وقلبك من سهوه، واستبقاء الود بيننا بالعتاب الذي يقول فيه القائل: ويبقى الود ما بقي العتاب، وفيما عاتبتُ كفاية عند من له أُذنُك الواعية، وعينُك الراعية.

وقال في تفضيل النرجس على الورد: «النرجس يشبه الأعين والمضاحك، والورد يشبه الخدود والأعين، والمضاحك أشرف من الخدود، وشبيه الأشرف أشرف من شبيه الأدنى، والورد صفة لأنه لون، والنرجس يضارعه في هذا الاسم؛ لأن النرجس هو الريحان الوارد، أعني أنه أبدًا في الماء، والورد خجل والنرجس مبتسم، وانظر أدناهما شبهًا بالعيون فهو أفضل.»

هذه نماذج من منثوراته لا نعرف غيرها فيما بين أيدينا، وخليق بمن يكتب بهذا الأسلوب أن يعد في بلغاء الكتاب، وإن لم يُعدَّ في أبلغهم، على أن ابن الرومي لم يكن يحسب نفسه إلا مع الشعراء إذا اختلفت الطوائف؛ فإنه يقول عن نفسه وهو يمدح أبا الحسين كاتب ابن أبي الأصبع:

ونحن معاشر الشعراء ننمي
إلى نسب من الكتاب دان
وإن كانوا أحق بكل فضل
وأبلغ باللسان وبالبنان
أبونا عند نسبتنا أبوهم
عطاردٌ السماوي المكان

ولا عجب في هذا، فقد كان للشعر كلُّ ما درس الشاعر من فلسفة وعلم وأدب، وكانت هذه المعارف عنده كالروافد للشعر لا نفع لها إن لم ينته بها المصب إلى النهر الكبير. ولم يكن له عقل فيلسوف ولا عقل عالم، وقد رأيت قياسه المنطقي في تفضيل النرجس على الورد، فهل قياس فيلسوف هو أو قياس فنان؟ إنه لقياس فنان نظر إلى الدنيا كأنها متحف للناظر، ومسرح للشعور، وقليلًا ما نظر إليها كأنها معمل للتحليل، أو قضية مبهمة للتأمل والتفكير.

•••

أما حظه من علوم العربية والدين، فمن الفضول أن نتعرض لإحصاء الشواهد عليه في كلامه؛ لأنه أبين من أن يحتاج إلى تبيين، وندر في قصائده المطولة أو الموجزة قصيدة تقرؤها ولا تخرج منها وأنت موقن باستبحار ناظمها في اللغة، وإحاطته الواسعة بغريب مفرداتها، وأوزان اشتقاقها وتصريفها، ومواقع أمثالها، وأسماء مشاهيرها، وما يصحب ذلك من أحكام في الدين، ومقتبسات من أدب القرآن، فليس في شعراء العربية من تبدو هذه الشواهد في كلامه بهذه الغزارة والدقة غير شاعرين اثنين؛ أحدهما صاحبنا، والثاني المعري، وقد كان يمدح الرؤساء والأدباء أمثال: عبيد الله بن عبد الله، وعلي بن يحيى، وإسماعيل بن بلبل، فيفسر غريب كلماته في القرطاس الذي يثبت فيه قصائده، كأنه كان يشفق أن تفوتهم دقائق لفظه وأسرار لغته، ثم يعود إلى الاعتذار من ذلك إذا أنس منهم الجفوة والتغير:

لم أفسر غريبها لك لكن
لامرئ يجهل الغريب سواكا

•••

لغيرك لا لك التفسير أنَّى
يُفسر لابن بجدتها الغريبُ

وكانوا لشهرته باللغة، وعلم أسرارها، ولطيف نكاتها يختلقون له الكلمات النافرة يسألونه عنها؛ ليعبثوا به أو يعجِّزوه، وقصة «الجرامض» إحدى هذه المعابثات التي تدل على غيرها من قبيلها، فقد سأله بعضهم في مجلس القاسم بن عبيد الله: ما الجرامض؟ فارتجل مجيبًا:

وسألت عن خبر الجرا
مض طالبًا علم الجرامض
وهو الخزاكل! والغوا
مض قد تفسر بالغوامض
وهو السلجكل شئت ذا
لك، أم أبيت بفرض فارض

وكلها كلمات من «مادة» الجرامض لا معنى لها ولا وجود.

وإذا صح استقراؤنا وكان من أساتذته أمثال ثعلب وقتيبة، فضلًا عن الأستاذية الثابتة لابن حبيب، فلا جرم يصير ذلك علمه بالغريب والأنساب والأخبار، وهؤلاء كلهم من نخبة النخبة في هذه المطالب، ولا سيما إذا أعانهم تلميذ ذو فطنة متوقدة الفهم، وذاكرة سريعة الحفظ كهذا التلميذ، فقد مرَّ بك أنه كان يحفظ الأبيات الخمسة من قراءة واحدة، فهَبْ في الرواية بعض المبالغة التي تتعرض لها أمثال هذه الروايات، فهو بعدُ سريع الحفظ، وهذا مما يعينه على تحصيل اللغة وتعليق المفردات.

•••

أفكان مع هذا العلم بالعربية يعلم لغة غيرها؟ إن جده كان روميًّا، ولكن كثيرًا من الناس أجدادهم غرباء عن أوطانهم وهم لا يعرفون غير لغة الوطن الذين ولدوا فيه.

وإن أمه كانت تنتمي إلى فارس، ولكننا لا نعلم أفارسية هي أم من أصل فارسي قد يرتفع إلى الأجداد، وفرقٌ بين الحالتين كما لا يخفى؛ لأنها قد تجهل الفارسية وهي حفيدة فارسي، أو يغلب أن تجهلها في هذه الحالة، وقد تتكلمها وهي بنت فارسي وفارسية، فيلقنها ابنها وينشأ على التكلم بها من صباه.

وفي أشعار ابن الرومي كلمات فارسية غير قليلة كأبنفشا «البنفسج»، والدستبند «ضرب من الرقص»، والبذبخت «سيئ الطالع»، والشير «الأسد»، والبرشوجة «طائر»، والدستنبوية «الشمامة»، والكذخذاة «القهرمانة» وأشباه هذه الألفاظ، ولكن العلم بألفاظ كهذه وبأضعافها لا يكثر على ساكن بغداد في ذلك العصر الذي تقاربت فيه الأُمَّتان الفارسية والعربية، وامتزجت فيه الحضارتان، ونفذ فيه الفرس إلى كل فرع من فروع المعيشة الرفيعة والوضيعة، فمن أبناء القاهرة اليوم من يتلقف أضعاف هذا العدد من الكلمات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية، ويُجريها في مخاطبته اليومية وهو لا يتكلم بغير لسان وطنه.

بل هناك ما يكاد يدنو بنا إلى الجزم بجهل ابن الرومي اللغة الفارسية، وهو قوله في هجاء إسماعيل بن بلبل يتَّهمه في عربيته:

أإسماعيل من رجل
تعرب بعدما شاخا
وأصبح من بني شيبا
ن ضخم الشأن بذاخا
وصار أبوه بسطامًا
وكان أبوه قيباخا
وصار يقول: «قم عنا»
وكان يقول: «قوهاخا»

فأول ما يتبادر إلى الذهن أن «قوهاخا» هذه ترجمة «قم عنا» باللغة الفارسية، ولكننا سألنا من يعرفونها بيننا فلم يعرفوا للكلمة هذا المعنى ولا غيره، وأكبر الظن عندنا أنها ليست إلا حكاية صوتية لبعض المخارج الفارسية يحكيها ابن الرومي على سبيل التهكم بالعجمة في تلك المخارج. وقد تكون تصحيفًا من «قوماخا»، وهي قريبة من نطق الأعجمي لقُم عنا … ولو كان حظه من العلم بالفارسية أكثر من حظ الحكاية الصوتية لكان أحرى به أن يظهر في هذا المقام.

مزاجه وأخلاقه

أي خبر من الأخبار التي تسربت إلينا عن حياة ابن الرومي لا نتركه مختارين غير آسفين لو استطعنا أن نستبدل به صورة لوجه الرجل وشخصه؟ بل أي خبر من هذه الأخبار لا نتركه مختارين غير آسفين لو استطعنا أن نستبدل به وصفًا دقيقًا لملامح الرجل وقسماته وشارته وسائر ما يتصل بشكله؟ فقد تعودت النفوس أن تشتاق إلى رؤية من تتحدث به وتسمع عنه، ولم تتعود ذلك عبثًا؛ ولكنها تعودته لأن الرؤية تزيدها معرفة بمن تريد أن تعرفه؛ أو لأن المعرفة لا تكمل بغير رؤية.

وليس من مجرد المصادفة — فيما نعتقد — أن تشيع الصور الشمسية والترجمة التحليلية والدراسة النفسية في عصر واحد، ولا أن تكون الأمم المعروفة قديمًا ببراعة الترجمة وكتابة السير أممًا معروفة كذلك بتقييد الملامح والسمات في الصور والتماثيل؛ فإن فراسة الظاهر جزء من فراسة الباطن.

وكلتاهما لازمة لفهم السيرة وإتقان الدراسة النفسية.

ونحن نؤمن بالفراسة كل الإيمان، ولا نشك إلا في المتفرسين أو في بعض المتفرسين، فالذي فاتنا من ترجمة ابن الرومي بفوات صورته قسم ليس بالقليل، وتعويض هذا القسم بما بقي لنا من الوصف العرضي والأخبار المنزورة من أصعب الأمور.

فها نحن أولاء نكتب سيرة ابن الرومي، ولا نعرف ما الفرق مثلًا بين سحنته وسحنة شاعر من شعرائنا الآخرين. نعم، إن ابن الرومي كان كما نعلم سليل أبوة يونانية وأمومة فارسية، ولكن ألم يكن من الجائز أنه كان أقرب إلى ملامح الأمومة منه إلى ملامح الأبوة؟ أو أقرب إلى ملامح الأبوة منه إلى ملامح الأمومة؟ أكان له وجه فارسي أو وجه يوناني، أو وجه رجل فيه مسحة من سمات الشعبين، أو لا مسحة فيه من هؤلاء ولا هؤلاء؟ ما نظن ذلك مما يُستغنَى عنه في ترجمة شاعر أو صاحب ترجمة كائنًا ما كان.

فإذا كنا سنرجع إلى ذخيرتنا التي نعتمد عليها من شعر الشاعر، وإلى القليل من أخباره التي تسربت إلينا، فلا ندحة لنا في هذا الصدد ولا حيلة، وعزاؤنا بعض العزاء أننا قد نهتدي من شعره وأخباره إلى صورة له تعين على تخيله وتمثيله، وإن لم تغنِ عن صورته الحقيقية ولا عن وصفه الدقيق كل الغناء.

•••

كان ابن الرومي صغير الرأس مستدير أعلاه، أبيض الوجه يخالط لونه شُحوبٌ في بعض الأحيان وتغيُّر، ساهم النظرة باديًا عليه وجومٌ وحيرة، وكان نحيلًا بيِّن العصبية في نحوله، أقرب إلى الطول أو طويلًا غير مفرط، كث اللحية، أصلع بادر إليه الصلع والشيب في شبابه، وأدركته الشيخوخة الباكرة فاعتل جسمه وضعف نظره وسمعه، ولم يكن قط قوي البنية في شباب ولا شيخوخة، ولكنه كان يحس القوة اليسيرة في الحين بعد الحين كما يحس غيره العلل والسقام، فكان إذا مشى اختلج في مشيته، ولاح للناظر كأنه يدور على نفسه أو يغربل لاختلال أعصابه واضطراب أعضائه، وكان على حظ من وسامة الطلعة في شبابه، معتدل القسمات، لا يأخذ الناظر بعيب بارز ولا حسنة بارزة في صفحة وجهه. أما في الشيخوخة فقد تبدلت ملامحه وتقوس ظهره ولحق به ما لا بد أن يلحق بمثله من تغيير السقام والهموم.

•••

هذه خلاصة الصورة التي استخرجناها من شعر الشاعر وأخباره، وقد كان ينبغي أن نكتفي بها ونقف عندها لو كانت «الترجمة لذاتها» هي الغرض الوحيد من هذا الكتاب، ولكن «الترجمة» ليست هي كل ما نقصد إليه، ولا أهم ما نقصد إليه؛ لأن الطريق المؤدي إلى الترجمة غرض كبير من أغراض الكتاب لا يقل عن بيان الترجمة لذاتها، ووسيلة الوصول إلى النتيجة مطلوبة كالوصول إلى هذه النتيجة، والصيد مقصود هنا كما تقصد المائدة والطعام الذي على المائدة، فمن الواجب علينا أن نبين مكان هذه الترجمة من شعر الرومي، وحاجة الأخبار التي بين أيدينا إلى التكميل من كلامه في وصف نفسه عامدًا وغير عامد، وأن نبين كيف أن ديوان شعره قد تجاوز حد الترجمة الباطنية إلى الترجمة التاريخية، لاشتمال وجدان الرجل عليه، وفرط استيعابه لنفسه في شعره، وشدة الامتزاج بين حياته وفنه.

•••

فأمَّا أنه كان صغير الرأس مستدير أعلاه، فيؤخذ من رده على من عاب صغر رأسه:

إذ تنقَّصتَني بصعلكة الرأ
س، سفاها واذَّمَمْتَ غير ذميم
ما تعديت أن وصفت خشاشًا
لوذعيًّا كالحية المشهوم
… … … … …
… … … … …
وقديمًا ما جرب الناس قبلي
ثقل الهام في الخفاف الحلوم
واعتبر أن أفشل الطير في الطيـ
ـر، وفينا كروسات البوم

فهو يقول لعائبه: إن صغر الرأس لا يزري به؛ لأن الحية المشهوم — وهي موصوفة بالحكمة واليقظة — صغيرة الرأس، والبومة كبيرته وهي مضعوفة فاشلة بين الطير والناس.

وأما أنه كان أبيض اللون، فذلك غير عجيب في رجل له جدٌّ من الفرس وجدٌّ من الروم، وقد قال هو يصف ديباجة وجهه في نضرة العمر:

يا هل تعود سوالف الأزمان
أو لا؟ فمنصرف إلى السلوان
كيما أروح وللشبيبة حبرة
أرني العيون بفاحم فتان
وبمشرق صافي الأديم كأنما
فيه ائتلاف من صفيح يمان

والإشراق والصفاء والائتلاف أشبه بالبياض منها بأي لون من ألوان الوجوه.

وأما أنه كان «يخالط وجهه شحوب في بعض الأحيان وتغيُّر، وأنه كان ساهم النظرة باديًا عليه وجوم وحيرة»، فيفهم من قوله وقد لاحظت عليه بنت صغيرة لعبيد الله بن عبد الله أنه كان كثير السكون والتفكير:

وشقيقة قالت: أراه مفكرًا
حتى أراه من السكينة نائما
فأجبتها إني امرؤ هيامة
في كل واد ما أفيق هماهما
أمسي وأصبح للشوارد طالبًا
بهواجسي، حول الأوابد حائما

وهي ملاحظة صادقة بسيطة كأكثر ملاحظات الأطفال — ولا سيما البنات — على الرجال الذين يرونهم عند آبائهم، فيتفرسون فيهم ويطيلون النظر إليهم، ثم إن أناسًا كانوا يعيبون عليه انقباضه كما يؤخذ من قوله في هجاء بعضهم: «يعيب انقباضي معجبًا بانبساطه.» وكما قال علي بن إبراهيم كاتب مسروق البلخي: «كان إذا فاجأه الناظر رأى منه منظرًا يدل على تغير حال.» ولو لم يكن هذا واضحًا في شعره وأخباره لتوسمناه من صحته وخيبة أمله وكثرة شكواه.

وأما نحول «العصبي» المعروق، فالدلائل عليه في شعره كثيرة، منها قوله:

أنا من خف واستدق فما يثـ
ـقل أرضًا ولا يسد فضاء
… … … … …
… … … … …
أنا ليث الليوث نفسًا وإن كنـ
ـت بجسمي ضئيلة رقشاء

ومنها:

يقول القائلون: ضويت جدًّا
ولم تنضجك أرحام النساء
ومن إنضاجها إياي أعرت
عظامي من لحومهم الوطاء
إذا ما كنت ذا عود صليب
فيكفيني القليل من اللحاء

ومنها:

وزارية عليَّ بأن رأتني
من الهزلي حقيرًا في السمان

وذلك فضلًا عن مدحه النحافة فيمن كان يمدحهم، وتفضيله شأو الخماص على شأو البطان؛ لأن العصب جُعل في الرجال قديمًا و«كذا الجدل في الحبال المتان».

ونعلم أنه كان أقرب إلى الطول أو طويلًا غير مفرط من شعره وحده لا من خبر روي عنه؛ فقد كان شديد السخر بالقصار، شديد النكاية في هجائهم، ومن قوله في شيخوخته:

أقول وقد شابت شواتي وقُوست
قناتي وأضحت كدنتي٨ تتخدد

ومنه:

وأرى قوامي لج في تقويسه
ولقد يلج اللين في تعطيفه

والقوام والقناة والتقويس بالطوال أشبه، ولا سيما حين يلج التقويس ولا يقف عند الانحناء اليسير، ويتوسم فيه الطول من أبيات كثيرة كهذا البيت:

وكم مثلها من ظبية قد تفيَّأت
ظلالي وأغصان الشبيبة ميد

ومثله:

وظبية من ظباء كان مسكنها
في ظل غصني، إذا ظل الضحى التهبا

ومثله:

إذ للشبيبة صبوة تصبو بها
وبشاشة تُصبي بها وتروق
يهتز منك لأريحيات الصبا
غصن تَفيَّؤُه الظباء وريق

ولا يكون الاهتزاز والتشبيه بالغصن الذي تتفيَّؤُه الظباء إلا القوام فيه امتداد وطول.

وقد طلب مرة ثوبًا فكتب يقول ويذكر نفسه بضمير الغائب:

فأنجز الوعد بثوب له
من الجياد المرتضاة الحسان
وفي القوافي ثمن مربح
فلا يقصر ذرعه عن ثمان

فإذا حسبنا كل حساب للطمع، فلا نظن ثماني أذرع تطلب لرجل قصير أو فوق القصير بقليل.

إلا أنه لم يكن مفرط الطول؛ لأنه كان يهجو من في طوله إفراطٌ، كما قال في عمرو بن الحاجب:

فللقدِّ منه طول نهر معوج
وللأنف منه نفخة البوق في الكفر

ونحسب هذه الشواهد كلها كافية في تخيُّل قوامه، وأنه لم يكن بالطويل المفرط ولا بالقصير.

•••

وكان ملتحيًا ولا شك في أوائل كهولته:

رأيت جليسي لا يزال يروعه
بياض القذى في لحيتي فيميطه
فكيف به عما قليل إذا رأى
قذى الشيب قد عفا عليها سفيطه٩

فهو قد التحى في سن يتوقع ما بعدها من زيادة الشيب وعمومه، إلا أنه كان كثَّ اللحية قصيرَ شعرِها كما قال:

ولم أزل سبط الأخلاق واسعها
وإن غدوت امرأ في لحيتي كثث

وكأنما جعل من ذلك النقص فخرًا؛ لأنه نقصٌ لا يدَ له في استدراكه، فكان يسخر من اللحى الطوال ويسميها أذنابًا ومخاليَ ومذباتٍ، ويشك في أدب كل غزير اللحية، بل يجعل غزارتها دليلًا قاطعًا على نزارة أدبه حتى البحتري! لأن:

البحتري ذنوب الوجه نعرفه
وما رأينا ذنوب الوجه ذا أدب

ومغالطته في هذا باديةٌ من دخيلة إحساسه بهيبة اللحية، وأنها علامة التذكير؛ حيث يقول لصاحب لحية طويلة:

أرع فيها الموسى فإنك منها
— يشهد الله — في أثام كبير
أيما كوسج يراها فيلقى
ربه بعدها صحيح الضمير
هو أحرى بأن يشك ويُغرى
باتهام الحكيم في التقدير

•••

لحية أهلمت فسالت وفاضت
فإليها تشير كف المشير
ما رأتها عين امرئ ما رآها
قط إلا أهلَّ بالتكبير
روعة تستخفه لم يَرعها
من رأى وجه منكر ونكير
فاتق الله ذا الجلال وغير
منكرًا فيك ممكن التغيير
أو فقصر منها فحسبك منها
نصف شبر علامة التذكير

والرغبة في غزارة اللحية معقولة من رجل أصلع كان يفرَق من الصلع ويخفيه جهده، ويود أن يداريه بغزارة الشعر في وجهه الذي لا يستطيع مداراته، كما كان يداري رأسه.

أما الشيب والصلع فحديثه عنهما طويل، وشهرته بما قال فيهما مضرب الأمثال بين الأدباء.

شاب رأسه في غضارة الشباب فقال:

شاب رأسي ولات حين مشيب
وعجيب الزمان غير عجيب
قد يشيب الفتى وليس عجيبًا
أن يرى النور في القضيب الرطيب

ولم يدع لنا أن نسأل عن السن التي شاب فيها؛ لأنها هي الحادية والعشرون من عمره كما عينها لنا تعيينًا في قوله:

فظلم الليالي أنهن أشبنني
لعشرين يحدوهن حول مجرم

ثم والى ذكر السنين مرحلة بعد مرحلة، فقال فيما دون الثلاثين:

وأنَّى تفرع رأسي المشيب
ولم أتفرع ثلاثين عامًا

وبلغ الأربعين فعد نفسه من الموتى إلا أحلامًا تذكره الحياة:

مت إلا حشاشة وادكار
مثل أحلام حالم النوام
ومتى ما انقضت أجاريُّ طرف
مات إلا صيامه في المصام
… … … … …
… … … … …
وقضيت الرضاع من درة الكر
م لتجريم أربعين تمام

وهكذا في الخمسين والخامسة والخمسين والستين، كأنه عابر طريق يحصي ما عبر منها وما بقي له أن يعبر، وما وخط الشيب شعره حتى آلى له من البداءة «يمينًا لأخفينك جهدي»، ووالى إخفاءه بقية عمره، وأخفى الصلع حين أصابه في شبابه كما أخفى المشيب، فكان لا يُرى في مكان إلا لابسًا عمامة، وعز عليه أن يمنى بهذا التشويه في نظره، وهو الذي أولع بكل تشويه يتضاحك به، ويفتن في تمثيله، ويغرق أصحابه في المزح والدعابة، فلزم العمامة لا يخلعها، وأخفى سر ذلك عن جلسائه وجليساته، فكان أثقل شيء عليه أن يتعرض متعرض لهذا السر المصون!

يا أيها السائلي لأخبره
عنيَ: لِمْ لا أراكَ معتجرًا؟
أستر شيئًا لو كان يمكنني
تعريفه السائلين ما سُترا

ومن عيَّره هجَاه وقال فيه:

يعيرني لبس العمامة سادرًا
ويزعم لبسيها لعيب مكتم

وتلا ذلك ما لا بد منه في هجاء صاحبنا من عوار الكلام.

ثم انكشف الأمر ولم تغن الحيلة في لجاج الفضوليين والمتشوفين، فعاد إلى العمامة يحيل عليها اللوم، ويتهمها بجريرة الصلع ويقول: إنه لم يكن أصلع قبل أن يلبسها، وإنما كان يتقي بها البرد والحر، فدهاه طول التعمم في لمته، فهو يلبسها الآن لستر هذا التشويه … الحديث!

تعممت إحصانًا لرأسي برهة
من القر يومًا والحرور إذا سفع
فلما دهى طول التعمم لمتي
وأودى بها بعد الأصالة والفرع
عزمت على لبس العمامة حيلة
لتستر ما جرت عليَّ من الصَّلع
فيا لك من جانٍ عليَّ جناية
جعلت إليه من جنايته الفزع
ولا يبعد أن يكون هذا صحيحًا بعض الصحة، وأن خوفه البرد والحر كان من أسباب ملازمته العمامة، وإن لم يكن هو كل السبب، فقد كان يكابد في الصيف نصبًا كما قال لبعض ممدوحيه: «يا عليمًا بما أكابد فيه.»١٠ وكان مرهف الحس جدًّا، فكان أهون مس يهيج أعصابه ويستفز خلقه، بل كانت الرائحة إذا قويت تؤذيه وتصدعه؛ فلهذا كان يذم الورد ويمدح النرجس كما جاء في فصل التلطف من كتاب الصناعتين، ومن بلغ منه التقزز هذا المبلغ لم يبعد أن يلبس العمامة لاتقاء الحر والبرد، ولم يبعد كذلك أن يكون ضعيف الشَّعْر فطرة، وأن يصيبه الشيب والصلع لأضعف سبب.

أما مشيته فقد تولى هو وصفها لنا على طريقته التي لا تدع شيئًا من تمثيل الشكل والحركة، فعلمنا أنه كان يختلج في مشيته كأنه يحمل بين يديه غربالًا يديره.

إن لي مشية أغربل فيها
آمنًا أن أساقط الأسفاطا

وهذه المشية معروفة تدل عليها حركة الغربلة، وتكثر فيمن بهم خلل في العصب أو العضل، وفي ديوانه أبيات يهجو بها أخا نضر الجهبذ؛ لأن نضرًا أراد أن يزوجه بنته، فمنعه من ذلك أخوه وقال له: أما تنظر إلى مشيته مثل مشية المخنثين؟!

ونحسب أننا في غنى بعد هذا عن شواهد أخرى على حظه من الصحة وقوة التركيب في شبابه ومشيبه، ولكننا لا نحب أن نحدس إذا أمكن أن نجزم، فالرجل يقول في صباه:

وإني للقوي على المعالي
وما أنا بالقوي على الصراع

وكان يشكو مرض العينين قبل الشيخوخة، ففي ذاك يقول في قصيدته الدالية في صلح عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وأخيه سليمان، وهي مما نظم حوالي الأربعين:

شغلت عنك بعوار أكابده
لا بالملاهي ولا ماء العناقيد
ولو قعدت بلا عذر لمهد لي
جميل رأيك عذري أي تمهيد
قاسيت بعدك لا قاسيت مثلهما
نهار شكوي يباري ليل تسهيد
أمسى وأصبح في ظلماء من بصري
فما نهاري من ليلي بمحدود
كأنني من كلا يومي وليلته
في سرمد من ظلام الليل ممدود
إذا سمعت بذكر الشمس آسفني
فصعدت زفراتي أي تصعيد

وذلك إلى شكاية من المتطببين واعتذارات كثيرة بالمرض تدل على بنية مصابة، وحظ من العافية قليل.

فلما أدركته الشيخوخة لا جرم برحت به واشتدت وطأتها عليه، فرجفت أعضاؤه، وتعاورته الأسقام، واحتاج إلى العصا، وزاغ نظره، وثقل سمعه.

ودب كلال في عظامي أدبني
جنيب العصا، أنْآد أو أتأيَّد
وبورك طرفي فالشخوص حياله
قرائن — من أدنى مدى — وهي فُرَّد

أو كما قال في قصيدة أخرى:

وأحدث نقصان القوى بين ناظري
وسمعي وبين الشخص والصوت بَرْزَخا

وجماع ذلك قوله:

أنا ذاك الذي سقته يد السقـ
ـم كئوسًا من السقام رواء
ورأيت الحمام في الصور الشنـ
ـع فكانت لولا القضاء قضاء

وقد اختلفت أقوال ابن الرومي في حظه من القسامة قبل أن تجور عليه السن وتعصف السقام بما كان له من صباحة في ضحوة عمره، فهو إذا أراد أن يمزح أو يُهوِّن على نفسه فَقْد الشباب العزيز قال:

من كان يبكي الشباب من جزع
فلست أبكي عليه من جزع
فإن وجهي بقبح صورته
ما زال لي كالمشيب والصلع

أو قال:

جزى الله عني قبح وجهي سعادة
كما قد جزاه، والإله قدير
دعوت به قومًا فأدوا أتاوةً
كأني عليهم عند ذاك أمير

وهو إذا أراد أن يرثي الشباب ويتفجع عليه قال:

وكنت جلاء للعيون من القذى
فقد جعلت تقذى بشيبي وترمد

أو قال:

وما يرجى من البيض ابتسام
لمن أمسى لمفرقه ابتسام
كأن محاسني لم تضح يومًا
وفي لحظاتهن لها اقتسام
كأني لم أر اللمحات نحوي
وفي اللمحات لثم والتزام

والمرء يبالغ إذا أراد أن يتهكم أو يتفجع، ويبالغ إذا أراد التهوين أو التهويل، فالصورة الأولى أدخل في باب الصور الهزلية التي فيها ما في جميع هذه الصور من التحريف والمسخ والمبالغة، والصورة الثانية أدخل في باب الصور المحسنة التي يكثر فيها التنوُّق والإصلاح، ولكنا نرجح أنه كان كلما قلنا «على حظ من وسامة الطلعة في شبابه، معتدل القسمات، لا يأخذ الناظر بعيب بارز ولا صفة بارزة في صفحة وجهه»؛ لأنه كان يتناول بالسخر كل عيب في وجوه الذين هجاهم من خصومه ومازحهم من أصحابه، فلو كان فيه مثل هذه العيوب البارزة التي لا تُدارَى ولا يُغالَط فيها لما تناولها، ولا حوَّل الأنظار إلى مثلها في وجهه، أو هو لو كانت فيه هذه العيوب وتناولها بالهجو والدعابة لتعرض له المَهْجوُّون بمثل فعله، فرد عليهم شعرًا كما رد عليهم حين تعرضوا له في العيوب الأخرى من مشية أو صلع أو هزال.

فالأقرب إلى الترجيح أنه لم يكن ذا عيب بارز ولا حسنة بارزة، وأنه لم يكن ظاهر الحسن ولا ظاهر التشويه، على أنه كائنًا ما كان حظه من القسامة في صباه قد فقد ولا ريب ذلك الحظ الذي كان له حين شاخ وجاوز الخامسة والخمسين، فإننا لا نتخيل الجمال لشيخ نحيل معروق تقوس ظهره، وشحب وجهه، وانطفأ وميض عينيه، وطال عليه السقم والغم، ولم تزينه الشيخوخة بذلك التاج الفضي الذي تسبغه على رءوس الشيوخ، ولا بتلك الحلية الناصعة التي تحيط بها وجوههم بالوقار والجمال.

•••

على أن ضعف البنية لم يكن ليضير ابن الرومي كثيرًا في شبابه أو في شيخوخته لو أنه اعتدل في عيشه، وقوي على ضبط نفسه؛ فإن ضعاف البنية قد يعمرون ويبلغون فوق الستين التي بلغها ابن الرومي وهم في عيشة سوية، وحالة من الصحة مرضية، وربما نيف الهزيل على الثمانين وهو معافَى الجسد، موقًّى من الأمراض التي لا يتقيها الأقوياء، ولا يحجمون عن مواقعة أسبابها، ولكن ابن الرومي كان هزيلًا، وكان مع هزاله قليل التصون والاحتراس، فجنى على بدنه فوق ما جناه عليه هزاله، ولجَّ به الحس المتوفز، فتهافت على لذات الحياة وأطايبها تهافت من لا يحب أن تفوته متعة، أو تفلت من يديه نهزة، وكبر له الخيال لذات الحس ومباهجه، فأكبَّ على مائدة الحياة كالطفل على مائدة الحلوى لا تمنعه كظة، ولا تقمع شهوته حمية، وراح منهومًا كذلك بكل لذة عقلية يلتهم المعرفة كما يلتهم اللهو والنعمة التهام من يخشى أن يُذاد عنها ولما يَستوفِ شبع شهوته منها، فجار على بنيته الضاوية، وانطلق مسرفًا في درسه، مسرفًا في اشتهائه، مسرفًا في طعامه وشرابه، وروي له الشعر حتى في أصناف الطعام والشراب، بل روي له الشعر في هذه الأغراض حيث لا يروى له شعر غيره، قال محمد بن يحيى الصولي فيما نقله المسعودي في مروج الذهب:

أكلنا يومًا بين يدي المكتفي بعد هذا بمقدار شهر — أي بعد أكلة روي فيها شعر لابن الرومي — فجاءت لوزينجة فقال: هل وصف ابن الرومي اللوزينج؟ فقلت: نعم، فقال: أنشدنيه، فأنشدته:

لا يخطئني منك لوزينجٌ
إذا بدا أعجب أو عجبا
لم تغلق الشهوة أبوابها
إلا أبت زلفاه أن يحجبا
لو شاء أن يذهب في صحنه
لسهَّل الطيب له مذهبا
… … … … …
… … … … …
مستكثف الحشو ولكنه
أرق جلدًا من نسيم الصبا
كأنما قدت جلابيبه
من أعين القطر الذي طنبا١١
يخال من رقة خرشائه١٢
شارك في الأجنحة الجندبا

إلى آخر الأبيات، فحفظها المكتفي فكان ينشدها.

وأخبر نفطويه عن أحمد بن حمدون: «تذاكرنا يومًا بحضرة المكتفي فقال: أفيكم من يحفظ في نبيذ الدوشاب شيئًا؟ فأنشدته قول ابن الرومي:

إذا أخذت حبه ودبسه
ثم أجدت ضربه ومرسه
ثم أطلت في الإناء حبسه
شربت منه البابلي نفسه

فقال المكتفي: قبحه الله، ما أشرهه! لقد شوقني في هذا اليوم إلى شرب الدوشاب.»

وإنا لنقرأ هذه الأبيات وأمثالها الكثيرة في ديوان ابن الرومي، فيخطر لنا عصره المترف، ويخطر لنا أن الإسهاب في وصف الطعام والشراب لم يكن في ذلك العصر معيبًا ولا مُخلًّا بالمروءة؛ لأنه كان عصر الشهوات جميعًا، وأولها شهوة المآكل والمشارب، بل كان عصرًا يصح أن يُسمَّى بعصر الموائد والولائم؛ لأنها كانت وصلة الاجتماع في الجد واللهو، وملتقى طلاب اللقاء في مواعد الوجبات اليومية وغير مواعدها المألوفة، وكان من مقاييس مروءة الرجل أن ينظر إلى مطعمه في بيته، وبراعة طهاته، ونفقته على أكله؛ فغضب المتوكل على عافية بن شبيب وأقصاه من مجلسه ونفاه إلى البصرة لأنه رأى له طعامًا لا يليق بمن يجالس الخليفة ويَنال صِلَاته.

ونحن لا نتصفح أخبار المجالس في ذلك العصر إلا صادفنا الحديث عن الولائم والمهارة في إتقانها، والسخاء في النفقة عليها، فربما كان الخليفة وجلساؤه يتواعدون إلى الموعد ومع كل منهم طعامه يتفكهون باستعراض ألوانه، والمقابلة بين صناعاته وطعومه، وكان من تمام ظرف الأديب والنديم أن يحذق شأن الطعام، ويخبر صنعه وما قيل في وصفه، فظهرت في ذلك العصر كتب الأدباء في فن الطهو؛ ككتاب الطبيخ لإبراهيم بن العباس الصولي، وكتاب الطبيخ وكتاب فضائل السكباج لجحظة البرمكي، وخفت مذمة النهم لأنه أصبح كأنه قدرة وعلم وظرف! وكأنه في ذلك كله أقرب إلى الفخر منه إلى الملامة!

يخطر لنا ذلك العصر المترف ونحن نقرأ هذه الأبيات الكثيرة في ديوان ابن الرومي فنسأل أنفسنا: ما نصيب العصر في تلك الأوصاف، وما نصيب الرجل؟ وما حظ العين من لون وشكل، وما حظ المعدة من شبع وامتلاء؟ فمن شاء أن يحسب نهم ابن الرومي على النحو المتقدم بابًا من الأدب لا بابًا من الشره، فله ذلك وحجته في هذا الحسبان غير ضعيفة! ولكنه هو لا يدعنا نحار في خليقة كهذه الخلائق التي تحكى عنه، ويكون لها دخل في حياته، فإذا تطرق الشك إلى جانب، فلا بد له من جانب آخر يقطع ذلك الشك، ويردك إلى اليقين فيه، ومن شعره المحفوظ ما يروي لك كيف كان يعاب في أكله، وكيف كان رده على من يعيبونه، فتارة يقر بالذنب ويزعم أنه هفوة لا جريمة:

أإن اصطبغت ولقمتي معضوضة١٣
أنشأت تهجوني بذلك ظالمًا؟
عيبٌ — لعمرك — غير أنْ لم آتِه
عَمْدًا! فهبني هافيًا لا جارمًا

وتارة يقول لقسطنطين جارية أم حبيب وكأنها ضحكت من أكله:

ذريني قسطنطين آكل شهوتي
وتبشمني؛ إني بذلك راض
فأكثر ما ألقي من الزاد كظة
مدى يومها واليوم أسرع ماض

ثم لا ينسى أن يعرض كدأبه بغير ذلك، وأن يذكر الكظة التي لا تنصرف إلا بعد تسعة شهور!

وتارة يصف الطعام ويعقب الوصف بالتشويق إليه واللهفة عليه:

لهفي عليها وأنا الزعيم
بمعدة شيطانها رجيم

بل هو لا يدعنا نحار حتى في «الأصناف» التي كان يحبها ويؤثرها على سواها، فقد علمنا مثلًا أنه كان يحب الموز من الفاكهة؛ لأنه غذاء القلوب لا غذاء المعدات:

يكاد من موقعه المحبوب
يدفعه البلع إلى القلوب

وأنه كان يعاف المشمش؛ لأنه دواء لا غذاء:

إذا ما رأيت الدهر بستان مشمش
فأيقن بحق إنه لطبيب

وعلمنا أنه كان يشتهي السمك ويمعن فيه:

فيا حبذا إمعاننا فيه ناضجًا
كما جاء من تنوره المتوقد

وعلمنا أن ابن أبي بشر المرثدي غلط مرة فوعده أن يوافيه أيام السبت بالهدية منه بعد الهدية، فوقع المسكين في شباكه، فما كانت تنقضي فترة إلا على تذكير له ومناوشة، وجعل ابن الرومي هذا الوعد هِجِّيراه ودعابته التي لا يفرغ منها.

وما كان يفرغ من دعابة ولا غير دعابة وفيها بقية، فحينًا يقول: إنه قد تهود في انتظار السمك، ويسأل ابن أبي بشر:

ما لحيتاننا جفتنا وأنَّى
أخلف الزائرون منتظريهم!
قد أزحنا اعتلالهم وجعلنا
سبتهم جمعة، فما يشكيهم؟
جاء في السبت زورهم فأتينا
من حفاظ عليه ما يكفيهم
وجعلناه يوم عيد عظيم
فكأنا اليهود أو نحكيهم
واحتملنا مقالة الناس فينا
ولهم كل ما احتملنا وفيهم
… … … … …
… … … … …
قد سبتنا، وإنما كان قومٌ
يوم لا يسبتون لا تأتيهم

يشير إلى المائدة التي كانت تأتي بني إسرائيل يوم يسبتون …!

وحينًا يحمد الله الذي نجَّى السمك حين تعلقت به شهوة ابن الرومي ووعد المرثدي:

الحمد لله الذي نجَّى السمك
من الشصوص الجائلات والشبك
علمه يونس من تسبيحه
ما كان أدناه إلى تسريحه
فهو من الصياد في أمان
ما دمت أبغيه، وفي ضمان

وحينًا يسائل المرثدي مستعظمًا لإبطائه:

أألحوت حوت الأرض أم حوت يونس
لك الخير، أم حوت السماء أروم؟

وحينًا يسأل السمك:

أيا سمكًا بين السماكين عزة
إلى كم يرانا الله عنك نصوم؟

وحينًا يعلم المرثدي أن دجلة قريبة من قصره، وأنه قليل العذر في إخلاف وعده:

اعْلَم — وُقيتَ الجهل — أنك في
قصر تليه مطارح السمك
… … … … …
… … … … …
وبنات دجلة في فنائكم
مأسورة في كل معترك
… … … … …
… … … … …
بيض كأمثال السبائك بل
مشحونة بالشحم كالعلك
تغني عن الزيات قاليها
وتبخِّر الشاوين بالودك
… … … … …
… … … … …
فليصطد الصياد حاجتنا
تصطد مودتنا بلا شرك

وهكذا وهكذا مما يغريه به حب السمك وحب الدعابة، وكلاهما شهي إليه!

وكان هذا ديدنه في كل أمر من أموره: إسراف واستقصاء لا يمسكهما ضابط، ولا تعقدهما عزيمة، إسراف واستقصاء في النكتة وفي المعنى وفي الدرس، وفي الطعام والشراب والشهوات، لا حد لهما إلا البَشَم والامتلاء واستنفاد ما بين يديه من مادة في ساعتها حتى لا سُؤر ولا صبابة.

إن يكن عندك لي نصـ
ـح فما عندي انتصاح
لا تلمني فالهوى فيـ
ـه جماح وطماح
… … … … …
… … … … …
ما على المفتون فيما
غلب الصبر جناح
كل شيء غلب الصبـ
ـر إليه فمباح
إنما الدنيا ملاهٍ
واغتباق واصطباح
والمزاح الجد إن فكـ
ـرت والجد المزاح

وتختلف نزعات هذا الإسراف، وسببها كلها واحد: سببها كلها توفز الحس ومطاوعة الرغبة الحاضرة والاندفاع معها، وقلة الصبر عنها، ولو أن هذه الأشواق الجامحة شُفعت بمسكة من العزم المتين لاعتدلت حاله ولو بعض الاعتدال، وسلم جسمه ولو بعض السلامة، ولكن أنَّى له العزيمة وهو أسير إحساس اللحظة التي هو فيها، لا يترك له استغراقه في مؤثراتها الحاضرة منفذًا إلى التفكير في قابل أو غابر، ولا يعدل بما يزينه الحس والخيال حظًّا تزينه له الحكمة والحصافة.

وصاحب هذا المزاج إذا خلا من الإحساس الثائر، والرغبة الجامحة يثوب لا محالة إلى وجوم يجثم على صدره، وانقباض يثقل على وجدانه، كالنشوان لا يفيق من أحلام الكأس حتى يرين عليه السأم فيسرع إلى النشوة، فهو أبدًا بين النقيضين من ثورة الإحساس وشدة الوجوم.

وليس التناقض بين ثورة الإحساس والوجوم في الحقيقة إلا ظاهرًا لا يتعمق إلى البواطن الداخلية؛ إذ إن فرط الإحساس كثيرًا ما يؤدي بصاحبه إلى فرط الوجوم؛ اتقاء الألم أو شعورًا بالوحشة التي تنتابه حين يرى التفاوت بين شعوره وبلادة من حوله، أو مضيًّا مع عادة التفكير والخلو بالنفس التي ينميها التفات الإنسان إلى موارد الإحساسات المتوالية على وجدانه وحسه، وإذا لم يتوجه الإحساس إلى العمل والحركة فسبيله التي لا محيد عنها أن يتوجه إلى التأمل ومناجاة السريرة، وندر أن يوجد الخجل والاحتجاز إلا مع شدة الوعي والتنبه لكل حركة يتحركها الإنسان، وكل كلمة ينبس بها، وكل أثر يكون لحركته وكلامه في نفوس غيره، فالسكون أدل على الحس المتوفز في بعض الأحيان من الحركة والاضطراب.

ولعل الأصوب أن نقول: إن ابن الرومي وقع من مزاجه وإسرافه في حلقة موبقة لا يُدرَى أين طرفاها، فمزاجه أغراه بالإسراف، والإسراف جنى على مزاجه، فإن هذا الإسراف الموكَّل بالاستقصاء في كل مطلب ورغبة خليقٌ ولا غرو أن يسقم جسمه، وينهك أعصابه، ويتحيف صوابه، بيد أنه لا يسرف هذا الإسراف إلا وفي جسمه سقم، وفي أعصابه خلل، وفي صوابه شطط لا يكبح جماحه، فالعلة هي سبب الإسراف، والإسراف هو سبب العلة! وهو من هذه الحلقة الموبقة في بلاء واصب، ومحنة لا قبل بها للضليع الركين فضلًا عن المهزول الضئيل، وعلاقة كل ذلك باختلال الأعصاب وشذوذ الأطوار بدءًا وعودًا ثم عودًا وبدءًا علاقة من جانب الجسد ومن جانب التفكير.

ولا تعوزنا الأدلة على اختلال أعصاب ابن الرومي وشذوذ أطواره من شعره أو من غير شعره، فإن أيسر ما تقرؤه له أو عنه يلقي في روعك الظنة القوية في سلامة أعصابه واعتدال صوابه، ثم يشتد بك الظن كلما أوغلت في قراءته والقراءة عنه، حتى ينقلب إلى يقين لا تردد فيه، وكل ما نعلمه عن نحافته، وتفزز حسه، وشيخوخته الباكرة، وتغير منظره، واسترساله في الوجوم، واختلاج مشيته، وموت أولاده وطيرته، ونزقه وشهوانيته الظاهرة في تشبيبه وهجائه، وإسرافه في أهوائه ولذاته، ثم كل ما نطالعه في ثنايا سطوره من البدوات والهواجس — قرائن لا نخطئ فيها الدلالة الجازمة على اختلال الأعصاب، وشذوذ الأطوار، بل لا تخطئ فيها الدلالة على نوع الاختلال ونوع الشذوذ.

ونقول: «نوع الاختلال»؛ لأن هذه الكلمة عنوانٌ واسع يشمل من الحالات النفسية والجسدية مثلما تشمله كلمة «الصحة» أو أكثر، فهذا صحيح وهذا صحيح، ولكن البون بينهما جد بعيد، وهذا مختل الأعصاب وذاك مختلها، ولكن الخلاف بينهما في الأخلاق والمشارب كأبعد ما يكون بين فردين مختلفين من بني الإنسان، فتختل أعصاب المرء فإذا هو جسور عنيد متعسف للأخطار، هجام على المصاعب لا يبالي العظائم ولا يحذر العواقب، وتختل أعصاب المرء فإذا هو وديع مطيع، حاضر الخوف، متوجس من الصغائر، يبالغ في تجسيمها أو يخلقها من حيث لم تخلق، ولم يكن لها وجود في غير وهمه، وبين الحالتين — لا بل في كل حالة من الحالتين — نقائض وفروق لا تقع تحت حصر، ولا تطَّرد على قياس.

وبديهي أن ابن الرومي لم يكن من الفريق الأول في «نوع اختلاله»، ولكنه كان من الفريق الثاني الذي يستحضر الخوف، ويكثر التوجس، ويختلق الأوهام.

ومن أصحاب هذا المزاج من يخاف الفضاء، أو يخاف الماء، أو يخاف حيوانات منزلية لا قوة لها ولا ضراوة كالقطط والكلاب والجرذان، فابن الرومي واحد من هؤلاء نحسب أنه كان مستعدًّا لهذه الهواجس طول حياته في صحته ومرضه، وفي شبابه ومشيبه، ونحسب أن استقصاءه للمعاني الشعرية والإلحاح في تفريعها وتقليب جوانبها إن هو إلا علامة خفيفة من علامات هذا الوسواس الذي لا يريح صاحبه، ولا يزال يشككه ويتقاضاه التثبت والاستدراك فيمعن ثم يمعن حتى لا يجد سبيلًا إلى الإمعان.

ولكنه مع استعداده للهاجس في شبابه ومشيبه قد تمادى به الوسواس في أعوامه الأخيرة، حتى أصبح آفة متأصلة غلبت على أقواله وأفعاله جميعًا، فليس له عنها محيص، فأفرط في الطيرة، واشتد خوفه من الماء لا يركبه ولو أدقع، ودعاه إلى ركوبه من يمنونه الأرفاد وحسن الضيافة، وصور لنا ما يعتريه من خوف الماء تصويرًا لا يدل إلا على حالة مرضية، ولو كان التشبيه فيه من مجاز الشعر وتهويل الخيال. وهذا بعض ما قاله في مخاوفه وأهوال ركوبه:

ولو ثاب عقلي لم أدع ذكر بعضه
ولكنه من هوله غير ثائب
… … … … …
… … … … …
أظل إذا هزته ريح ولألأت
له الشمس أمواجًا طوال الغوارب
كأني أرى فيهن فرسان بهمة
يليحون نحوي بالسيوف القواضب

والماء الذي يصفه هنا هو ماء دجلة لا ماء البحر ولا ماء المحيط!

•••

هذه الوساوس هي التي عناها الذين قالوا — في رواية المسعودي: «إنه كان الأغلب عليه من الأخلاط السوداء.» والذين روى عنهم المعري أنه «كان أدبه أكثر من عقله»، وهي التي وسمته في نظر أبناء عصره بسمة الركاكة والجنون.

•••

بين أصحاب هذا المزاج أناس من نوابغ الشعر والفنون عرفوا بسرعة الملاحظة، وسرعة الخاطر، أو عرفوا — على الأصح — بسرعة انتقال الخواطر، وتعاقب الأفكار، واستحضار المناسبات الخفية والمشابهات البعيدة التي تدركها سرعتهم، ولا تدركها عقول السواد في بطئها، وأخذها بالسير المألوف.

وقد تتفاقم هذه الخصلة فتصل إلى الجنون الذي يقول عنه القائلون: إنه يخلط بين الشرق والغرب، ويقحم الأحاديث في غير مواضعها ومناسباتها؛ لسرعة وثبه من كلام إلى كلام، ومن معرض إلى معرض، ولخفاء أوجه المناسبة بين موضوعات تفكيره على الذين يستمعون إليه.

ولكنها إذا هي لم تبلغ إلى حدها الأقصى المشاهد في أعراض الجنون، كانت خصلة نافعة للشعراء والمصورين بما تقرب لهم من المشابهات البعيدة، وتبرز لهم من فوارق الأفكار الدقيقة، وظلال الأشكال المستسرة، إذ لا يلزم من سرعة تفكيرهم أنهم يخطئون التفكير ويجيئون به مقتضبًا أو مشوهًا على غير استواء، فإنهم في هذه الخصلة كالآلة التي تنطلق بالصور المتحركة، فتعرض لك في لمحة ما يعرض في برهة، والمناظر بعد واحدة، والنسبة بينها كلها في استواء واحد، أو هم كالمجهر المكبر الذي يرى الأشياء كلها أكبر مما تراه العين المجردة وهي بعدُ صحيحة الأبعاد، مستقيمة الأوضاع، والعلم يحتاج إلى التكبير في درس الأشياء، ويحتاج إلى مثل هذا التكبير في درس النفوس، فليس كل ما دق الشعور به عن الناس عامةً باطلًا معيبًا، ولا كل ما خفي على العين حقيقًا بالتجاهل والإخفاء.

إنما يدرك الخطأ أصحاب هذا المزاج في الغالب من ناحية واحدة هي ناحية ضبط الإحساس، أو ناحية التفريق بين الخواطر وإحساساتها التي تناسبها.

فقد زعموا في الأساطير أن السحرة الأقدمين كانوا إذا فكروا في جنِّي يريدونه حضر بين أيديهم بغير استدعاء ولا انتظار إشارة.

فلك أن تقول: إن ما زعموه حقيقة لا أسطورة، وأن السحرة الأقدمين موجودون في كل زمان؛ لأنهم هم بأعينهم سحرة الفن من أصحاب ذلك المزاج.

يخطر لهم أن صديقًا مات، فما هو إلا أن يومض في ذهنهم هذا الخاطر حتى يثب معه الحزن الذي يحزنه الصديق على صديقه، أو بعبارة أخرى يثب معه الجني الملازم لخاطر الموت بغير استدعاء ولا انتظار إشارة.

وقد تسنح لأحدهم الفكرة، فما هي إلا أن تتراءى في خياله حتى يقترن بها الإحساس الذي يناسبها من خوف أو غضب أو فرح أو اغتباط، ثم لا يستطيع أن يضبط حركة إحساسه، ولا أن يصرف عنه الخالجة النفسية التي أيقظتها فيه هذه الفكرة، فكل شر مظنون فهو عنده كالشر المحقق على حد قول شاعرنا:

وإذا ما ظننت شيئًا فخفه
رب شر يقينه مظنونه

وربما كان أحدهم على قمة جبل فيسنح له خاطر السقوط منه، فسرعان ما يهب في نفسه شعور الوجل والاضطراب كأنه قد سقط فعلًا، ثم لا يستطيع دفع شعوره ولا يُهدِّئ من روعه علمه بأنه مستقر على الأرض، ناجٍ من خطر الوقوع الموهوم! وربما سنح له شبح الأفعى فتُفاجِئه الرهبة من سمها الناقع، ولو لم يكن في موضع تطرقه الأفاعي أو يُظنُّ بها طروقه؛ لأن هذا التنبيه الصغير كافٍ لتحريك الإحساس وجيشانه، وتمثيله لخياله في مثل لمح البصر، ثم لا توجد عنده القدرة على رد إحساسه إلى نصابه، والهيمنة على حركات نفسه، فهو كأولئك السحرة في قوة الاستدعاء لولا أنه ينسى الإشارة التي يصرف بها الشياطين فتلتوي عليه وترديه!

وهذا هو مورد الخطأ على أصحاب ذلك المزاج.

ولكنك ترى أنه ليس ثمة خطأ في الخاطر ولا في الإحساس الذي يلازمه، فالخاطر صحيح، والإحساس كذلك صحيح، وإنما الخطأ أن الإحساس يجيء قبل الأوان أو في غير الأوان، وقد يعد ذلك عيبًا في العلم أو في تدبير المعاش، أما في الفن فلا عيب فيه؛ لأن الفنان أحوج ما يكون إلى استحضار الشعور في غير موعده، وتمثيل العاطفة كلما دعته حاجة عارضة إلى تمثيلها، فهذه الخصلة قد تؤذيه في معاشه، وقد تؤلمه وتشقيه، ولكنها لا تستلزم الخلل في تفكيره وعاطفته إلا من حيث التكبير والتجسيم، وقد يكون التكبير والتجسيم ألزم لإظهار الخفي وتقريب البعيد من نظرة القسط والهدوء، ولا سيما في الفنون.

•••

ومع كل هذا يجب أن نذكر أن آمَنَ شيءٍ في الحكم على هذه الأمزجة وأشباهها هو ألا تركن كل الركون إلى قاعدة مقررة في تقدير أعمالها وأحوالها، وألا تزال مترقبًا منها للمفاجآت والغرائب في كل لحظة، فقد يجتمع العنف العصبي والوداعة العصبية في إهاب واحد، وقد يعنف اللطيف ويلطف العنيف حسبما يطرأ عليهما من الطوارئ، وهذا الذي تراه اليوم يتوقد ذكاء وفطنة قد تراه في بعض حالاته خابي الذهن، كليل الفهم لا يعي عنك ما تقول، وهذا الذي يقيم القيامة للصغائر التوافه قد تراه وقتًا ما وهو مُستَخِفٌّ بالعظائم لا يبالي ما كان منها أو ما يكون … وأنت تسأل: أفي تركيبهم تناقض؟

فلك أن تقول: نعم، ولك أن تقول: لا؛ لأن التناقض موجود في ظواهر الأفعال، غير موجود في بواطن المزاج، فمن كانت تقيمه الهنة الضعيفة وتقعده إذا هي لمسته وبلغت به؛ حريٌّ ألا يُبالي الحوادث الجسام إذا هي لم تلمسه ولم تبلغ منه، فالمعول في ثورته وسكينته على ما يباشر حسه، ويلامس أعصابه: لا صغير إلا وهو خطير مثير إذا أزعجه وملأ إحساسه، ولا خطير إلا وهو هين طفيف إذا غاب عن وهمه، وأعفاه من رؤيته، فهو الدهر بين تبرُّم وفزع من توافه الأشياء، وطمأنينة وسخر من فوادح الخطوب.

ويحتاج الأديب أحيانًا إلى هذا التناقض كما يحتاج إلى استحضار الإحساس في غير أوانه، أو يحق لنا أن نقول: إن شاعرنا خاصة قد استفاد من هذا التناقض مضاءً وحدَّةً في ملكة السخر التي اشتهر بها وبلَغ فيها أوْجَهَا، فإن النقائض والمفارقات ألزم لوازم هذه الملَكة بعد دقة الملاحظة، وها هنا معدن النقائص والمفارقات التي يعانيها الساخر في نفسه، وقد يستغني بها عن مراقبة غيره.

كان ابن الرومي ساخرًا، ولا جرم كان شاعر النقائض في عصر النقائض، وكان شاعر الفطنة الوحيَّة في عصر الرياء المضحك، أو عصر الاختلاف بين الظواهر والبواطن، والبعد الشاسع بين ما هو كائن وبين ما يُدَّعى ويستوجب، فلا جرم يسخر وعناصر السخر في نفسه وفي زمنه! وقدرة السخر في قلبه وفي عقله، ولا جرم يسخر وهو مهيأ للسخر فيما عدا ذلك بتعدد أصوله، وتوزع أهوائه وعصبياته؛ فإن صاحب العصبية الواحدة خليق أن يتحيز ويتنطس ويغلو في الجد والمرارة، ولكن صاحب العصبيات الكثيرة لا يستطيع أن يفعل ذلك، ولا يسعه إلا أن يستخف ويضحك من تلك الدعاوى وتلك المظاهر التي يضعها غيره من الناس موضع الجد والقداسة.

وها هنا شاعر ينتمي أبوه إلى الروم، وتنتمي أمه إلى الفرس، ويدين هو بدين العرب، وينتسب في ولائه إلى أبناء النبي العربي، ويتقاسم ولاءه عدوان لدودان من العباسيين والطالبيين، فأين تكون العصبية؟ وأين تكون المطاعن والمثالب؟ ثم أين يكون التصديق الأعمى، وأين يكون التكذيب الأعمى؟ لن يسعه هو إذا اشتجرت مفاخر الروم والفرس والعرب والطالبيين والعباسيين، واختصمت بينهم العصبيات والمنافسات إلا أن يبسم في كل صوب بسمة العطف والدعابة، وأن يصبح على غير قصد منه عظيم الاستعداد للتسامح والفكاهة: كالذي يختصم إليه بنوه ويدعي كلهم ما يدعي من فضله وعيوب إخوته، وكل ما فيهم من فضل وعيب هو من لحمه ودمه، ووشائج حبه وحنانه.

فقد اجتمع لابن الرومي إذن من عناصر السخر ما لم يجتمع لأحد في عصره: اجتمعت له دقة الملاحظة والإحساس، وعمق الشعور بالمناقضات في نفسه وفي زمنه؟ وسعة النظر إلى الفوارق وسماحة العطف التي تقابل مرارة العصبية، فهو ساخر لا يُبارى في سخره، وعابث مطبوع على العبث بكل شيء حتى صحبه ونفسه، يستخدم السخر في الهجاء والمديح والمطايبة والمعاتبة، ويعرض لك في متحفه الكبير تلك الصور الهزلية التي لا مثل لها في شعر شاعر واحد من شعراء العالم كله، ثم لا يأنف أن يريك بينها صورة له، بل صورًا شتى لا يعوزها حظ من العناية وأمانة الصناعة.

فهذا الوجه الذي فصل للصلاة والتعبد في الفلاة، وجه من هو؟ إنه وجه ابن الرومي فيما صوره لنا حيث يقول:

شغفت بالخرد الحسان وما
يصلح وجهي إلا لذي ورع
كي يعبد الله في الفلاة ولا
يشهد فيها مشاهد الجمع!

ومن هذا الغائص الذي تعلم السباحة ليغوص لا ليسبح، أو هذا الخائف المراقب الذي يمر بالماء في الكوز مر المجانب؟ إنه هو ابن الرومي أيضًا حيث يقول عن نفسه:

وكيف؟ ولو ألقيت فيه وصخرة
لوافيت منه القعر أول راسب
ولم أتعلم قط من ذي سباحة
سوى الغوص، والمضعوف غير مغالب
فأيسر إشفاقي من الماء أنني
أمر به في الكوز مر المجانب؟
وأخشى الردى منه على كل شارب
فكيف بأمنيه على نفس راكب؟

وابن الرومي أيضًا هو ذلك المنهوم الذي يشره إلى الطعام حتى في الأحلام، ويأسف على أن يذاد عنه ولو في المنام:

ولقد منعت من المرافق كلها
حتى منعت مرافق الأحلام
من ذاك أني ما أراني طاعمًا
في النوم أو متعرضًا لطعام
إلا رأيت من الشقاء كأنني
أثنى وأكبح دونه بلجام!

وابن الرومي كذلك هو الشيخ الفاني الذي لا ينسيه هم الشيخوخة أن يتهكم بنفسه، ويحمد الله على زيغان بصره؛ لأنه برَكة تجعل الشخص شخصين في نظره:

وبورك طرفي فالشخوص حياله
قرائن — من أدنى مدى — وهي فُرَّد

هذا مثاله من سخره بنفسه، أما سخره بغيره فله في أفانينه الكثيرة ومعانيه الغريبة ما يقوم بديوان كامل، وبراعته فيه طبقة لا تعلوها طبقة في نوعها، ويندر أن يدانيها فحول الساخرين في المشرق والمغرب، فله في أحدب كان يضايقه ويترصد له أمام داره ليتطير منه:

قصرت أخادعه وطال قذاله
فكأنه متربص أن يصفعا
وكأنما صفعت قفاه مرة
وأحس ثانية لها فتجمعا

وهي براعة لا نظير لها في وصف الشكل والحركة، ولا في تضمينهما هيئة السخر التي عمل فيها الشاعر عمله المركب ليتم فيها نصيب العين والضحك والخيال، فصورة الرجل وهو يتهيأ لأن يصفع، ثم يتجمع ليتقي الصفعة الثانية هي صورة الأحدب بنصها وفصها لا يعوزها الإتقان الحسي، ولا الحركة المهينة، ولا الهيئة الزرية، ولا التأمل الطويل في ضم أجزاء الصورة بعضها إلى بعض حتى يتفق التشبيه هذا الاتفاق.

وله في معلم صبيان مغنًّ:

أبو سليمان لا ترضى طريقته
لا في غناء ولا تعليم صبيان
له إذا جاوب الطنبور محتفلًا
ضرب بمصر وصوت في خراسان
عواء كلب على أوتار مندفة
في قبح قرد وفي استكبار هامان
وتحسب العين فكَّيه إذا اختلفا
عند التنغم فكَّي بغل طحان

وله في جحظة — وكان مغنيًا جاحظ العينين:

تخاله أبدًا من قبح منظره
مجاذبًا وترًا١٤ أو بالعًا حجرا
كأنه ضفدع في لجة هرمٌ
إذا شَدَا نَغمًا أو كرَّر النظرَا!

وله فيه:

نبئت جحظة يستعير جحوظه
من فيل شطرنج ومن سرطان
وا رحمتا لمنادميه تحملوا
ألم العيون للذة الآذان

وله في مُغنٍّ:

إنك لو تسمع ألحانه
تلك اللواتي ليس يعدوها
لخلت من داخل حلقومه
موسوسًا يخنق معتوها١٥

وله في مغنية:

تضغط الصوت الذي تشدو به
غصةٌ في حلقها معترضة
فإذا غنت بدا في «جيدها»
كل عرق مثل بيت الأرضة

وله في مغنية أخرى:

صوتها بالقلوب غير رفيق
بل له بالقلوب عنف وبطش
فإذا رققته بالجهد منها
خلت في حلقها شعيرًا يُجش

وله في صاحب لحية:

لو غاص في الماء بها غوصة
صاد بها حيتانه أجمعا
أو قابل الريح بها مرة
لم ينبعث في خطوه أصبعا

وله في أبي حفص:

إن أبا حفص وعثنونه
كلاهما أصبح لي ناصِبا
قد أغريا بي يهجواني معًا
وحدي وكان الأكثر الغالِبا
إن كان كُفْئًا لي في زعمه
فليعتزل لحيته جانبا

وله في رجل له منظر ولا أدب عنده:

طول وعرض بلا عقل ولا أدب
فليس يحسن إلا وهو مصلوبُ

وله في أكول مضاغة:

بعض أضراسه يكادم بعضًا
فهي مسنونة بغير سنون
لا دءوبٌ إلا دءوب رحاها
أو دءوب الرحى التي للمنون
لا تعطل رحاك يا ابن سليما
ن فليس الثواب فيها بدون
قسمًا لو وقفتها للمساكيـ
ـن لما مسهم غلاء الطحين
ما ظننت الإنسان يجتر حتى
كنت ذاك الإنسان عين اليقين

وله في قصير أعور أصلع:

أقِصَرٌ وعَوَرٌ
وصلع في واحد
شواهد مقبولة
ناهيك من شواهد
تُنبِئنا عن رجل
مستعمل المقافد
أقمأه القفد فأضـ
ـحى قائمًا كقاعد

وله في قصير:

على أنه جعد البنان دُحيدحٌ
إذا ما مشى مستعجلًا قيل: يدرج

وله فيمن هجاه:

رقادك لا تسهر لي الليل ضلة
ولا تتجشم فيَّ حوك القصائد
أبي وأبوك الشيخ آدم تلتقي
مناسبنا في منسب منه واحد
فلا تهجني حسبي من الذم أنني
وإياك ضمتنا ولادة والد

وله في بخيل:

يقتر عيسى على نفسه
وليس بباقٍ ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره
تنفس من منخرٍ واحد

وله في أصلع:

فوجهه يأخذ من رأسه
أخذ نهار الصيف من ليله

وله من أمثال ذلك ما يطول بنا إحصاؤه، ولا نرى هنا فائدة من الإسهاب في تكرار شواهده.

وأبرع ما يكون سخره كما ترى إذا هو شبه لك صورة محسوسة، أو خلق لك من خياله صورة معنوية، فإنه يحكم التشبيه، ويحكم خلق الصورة فيضحك بالمقابلة بين الشيء وشبيهه، ويضحك بما تتخيله من المنظر الغريب حين يعمد إلى خلق الشكول المعنوية؛ كصورة الأحدب مثلًا، أو كصورة الرجل «المستعمل المقافد» الذي يُضرب في كل مكان صالح منه للضرب، فيَصْلع لقَفْده في موضع شعره، ويقصر لكثرة الطرق على رأسه، ويعور لضربه على عينه، وحركة الأبيات نفسها حين تُتلى على عجل كحركة الصفعات ما تني نازلة صاعدة كما أنبأ عنها في تلك الأبيات.

أو كصورة الرجل الذي لا نفع له إلا أن يصلب؛ لأنه بذاك يظهر أحسن ما فيه، وهو عرضه وطوله، أو كصورة المغني الذي تتراءى عيناه الجاحظتان كعيني الضفدع «الهرم» في لجة يكرر النظر ويغني وفمه في الماء!

وكان فضلًا عن هذا لا تفوته من الأغراض فائتة في اللفظ ولا في المعنى ولا في التصوير: ألق بالك مثلًا إلى كلمة «جيدها» في هذا البيت:

فإذا غنت بدا في جيدها
كل عرق مثل بيت الأرضة

فلو أن ساخرًا غير مطبوع على السخر أراد هذا المعنى لاختار كلمة غير «جيدها» للمبالغة في التقبيح والتشويه، ولكنك تنظر فترى أصلح الكلمات في هذا الموضع هي الكلمة التي تُوهمك الحسن، وتحضر لك المناقضة التامة بين الوهم والصورة المشهودة، فيستوي طرفا النكتة، ويبدو لنا الفرق المضحك بين الجيد وبيت الأرضة، كما نضحك من الفرق الذي يبدو لنا إذا وقف القزم إلى جانب العملاق.

وتأمل كلمة «طحان» في هذا البيت:

وتحسب العين فكيه إذا اختلفا
عند التنغم فكي بغل طحان

فليس تمام القافية وحدها بهذه الكلمة، بل الصورة المعنوية هي التي تمت بها أحسن تمام؛ لأن السخر لن يستوفَى في هذا التشبيه إلا إذا تمثلنا في موقف الغناء الممتع بغلًا من بغال الطحانين العجاف الجياع يتنغم ويستكبر بأنغامه استكبار هامان، ولو كان بغلًا من البغال الفارهة المترفة لنقصت الصورة، وفترت فيها قوة السخر وقوة التشبيه، وقس على ذلك «الشيخ» آدم، أو قس عليه سائر الأبيات والصور.

وسيأتي تفصيل الكلام على ملكة التصوير في شعره عند الكلام على عبقريته، والصلة بين فنه وبين الطبيعة والحياة.

•••

وليس يكفي أن نقول: إن ابن الرومي كان ساخرًا بارع التصوير؛ لنعلم كل شيء نحب أن نعلمه عن سخره، فإن السخر يتنوع حتى لا يتفق في الباعث الذي يوحيه، ولا في العبارة التي تؤديه، وأدباء «النفسيين» يقسمونه إلى التهكم والعبث، والمجانة والفكاهة، ويجعلون كل قسم منها جميعًا نوعًا من «الضحك» قائمًا بمفرده، مستقلًّا بصيغته وغرضه. والأقرب إلى فهم الموضوع عندنا أن نوحد الضحك، ونجعل الاختلاف في الخلائق والحالات النفسية، فنفرق بين ضحك الخليقة الكريمة، وضحك الخليقة اللئيمة، وبين الضحك في حالة الرضى والعطف، والضحك في حالة الغضب والجفاء، ثم نفرق بين العبث في الحالين المختلفين من النفس الواحدة؛ فعبث النبيل الأريحي غير عبث الوضيع الخبيث، وتهكم الصارم الأبي غير تهكم الرخو الذليل، وفي الدنيا من التهكم بمقدار ما فيها من المتهكمين، نعني بذلك أن التهكم ليس «نوعًا» واحدًا من الضحك، ولا شكلًا واحدًا من الملكات، ولكنه أنواع تختلف باختلاف الحالات والخلائق والأساليب؛ فخيرٌ لنا أن نرجع إلى اختلاف هذه الحالات من أن نجمع التهكم كله في باب واحد، وصبغة واحدة، وهو ليس كذلك.

وما من ضاحك إلا وهو قابلٌ لجميع هذه الحالات في مختلف الأطوار، فهو متهكم حينًا وعابث حينًا، ومازجٌ بين هذين الشعورين في بعض الأحيان كما يتفق كثيرًا أن يمتزج الشعوران المتغايران.

فإذا قلنا: إن ابن الرومي ساخر فقد بقي أن نعرف نوع السخر؛ لنعرف نوع الطبيعة التي توحيه، فإن المرء — كما تقدم — يكون ساخرًا وهو طيبٌ سليم الطوية، وساخرًا وهو خبيث مظلم السريرة، فمن أي فئات الساخرين كان ابن الرومي، وأي خليقة من الخلائق كانت تهيمن على سخره؟ أنسلكه في الطيبين أو في الخبثاء؟ وفي الخلائق الشفافة القويمة أو في الخلائق الكدرة العوجاء؟

إننا نسأل هذا السؤال ونبتسم.

نبتسم كما قد نرى الطفل اللعوب يعدو وراء مضحكة من المضاحك، أو فرجة من الفُرج، ثم يسألنا السائل في جدٍّ ورزانة: ما هي العداوة التي يكنها ذلك الطفل لمن يعدو خلفهم، ويلهو بمعابثتهم؟! فأي عداوة وأي صداقة؟ وأي خباثة وأي طيبة؟ هنا مضحكة وكفى! ولن يفهم الطفل في منطقه إلا أنه يستطيع هنا أن يضحك، فلِمَ لا يضحك؟ إي نعم، لِمَ لا والضحك لذيذ والإغراء به حاضر؟!

فابن الرومي هو ذلك الطفل في سخره وضحكه وتهكمه وهجائه، لسنا نفهمه حق فهمه إلا إذا تمثلناه أبدًا في جدة الإحساس واخضراره على هيئة الطفولة النامية التي لا تجف ولا تشيخ، وإن جفَّت المفاصل وشاخت الأوصال، وستمر بنا عقد كثيرة من عاداته ومواهبه لا تدرك ولا تفسر إلا على اعتبار واحد، وهو أنه طفل كبير لا يفرغ من الطفولة طول حياته! فسل ما شئت عنه، ولكنَّ سؤالك عن الطفولة النامية بمَزيَّتها ونقصها، وطيبها وخبثها، ورضاها وغضبها، وانتظر منه سوء الأدب إذا غضب، أو احتدم غيظه واختنق صدره، ولكن لا تنس أن الأدب السيئ خلة غير خلة الطبيعة السيئة، وأن ليس الكظم والسكوت علامة على الكرامة والصفح الجميل في كل حال.

وأجهل الناس بالطبائع الإنسانية من يصف امرأً كابن الرومي بالحسد والضغينة؛ لأنه كان يتألم ويتحسر لحرمانه، ويعجب لحظوة الجهلاء بالخير دونه؛ إذ ليس الحسد أن يألم الإنسان؛ لأنه محروم مَزْءُود عن النِّعم التي يشتهيها ويتذوقها، ويعرف معنى المتعة بها، ولا أن يرى — مصيبًا أو مخطئًا في رأيه — أنه أجدر وأليق بتلك النِّعم ممَّن لا يحسبهم أنداده في الفضل والذكاء، وأقرانه في المناقب والمآثر، كلا! ليس هذا هو الحسد المذموم المعدود في رديء الصفات، وإنما الحسد المذموم هو خلق كريه يبتلى به المرء، فلا يطيق النعمة عند غيره وإن كانت عنده، ولا يستريح إلى شعور الناس بالسعادة لانقطاع ما بينه وبينهم من رحم العطف والمشاركة في الأفراح والآلام.

فالحسد نضوب في العاطفة، وابن الرومي أبعد إنسان من نضوب العاطفة، وتحجرٌ في الشعور، وليس للتحجر في خلائق ابن الرومي وأمثاله مكان، والحاسد لا يجعل الخير مقرونًا بالفضل، والنعمة مرهونة بالمناقب، ولا يطلب المتعة والجاه لأنه أقدر وأجدر ممن ينعمون بهما في الدنيا بغير حق ولا معرفة؛ إذ التفكير على هذا النمط غريب عن جبلة الحاسد الذي إنما يريد الخير؛ لأنه يريده وكفى! ثم لا يكلف عقله أن يدلي له بحجة في طلبه غير حجة الأثرة الحيوانية التي لا تسأله سببًا، والأنانية الصماء التي لا تعقل ولا توازن ولا تتدبر، ويسوءه أن ينعم الناس لأنه يرى النعمة وقفًا عليه، ويرى أن كل ما سرَّ غيره مسلوب منه، وليكن ذلك السرور علمًا وهو لا ينافس العلماء، أو صلاحًا وهو لا يتشبه بأهل الصلاح، أو شرفًا وهو لا يطمح إلى الشرف، فحسبه أنه سرور في عرف أحد من الناس، وحظ ينعم به غيره ويتملاه؛ ليكون ذلك السرور ثأرًا عنده، ويكون تنغيص المسرور به من همِّه ودأبه. وهذا هو الحسد الذي ليس في طبيعة ابن الرومي ذرة منه، بل ليس ما عنده إلا نقيضه وضده.

فقد كانت ألذُّ متعه التي وصفها تلك المتع التي غنمها مع صَحْبه، وسعد بها كما سعد غيره، وربما كان لا يلح ذلك الإلحاح في طلب السمك الذي يحبه إلا ليسرع به إلى صديقه يدعوه إليه، ويشركه فيه:

متى عهدك بالكرخ
وبالشبوط والفرخ
وبالبكر التي لم تشـ
ـق بالنار ولا الطبخ

وقد كان شعوره بحرمان غيره كشعوره بحرمان نفسه، ولو لم تكن بينه وبين المحروم صداقة ولا علاقة، فكان يرثي للحمال المكدود إذا بصر به فيَصفُ حاله وصْفَ مُشفقٍ عليه يألم لجميع ألمه:

رأيت حمالًا مبين العمى
يعثر في الأكم وفي الوهد
محتملًا ثقلًا على رأسه
تضعف عنه قوة الجلد
بين جمالات وأشباهها
من بشر ناموا عن المجد
وكلهم يصدمه عامدًا
أو تائه اللب بلا عمد
والبائس المسكين مستسلم
أذل للمكروه من عبد
وما اشتهى ذاك ولكنه
فرَّ من اللؤم إلى الجهد
فرَّ إلى الحمل على ضعفة
من كلحات المكثر الوغد

وما كان بينه وبين ذلك الحمال من صلة حركت فيه ذلك الإشفاق عليه، والعجب من صبره إلا أنه كان يؤثر مقاساة الجهد على مقاساة اللؤم، وبرح العناء على التكسب بمدح البخلاء، ويريح نفسه مما يعانيه الشاعر، ويفتقر إليه من استجداء النوال وذل السؤال، وهي صلة لا تتحرك بها العاطفة إلا في نفس مجبولة على العطف، والتأسي بأحوال الكبير والصغير والرفيع والوضيع.

«وكان هو وصديق له متصلين برجل جليل من حاشية السلطان، فكان المتصل به يسرف على صديقه في الاستخفاف به»، فقال ابن الرومي يلوم ذلك الرجل الجليل على استخفافه بصديقه:

أحب أن تشتمني
بوزن ما تشتمه
أو توقع الإكرام لي
وللذي أكرمه
فإن ما تفعله
بحضرتي يحشمه
… … … … …
… … … … …
وإنني يظلمني
كل امرئ يظلمه

ولو رجلٌ غير ابن الرومي في موضعه كان بنفسه حسد أو دخيلة سوء؛ لسره أن يُخصَّ بالحفاوة دون زميله، والتَمسَ الزُّلفى عند ذلك الرجل الجليل بموافقته على مزاحه واستخفافه، لكنه كان في الواقع كأبرأ الناس من حسد، وأعظمهم سرورًا بعطف صديق، بل كان الصديق مقدمًا عنده على الحبيب.

عرِّج على ذكر الصديـ
ـق وعدِّ عن ذكر الحبيب
كم مُكثِر لي مخبث
ومُقلِّ قولٍ لي مطيب!

لأن العطف حاجة من حاجات قلبه وضرورة من ضروراته، ووقاءٌ له مما كان يرهقه ويشتد على صبره، فكان عطف الصديق يحيي نفسه، ويخلقه خلقًا جديدًا كما قال:

خليل أظل إذا زارني
كأني أُنشَّأ خلقًا جديدا
أراني وإن كثر المؤنسو
ن ما غاب عني وحيدًا فريدا

فما كان الرجل حاسدًا ولا شبيهًا بالحاسد، وما كان إلا إنسانًا كسائر الناس يحب الخير لنفسه ولا يكرهه لغيره، بل ما كان إلا ذلك الطفل الكبير الذي كانه في حدَّة طعمه، وقلة حيلته، وقد فتح عينيه وفغر فاه إلى قطعة الحلوى في يد غيره، فبلع ريقه وصاح في براءة وصراحة لا تعرفهما طبائع الحاسدين:

لا تلومن حاسدًا؛ ألمُ النفـ
ـس من البخس — يا أُخيَّ — شديد!

وما حيلة المسكين في شهوة قلبه، وفي قلة حيلته وحوله؟ وكيف الصدوف عن النعمة وما هو بزاهد فيها، ولا بجاهل لقدرها، ولا بغافل عن لذَّتها؟ أهو معصوم من الفتنة كما قد حرم نصيبه من النعمة؟ لا، بل إن فتنته لأشد وأضرى! وإنه بالغبن لأحس وأدرى:

يا ليت أهل العقل إذ حُرموا
عصموا من الشهوات والفتن
لكنهم حرموا وما عصموا
فقلوبهم مرضى من الإحن
وهم أحس على بليتهم
من غيرهم بمرارة الغبن

فمبلغ القول في حسده أنه كان شديد الرغبة في متع الحياة، قليل الحيلة في احتجانها، فإذا سميت هذا حسدًا فقل: إن ابن الرومي حاسد، وقل: إن الطفل الذي يتطلع إلى الحلوى في يد رفيقه الصغير حاسد، وأضف إلى الحسد بهذه التسمية معنًى جديدًا لم يكن من معاني هذا الخلق البغيض الذميم.

•••

ويقال في حقده ما يقال في حسده، فقد كان ساخطًا ولم يكن حاقدًا، والبون بعيد بين السخط والحقد، وإن التبست أعراض هذين الخلقين على طلاب الظواهر.

فهما خلقان متباينان، وقد يكونان في بعض الأحيان متناقضين، فيسخط الإنسان بل يدوم سخطه وليس في قلبه من الحقد أثر، وقد تكون كثرة سخطه لكثرة استجابته للمؤثرات الجديدة الطارئة التي تتعاقب على حسه؛ أي لقلة حقده وقلة إصراره على البغض القديم.

والحقد توءم الحسد في خلة الأثرة الحيوانية والأنانية الصماء، فلهذه الخلة يستكبر الحاقد الإساءة الصغيرة إلى نفسه، كما يستكثر الحاسد النعمة القليلة على غيره، والسبب في الحالتين واحد؛ وهو أنه لغلوه في حب نفسه، واستغراقه في الأثرة الحيوانية لا يريد أن يساء هو، ولا أن يُسرَّ غيرُه، وليس يعنيه أن يساء بالحق أو بغير الحق، وأن يكون عاديًا في هذه الإساءة أو مُعدوًّا عليه، فإن ذلك كله من وراء تفكيره وحسابه، ولا فرق عنده بين أن يظلمه الناس في الإساءة إليه أو ينصفوه، وبين أن يسيئوا إليه بالعدوان عليه أو بصده هو عن العدوان.

فمن الحاقدين من يحقد على الناس لأنهم أبوا عليه أن يضرهم ليستفيد من ضررهم، ووقفوا بينه وبين مصلحته، ولو كان وقوفهم هذا من حقهم ولإنقاذ حياتهم! وهو لا يكفر بالعدل ولا يكره العدوان لأنه جور وعسف، ولا يعرف من الكراهة إلا أن يكره ما يسوءه كائنًا ما كان، وبالغًا ما بلغ فيه العذر والاضطرار. وهذا غير الشعور الذي يشعر به المرء حين يُعتدى عليه بغير الحق، فيسوءه ذلك، ثم يتوالى العدوان فيتوالى الاستياء، ويطول السخط والامتعاض؛ فإن من النبل أن يغضب المرء للعدوان وقع به ووقع بغيره، فإن لم يرتفع بغض العدوان إلى مقام النبل، فهو لا يهبط بصاحبه إلى ما دون منزلة العذر المعقول والطبع المستقيم.

من هذا القبيل كان شعور ابن الرومي حين توالت عليه أسباب السخط، فتوالى سخطه وغضبه، وتواصلت شكواه وضجره، فكل سبب كان يثيره فهو سبب «أخضر» لا مشابهة فيه لأسباب الحقد التي يطول ثواؤها بالضمير حتى تفسد وتتعفن، أو تيبس وتتحجر.

وما كان لطبيعة مهتاجة كطبيعة ابن الرومي طاقة بضرب من الإحساس غير ذلك الذي نسميه «بالأخضر»؛ لحدَّته وحرارة نبضه، وسرعة أثره وسرعة زواله، وأنَّى لمثل هذه الطبيعة إصرار الحقد وتدبيره، وثباته على ما فيه بين تقلب الحوادث وتجدد المسرات والمصائب؟ كل ما تطيقه هذه الطبيعة من الشعور هو ذلك الشعور الذي تحضره أسبابه، وتلح عليه مؤثراته، فإذا كانت الأسباب لا تزال مؤلمة مغضبة، فالألم دائم والغضب لازم، والناس يقولون حينئذ: إنه الحقد، وإنه الضغينة، وإنه خلق ذميم وطبيعة رديئة؛ لأن الحقد هو الاسم الذي يطلقه العامة على الاستياء إذا دام واتصل، وتوالت موارده فتوالى وجوده، ولأنهم ربما بلغوا من بلادة الأنانية وقلة الإحساس بمعنى العدل أن يسيئوا إلى المستضعف المخذول، ولا يتوقعوا منه الألم والاستياء … ولم لا؟ ألا يسرهم أن يعبثوا به ويتماجنوا عليه؟ فما باله إذن لا يسر بما به يسرون، ولا يضحك هو كما هم يضحكون؟!

فكل ما كانت تطيقه طبيعة ابن الرومي من الشعور هو ذلك الذي تحضره أسبابه، وتلح عليه مؤثراته، فإذا غابت الأسباب وفترت المؤثرات نسي شعوره في لمحة عين، وانقلب إلى نقيضه، وفي قصته مع الأخفش عبرة لمن شاء أن يعرف ما وراء سخطه من الطيب والغفران والمودة، فقد صمد الأخفش ما صمد من الزمن يعبث به، ويثقل عليه في العبث حتى منعه أن يبرح بيته ويتصرف لمعاشه، فعاتبه ابن الرومي فلم يرعوِ، وأنذره فلم يحفل، وقال له يتوعده:

لا يأمنن السفيه بادراتي
فإنني عارضٌ لمن عرضا
عندي له السوط إن تلوَّم في السـ
ـير وعندي اللجام إن ركضا

وما توعد إلا بعد لجاج ومحال وصلح واعتذار، فلما لم ينفعه ذلك هجاه وأقذع في هجائه كعادة أهل الزمان في كل هجاء، فعاد الأخفش إليه يسترضيه ويستعطفه، فرضي وعطف، وأسرع فنسي تثقيله ونسي الهجاء وأقبل يقرظه ويطريه، ويبالغ في تقريظه وإطرائه غير تارك لنفسه بقية لوتر قديم، ولا لوتر مستأنف:

ذكر الأخفش القديم فقلنا:
إن للأخفش الحديث لفضلا
وإذا ما حكمت والروم أهلي
في كلام معرب كنت عدلا
أنا بين الخصوم فيه غريب
لا أرى الزور للمحاباة أهلا
ومتى قلت باطلًا لم أُلقَّب
فيلسوفًا ولم أسوم هرقلا
بدأ النحو ناشئًا فغذاه
أحدث الأخفشين فانقاد رسلا
… … … … …
… … … … …
يا ظماء إلى الصواب رِدُوهُ
يسقكم بالصواب علًّا ونهلا
هو بحر من البحور فرات
ليس ملحًا، وليس حاشاه ضحلا

وأطنب في ذلك حتى دعاه مقوِّمه وخدينه:

قل له: يا مقوِّمي وسميي
وكنيي ومن غدا لي شكلا
قد أردت الإطناب فيك فقالت
ليَ غاياتك البعيدة: مهلا
ورأيت اليسير يكفي من الحلـ
ـي إذا النصل كان مثلك نصلا

إلا أن الأخفش لم يصف هذا الصفاء، ولم يكن إلا عابثًا في صلحه كما كان عابثًا في خصامه، فعاد إلى شنشنته معه، وعاد ابن الرومي إلى سلاحه الذي نبذه حتى حسب صاحبه أنه حطمه، فقال يذكره:

حذار عرامي أو نظار فإنما
يظلكم قطع من الرجز مرسل
ولا تحسبن الصلح أنصل آلتي
ولا أنني في هدنة السلم أغفل
ولكنني مستجمع الحلم مغبر
أُفوِّق نبلي تارة وأنصل
فإن هاجت الهيجاء أو عاد عودها
على بدئها لم يلق مني أعزل

وليس يغرُّ الحاقد هذا الغرور، ولا الناس يصنعون هذا بمن يعلمون حقده، ويحذرون منه تصميم نيته.

وانقلب ابن عمار على ابن الرومي، وابن الرومي — كما عرفت من أخباره — هو الذي أعانه بما في وسعه، وقربه من الرؤساء أصحابه، وجعل له سببًا إلى رزقه، فجزاه انقلابًا بانقلاب ومسبة بمسبة، ولم يفعل ذلك إلا بعد أن تحيل جهده على عطفه واستلال حقده وحسده فلم يفلح، وكتب إليه يستعيده إلى سالف مودته:

أيها الحاسدي على صحبتي العسـ
ـر وذمي الزمان والإخوانا
حسدًا هاجه على ثلب شعري
ولقائي معبسًا غضبانا
وانتقاصي مع العدو وقد كا
ن يرى لي نقائصي رجحانا
ليت شعري ماذا حسدت عليه
أيها الظالمي إخائي عيانا
أعلى أنني ظمئت وأضحى
كل من كان صاديًا ريَّانا
أم على أنني أمشي حسيرًا
وأرى الناس كلهم ركبانا
أم على أنني ثكلت شقيقي
وعدمت الثراء والأوطانا
عد كريمًا إلى كريم كما كنـ
ـت وإلا لقيت مني هوانا
لا عقاب بما تقول ولكن
بجفاء أردفته هجرانا
وتيقن أني مقيم على العهـ
ـد حياتي، وخذ بذاك ضمانا
لا أعد الذنوب منك ذنوبًا
بل هدايا مقبولة وحنانا

فلم يُجد ذلك في استعطاف ابن عمار، ولم يثنه عن عدائه وثلبه، ثم تقرأ في ديوان ابن الرومي فترى فيه قصيدة قالها قبل موته بخمسة أيام أو ستة يمدح الجراح على لسان ابن عمار هذا لتيسير منفعة كان يرجوها لديه.

ونظن أننا في غنية عن سرد القصص والأمثلة على عطف ابن الرومي وغرارته وطيب قلبه، فقد كان العطف — كما أسلفنا — حاجة من حاجات طبعه، وضرورة من ضرورات حياته، وآية ذلك بينة في شعره كله، وفي تفجعه على أحبابه، وشدة فقده لأهله، وقناعته منهم باليسير من المودة يأخذها حيث وجدها، ويأسى عليها حيث لا يجدها، وهو القائل وقد صدق:

وإني لبرٌّ بالأقارب واصل
على حسد في بعضهم وعلى بغض

ولقد آن أن ننبذ تلك الطريقة العتيقة التي كان بعض الأقدمين يعتمدونها في نقد الأخلاق، وتسمية أسمائها، والمقابلة بين المتشابه والمتخالف منهما؛ فإنهم تعودوا أن يأخذوا فيها بالأعراض دون الجواهر، وبالظواهر دون المخابر، وكانوا ينظرون إلى السمات البادية ولا ينظرون إلى ما وراءها من بواعثها … فللغضب الدائم والحقد سمة واحدة؛ فهما إذن خلق واحد! ومتى كان الشاعر كثير الذم والإنحاء على الناس، فهذه حجة جديدة تضاف إلى سمات وجهه، فلا جدال إذن في حقده، ولا شك في قبح سريرته وجنوحه إلى الشر دون الخير، والعداوة دون المودة، فإذا اتفق مع هذا أنه شهد على نفسه بالحقد فقد بطل الجدال، وحقت عليه الكلمة، ونفذ فيه القضاء، ألا تراه ناقمًا مغتمًّا؟ ثم ألا تراه هاجيًا لا يكف عن الذم والشتيمة، ثم ألا تراه يقر بذنبه ويصارح الناس بدفين بغضه؟ فماذا بقي بعد من أسباب الحكم غير أن يوصم وأن يدان؟!

لا يا قضاة! بقي من أسباب الحكم كل شيء، ولم يحصل لدينا بعد هذا كله سببٌ واحد يجوز لنا أن نعتمد عليه! بقي البحث في أسباب نقمته وذمه وشهادته على نفسه؛ فإن هذه هي العناصر التي تتألف منها الأخلاق، وليست ملامح الغضب ولا كلمات الشفاه، فإذا نحن عرفناها فذاك، أما إذا ظلت مجهولة فقد جهلنا كل سر، ولم نعرف إلا ألوان الطلاء. علام تدل النقمة؟

ثم علام يدل الاعتراف؟

إن الإنسان لينقم وهو من أشرف الناس في نقمته، وأنه ليرضى وهو من أخبث الناس في رضاه، وإن اعتراف المعترف لأحجى أن يبرئه من رذيلة المواربة والنفاق، وهي رذيلة لا تخلو منها طبيعة الحاسد أو طبيعة الحقود؟

ويلوح لنا أن نقَّاد الأخلاق على هذا النمط لا يختلفون كثيرًا من قضاة الزمن الغابر الذين كانوا يضربون «المتهم» ليقر بالذنب، ثم يأخذونه بشهادته على نفسه، فغاية الفرق بينهم أن نقادنا لا يضربون، ولكنهم كذلك لا يسألون عن المنقود المسوق إليهم: هل هو مضروب أو غير مضروب؟ ونخالهم يغتبطون بأن يساق إليهم مضروبًا معترفًا ليغنيهم عن البحث، ويعفيهم من مؤنة السؤال والجواب!

وشهادة الإنسان على نفسه بالشر كشهادته لها بالخير، كلتاهما لا قيمة لها ما لم يكن لها مصداق من الطبيعة والواقع، فابن الرومي قد شهد على نفسه بالحقد فقال وهو يتحدث بأخلاقه:

شكري عتيد وكذاك حقدي
للخير والشر مكان عندي

وقال:

وما الحقد إلا توءم الشكر في الفتى
وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض
فحيث ترى حقدًا على ذي إساءة
فثم ترى شكرًا على حسن القرض
إذا الأرض أدت ريع ما أنت زارع
من البذر فيها فهي ناهيك من أرض
ولا عيب أن تجزي القروض بمثلها
بل العيب أن تدان دينًا فلا تقضي

فهذا اعتراف صحيح يتلهف عليه القضاة؛ قضاة المحكمة العتيقة، ولكنه بعدُ ليس بالمهم في البحث عن أخلاق الرجل؛ لأن وراءه سرًّا هو الأهم في هذا الصدد، وهو الحقيق بأن يدار البحث إليه.

فيجب أن نعلم أولًا لماذا شهد ابن الرومي على نفسه بالحقد هذه الشهادة، فإن الحقود لا يشهد على نفسه بحقده، والمطبوع على الصراحة لا يكون مطبوعًا على الحقود، وصراحة ابن الرومي هنا تلفت النظر إلى أمر شاذ في هذا «الاعتراف»، وتدعونا إلى السؤال عن سره، وسره ليس ببعيد.

فالرجل كان يدَّعي الحقد ليخيف الذين يستوطئون جانبه، ويستسهلون إرضاءه بعد إغضابه، فما كان يذكر الحقد إلا وهو ينذر ويتوعد من طرف خفي أو ظاهر، ويخير الناس بين شكره وحقده؛ ليغنموا شكره، ويجتنبوا حقده. فهذه الدعوى عنده كتلك السحنة البغيضة التي ينتحلها بعض الحيوان للإخافة والتهويل حين لا يكون مخيفًا ولا هائلًا في الحقيقة، وهو محتاج إلى دعواه حاجة الحيوان إلى سحنته البغيضة في معترك الحياة.

وسبب آخر لاعترافه بالحقد أنه كان يتفلسف ويدرس الجدل ويتعاطى صناعة البرهان، ويجب أن يمتحن قوته في المنطق والفلسفة بتقبيح الحسن وتحسين القبيح حسبما يبدو له من وجهيه، ومن تنازع الأقوال فيه، وتلك سنة كانت معروفة في ذلك العصر يقيسون بها البلاغة، ويقيسون بها قوة البرهان، فمدح ابن الرومي الحقد وذمه، ولم يقصر بحجة الذم عن حجة المديح، وهو القائل في ذم الحقد والرد على مادحيه:

يا مادح الحقد محتالًا له شبهًا
لقد سلكت إليها مسلكًا وعثًا
لن يقلب العيب زينًا مَن يُزينه
حتى يرد كبيرًا عاسيًا حدثا
قد أبرم الله أسباب الأمور معًا
فلن ترى سببًا منهن منتكثا
يا دافن الحقد في ضعفي جوانحه
ساء الدفين الذي أمست له جدثا
الحقد داء دويٌّ لا دواء له
يرى الصدور إذا ما جمره حرثا
فاستشف منه بصفح أو معاتبة
فإنما يبرئ المصدور ما نفثا
واجعل طلابك بالأوتار ما عظمت
ولا تكن لصغير الأمر مكترثا
والعفو أقرب للتقوى وإن جرمٌ
من مجرم جرح الألباب أو فرثا١٦
يكفيك في العفو أن الله قرَّظه
وحيًا إلى خير مَن صلَّى ومن بُعثا
شهدت أنك لو أذنبت ساءك أن
تلقى أخاك حقودًا صدره شرثا١٧
نعم وسَرَّك أن ينسى الذنوب معًا
وأن تُصادِف منه جانبًا دمثا
إني إذا خلط الأقوامُ صالِحهم
بسيئ الفعل، جدًّا كان أو عبثا
جعلتُ قلبي كطرق السبك من حسد
يستخلص الفضة البيضاء لا الخبثا
ولستُ أجعله كالحوض أمزجه
بحفظ ما طاب من ماءٍ وما خبثا

وهو القائل في هذا المعنى:

يا ضارب المثل المزخرف مطريًا
للحقد لم تقدح بزندٍ وارِ
أصبحتَ خَصمَ الحق تهدمُ ما بَنى
والحق محتج وأنت تُماري
أطريت غثك لا سمينك ضلةً
واخترت من خلقيك غير خيار
شبَّهتَ نفسك والأُلى يولونها
آلاءهم بالأرض والعمَّار
ورأيت حفظك ما أتوا — من صالح
أو سيئ — كرمًا وعتق بحار
وزعمت فيك طبيعة أرضية
يا سابق التقرير بالإقرار
ولقد صدقت وما كذبت؛ فإنه
لا يُدفع المعروف بالإنكار
لكنَّ هاتيك الطبيعة في الفتى
مما يلظ عليه بالأستار
ولصمته عن ذكرها أولى به
من عدها في الفخر يوم فخار
فينا وفيك طبيعة أرضية
تهوي بنا أبدًا لشر قرار
هبطت بآدم قبلنا وبزوجه
من جنة الفردوس أفضل دار
فتعوضا الدنيا الدنية كاسمها
من تلكم الجنات والأنهار
بئست — لعمر الله — تلك طبيعة
حرمت أبانا قرب أكرم جار
واستأسرت ضَعْفَى بنيه بعدها
فهُمُ لها أسرى بغير إسار
لكنها مأسورة مقسورة
مقهورة السلطان في الأحرار
فجسومهم من أجلها تهوي بها
ونفوسهم تسمو سمو النار
… … … … …
… … … … …
عرفوا لروح الله فيهم فضل ما
قد أثرت من صالح الآثار
فتنزهوا وتعظموا وتكرموا
عن لؤم طبع الطين والأحجار
نزعوا إلى النجر الذي منه أتت
أرواحهم، وسموا عن الأغوار

فابن الرومي القائل هذا هو ابن الرومي القائل ذاك. وكأننا بقضاة المحكمة العتيقة يتحفزون للإدانة المبرمة، ويبحثون بين أيديهم عن المجرم الذي دانوه، فلا يجدون هنالك إلا متفلسفًا يقلب القضية على وجهيها، أو هرًّا مستضعفًا يزأر لأنه خائف لا لأنه مخيف، أو يعلمون أن الرجل قد يستجمع سمات الغضب الدائم ولهجته، ويعترف على نفسه بحقده، ولا يكون بعد ذلك على شيء من الحقد كثير ولا قليل.

وجميع أخلاق ابن الرومي تنتهي عند البحث فيها إلى مثل هذه النهاية، فهو كما أسلفنا لا يعرف من الأخلاق إلا «الأخضر» الذي يجري فيه الماء لوقته، أو هو لا يعرف من الأخلاق إلا ما يحضره سببه، وتختلج في صدره دواعيه:

أيندم ويتوب عن المعاصي؟

نعم! وجبت التوبة والندم؛ إذ:

حتى متى نشتري دنيا بآخرة
سفاهة، ونبيع الفوق بالدون؟
معللين بآمال تخادعنا
وزخرف من غرور العيش موضون

أيلهو ويقصف؟

نعم! يلهو ويقصف ويقول لمن يتوب ويندم:

لا تخلط الخب بالتقوى فتعطفنا
على المُقاسي عذاب الهجر والبين
ولم نبع قط دنيانا بآخرة
ومثلنا لا يبيع النقد بالدين

أيسكر بعد إقبال المشيب وإدبار الشباب؟

نعم.

فأعذرُ شُرَّاب المدامة شارب
لتقصير أيام المشيب الأطاول

أو:

فالآن حين أجدَّ الشيب يطلبني
أبادر الشيب باللذات عجلانا

أم يقلع عن السكر بعد إقبال المشيب وإدبار الشباب؟

قد يكون ذلك خيرًا:

فدع شربها إذ أصبح الرأس مشرفًا
محاذرةً أن يصبح القلب مظلما
ولا تُريَنْك السن والله والنهى
على الشيب والإسلام واللوم مقدما

أيشح ويحرص على ماله؟

نعم؛ فإنه:

إذا لم يكن عندي سوى ما يكفُّني
فشحي عليه مثل شحي على عرضي
لأني متى أتلفته احتجت حاجةً
تُذيل مصون العرض في طلب القرض

أيجود ويسرف؟

نعم، و:

لا تحملن هموم أيام على
يوم؛ لعلك أن تقصر عن غده

بل هو يسأل الله أن يقيه الشح ويلهمه الجود:

قني يا إلهي شح نفسي؛ فإنني
أرى الجود لي حظًّا وشيمتي البخل

وربما تعاورته الحالتان في لحظة واحدة، فتراه حائر النفس بين الحرص والتوكل لا يطمئن إلى هذا حتى يثوب إلى ذاك:

وقضاء الإله أحوط للنا
س من الأمهات والآباء
غير أن اليقين أضحى مريضًا
مرضًا باطنًا شديد الخفاء
ما وجدت امرأ يرى أنه يو
قن إلا وفيه شوب امتراء
لو يصح اليقين ما رغب الرا
غب إلا إلى مليك السماء
وعسيرٌ بلوغ هاتيك جدًّا
تلك عليا مراتب الأنبياء

أو قد يدركه الحذر أو الأريحية فيُحجم عن هجاء السلطان، ويعلن سر إحجامه كأنه مطالب بهذا الإعلان:

لا أقذع السلطان في أيامه
خوفًا لسطوته ومر عقابه
وإذا الزمان أصابه بصروفه
حاذرت رجعته ووشك مثابه
وأعدُّ لؤمًا أن أهمَّ بعضه
إذ فلَّت الأيام من أنيابه

ذلك حين يساوره الخوف ويذكر الأريحية، فأما إذا ثارت بلابله، واضطرمت لواعجه، وملكه الغيظ فاجتاح حزمه وخوفه، فهو أهجم هاجم على سلطان حديد نابٍ أو مفلوله، وهو الجسور في هجائه على ما يخافه الجسور الذي لا يخاف.

فهو ابن ساعته وطوع الحاضر من إحساسه، و«النوبة الطارئة» هي المفتاح الذي يُفض به كل ما استغلق من أسرار نفسه على الجملة، وما كان في نفسه من سر مغلق إلا وجدته هو معنًّى منهومًا بالغوص عليه والكشف عنه لقارئي شعره!

معيشته

عاش ابن الرومي حياته كلها في بغداد، لا يفارقها قليلًا حتى يعود سريعًا، وقد نازعه إليها شوق وغلبه نحوها حنين، وكانت بغداد يومئذ عاصمة الدنيا غير مدافع: فيها كل محاسن العمار الواسع وعيوبه، وكل رفاهة العمار الواسع وشقائه؛ قصور تبلغ النفقة على بنائها وتأثيثها ألوف الألوف، ومتاجر يؤمها أصحاب القوافل من أقصى المشرق وأقصى المغرب، ومدارس ومكاتب وحلقات للمذاكرة يجلس فيها الأئمة في كل فرع من فروع العلم والأدب، وإلى جانب ذلك بيوت في كل منزه، ومرتاد على النهر أو في الخلاء للهو والمعاقرة والسمر يغني فيها القيان، ويرقص الجواري، ويغشاها العلية والسواد، ويسكت عنها الخلفاء حينًا، فتكثر وتعمر أو يغضبون عليها فيبعدونها إلى حيث تغيب عن الأنظار، ولكنها لا تغيب عن الطلاب والرواد، ومن وراء ذلك أحياءٌ منبوذة يكمن فيها اللصوص والمغتالون يتألبون على نقب الدور، وحمل الخزائن، واستدراج الموسرين على نحو ما نقرأ عن عصابات الإثم والجريمة في عواصم هذا الزمان، فإذا تصفحت أخبار بغداد بما اشتملت عليه من جمال وشناعة وبذخ وفاقة واحتيال على طلب المال والمتعة من كل مطلب، وانصراف إلى السرور والرغد في كل وجهة، فكأنك تتصفح أخبار الغرائب في عواصم الدنيا التي تسمى اليوم باريس وبرلين ولندن وشيكاغو ونيويورك.

وهذه العواصم كافة لا تطيب فيها إقامةٌ إلا بمال، أما بغداد خاصة فكان ساكنها أحوج إلى المال من ساكن العواصم الحديثة؛ لأنها كانت عرضة للغلاء في القرن الثالث لاضطراب الأمور في الجهات التي كانت تميرها، وانقطاع الوارد عنها حينًا بعد حين، فإذا وقع فيها الغلاء ندر الخبز، وارتفع سعر الدقيق، وكان ما وصفه ابن الرومي في بعض شكاياته:

أحسن ما كان الدقيق موقعًا
من رجل أفلس حتى أدقعا
… … … … …
… … … … …
وأصبح القوم البطان جوَّعا
وخشي الجائع ألا يشبعا

وهي إذا لم تغل لم ترخص، ولم يستغن طالب المعيشة فيها عن بعض اليسار، كما قال بعض الشعراء:

سقى الله بغداد من جنةٍ
غدت للورى نزهة الأنفس
على أنها منية الموسر
ين ولكنها حسرة المفلس

وابن الرومي لم يكن طالب معيشة وحسب، بل كان طالب معيشة ومتعة ومسرة، وكان منهوكًا في مطالبه كلها، قليل الصبر على غواية المناعم واللذات أنَّى كانت، وحيث أمكن منها الحول والحيلة:

فبادر الدهر بالمناعم واللَّـ
ـذات واحذَر من وشك مرتحل
فإن تعذَّرن أن يجئنك بالـ
ـقُوَّة فاحتلْ لطائف الحيل

وكان كثير الألفة لبيوت القيان يعاشرهن ويسمعهن ولا يسمع فيهن لوم لائم:

ولاحٍ في القيان فقلت: مهلًا
رميت بنبل أوتار القيان
… … … … …
… … … … …
شبيهات الرماح قنا متونٍ
وكَلْمًا في القلوب بلا سنان
وهل من حربة أو من سنان
كعين أو كثغر أو بنان؟

وربما كان الشعر من حيله التي كان يحتال بها على ودِّ القيان، وحضور مجالسهن، فيثني عليهن حينًا، ويهجوهن أحيانًا، وينال بذلك ما يناله غيره بالدنانير والدراهم، بيد أنها حيلة تغنيه في هذا الغرض قليلًا ولا تغنيه كثيرًا، ثم هي لا تغنيه عن المال كلما احتاج إليه في سائر وجوه عيشه ولهوه.

فصاحبنا في مدينة الغلاء قد عاش وعلى غير التقشف والزهد قد فطر، فهل كان ميسور الحالة مكفي المؤنة؟ وهل كان الشعر كفيلًا له بمال يغنيه في ضروراته ونوافله؟ أو هو كان فقيرًا محرومًا لا يصيب من فرص العيش إلا ما يغبه على موائد الأمراء، أو يحتال له «لطائف الحيل» حيثما أسعفت وأفادت، وقلما تسعف وتفيد؟

إن قصائد ابن الرومي في جملتها لا تدع إلا أثرًا واحدًا في ذهن القارئ من هذه الوجهة، وهو أنه كان في ضنك وفاقة، كثير الحرمان، كثير الشكاية، ولكنها لا تخلو هنا وهناك من أبيات تدل على كفاف أو حظ من اليسر، وعلى أن بعض ممدوحيه كانوا يحرمونه عطاياهم لذلك اليسر الذي يرونه عليه:

أتحرمني لأني مستقل
وأني لست كالرَّزْحَى السغاب
فما تحمي ذوات الدر درًّا
إذا صادفن ملآن الوطاب

ومن أبياته ما يدل على أنه كان صاحب ضيعة، وصاحب دارين وثراء وتحف موروثة، منها قدح زعم أنه كان للرشيد، وقال في وصفه وقد أهداه إلى علي بن يحيى المنجم:

وبديع من البدائع يسبي
كل عقل ويطبي كل طرف
وُفِّي الحسن والملاحة حتى
ما يوفيه واصف حق وصف
قدحٌ كان للرشيد اصطفاه
خلف من ذكوره غير خلف
كفم الحب في الحلاوة بل أحـ
ـلى، وإن كان لا يناغي بحرف
صيغ من جوهر مصفًّى طباعًا
لا علاجًا بكيمياء مصف
تنفذ العين فيه حتى تراها
أخطأته من رقة المستشف
كهواء بلا هباء مشوب
بضياء أرقق بذاك وأصف
وسط القدر لم يكبر لجرع
متوال، ولم يصغر لرشف

فعلى هذا يلوح لنا أنه كان ميسر المعيشة ولو بعض التيسير، وأنه كان في وقت من أوقاته «مستقلًّا» ليس «كالرزحى السغاب»، غير أننا لا نعلم بخبر تلك الضيعة إلا لنعلم أنها مجدبة تطيل عناءه ولا تغل عليه:

أعاني ضيعة ما زلت منها
بحمد الله قدمًا في عناء

وأنها كانت تصاب بالجراد فيأتي على زرعها في بعض السنين:

لي زرع أتى عليه الجراد
عادني مذ رزئته العواد
كنت أرجو حصاده فأتاه
قبل أن يبلغ الحصادَ الحصادُ

وأنه كان يستعفي من دفع خراجها، ويكتب إلى وهب بن سليمان يشكو إليه ضيقه وسلب الخطوب ما في يديه:

هب لراجيك ما عليه فإنَّ اسـ
ـمك وهب ووسمك الوهاب
أنت بحر ومن له تُجتبى الأمـ
ـوال بحر لجانبيه عباب
فارغبا عن مداد شعبي فليست
فيه إلا صبابة، بل سراب
وارثيا لامرئ ألح عليه
للزمان الصئول ظفر وناب
سلبته الخطوب ما في يديه
وله من تجمل أثواب
… … … … …
… … … … …
غير أن ليس في خراجي وحدي
ما بأعلاقه يسوغ الشراب
لك في مكثري الرعية دوني
حلَبٌ كيف شئت بل أحلاب

كذلك لا نعلم «بثرائه» إلا لنعلم أنه أصيب فيه بحريق و:

حدوث حوادث منها حريق
تحيف ما جمعت من الثراء

وأنه أصبح يستطعم بعد أن كان من المطعمين:

أمن بعد منزلة المطعمين
أعدم منزلة الطاعم؟!

وكذاك لا نعلم بخبر داريه إلا لنعلم أنهما غصبتا منه، كما زعم، أو خرجتا من يده بحق أو بغير حق على أية حال، فلما كان في نحو الثلاثين جار على دار له تاجر يعرف بابن أبي كامل — في رواية زهر الآداب — فاغتصب بعض جدرها وأجبره على بيعها، وفزع ابن الرومي إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر يستعديه ويذكر تلك الدار أو ذلك «الوطن»:

ولي وطن آليت ألا أبيعه
وألا أرى غيري له الدهر مالكا
عهدت به شرخ الشباب ونعمة
كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا
وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
فقد ألفته النفس حتى كأنه
لها جسد إن بان غودر هالكا
… … … … …
… … … … …
وقد ضامني فيه لئيم وعزَّني
وها أنا منه معصم بحبالكا
وأحدث أحداثًا أضرت بمنزلي
يريغ إلى بيعيه مني المسالكا
وراغمني فيما أتى من ظلامتي
وقال لي اجده فيَّ جهد احتيالكا
فما هو إلا نظمك الشعر سادرًا
وما الشعر إلا ضلة من ضلالكا
مقالة وغد مثله قال مثلها
وما زال قوالًا خلاف مقالكا
صدوفًا عن الخيرات لا يرأم العلا
ولا يحتذي في صالح بمثالكا
من القوم لا يرعون حقًّا لشاعر
ولا تقتدي أفعالهم بفعالكا
يعيرني سؤل الملوك ولم يكن
بعار على الأحرار مثل سؤالكا
مدلًّا بمال لم يصبه بحلة
وحق جلال الله ثم جلالكا
وحسبي عن إثم الألية زاجر
بما امتلأت عيني به من جمالكا
وإني وإن أضحى مدلًّا بماله
لآمل أن أُلفى مدلًّا بمالكا
فإن أخطأتني من يمينك نعمة
فلا تخطئنه نقمة من شمالكا

فلم يصغ إليه سليمان بن عبد الله.

وهذه هي قضية الدار الأولى التي غصبت وسليمان والٍ على بغداد، وابن الرومي يومئذ في نحو الثلاثين، وهي قضية كما ترى مفصلة لم يسقط منها حرف مما قيل بين الخصمين المتنازعين، تقرأ الأبيات حتى تنتهي منها فلا يسعك إلا أن تنسى الدار وتنسى يسر ابن الرومي وعسره، التفاتًا إلى هذا الاستقصاء الدقيق في سرد وقائع المشكلة والمشاجرة التي نشبت بين صاحب الدار والتاجر الباغي عليه، في زعمه، فما من كلمة قيلت في تلك المشاجرة أو تقال في أمثالها إلى اليوم إلا جاء بها ابن الرومي، وأبرأ بها ذمته كما يبرئ الذمة حالف اليمين الغموس.

يجور التاجر على دار الشاعر فينقض جدارها ويتلفها ليجبره على بيعها، فيقوم الشاعر ويقعد، ويرغي ويزبد، وينذر خصمه الويل والثبور وعظائم الأمور، فيهزأ التاجر المعتز بثروته الساخر بكل شيء غير ذهبه وفضته، ويقول له: وماذا عساك أن تفعل؟ قصاراك أن تنظم قصيدة! فاذهب وانظم ما بدا لك، ودع الشعر ينفعك! فما هو إلا ضلة من ضلالك، وبلاء لك يضرُّ بك ولا يجدي عليك، فيغضب الشاعر لشعره، ويذكر الأدب والعلم والملوك والأمراء، فيستخف التاجر بفخره، ويقول له: وما أنت من ذاك كله؟ ما أنت إلا متسول مسترفد تمد يديك إلى مال غيرك! فيرتد عليه الشاعر مزريًا بما لم يجمع إلا من السرقة والخداع والسحت والحرام، ويذهب يشكو ويستعدي ويرجو ويستجدي.

وهكذا تدور الملاحاة والمنابزة في القصيدة، وتسجل القضية كلها في الشعر على نمط لا يخرم حرفًا، ولا يزيد فيها ولا ينقص، كأن الشاعر مشغول بالرواية عن الدار، والمنازعة عليها! ومن الطبيعي أن يحدث جميع ما حدث، ولكن ليس من الطبيعي أن يثبت الشاعر جميع ما حدث في قصيدة؛ إذ لا فرق بين أقدر الشعراء وأضعفهم إلا أن أقدر الشعراء يجيء في شعره «بالطبيعي» البسيط، وأضعفهم يهمل «الطبيعي» البسيط، وينقص منه أو يزيد عليه.

وللدار الثانية قضية نعرف تفصيلها كما عرفنا تفصيل هذه القضية، فقد نازعته فيها امرأة، ونزعتها منه عنوة، فكتب إلى الوزير عبيد الله بن سليمان يعرض عليه القضية ويستغيث:

تهضمني أنثى وتغصب جهرة
عقاري، وفي هاتيك أعجب معجب
لقد أذكرَتْني لامرئ القيس قوله:
فإنك لم يغلبك مثل مغلب

وكانت آخر قصيدة قالها — كما في الديوان — لأمية يقول فيها:

أقول إذ غصبتني كف جاريةٍ:
الله أكبر من ودٍّ ومن هبل١٨
إن الغواني بما أملن من أمل
فما يبالين ما لاقين من أجل
متى غلبن رجال الجد في زمن
كما غلبن رجال اللهو والغزل
وإن أعجب شيء أنت مبصره
في كل ما حملته الأرض من ثقل
كفٌّ خضيب من الحناء غاصبةٌ
كفًّا خضيبًا من الأبطال والعُضل
يا حسرتا لي! ويا لهفا! ويا عجبا!
إن هذه الحال لم تُنكر ولم تزل
في دولتي أنا مغصوب وفي زمني
عودي ظميء بلا ريٍّ ولا بلل

يريد دولة بني وهب وهم أنصاره وممدوحوه.

ومن الواضح أن هذه الدار أخذت منه قبيل موته بزمن قليل؛ لأنه يطلب رجعها في أواخر شعره ويقول: إنه لم يكن يومئذ «من رجال اللهو والغزل». وقد يحتمل أن هذا الشعر كله قيل في دار واحدة لا في دارين، وأنه تشبث بتلك الدار بعدما أحدث فيها التاجر الأحداث، ورام أن يضطره إلى بيعها فلم يبعها، وظل مالكًا لها حتى ضاعت منه في أخريات عمره. وهو احتمال يرد على الخاطر، ولكننا نستبعده لأن زهر الآداب صريح في أن التاجر «أجبره» على بيع داره، ولأن ابن الرومي لا ينسى أن يذكر الصبا وطول العهد بسكنى الدار، لو كانت هي الدار الأولى التي ملكها وعاش فيها من صباه إلى هرمه.

وثم قصة أخرى «لدار» كان ابن الرومي يسكنها، ويخاطب في شأنها والي الشرطة أحمد بن محمد الواثقي الذي بقيت له الولاية إلى ما بعد موت ابن الرومي ببضع سنوات، فعن تلك الدار يقول:

بينما النفس ويبها بك ترجو
ملك دار معمورة مأهولة
وتراعي آمالها منك إنجا
ز مواعيد للمنى ممطولة
إذ أتاني الرسول منك بأمر
يشبه الموت نفسه أو رسوله
وهو إزعاجها بأعنف عنف
عن محل قد استطابت حلوله
أنا إن لم تذد بيمناك عني
غير شك فريسة مأكولة

ونظن أن البيتين الآتيين مما قاله في هذه الدار بعينها:

يا ويح من أصبح في غمة
ليس له من كربها مخرج
فروحه تزعج عن جسمه
وجسمه عن بيته يزعج

وقد تكون هذه الدار هي التي نزعتها منه المرأة، وقد تكون دارًا مأجورة وهو الأرجح عندنا؛ لأن الشاعر لا يقول في مزاياها إلا أنها «محل قد استطاب حلوله»، و«منزل أحب نزوله»، وأنها مكان:

فيه عافانيَ الإله من الشَّكْـ
ـو وفكَّ الإلهُ عني كبولَهْ
بعد جهد حملت منه ضروبًا
ليس أثقالهن بالمحمولهْ

وهو كلام أشبه بأن يقال في مكان جرب بعد تجربة غيره، وكان فيه معنى للاستطابة والاختيار، وله على غيره من الأماكن المأجورة مزية الموافقة والاستحسان، ويزيد في ترجيح ذلك أن الشاعر يقول: إنه كان يرجو «ملك» دار معمورة مأهولة، فما كفاه أن تفوته الدار المملوكة حتى أزعجوه عن مسكنه، وذلك بما تقدم أشبه.

وأيًّا كان الخلاف فيما سبق، فالأمر الذي لا خلاف فيه أنه مات في دار مأجورة، فإن الناجم يقول حين قص علينا قصته في مرض وفاته: إنه انتقل من الكرخ إلى باب البصرة، فسكن في دار ابن قلابة، ولم يسكن في دار ابن المعافى كما أشار عليه بعض أصدقائه، وهو يصف حاله قبيل ذلك فيقول من قصيدته البائية إلى القاسم بن عبيد الله، حين عزم على الشخوص إلى «آمد» مع الخليفة المعتضد:

ثوبي الرث والثياب طراء
وطعامي برغمي المجشوب
ومحلي عارية وجدارا
ت بيوتي فكلها منقوب
ومقيلي في الصيف سخن بلا خيـ
ـش، فعظمي يكاد منه يذوب

فالذي يفهم من هذه الأخبار حين يجمع بعضها إلى بعض أنه ورث دارًا من أبيه هي التي يقول: إنه قضى فيها أيام صباه، فلا تكون على هذا إلا إرثًا نشأ فيه قبل أن يدرك السن التي يكسب فيها ثمن الدور، وورث تحفًا تقتنى كتلك الكأس التي زعم أنها كانت للرشيد، وقد تكون الضيعة بعض إرثه من أبيه، وقد تكون مما اقتناه في بعض حالات وفره، ولكنه كان يحتاج إلى الدين فيعرض عقاره للضياع، وتقوم عليه الحجة فلا يقدر الولاة على دفع خصومه وقبول دعواه، وشكاياته من الديون كثيرة تؤيد هذا التفسير، فمنها:

عليَّ دين ثقيل أنت قاضيه
يا من يحملني ديني رجائيه
وقد حماني إخواني مواردهم
ووكلتني إلى بحر سواقيه

ومنها:

أقول لما رأيت عرسي
تسترزق الله باليدين
سيجعل الله بعد عسر
يسرًا بجدوى أبي الحسين
… … … … …
… … … … …
من حسن حال ورفه بال
ورفع قدر وحط دين

ومنها:

وارتكاب الديون إياي في ظلِّـ
ـك يهجوك باللسان الفصيح

ففي هذه الديون ضاع عقاره واستبد به دائنوه.

ومثل ابن الرومي لا يستغرب منه أن يسرف ويستدين، وإنما يستغرب منه أن يقصد في نفقته، ويعتدل في تصرفه، فهو إما مضياع متلاف وإما شحيح مقتر، حسبما يتعاوره من المغريات بالإنفاق وهواجس الخوف من الفاقة. وقد كان هو مضياعًا متلافًا، وشحيحًا مقترًا في نوبات لا يُدرَى لها سبب، ولا يضبط لها ضابط، فكان مضياعًا متلافًا على الكره منه، وشحيحًا مقترًا على الكره منه كذاك، وكثيرًا ما أنحى على نفسه باللوم لحرصه وضعف إيمانه، وشكاها إلى الله كأنما يغالبه على الحرص مغالب شديد المراس كما قال:

إلى الله أشكو شح نفسي لأنني
أرى الجود لي حظًّا وشيمتي البخل
وقد كان حق الجود بذل ذخائري
إلى أن يراني الله يعوزني الأكل
ولكن نفسي آثرت نبل مالها
وما حيث نبل المال ما يوجد النبل

أو كما قال:

وفيما اجتهادي في محاولة الغنى
وما للغنى عند الجواد به قدر

وحينا يثقل عليه الصراع بين حرصه وسرفه، ويخلد إلى العجز عن المغالبة، فيلتمس المعاذير لنفسه، ويجعل الشح من المكارم المحمودة لأنه يصونه عن الحاجة، ويعصمه من السؤال والاقتراض:

إذا لم يكن عندي سوى ما يكفني
فشحي عليه مثل شحي على عرضي
لأني متى أتلفته احتجت حاجة
تذيل مصون العرض في طلب القرض

فهو لا يزال أبدًا شديد الزهد شديد الرغبة:

وأصبح في الإثراء أزهد زاهد
وإن كان في الإثراء أرغب راغب

فلا جرم يضطرب في عيشه، ويخرج عن القصد في حالتي شحه وسرفه، ويظل مدخرًا لا ينتفع بما ادخر، أو مبددًا لا يبقي من ماله ولا يذر.

•••

على أنه لو بقي له كل ما ورث من أبيه وكل ما علمنا أنه ملكه لما أغنانا ذلك عن البحث في مورد رزقه، وسبب اتصال عيشه؛ إذ كان البيت الذي يسكنه مالكه لا يحسب من موارد الكسب، والضيعة التي «ما زال منها في عناء» لا تبلغ أن تدر عليه رزقًا يكفيه، ومن أخباره ما يقطع بعثور جده وبؤسه الغالب عليه معظم حياته، فلولا هذا البؤس لما لزمه ميسم النحس ولا عيروه الخيبة والخصاصة، ولولا عسره وافتقاره لما وقع بينه وبين البحتري ما وقع إذ هجاه، «فأهدى إليه تخت متاع وكيس دراهم، وكتب إليه ليريه أن الهدية ليست تقية منه، ولكن رقة عليه، وأنه لم يحمله على ما فعل إلا الفقر والحسد المفرط»! فإذا خطر لنا أن مطالبه الكثيرة لا تدل على حقيقة فقره، وأنها عادة جرى عليها كما جرى الشعراء في عصره، فاشتهاره بالنحس والتخلف، وردُّ البحتري عليه دليل على عسر حقيقي ما فيه ريب، أو دليل على حاجة دائمة إلى المدائح والصلات يعول عليها في ضرورات معاشه فضلًا عن نوافل لهوه.

فسؤالنا الذي ينبغي أن نسأله في هذا المعرض هو: ماذا كان نصيبه من المدائح، وكيف كانت حظوته عند ممدوحيه؟ والجواب الذي لا تردد فيه: إنه لم يكن نصيبًا جزيلًا ولا حظوة مغبوطة؛ إذ هو لم يتصل بالخلفاء، ولم يأخذ جوائزهم الكبيرة التي تغني الشاعر عن السؤال زمنًا، أو تغنيه عنه بقية حياته، وإنما كانت مدائحه كلها للولاة والوزراء والقواد والكتاب، ومن يضارعهم ويقل عنهم في الرتبة والثروة، فلم يمدح خليفة قط إلا لعلاقة بين هذا الخليفة وبين رئيس أو نديم من الذين يعرفهم وينتمي إليهم، فمدح المستعين وهجا المعتز حين تنازعا الخلافة بينهما؛ لأن محمد بن عبد الله بن طاهر كان من حزب المستعين، وكان مقيمًا في بغداد، وابن الرومي يمدحه ويقيم معه في المدينة، ومدح المعتمد لأن بنانًا المغني اقترح عليه مدحه — وهو يكتب لبنان — فأجابه إلى ما اقترح، وذكر اسمه في ختام القصيدة:

فلا يزل في نعيم عيش
مزاجه الخفض والليان
حتى يرى فيه كل سؤل
ومنية عنده بنان

ومدح المعتضد بالمقاطيع الكثيرة لأنه كان صديق آل وهب وكالئهم من لدن تولي العهد إلى أن بويع بالخلافة.

وقس على ذلك سائر مدائحه للخلفاء وولاة العهود، وما هي بالكثيرة في عددها ولا هي بالكثيرة في عدد أبياتها، فقد كان لا يعنى بتطويلها كما كان يطول مدائح الولاة والوزراء؛ لأنها مدائح لم تقصد لذاتها، ولم ينظمها إلا مرضاة لأصحابه؛ وتلبية لاقتراح المقترحين عليه، وكأنهم كانوا يُطْمِعونه بذلك في تقريبه من الخلفاء وإزلافه لعطاياهم، ولكنهم لا يفعلون، فظل محجوبًا عن الخلفاء لا يستدعونه، ولا يسألون عن شعره حتى مات، وجاء المستكفي يسأل عما قاله في الطعام والشراب!

ونعود إلى الوزراء والرؤساء لنبحث عن نصاب الجائزة عندهم، وغاية ما يصلون به الشاعر إذا رضوا عنه، وبالغوا في عطائه، وليس يطول بنا البحث في هذا؛ لأنه واضح من الحديث الذي جرى بين البحتري وابن الرومي، حيث يقول البحتري: «أقرأني أبو عيسى بن صاعد قصيدة لك في أبيه، وسألني عن الثواب عنها فقلت: أعطوه لكل بيت دينارًا.» فكأن هذا غاية ما يرتقي إليه الموصي بجائزة، وغاية ما كان ينتظره ابن الرومي من شفاعة متشفع يتودد إليه. وابن الرومي نفسه قد عين نصاب هذه الجوائز تعيينًا في بيت يخاطب به علي بن يحيى المنجم يقول فيه:

وما المائة الصفراء منك ببدعة
ولا من أخيك الأريحي أبي الصقر

يعني مائة دينار، فهي إذن غاية الغايات من جوائز الأمراء، ولا بد أن يحسب في هذا التقدير حساب مبالغتين مفروضتين في هذا المقام هما مبالغة الطمع، ومبالغة الثناء، بل حساب مبالغة أخرى صريحة في البيت، وهي أن الإنعام بمائة دينار كان أقصى ما تسمو إليه الأريحية، وكان بدعة في ذلك العصر من غير هذين الممدوحين، فمن الرؤساء — على هذا — من كان يجيز الشاعر — إن أجازه — بعشرين دينارًا وعشرة دنانير، وما فوق ذلك وما دونه، وكانت هذه هي السنة الشائعة والنصاب الذي جرى عليه العرف بين معظم الرؤساء ومعظم الشعراء.

وأنت تقلب ديوان ابن الرومي، فتقرأ فيه عشر قصائد في الشكوى والتذكير والاستبطاء والإلحاح والإنذار والهجاء إلى جانب قصيدة واحدة في المدح الخالص من العتاب والاستنجاز، فلنقدر أنه نجح في مائة قصيدة، وأخذ عليها مائة جائزة، فمحصل ذلك كله لا يزيد على ألفي دينار مع التسهل في عدد الجوائز ومقدار الدنانير. وألفا دينار يتلقفها الشاعر في نحو أربعين سنة ليست بالرزق الرخي، ولا بالوقاء من العوز والدين في مدينة الغلاء، وعصر البذخ والإسراف، ودع عنك أنها تجيء متقطعة ممنونة لا يعرف لها موعد، ولا توافق أوقات الطلب والحاجة.

ذلك نصاب الجوائز عند الرؤساء والوزراء إذا رضوا وسمحوا بالعطاء، فأما الحظوة عندهم فلم تكن من قسمة ابن الرومي في أكثر الأوقات، وإن أكثر وإن أجاد وإن أفرط في التزلف والاسترضاء، فما أكثر ما كانوا يتجنون عليه، ويستخفون به، ويتمحلون العلل الواهية لحرمانه وجفائه والقدح في شعره! فهذا إسماعيل بن بلبل مدحه بقصيدة معدودة في شعر المدح العربي من أقدم أزمانه إلى أحدثها، فتجهم له وضن عليه، ولأي ذنب؟ لأنه قال فيها:

قالوا: أبو الصقر من شيبان قلت لهم:
كلا — لعمري — ولكن منه شيبان

وأي شيء في ذاك؟ فيه — كما زعم — أنه هجاه، وأنكر عليه ما ادعاه من نسبه! فقيل له: هذا من أحسن المديح، فاسمع ما بعده:

وكم أب قد علا بابنٍ ذُرَى شرفٍ
كما علا برسول الله عدنان!

فتجنى وتعلل وقال: أنا بشيبان ليس شيبان بي، فقيل له: إنه لم يبخس شيبان، وقد قال فيها:

ولم أقصر بشيبان التي بلغت
بها المبالغ أعراق وأغصان
لله شيبان قوم لا يشيبهم
روع إذا الروع شابت منه ولدان

فأصر على التجني والتعلل وأقسم لا أثابه، ورجع الشاعر مغضوبًا عليه فوق حرمانه وطرده، وقد كان رجاؤه بما جود وأطال أنه يُرضى عنه ويُثاب، ولم يكفه هذا حتى جنى على نفسه انحراف الوزراء الآخرين عنه لأنهم لم يُمدحوا بتلك القصيدة، فراح منهم من يقول: إنها دار البطيخ!

ومدح محمد بن عبد الله بن طاهر مرة فانقلب ناقدًا منافسًا للشاعر وهجا شعره ولم يُجزه بشيء:

مدحت أبا العباس أطلب رفده
فخيبني من رفده وهجا شعري
فهبني قد أعفيته من مثوبتي
أيُغضى له شعري على مضض الوتر؟

ومن إهمالهم إياه أنه كتب قصيدة عتاب إلى أبي سهل النوبختي، فنظر إليها والرياح تلعب بها في جانب الدار وقد خطط في ظهرها بالمداد! فثارت ثائرته، وأقبل يعاتب لإهمال العتاب بعد أن كان يعاتب لإهمال الثواب:

رقعة من معاتب لك ظلت
ولها في ذراك مثوى مهان
… … … … …
… … … … …
سطر العابثون فيها أساطيـ
ـر عفت متنها فما يستبان
خط ولدانكم أفانين فيها
أو رجال كأنهم ولدان
… … … … …
… … … … …
وقبيح يجوز كل قبيح
رقعة من معاتب لا تصان

ويتماجنون فيقولون إذا مدحهم: إنه ينظم الشعر كأنه نائم، فيرى المسكين فرضًا لزامًا أن يسلم لهم العيب الذي عابوه، وأن يستخرج معنًى جديدًا من معاني الثناء على ذلك الممدوح، الذي تماجن عليه:

مدحتك مدح المستنيم إلى امرئ
كريم فقلت الشعر وسنان هاجعا

ولا ترى له شعرًا في أحد من الذين انقطع لهم وأكثر من قصدهم، إلا رأيته يشكو في خطابه له أنه يظلمه حقه، ويخصه بالحرمان دون أمثاله ومن هم أقل منه، فهو يقول لبني وهب:

فاز الورى من ريحكم بسحائب
هطلت، وفزت بسافيات تراب

ولبني طاهر:

أرى الشعراء حظوا عندكم
سواء عييهم واللسن
سواي! فإني أراني امرأ
هزلت، وكلهم قد سمن

ولبني هاشم:

بني هاشم ما لي أراكم كأنكم
تجورون أحيانًا وأنتم أولو عدل
كما لو هجاكم شاعر حل قتله
كذاك فأوفوا مادحًا دية القتل

ولإسماعيل بن بلبل:

أبا الصقر لست أرى مُهديًا
لك المدح — غيري — إلا مُثابا

ولعل قربه منهم وحسابه عليهم هو الذي أنذر نصيبه من جوائزهم وحفاوتهم؛ لأنهم كانوا يحسبون عليه حضور مجالسهم وموائدهم، وإسهامه أحيانًا فيما يسهم فيه الجلساء والندمان من ألطافهم وهداياهم، ويوجبون عليه بذلك أن يظل لهم وحدهم شاعرهم، وأديب بيتهم، يطرفهم بالملح الأدبية، ويواليهم بالتهنئة في مناسبات التهنئة، والثناء في معارض الثناء، ثم لا ينتظر منهم الخلع والصلات على كل قصيدة، ولا في كل موسم كما ينتظر الشاعر الطارئ الذي يلقي قصيدته ويذهب لطيته، وهم فوق هذا يمنون عليه أن قبلوه في مجالسهم وأحضروه موائدهم، ويفرضون عليه وفاء العبد للسيد، والصنيعة لولي النعمة، ويظنون أنهم كفلوه بالعيش الرغيد والظل والظليل:

إذا امتاحهم أكلة عبَّد
وه تعبيد رب لمربوبه
يخالون أنهم بلغو
ه بالقوت أفضل مطلوبه
وأنهم حرسوا نفسه
به من غوائل مرهوبه
يزيل مضيفهم ضيفه
كملبوسه أو كمركوبه

والأغلب عندنا أنهم كانوا يقبلونه في مجالسهم، ويحضرونه موائدهم غرامًا بضروب الشذوذ والشهرة، وكلفًا بالطرائف والملح كما هو دأب أصحاب المجالس في كل أمة، فكانوا يأنسون به في بعض حالاتهم، ويقربونه لغرابة أطواره ووفره محفوظه من الأشعار والنوادر والأمثال، وسرعة ارتجاله للتشبيه والمحاكاة، فكأنهم اصطنعوه للإغراب لا للمودة، وتخيروه للمظهر لا للثقة والكرامة؛ ولهذا كانوا يحضرونه مجالس الاحتشام، ويُنحُّونه عن خلوات الحفاوة والتبسط، وكان يعلم بهذا فتسوءه فوق مساءته بالحرمان، ويعجله الغيظ الذي لا يقوى على كظمه أن يسكت عن العتاب في مثل هذا الأمر، فيعتب كلما حجب كما قال في مرة من هذه المرات للقاسم:

في جلنار وأختها دبسية
يا ابن الوزير لعاتب متعتب
أحضرتموني جلنار، وأحضرت
دبسية الكبرى لغيري تحجب

وكان يحار في هذا الحجب ولا يدري ما علته، ولا ما النقص الذي استوجبه، ويسائل الأمير عن نفسه:

هل ترى الغفلة شابت حلمه
أم ترى النكراء شابت فطنه؟
هل ترى العي يؤاخي صمته
أم ترى الغي يؤاخي لسنه؟
هل ترى الشك عليه غالب
عند حق، أم تراه يقنه؟
هل رأى منك قبيحًا بثه
أم رأى منك جميلًا دفنه؟
هل لديه لك سر ذائع
أم أمانات غدت محتجنه؟

لكن حيرة ابن الرومي هذه قد ترشدنا إلى أسباب حجبه؛ لأنها ترشدنا إلى بضاعته التي أعدها للمنادمة، وحسب أنه مستحق بها التقريب والمصاحبة، وهي أدوات العلم والبحث والشك في موضع الشك، واليقين في موضع اليقين! وما هي بألزم ما يلزم النديم في مجالس الخلوة فضلًا عن مجالس الاحتشام، فقد يستغني النديم عنها كلها بالقدرة على المصانعة ومسايرة الأهواء، في حين أن العلم لا يغنيه عن تلك القدرة، ولا يسد مسدها في مجالس الاحتشام ولا مجالس الإباحة.

بقي حفظ السر وما نظن دعواه فيه مطابقة للحقيقة أو لرأي جلسائه المحتجزين عنه في خلوات الإباحة؛ لأن من كان مثله مطبوعًا على «الاعتراف» بعيوبه لا نخاله يمسك لسانه ويحفظ سرًّا رآه ساعة لهوه، فإذا حجبه الأمراء عن مجالس الخلوة؛ فلأنه لا ينفعهم في تلك المجالس، ولا يؤمن عندهم على أسرارها وما يقع فيها من فلتات اللسان، وبوادر رفع الكلفة، وإرسال النفس على السجية.

لكنهم كانوا يحجبونه أيضًا عن المجالس العامة، ولا يقتصرون على حجبة عن المجالس الخاصة، وكانوا يقطعون ما بينه وبينهم حتى تضيق به الدنيا، ويتنمر له كل من ينتمي إليه أو ينتمي إليهم:

تعرَّفت في أهلي وصحبي وخادمي
هواني عليهم مذ جفاني قاسم

فيعود يسأل الإذن في المقابلة، ويكتفي به عن سائر المطالب:

بل أنت معفًى من جميع حوائجي
إلا لقاءك في السواد الأعظم
لا أبتغي ما كنت أسأل مرة
حسبي بوجهك، فهو أفضل مغنم

قال هذا وقد حجبه القاسم عن لقائه، وأمر الخدم برده، وكان القاسم وأمثاله يمنعونه بعض المنع وفي نفوسهم بعض الرعاية له، وبعض الرضى عنه، فأما إذا غضبوا عليه وصرحوا له بالجفاء فقد كانوا ينبذونه ويوصدون دونه كل باب، ويخلون بينه وبين الحجاب يدعونه ويتصلفون عليه، والحجاب لا يعوزهم التصلف على مستأذن يأمنون العواقب فيه، ويأنسون من سادتهم الرضى بإيذائه؛ فإن الحاجب منافسٌ لكل جليس ينزل من سيده منزلة الخليل والسمير، وهو قائم على الباب مقام الخادم، وهو يود أن يدل عليه بقدرته على الرد والإذن، والإقصاء والتقريب والتمييز في الحفاوة والتعظيم، فكان ابن الرومي في فترات الإقصاء والإعراض يقاسي شديدًا من غلظة الحجاب، ويسرع كدأبه إلى شرح ما يلقاه منهم على أبواب الرؤساء المعرضين عنه، وهو شبيهٌ بما يلقاه كل طارق مهيض الجانب من كل حاجب غاضب أو متغاضب:

وكم حاجب غضبان كاسر حاجب
محا الله ما فيه من الكسر بالكسر
عبوس إذا حييته بتحية
فيا لك من كبر! ومن منطق نزر!
يظل كأن الله يرفع قدره
بما حطَّ من قدري وصغَّر من أمري
إذا ما رآني عاد أعمى بلا عمًى
وصم سميعًا ما بأذنيه من وقر

ولقد كان يحمد الله أحيانًا أنه نجا من تعجرف الحجاب عليه بغير أذى في جسده:

عم الأذين بأذنه وتخلفت
حالي، فلم أذكر ولم أتوهم
لكن نبذت مع اللفيف بمسمع
وبمنظر للشامتين ومعلم
بل ما أصابتني هناك شماتة
لكن غبطت؛ لأنني لم ألطم!

فلم يكن رزق الرجل إذن متصلًا من الجوائز ولا من ألطاف المجالس، ولم تكن حاجته إلى ضرورات العيش بالحاجة المصطنعة التي لا تنم عن فاقة حقيقية في معظم أيام حياته، فسؤاله الدقيق والطعام والملبس سؤال محتاج إلى ما يطلب، معتمد على ما يجمع من النوال، ولنا أن نشك في حاجته إلى الشيء حين يطلبه ويلح في طلبه، ولكن ليس لنا أن نشك في حاجته عاجلًا أو آجلًا إلى ذلك الشيء من طريق السؤال كما كان يصنع عامة الشعراء في الأزمان الماضية، ولا سيما في ذلك الزمان الذي اضطربت شئونه، وقل ضمانه، وتلاحقت طوارئه، فمن مسائل ابن الرومي ما يصعب الشك في صدقه؛ كقوله يستعطف وهو يكاد ييأس:

إن لله غير مرعاك مرعًى
يرتعيه وغير مائك ماء
وتيقن متى جنيت على عبـ
ـدك ضيمًا وضيعة وعناء
إن لله بالبرية لطفًا
سبق الأمهات والآباء
… … … … …
… … … … …
ليَ خمسون صاحبًا لو سألت الـ
ـقوت فيهم ألفيتهم سمحاء
أترى كل صاحب لي منهم
يمنع الشهر بلغتي إجراء
لي في درهمين في كل شهر
من فئام ما يطرد الحوجاء

وكثيرًا ما ألم لهذه الحاجة الدائمة وتوسل إلى الرؤساء أن يجربوه في ولاية أو جباية، أو يتخذوه لعمل في الديوان يريحه من ذل السؤال، وعذاب القلق والانتظار، فكانوا يضنون عليه بما سأل، ويأبون أن ينقذوه من سوء تلك الحال، ولزم آل وهب ما لزمهم وهو يترقب أيام دولتهم، ويترجى الخير الجزيل على أيديهم، فلما صارت إليهم الوزارة لم يصنعوا شيئًا، وزادوا أنهم قطعوه بعد صلة، ومنعوه ما كان يناله قبل الوزارة! وكثر زوارهم وقصادهم، فتأخر مقامه بينهم، وربما رأوه حينًا وهو مقدم على سواه.

أنا من عراك وباب دارك موحش
من كل مؤتنف عليَّ مقدَّم

وكان أسمح الرؤساء معه من كان يلهيه عن العمل في الديوان بوظيفة صغيرة يشاهرها عليه، ولا يثبتها في سجل الأرزاق المرصودة المضمونة بعض الضمان، ومن شأن هذه النوافل أن تحتاج أبدًا إلى التذكير والتنبيه، مما لا بد أن يجر إليه التذكير والتنبيه من السأم والجفاء، فإذا حصل ذلك — ولا بد من حصوله — خسر الوظيفة وصاحب الوظيفة، وباء إلى شر مما كان.

والعمل الوحيد الذي ذكر في ديوانه هو عمله في الكتابة عند آل بنان المغني الذي كان ينادم الخليفة المعتمد ويغنيه، ويسأل ابن الرومي أن يمدح الخليفة بلسانه، وكأنه لبث في هذا العمل عشر سنين على ما يجوز أن يؤخذ من قوله:

والغناء الشديد شدْوًا وضربًا
سحنة قد ملأت منه الإناءَ
ظلْتُ عشرًا كواملًا في مغانيـ
ـه أُغنِّي وأُسمِع الأنحاءَ

ولن يكون ذلك العمل إلا ضئيل الأجر مغبونه كما يُظنُّ بأجر يتناوله كاتب مغنٍّ، وكما يدل بيتاه المشهوران في بنان:

تعالى جد ديناري بنان
فحلَّا حيث حل الفرقدان
ولو أن النفوس بحيث حلَّا
غدون من الحوادث في أمان

فإن قلنا: إن «الدينارين» هنا للتلطيف لا للحصر، فأقصى ما يرتقي إليه الديناران أن يكونا عشرة! وعشرة دنانير ليست بالرزق الطيب في عصر كعصر المعتمد بمدينة بغداد.

فمعيشة الرجل في جميع أدوارها كانت معيشة عارف بالحياة متذوق لها، وهو مع المعرفة والتذوق ملدد محروم طويل الهم بأمر الرزق، مشتت الفكر بين القلق والخيبة، والمطل والحرمان، وهي معيشة مزعجة مكهربة تهد القوى، وتنهك الفكر والجسد، ولا تكون إلا وخيمة الأثر في نفس رجل مثله كثير المخاوف عليل الأعصاب.

لماذا فشل؟

فشل لأنه كان قليل الحيلة صفرًا من الدهاء، ذلك أوجز ما يقال في أسباب فشله، فما من عمل كان يحتاج إلى حيلة إلا كان ابن الرومي فيه مخفقًا، أو كان مصدوفًا عنه حتى اللعب، ومن ثم كراهته للعبة الشطرنج التي راجت في أيامه، وكثر التفنن في طرائق لعبها بين ممدوحيه حتى كان أحدهم يلعبها وظهره إلى رقعتها، وهو يقول فيه:

تقتل الشاه حيث شئت من الرقـ
ـعة طبًّا بالقتلة النكراء
غير ما ناظر بعينك في الدسـ
ـت ولا مقبل على الرسلاء
بل تراها وأنت مستدبر الظهـ
ـر بقلب مصور من ذكاء
ما رأينا سواك قرنًا يولي
وهو يردي فوارس الهيجاء

ولكنه هو كان يجهلها ويحاول البراعة فيها فلا تساعده الحيلة، فينقلب هازئًا بها ويقضي عليها بأنها من تعلات الفراغ والجوع:

أرى لعبة الشطرنج إن هي حصلت
أحق أمور الناس ألا تحصلا
تعلة بوابين جاعا وأرملا
بباب قليل خيره، فتعللا

أو يقول:

تفرست في الشطرنج حتى عرفتها
فإن صح رأيي فهي بالوعة العقل

وحسب الرجل أن تقل حيلته في أواسط القرن الثالث ليكون مقضيًّا عليه بالهلاك أو بالفاقة، وإن اتصل بذوي الأخطار والعاملين في سياسة الدولة، بل يقضي عليه بالهلاك والفاقة لأنه اتصل بميدان هو أحوج الميادين إلى المكر وسعة الحيلة؛ فمدائح ابن الرومي نفسه أدل شيء على ضرورة الدهاء في أيامه، وشيوع هذه الخصلة بين أبناء عصره.

فإنه مدح أشتاتًا من ذوي المقامات بينهم الوزير والقائد والنديم والكاتب والفيلسوف، فكان الدهاء صفة تتكرر في مدح كل واحد منهم، وثناء مشتركًا بين من يطلب منه الدهاء بحكم عمله، ومن لا يطلب منه ولا يعيبه أن يفوته، وإليك أمثلة قليلة نكتفي بها عن إحصاء كل ما جاء على هذا المعنى في مدائحه الكثيرة:

قال في علي بن يحيى النديم:

فلَّ بالحجة الخصوم وبالكيـ
ـد زحوف العدى ذوي التأليب

وقال في ابن ثوابة الكاتب:

وبكيده يروي القنا
علقًا ويختضب اختضابه

وقال في القاسم بن عبيد الله الوزير:

يرمي بدهياء من فلائقه
في وجه دهياء من فلائقها

وقال في عبيد الله بن عبد الله القائد:

يصاول القرن أو يخاتله
جلدًا أريبًا بعيدة سربه
كالليث في بأسه وآونة
مثل الشجاع الخفي منسربه

وقال في الجنود الأتراك:

ترى شبه الآساد فيهم مبينًا
ولكنهم أدهى دهاء وأنكر

وقد صدقت في هذه المدائح فطنة ابن الرومي إلى صفة عصره، والخلق الذي لا بد منه للمتقدمين فيه من ندماء، أو كتاب، أو قادة، أو وزراء أو جنود، فلم يكن لواحد من هؤلاء غنى عن الكيد والختل والدهاء، ولم تكن للعصر كله صفة بارزة بروز هذه الصفة التي اشتدت الحاجة إليها بين القلاقل والدسائس والاضطرار الدائم إلى اتقاء الشر، ومداراة الأقوياء، والحيطة لما تأتي به طوارئ الأحداث، وأحجى أن تشتد الحاجة إليها حيث تعشش الفتنة وتبيض وتفرخ بين رجال الدولة ومن يعاشرهم ويلحق بهم من الشعراء والندماء، ومغتنمي الفرص من صعود هذا وهبوط ذاك، وإقبال هذه الدولة وإدبار تلك، فقد كان هذا هو عمل كل يوم وشاغل كل ساعة في البيئة التي عاش فيها ابن الرومي خاصة، فما كانت أيامهم تنقضي على غير خليفة يعزل أو يُدبَّر له العزل، وولي عهد يُخلع أو يُدبَّر له الخلع، ووزير يكاد له أو يكاد لخصمه، وصاحب مال يستصفي أو يسعى لاستصفاء مال غيره. وهذا وأشباهه شغل يفتقر من يزاوله ويعيش في بيئته إلى الدهاء افتقاره إلى أداة المعيشة الأولى، وسلاح الحرب الألزم له من كل سلاح.

•••

في ذلك العصر عاش ابن الرومي وهو أعزل لم يستعد له بعُدَّة، ولم يحسن قط أن يتداهى على أحد، ولا أن يحترس من دهاء أحد، وراح يتقلب فيه بإحساس طوع الحوادث ولسان طوع الإحساس! فكان نقيض الرجل الذي يصلح لمثل زمنه، إذا كان ألزم ما يلزم ذلك الرجل أن يملك إحساسه ولا يطيعه، وأن يجعل بين إحساسه ولسانه سدًّا منيعًا من الرياء يستتر خلفه، فأخطر ما يجر الخطر على المرء في عصور القلق أن يرسل نفسه، وأن يطلق لسانه، وأن يلهو بما بين يديه عما حوله، كما كان يفعل ابن الرومي ومن طبعوا على غراره، وما نظنه كان يكرر صفة الدهاء في ممدوحيه إلا وهو يشعر بخلوه منه وحاجته إليه، غير أن الشعور بالحاجة إلى الدهاء لا يعطيه الدهاء كما أن شعور المريض بالحاجة إلى القوة لا يعطيه القوة، وغاية ما يستطيعه أن يأسى ويتكلف ما ليس في خلقه، فلا يفيده الأسى ولا التكلف إلا أن يبدي من ضعفه ما هو أولى بإخفائه.

•••

ذلك أول الفشل أو ذلك أوجز ما يقال في إجمال أسبابه.

وهو مع هذه الغرة التي تعد من أكبر الجنايات في عصر الدسيسة والمداورة كانت له جناية أخرى تعد من أكبر الجنايات في جميع العصور، وبين جميع الأمم، وعند جميع الأفراد: كان غريب الأطوار، ولا أضر على الضعيف الحيلة من غرابة الأطوار؛ لأنها تفرده بين الملأ فتنصبه وحده هدفًا لكل ما في الطبائع الإنسانية من لؤم وسفاهة، وسوء ظن ومجانة، و«الشيء مستوحش إذا غربا» كما يقول، فحسب المرء أن يشتهر بهذه الغرابة وأن يسجلها عليه من يعرفه ومن لا يعرفه حتى تبطل دعواه، وتسقط حقوقه، ويكون المجتمع قد أصدر عليه حكمًا سرمدًا كذلك الحكم الذي كان يصدره السلطان في غابر الأزمان بإهدار دم الطريد الهارب من عقوبته وسخطه، فلا ينصفه أحد، ولا يتحرج متحرج من العدوان عليه، والتعرض لغضبه، فإنما أساس الإنصاف أن يعرف للإنسان حق الرضى والغضب، وحق الشكوى والملام، فإذا سلب هذا الحق واشتهر عنه أنه يألم لغير ما يوجب الألم، ويفرح لغير ما يوجب الفرح، ويعجب والناس لا يعجبون، ويثور والناس لا يثورون، ويطرق وهم لا يعرفون فيم يطرق، ويهلل وهم لا يشعرون فيم يهلل، فهم إذن في حل من إسخاطه واهتضام حقه! وهو إذن طلبة السلطان الأعظم؛ سلطان المجتمع الذي أهدر دمه، وأباح أمنه وماله، فلا يشكو إلا وهو متهم، ولا يُشكى إلا وللشاكي عليه حجة، وكل ذنبه بين الناس أنه من معدن غير معدنهم، وذو شعور بالحياة غير شعورهم، وقد يكون خيرًا منه وأجدر بالإنصاف.

بل حسب المرء أن يشتهر بالغرابة حتى يصبح المألوف من عمله غريبًا يفعله هو، فيلاحظ ويتبعه الناس بالغمزات، ويفعله غيره فلا يلاحظ ولا يتغامز أحد عليه؛ لأن سمعة الغرابة هي المهم في هذا الصدد، وليست الحوادث التي توصف بالغرابة.

وقد يعفى الغريب الأطوار من هذا «الإهدار» إذا كان مع غرابة أطواره له سطوة أو ثروة أو عصمة يعتصم بها من عشيرة تغار عليه، أو جار يميل إليه، فربما أساغوا منه غرابته في هذه الحالة، وعدوها حلية تزينه، وظريفة ترغبهم فيه، فأما أن يكون ضعيفًا لا حول له ولا حيلة، وغريبًا في خلقه وشعوره؛ فذلك هو الجرم المضاعف الذي لا شفاعة فيه ولا نجاة من عقوبته، وقل في عقوبة مشدد فيها كما يشاء لؤم من لا يخاف عاقبة لؤمه، مبالغ فيها كما يبالغ في إيذاء كل معدوم النصير.

•••

عاش ابن الرومي في ذلك العصر قليل الحيلة، فهو أعزل غريب الأطوار، فهو مستهدف لكل من يرميه، دقيق الحس فهو معذب بما يصيبه، وثقلت عليه صدمات الخيبة، وساء ظنه بإنصاف الناس، فوهن ما فيه من بقية عزم الشباب، وعاف السعي وانطوى على اليأس، ووجدت نفسه لذلك وجدًا تعرفه من صرخته:

لا عذر لي في أسفي بعدها
على العطايا عِفْتُها عِفْتُها!

فكان هذا مع ضعفه واعتلاله، وحذره المغروس في تركيبه، وحاجته إلى من يرأمه ويعينه صارفًا له عن السعي في طلب الرزق، والنزوح عن الوطن، جانحًا به إلى القعود حيث قعد لا يرى إلا أن البلاد كبلده، وأن الأخيار والأشرار سواء في قلة إنصافه.

ذقتُ الطعوم فما التذذتُ كراحةٍ
من صحبة الأشرار والأخيار

وما كان الرجل مخلوقًا للجلد والمشقة في أيام الشباب، بله المشيب، ولكنه كان ربما رحل في تلك الأيام إلى الأبلة أو سامرا «سر من رأى» أو بعلبك — وهي فيما نظن أبعد ما وصل إليه في رحلاته — فلا يلبث أن ينكرها وتنكره ويعود منها، وما لقي فيها إلا مثلما لقي في وطنه:

لقد أنكرتني بعلبكٌّ وأهلها
بل الأرض بل بغداد صاحبة البتل

ويرسل إلى أصحابه في بغداد يتشوف ويقسم لا أزمع بعدها سفرًا، ولا آثر على قلوبهم مطمعًا:

وإن يقض لي الله الرجوع فإنه
عليَّ له ألا أفارقكم نذر
ولا أبتغي عنكم شخوصًا ورحلة
مدى الدهر إلا أن يفرقنا الدهر
فما العيش إلا قرب من أنت إلفه
وما الموت إلا نأيه عنك والهجر

و«طول مقام المرء في الحي مخلقٌ لديباجتيه» كما قيل، فإذا أحصينا أسباب الجفاء الذي كان يشكوه من ممدوحيه، وأسباب فشله بعبارة أخرى، فلا شك أن طول مقامه ببغداد واحد من تلك الأسباب التي رجحت عليه غيره من أنداده الشعراء، ومن هم أقل في الطبقة؛ لأنهم كانوا يغيبون ويحضرون، فلا يضن عليهم الأمراء بالعطاء في السنة بعد السنة أو بعد السنوات، ولأنه كان مقيمًا أمام أعينهم في كل يوم فلا يلقى عندهم حفاوة الطارق بعد غياب، وهو لم يرحل تلك الرحلات القصار التي كان يظنها غربة طويلة إلا وهو في إبان القوة والطمع في الولاية والجوائز، فلما طال عليه الأمر، ووطن نفسه على اليأس قعد في بغداد لا يريمها، وقنع بما يتفق له وهو وادع في بلده، وأبى أن يجيب من يستدعيه إليه، ويحضه على «الحطب لناره»؛ لأنه يكلفه ركوب البحر وهو أخوف ما يكون من ركوبه.

حضضت على حطبي لناري فلا تدع
لك الخير تخويفي شرور المحاطب
… … … … …
… … … … …
أيعزب عنك الرأي في أن تثيبني
مقيمًا مصونًا من عناء المطالب

وما هي بعدُ إلا دعوة فيما نظن لم يكن بالمنظور أن تتكرر، إذ قلَّ في الولاة من كان يعنى بشأنه وشأن رزقه في حالي شبابه ومشيبه، وقل فيهم من كان يرعى حقه ويخلص في مودته.

وربما اغتر هو ببعض المجاملة منهم، وخيل لنفسه حقًّا عندهم، فتشفع إليهم في أتباعهم كما تشفع لمهندس القاسم الأسير المغضوب عليه «وما ضيف بأضعف من أسير»، أو كما تشفع لكتابه الذين «أضحوا وهم أسوأ الكتاب أحوالًا»، أو كما تشفع فيما هو أكبر وأجل، وهو شكاية الحسن بن عبيد الله إلى أبيه من تقديم أخيه القاسم عليه، وترشيحه لعظيم المراتب دونه، إلا أنه شفاعات لا نعرف ماذا أوجبها على ابن الرومي، ولا نعرف ماذا كان مصيرها عند المشفوع لديهم، فهي إن دلت على شيء قاطع، فإنما تدل على أن قومًا ذوي حوائج كانوا يقصدون فيها من يقبل تبليغها، ويأنسون من ابن الرومي تلبيةً لا يأنسونها في صحابة الأمراء غيره، وربما أغراهم به سذاجة طبعه وسرعة استمالته، ولا سيما في وساطة الحسن عند أبيه، والتماسه منه أن يسوي بينه وبين أخيه القاسم لأنه:

ليس يوهي أخاه شدك إيا
ه بل يزيده في اشتداده

ولا يبعد أن تكون هذه الوساطة علة إعراض القاسم عنه، ومجافاته إياه تلك المجافاة التي قيل: إنها انتهت بقتله، فغير ابن الرومي لا يقدم على هذه الوساطة وهو جليس القاسم المطالب في شريعة تلك الأيام بنصرته على كل من ينافسه، ولو جاءت المنافسة من أخيه؛ إذ يرى الحزم والحكمة أن يتبع الدولة حيث كانت، وألا يعرض نفسه لغضب صاحب الحظوة من أجل أخ له مهجور ضعيف الأمل في النجاح، فاستشفاع الناس بابن الرومي لا يدل على أكثر من هذا، ولا على أكثر من أنهم أرادوه للتبليغ والتذكير، عسى أن ينبهوا غافلًا ويُسمعوا من لم يسمع، وقد يدل على أنه أصيب بسبب هذه الشفاعة في رزقه وحياته، كما يلوح لنا من جرائر الوساطة بين الحسن وأبيه، فأما أن تدل هذه الشفاعات على حق مرعي له عند الأمراء، وعناية منهم بأمر رزقه وصيانته في قربه وبعده؛ فذلك احتمال بعيد تناقضه أخباره وأشعاره على السواء.

وما نخال أن أحدًا من ممدوحيه كان بينه وبين ابن الرومي من المؤاخاة في الأدب مثلما كان بينه وبين أبي سهل بن نوبخت سليل البيت الفلكي المعروف، فقد كانت بينهما مساجلات كثيرة تلمح فيها مخاطبة الند للند، والصديق للصديق في بعض الأبيات، فابن الرومي يغرب في مدحه فيقول:

أعلم الناس بالنجوم بنو نو
بخت علمًا لم يأتهم بالحساب
بل بأن شاهدوا السماء سموًّا
ورُقيًّا في المكرمات الصعاب

وأبو سهل يجيبه وهو يعتذر من قلة اضطلاعه بجوابه:

هكذا يجتني الودود من الإخـ
ـوان أهل الأذهان والآداب
نظْم شعرٍ به يُنظَّم شمل الـ
ـمجد كالعقد فوق صدر الكعاب
قد سمعنا مديحَك الحسنَ القر
ض ولكن لم نضطلع بالجواب

ومثل هذا الخطاب لا يكون إلا بين رجلين صديقين أو كالصديقين فيما توجبه العلاقة بينهما من الولاء والمعونة، فانظر مع هذا كيف كان أبو سهل في رعايته لحقه، وعنايته بأمره، وصيانته لقدره، كان كما قال فيه:

لي صديق إذا رأى لي طعامًا
لم يكد أن يجود لي بشراب
فإذا ما رآهما لي جميعًا
كفياني لديه لبس الثياب
فمتى ما رأى الثلاثة عندي
فهي حسبي لديه من آرابي
لا يراني أهلًا لملك الظها
ري ولا موضع العطايا الرغاب
وكأني في ظنه ليس شأني
لهو ذي نهية ولا متصاب
فيَّ طبعٌ ملائكي لديه
عازف صادف عن الإطراب
أو حمارية! فمقدار حظي
شبعة عنده بلا إتعاب
إنما حظي اللفاء لديه
مع ما فيه بي من الإعجاب
ليس ينفك شاهدًا لي بفهم
وبيان وحكمة وصواب
ومتى كان فتح باب من الله
توقعت منه إغلاق باب

نعم! مع ما فيه من الإعجاب به والشهادة له بالفهم والبيان، فقد كان قصارى حقه عند صاحبه هذا وعند أصحابه الموسرين جميعًا أن يعجبوا به، أو يتعجبوا لفطنته وغرائب أحواله، أو يساجلوه في الشعر مساجلة يظهرون بها قدرتهم على مجاراة شاعر قدير منقطع للشاعرية، أو يسامروه سمرًا يلهون فيه بحديثه ونوادره، ثم يستأدوه الثمن غاليًا من صبره وماء وجهه، فأما ما وراء ذلك من نفع ومبرة، فليس من حقه عندهم، وليس له منه كما قال إلا نصيب الملائكة أو نصيب الحمير! وما كان واحد من كبار ممدوحيه عاجزًا عن إغاثته وإصلاح أمره، وتدبير عمل له يناسبه لو صححوا النية، ولم يساوموه مساومة التاجر الشحيح ليأخذوا منه أكثر مما يعطونه، وليأبوا أن يهبوه ما دام في وسعهم أن يمنعوه؛ ففي قدرتهم كانوا أن يستحضروا النية في إصلاحه، وجبر نقائصه، وتلافي عيوبه، وفي قدرتهم كانوا أن يجدوا سببًا واحدًا على الأقل يوجب هذا الحق عندهم من باب الوفاء، أو من باب الرحمة، بيد أنهم لم يجدوه ولا حاولوا إيجاده، ووجدوا أسبابًا شتى لحرمانه وإهماله، والاعتذار من توجيه الأعمال إليه، واتخاذه للكتابة أو النظر في بعض مرافق الديوان، ونحن نقرأ قوله لأبي سهل الذي تقدم ذكره:

أتزعم أني إن توليت قريةً
رأيت ازوراري عن صديقي من الفرض؟

وقوله للقاسم:

أركيكًا رأيت عبدك صفرًا
لا جنى فيه، أم جنى شنعاء؟

فنفهم جملة هذه العلل التي كانوا يعتلون بها عليه، نفهم أنهم كانوا يكرهون توليته؛ لئلا يستقل عنهم ويعرف له موردًا غير موردهم، أو أنهم كانوا يحسبون عليه غراراته ذنبًا يحرمه الولاية، كما حرمه العطاء وكفالة الرزق من جراية لا يكدرها المن والتسويف. وهي — ولا مراء — أسباب طبيعية للحرمان في الحياة نفهمها حين نبحث عن سر حرمانه، ولكنها لا تصلح عذرًا للمتفضل الذي يريد الإفضال، ولا تعد ميزانًا رفيعًا للمروءة ومكارم الأخلاق؛ فمن الطبيعي أن يأكل الذئب الحمل، وأن يعبث اللئيم بالغرير، وأن ينهب المحتال مال الطفل اليتيم، والمغتال مال الأعزل الضعيف، إلا أن البون بعيد جدًّا بين هذه الأسباب الطبيعية في الدنيا وبين معالي الهمم ومكارم الأخلاق، وأن هذا البون البعيد جدًّا لهو مناط الحمد واللوم والشرف والضعة والفضل والقصور.

•••

وكان لفشل ابن الرومي وحرمانه سبب آخر هو فشله وحرمانه.

نعم كان فشله وحرمانه سببًا لنفرة الناس منه واتهامهم إياه، فكانوا يلومونه على بلواه، ويعدونها من ذنوبه وخطاياه، وكان لومهم هذا بلاء فوق بلاء، وحسرة فوق حسرة، وشكاية أشد عليه من سائر الشكايات؛ لأنها تحرمه حق الشكاية:

يا رب ما أطول البلاء وما
أكثر في أن بُليتُ لوَّامي
يلومني الناس أن حرمت وما
ألزمني الله غير إحرامي

فإذا شكا فهو مذنب، وإذا سكت فالرزيئة عنده أعظم من السكوت، وهذا آلم ما يبتلى به المنكوب وأظلمه وأدعاه إلى المزيد من نكبته وظلمه، ولكنه كذلك طبيعي مألوف في الناس؛ لأنهم لا يكلفون أنفسهم الرأفة بأحد إذا استطاعوا أن يحيلوا عليه جريرة خطاياه! فإذا حرم فما ذاك إلا لأنه محروم مستحق للحرمان بما جناه على نفسه، أو بما جناه عليه القضاء، وإذا كان كذلك فهم أولى بالإجفال منه والهرب من عدوى شقائه! وإلا فماذا يصنعون له وهو الجاني على نفسه؟ ثم ماذا يصنعون للقضاء ولا طاقة لهم برد القضاء؟ فمن حرم وفشل فليحرم أبدًا وليفشل أبدًا، وليكن مصابه حجة للمزيد من مصابه، ودليلًا على شقاء مكتوب عليه لا خلاص منه، ولا للناس فيه حيلة!

وتضاف إلى ذلك الحرمان نكبات متواليات لا يد لمخلوق فيها، ولا هي مما يجنيه إنسان على نفسه، أو يرده إنسان عن حوزته، فتحق عليه تهمة الشؤم، وتثبت عليه مطاردة الأقدار، فلا رأي للعاقل إلا أن يفر منه، ويلتمس العصمة والأمان بالبعد عنه، وقد أطبقت على ابن الرومي النقمتان: نقمة الفشل والحرمان، ونقمة الفجائع في أهله وولده، والتلف في زرعه، والحريق في تراثه، والضياع في عقاره؛ فالرجل لا ريب مشئوم يستعاذ منه، وطريدة للأقدار لا يجيرها مجير وهو آمن على سربه، فمن غرر بنفسه وعالج خلاص الطريدة من القدر الذي يتعقبها، فهو مبتلًى لا محالة بمثل بلائها، ثم لا يلومن إلا نحسه، ورأيًا سخيفًا سول له التورط في المهالك، وخيل إليه أنه مجير من قدرة الله، ورادٌّ لما لا مرد لحكمه.

وحق لأبناء القرن الثالث أن يخافوا المشئومين وطرداء القدر؛ لأنه كان عصر السعد والنحس والقلاقل والمفاجآت، مع الإيمان بما يصحب ذلك من الخرافات والأوهام؛ ولأنه العصر الذي تمت فيه ترجمة الكتب الهندية والفارسية، وشاعت بين المسلمين أحاديث النجوم والطوالع ما كان منها خرافيًّا كاذبًا، وما كان من قبيل العلم الصحيح. وزاد في شيوع تلك الأحاديث أن الدولة كانت يومئذ للفرس، وأن آداب المجالس في قصور الملوك والشرفاء كانت آداب الفارسية، والناشئين في البلاد الفارسية، وكانت لهؤلاء ساعات للسعود وساعات للنحوس، ومقارنات بين الأفلاك يطيب معها الطعام والشراب تارة، ولا يطيبان تارة أخرى، بل كان لكل شيء في الأرض والسماء حسابه وأرصاده، وبشائره ونذره، فلا يسافر المسافر ولا يتحرك العامل إلا بعد استشارة للنجوم، وموافقة لأرصاد الطوالع. ولا عجب أن يدرج الفرس على ذلك وهم أمة عبدت الكواكب زمانًا، وجعلت لها صفات الخير والشر، وأسندت إليها تدبير الحوادث، وتحويل الدول، وتقدير المقادير.

وكأنما شاءت الأقدار أن تهيئ للقرن الثالث كل أسباب العناية بالنجوم، فظهر في أوائله مذنب «هالي» الذي رأيناه هنا في دورته الأخيرة قبل نيف وثلاثين سنة، والذي قال فيه أبو تمام في تلك الأيام:

وخوَّفوا الناس من دهياءَ داهيةٍ
إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذَّنَب
وصيروا الأبراج العليا مرتبة
ما كان منقلبًا أو غير منقلب
يقضون بالأمر عنها وهي غافلة
ما دار في فَلَكٍ منها وفي قطب

وليس يصعب علينا أن نتمثل كيف يكون أثر ذلك المذنب المرهوب أول ظهوره في زمان كذلك الزمان، وبين أناس كأولئك الأناس، قد غلب عليهم الاشتغال بالتنجيم صادقه ومكذوبه، وكثر بينهم جدًّا من يُعلِّقون حوادث الأرض بأنباء النجوم.

ولقد تردد ذكر السعود والنحوس وأسماء الكواكب في كلام شعراء القرن الثالث والقرن الذي بعده من أثر هذه العوامل كلها، فألمع إليها أبو تمام والبحتري مرارًا، وأفرط ابن الرومي في الإشارة إليها؛ لأنه كان أعلم من صاحبيه بهذه المطالب، وتمادى الأمر بمن بعدهم حتى أصبح درس النجوم فريضة على كل رجل مثقف مطلع على آداب زمانه، ولو كان كالمعري مكفوف البصر غير صالح للتوسع في هذا الباب، فكان رهين المحبسين يذكرها في سقط الزند واللزوميات، ويصف مواقعها، ويتكلم عن مقارناتها كأنه فلكي مشتغل بصناعته، وليس بأديب ضرير واضح العذر في جهل هذه الصناعة.

ثم اتفق أن راجت عقيدة النجوم في الأسرتين اللتين علق بهما ابن الرومي، وكان لهما نصيب من شعره ومدحه وعتابه أكبر من نصيب سائر ممدوحيه، نعني أسرة بني طاهر وأسرة بني وهب، وهما أقوى وأغنى من حكم في ذلك الزمان من الأسر التي تصرفت في الدولة، وتصدى أبناؤها للمدح والعطاء، وتولية الأنصار، وعزل الخصوم، فلما مات محمد بن عبد الله بن طاهر وخسف القمر تحدث أهله، وتحدث الناس أن القمر خسف لموته، وكتب ذلك المؤرخون فيما كتبوا من تاريخه، وذكره ابن الرومي في بعض شعره فقال:

بات الأمير وبات بدر سمائنا
هذا يودعنا وهذا يكسف
قمر رأى قمرًا يجود بنفسه
فبكى عليه بعبرة لا تذرف

وكسفت الشمس مرة فخاف القاسم بن عبد الله بن سليمان بن وهب أن يكون كسوفها مؤذنًا بموت عظيم في الدولة، وهلع لذلك؛ فكان ابن الرومي هو الذي هدَّأ روعه، ونصح له باللهو والسماع للتسرية عن نفسه وكتب إليه:

لا تهولنَّك شمس كسفت
دون أن تطلع من مغربها
هان ذاك الرزء فيها مثلما
هان ما عزك من مطلبها
هي نار وافقت مطفئها
لست بالآيس من ملهبها
فابك من تشفق من معطبه
فلقد أومنت من معطبها
ضل باك أن أبيخت جمرة
سوف تذكيها يدا مثقبها
ليس للشمس إذا ما كسفت
غير شمس تخلف الشمس بها
من بنات الروم لا يكذبنا
لونها المشرق عن منصبها

وإنها لفكاهة مضحكة من فكاهات الخطوب أن يكون ابن الرومي مهدئ روع في هذا، وهو أحوج إنسان إلى من يهدئ روعه، ويذهب عنه الوجل من نذر الزمان وعلاماته!

فالخوف من شؤم صاحبنا كان من أقوى أسباب فشله واجتنابه، وفي بعض معاتباته إشارة صريحة إلى تطير أبناء طاهر وأبناء وهب من هذا الشؤم، واجتنابهم إياه بعد أن جاءتهم الدولة، وزخرت لهم النعمة؛ مخافة على سعودهم أن يدركها طائف من شقائه ونحسه، فكان يقول لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر يدفع عن نفسه هذه التهمة:

نحن ميامين على أننا
على أعاديك مشائيم
لما دخلنا دخلت نعمة
كان لها حولك تحويم
ولم يفخمك الذي نلته
بل للعطايا بك تفخيم

وكان يقول للقاسم بن عبيد الله:

طلعت بأيمن ما طائر
عليكم وأسعد ما طالع
فجاءتكم دولةٌ غضة
تفيأ في ثمر يانع

وكأنما كان حاسدوه ومزاحموه يُعرِّضون بشؤمه لبني وهب، وينسبون إليه ما يكره الوهبيون من رحلة أو مشقة، فكان يبرأ إليهم ويسرع إلى تفنيد ما نسبوه إليه قبل أن يحسب عليه، وما هو في حاجة عندهم إلى اختلاق الذنوب:

ولقد خفت والبريء ملقى
كل ذنب برأسه معصوب
أن يقول الوشاة لي: إن شؤمي
قاد هذا الشخوص، والإفك حوبُ
وجوابي أن لم يغيبوا وشاهد
ت فزالت مخاوف ونكوب
أنا من لا يشك في اليمن منه
أو يمين ابن فجرة ويحوبُ
جئت والدولة السعيدة خلفي
رأسها في مقادتي مجنوب

فحسب الإنسان في ذلك العصر أن تلوح عليه شبهة من السعد أو النحس فيقال: إنه مسعود أو منحوس، ثم تلزمه التهمة وتلصق به طول حياته، وتشتد لصوقًا به إذا كان في أحواله وأخلاقه ما يغري الناس بالإلحاح فيها والإصرار عليها، وهل كان شيء من ذلك ناقصًا عند ابن الرومي؟ كلا، بل عنده كل شبهة النحس؛ لأنه كان عالمًا ذكيًّا ولا حظوة ولا جاه، فما الذي يحول بينه وبين حظوة أمثاله إلا أن يكون الجد العاثر، والطالع المشئوم؟ ولأنه فقد أباه وأمه وأخاه وزوجته وأبناءه، وعاش بعدهم كئيبًا حزينًا مستهدفًا للبلاء من الأيام والناس، وهل يفقد كل هؤلاء ويعيش بعدهم في تلك الحال إلا المنكود المرزأ المنحوس؟ ولأنه مني كما رأينا بالجراد في ضيعته، والحريق في ماله، والضياع في عقاره، وهل يمنى بذلك — مع مصائب الموت والضنك — إلا من شمله النحس في شبكة لا نجاة منها لمشبوك؟

ثم هل كان ابن الرومي مبرَّأً من تلك الخلائق التي تغري به أهل العبث والمجون، فيلحون عليه بتهمة الشؤم، ويتفكهون بما يؤلمه من ذلك ويؤذيه؟ لا، بل كان الرجل أول المتفائلين المتشائمين، وأول من يسوغ للناس التباشر والتطير، ولزمته الحجة من ذكائه وإدبار حظه، ومن مصائبه في ذويه وصحبه، فكان الذكاء نكبة عليه تعد في النكبات والمصائب ضعفين: ما يصيبه من شرها، وما يصيبه من سمعة نحسها، وولع العابثين بالسخر منها، وإنه لمصاب عظيم.

ولقد رأينا أن أخاه أبا جعفر كان يكتب لرجل، فعُزل الرجل بعد مدة، فعبث به أصدقاؤه آل أبي شيخ وقالوا له: «إنما عزله شؤمك.» كأن حديث الشؤم والسعد كان حديثهما في كل نكبة، وفي كل نعمة، ولو أنصف القوم لكانوا كلهم مشئومين منحوسين، إذ كانوا كلهم قد فجعوا في الأصحاب والأنصار، وشهدوا نكبات الأخيار والأشرار، وإذا كان ابن الرومي قد فقد أعداءه كما فقد أحبابه، فلا فضل لشؤمه على سعده، ولا رجحان لطوالع الخيرات فيه على طوالع الشرور، ولكنها الحظوظ التي لا تعرف القسط في الموازين! ومن الحظوظ التي ألممنا بأسبابها أن يكون ابن الرومي منفردًا بسمعة الشؤم في ذلك العصر دون سائر المشئومين!

وسواد الناس لا ينصفون مختارين، ثم هم لا ينصفون إذا كان الإنصاف يكلفهم واجبًا، أو يحرمهم فكاهة يضحكون منها! فليس لابن الرومي إذن إلا أن يبوء وحده بجريرة ضعفه وعقائد زمنه، فغاية الحكم فيه أنه ولد مقضيًّا عليه بالفشل، وعاش في زمن لا رحمة فيه لمثله، ووجب أن يترك لقضائه يصنع به ما لا حيلة في دفعه.

إن من الباحثين من يرى أن رجال الفنون في الجماعات الإنسانية كالأطفال في الأسرة، لا بد لهم من رعاية تكتنفهم وأمداد قومية تغنيهم عن السعي لأنفسهم؛ لأنهم لا يحسنون حيل السعي، ولا يجيدون عملهم إذا تفرغوا لممارسة العيش وإتقان حيله، فإذا التمس هؤلاء الباحثون مثلًا يدعمون به رأيهم، فما نخالهم يجدون في تاريخ الآداب مثلًا أصلح من شاعر كابن الرومي في زمان عجيب متناقض كأواسط القرن الثالث للهجرة.

طيرته

الطيرة شعبة من مرض الخوف الناشئ من ضعف الأعصاب واختلالها، الذي أشرنا إليه في الكلام على مزاج الشاعر، إلا أنها خوف خاص له بواعثه وأعراضه، وهي في ابن الرومي خلة خاصة قد بلغت مداها، ولبست ألوانًا غير ألوانها في أكثر المتطيرين، بحيث وجب أن نفردها بالبحث في هذه الكلمة ببعض التفصيل.

فأصل البواعث التي أصابت ابن الرومي بداء الطيرة هو اختلال الأعصاب قبل كل شيء.

فالرجل السليم لا يتطير ولا يتشاءم؛ لأنه ينتظر من الدنيا خيرًا، ولا يحس النفرة بينه وبينها، ومن ثم لا يحس الخوف والتطير منها.

وقد تصادفه الحوادث كما تصادف الناس كافة، فتقع على نفسه موقعًا خفيفًا يملك معه عزمه، ويضبط معه شعوره، فهو في غنًى عن الحذر والتوجس مذ كان يلقى الخطر — حين يلقاه — بعدَّة كاملة، ونفس مطمئنة، لا يتسلف الفزع منه قبل وقوعه، ولا يفرط في الفزع منه متى وقع واستحال عليه دفعه. وقد تؤدي به هذه الطمأنينة إلى نقيض الطيرة، فيحتجب عنه الخطر الصحيح والمتوهم على السواء، ويستسلم للأمن الصادق والكذاب استسلام المتطير لكاذب الخوف وصادقه، وظاهر الوهم ومكنونه، فهو أبدًا في حالة سلم وأمان إذ يكون المتطير أبدًا في حالة حرب وارتياب.

هذه طبيعة السليم من حيث التطير خاصة، والخوف من الطوارئ عامة.

أما مختل الأعصاب فالصغائر مكبَّرة في حسه، والأشباح والأطياف كثيرة في وهمه، يتخيل ويتوهم، ثم يزيده الفزع من الأخيلة والأوهام، فإن كان إلى ذلك شاعرًا، وكان خياله قويًّا؛ فللطيرة فيه معين لا ينضب من الخلق والابتكار والطوارق.

وتتوارد عليه المنبهات — وكل طارق في الدنيا منبه لأصحاب هذا المزاج — فيتيقظ فيه الشعور بالخطر، ويلمح المخاوف حيث لا يلمحها الآخرون، كما هو الشأن في كل مستحضر للحذر متوقع للمفاجأة.

فأنت تسير في الطريق المأمون، فلا تزعجك نبأة ولا يلفتك ما قد يوجب التلفت، ولكنك إذا أدلجت في الأجمة المرهوبة، واستحلك الليل حولك خيل إليك أنك تسمع في كل همسة فحيح أفعى، وفي كل نفخة همهمة أسد، وفي كل خبطة تليك هجمة عدو ينتحيك بمكروه، وما اختلف على حسك بين الطريق المأمون والأجمة المرهوبة إلا اختلاف التوقع، واستحضار الحذر من كل مجهول غير منظور، وذلك هو موضع الاختلاف بعينه بين المتطيرين وغير المتطيرين.

ولقد كان ابن الرومي أوعى لنفسه من أن تخفى عليه طبيعة الحذر المركبة فيه؛ فهو يشعر من دخيلة طبعه بأنه حذور، ويعلم ألا مفر له من الحذر، فيتخذ من الضرورة فضيلة — كما يقولون — ويزعم أن الحذر باب الأمان:

فآمن ما يكون المرء يومًا
إذا لبس الحذار من الخطوب

ويحتج لذلك بحجج كثيرة من القرآن والحديث والمنطق والروايات، كما مر بك في أخباره، ثم لا يشك في أنه محق مصيب، ضعفت حجته أو قويت، وصدقت محاذيره أو كذبت؛ لأن الحجة في العقائد الشعورية تلحق العقيدة ولا تسبقها، وتؤكدها إذا وافقتها، ولكنها لا تفندها إذا عارضتها.

•••

ومن روافد الطيرة في ابن الرومي ذوق الجمال وتداعي الخواطر.

فالنفس المطبوعة على ذوق الجمال تفرح وتتهلل للمناظر الجميلة السوية، وتنفر وتنقبض من المناظر الدميمة الشائهة، ويصاحب الفرح الإقبال والاستبشار والرغبة، ويصاحب النفور الحزن والإنكار والتشاؤم والكراهة، وليس أقرب من المسافة بين النفور والطيرة إذ دق الحس وغلب عليه الحذر، وأصبح الانقباض عنده نذيرًا يثنيه ويقتضب عليه طريق أمله.

أما تداعي الخواطر فصاحبه أبدًا يستخرج من الكلمة أو الفكرة غاية ما تؤدي إليه، وتنقلب عليه، ومتى كانت طبيعته الحذر ومزاجه مركبًا على التشاؤم، فليس أسهل من اتجاه خواطره السريعة إلى حيث ألفت طبيعته واستمر مزاجه.

فلكل كلمة عنده سر، ولكل سر مخافة، ويسيرٌ عليه أن يعرف ذلك السر، ويكشف تلك المخافة؛ لأنه سريع حركة الذهن يتنقل كومضة البرق بين المعاني ومشابهاتها ومناقضاتها، وبين الكلمات وما يجانسها ويشاكل حروفها وأوزانها، فلا يشق عليه أن يعثر بطلبته الموافقة لنزعة طبعه، ومتوجه ذهنه عند معنًى من تلك المعاني، ومشاكلة من تلك المشاكلات.

وذوق الجمال وتداعي الخواطر كانا في ابن الرومي على أدق وأيقظ ما يكونان في إنسان؛ كانت له عين خاطفة تلتهم الألوان والأشكال التهام الجائع المنهوم الذي لا يشبع، وقد عرفنا أمثلة من ذلك في دقة تشبيهاته، وإحكام صوره، وغرابة التفاته إلى مواقع للنظر لا يلتفت إليها شاعر غيره. وسنعرف أضعاف ذلك عند الكلام على عبقريته وفنه وأسلوبه في تناول الحس وتصويره.

ثم كان مع هذه النظرة الخاطفة يشنأ القبح، ويحسبه ذنبًا يعاف ويستر، وكان يبالغ في إخفائه من نفسه إذا ابتلي به، كما كان يبالغ في إخفاء صلعه، والسخط على من يسألونه عنه! فالقبح عنده شر أو نذير بالشر، ولا يرى الأحدب أو الأعور أو الخصي أو الأشقر الذي يحكي لون وجهه لون الجلد المسلوخ، أو غيرهم من المشوهين الخارجين عن سواء الخلقة إلا انقبضت نفسه، وأسرع إليه ما يلازم الانقباض من التوجس والحذر والوجوم.

وتداعي الخواطر ملحوظ في جميع شعره لا يستدل منه بغرض دون غرض، ولا بقصيدة دون قصيدة، فهو يسلسل المعنى ويشعبه حتى يستنفد، وكلما عنَّ له خاطر لحق به ما يقاربه وما يناسبه حتى تبطل المناسبة، ويضطر إلى الوقوف. هذا في المعاني. أما في الألفاظ فإنه يغوص في تصحيف حروفها مثل هذا الغوص، ويستخرج البعيد والقريب من رموزها وقراءتها، ويستنبط منها ما يشاء من ملامح اليُمن والشؤم، ودفائن المدح والذم، فجعفر عنده تساوي «جاع وفر»، والخان يذكره بالخيانة.

فكم خان سفر خان فانقض فوقهم
كما انقض صقر الدجن فوق الأرانب

ويلعب بتصحيف الكلمات في السمع والخط أحيانًا لينقلها إلى المدح أو الهجاء، فيقول في القيان:

لا تلحُ من تفتنه «قينةٌ»
فإن تصحيف اسمها «فتنة»

ويقول فيمن اسمه ابن «هرثمة»:

عائذٌ دهره إذا سطع النقـ
ـع بمعنى مصحَّف اسم أبيه

وتصحيف هرثمة هو «هزيمة».

ويجعل عمر «عيرًا» بقوله:

يا عمرو لو قلبت ميم مسكنة
ياء محركة لم تخطئ الفقر

أو يفعل ذلك في الاسم الواحد ممعنًا أشد الإمعان في استخراج التصحيف للمدح والذم، كما فعل في اسم إسحاق مادحًا وهاجيًا، فقال وهو يمدح:

واسلم أبا إسحاق لابس غبطةٍ
وعداك للإبعاد والإسحاق

وقال وهو يهجو وأبعد جدًّا في تصحيفه:

يا أبا إسحاق واقلب
نظم إسحاقٍ وصحف
واترك الحاء على حا
لٍ فما للحاء مصرف
يشهد الله لقد أصـ
ـبحت عين المتخلف

فتبدل اسم «إسحاق» بعد قلبه وتصحيف قافه فاء وسينه شينًا، وإثبات حائه على حالها، فخرج من هذه العملية الطويلة «فاحشًا»، وليس بينه وبين الأصل صلة كما ترى إلا ما عرض له من التصحيف والتحريف من أبعد طريق.

وقد يذهب ذهنه إلى الصورة التي تنقلب إليها الأسماء بعد اللثغ المضاعف كما قال في أبي علي بن أبي قرة:

أنت عندي وشيخك السيد الما
جد لا شك صادق الكنيتين
ليس في منطق الفصيح ولكن
حين يحكيكما أخو لثغتين
مبدل لام كل لفظ بياء
مبدل قاف كل لفظ بغين

فيصبح علي بن أبي قرة في لغة الألثغ وهو: عيي بن أبي غرة بكسر العين! ولولا السرعة في تداعي الخواطر وخلق المناسبات لما وصل إلى هذا التصحيف في الاسمين.

وقد يعكس اللفظ ليستخرج منه فألًا لغيره كما صنع بكلمة «سكان»، حين انحدر العلاء بن صاعد يريد واسطًا، فتحركت ريح الجنوب حركة عظمت معها الأمواج فانكسر السكان، فرجع، فقال ابن الرومي:

رأيت منكسر السكان ظاهره
هول وتأويله فأل لمنجاكا
… … … … …
… … … … …
لأن لفظة «سكان» إذا قلبت
حروفها «ناكس» لا شك في ذاكا

وإن عقلًا كهذا العقل المطبوع على سرعة التنقل بين المعاني والألفاظ، وما يتفرع عليها ويتسلسل منها ليس بالغريب أن يهتدي إلى مكامن الطيرة والشؤم في كل معنى، وكل كلمة، ولا سيما إذا رانت على نفسه الخيبة، وقدر الفشل في كل خطوة، واقترن ذلك بالإحساس المتوفز المتربص الذي لا تضبطه عزيمة، ولا تحكمه صرامة في الفطرة.

وتداعي الخواطر بهذه السرعة من الحالات التي تتقارب فيها العبقرية والجنون، كما تقدم في الكلام على مزاج الشاعر، فيثب العبقري في لمحة عين من المعنى إلى شبيهه أو نقيضه، ويصل بين القطبين البعيدين بسلسلة من المشابهات والمناقضات دقيقة الحلقات لا يتبينها الناظر إلا بعد التوضيح والجهد الجهيد في التنبه لمداخلها، وتعقب أوصالها، والجري معها جريًا يتعبه ولا يسره لأول وهلة. وتسمع المجنون يتكلم فإذا هو يخلط ويأتي بالمفارقات، ولكنه في داخل ذهنه يجمع بينها بمناسبات تقرب منها ما نأى، وتؤلف ما تبعثر، غير أن الجنون عقيم منبت والعبقرية مثمرة نافذة، وهذا هو الفرق الكبير بين الشذوذين المتناقضين؛ أي بين أسمى ما يرتقي إليه الذهن وأوضع ما ينحدر إليه.

وإليك مثلًا هذه الأبيات التي قالها ابن الرومي في هجاء ابن طالب الكاتب:

أزيرق مشئوم أحيمر قاشر
لأصحابه، نحس على القوم ثاقب
وهل أشبه المريخ إلا وفعله
لفعل نذير السوء شِبْهٌ مقارب
وهل يتمارى الناس في شؤم كاتب
لعينيه لون السيف والسيف قاضب
ويدعى أبوه طالبًا وكفاكم
به طيرة إن المنية طالب
ألا فاهربوا من طالب وابن طالبٍ
فمن طالب مثليهما طار هارب

فبهذا المثل نستطيع أن نتتبع مداخل الطيرة إلى نفس ابن الرومي من جانب «ذوق الجمال»، ومن جانب «تداعي الخواطر» في وقت واحد، ونستطيع أن نراقب ذهنه وهو يعمل في حركته السريعة بين الأشكال والألوان والألفاظ والمعاني، كما نراقب البنية الحية وهي تعمل من وراء المجاهر والكواشف، فانظر إلى لون الوجه «الأحيمر» القاشر، وإلى نذير السوء والبلاء، أين هما؟ وماذا يجمع بينهما من الصلة والمناسبة؟ لا صلة ولا مناسبة! ولكن ضع بينهما المريخ ولونه الأحمر، ثم ضع مع المريخ ما اقترن به في الأساطير من خصائص الحرب والفتنة تنتظم العلاقة، وتنعقد المناسبة من جميع أطرافها، وقل مثل ذلك في لون العين ولون السيف القاضب! وفي «الطالب» الذي لا يقابله إلا «الهارب»، وفي «الطلب» الذي يعقد الشبه بين الموت وذلك الكاتب! وفرِّق هذا كله فإذا هو أبعد المتفرقات، واجمعه كما جمعه ابن الرومي، فإذا هو أقرب المناسبات، وألزم العلاقات.

•••

ولقد ضاعف العصر ما في نفسه من الاستعداد للطيرة من هذه الجوانب الكثيرة، فاستعصى عليه علاجها، وسهلت عليه مطاوعتها والإغراق فيها، فقد كان أصح الأصحاء في عصره يصدق الطوالع، ويؤمن بالسعد والنحس، والتفاؤل والتشاؤم، فزعم ابن الرومي أن الطيرة موجودة في الطبائع، وأنه ما من أحد إلا يتفاءل بأشياء ويتشاءم بأشياء، ويتخذ العلامات من ظواهر الزمان لخفاياه، ومن فلتات لسانه لما في دخائل ضميره!

وكثر التصحيف في زمنه، بل كثر في بيت من بيوت الرؤساء التي اتصل بها وتردد عليها في مجالس سمرها ولهوها؛ وهو بيت بني طاهر، ولاة الحكم في خراسان والشرطة ببغداد، ومن رءوسه عبد الله بن طاهر الذي قال ملغزًا في اسم ظريف:

اسم من أهواه اسم حسن
فإذا صحفته فهو حسن
فإذا أسقطت منه فاءه
كان نعتًا لهواه المختزن

إلخ إلخ.

ومن رءوسه عبيد الله الذي كان يعرض الشعر على ابن الرومي، ويقترح عليه تصحيفه كما ترى في ديوانه.

فتمكنت عادة التصحيف في ذهنه، وجاءت الطيرة فوجدت منها أداة صالحة لخلق دلائل الشؤم، واستنباط الإشارات الخفية من ظواهر المعاني والألفاظ.

على أنا — مع توافر هذه البواعث في مزاجه وعصره — نلاحظ أن الروايات التي ذكرت عن طيرته لا ترجع واحدةٌ منها إلى ما قبل الخمسين من عمره، فرواية ابن المسيب التي يقول فيها: إن ابن الرومي فزع من رؤية الحول والعور في المهرجان، ترجع إلى مهرجان سنة ثمان وسبعين ومائتين؛ أي حين كان ابن الرومي في السابعة والخمسين، والنوادر التي حكيت عن الأخفش لا يظن أنها حدثت قبل نيف وسبعين ومائتين؛ لأن الزبيدي يخبرنا أن الأخفش كان له تلاميذ يملي عليهم هجاء ابن الرومي فيه، ويغلب ألا يكون للعالم حلقة يجلس فيها للتدريس قبل الثلاثين، والأخفش مات سنة ست عشرة وثلاثمائة عن نحو ثمانين سنة، فكان ابن الرومي في الخمسين حين جاوز الأخفش الثلاثين.

والرواية التي نقلت عن إبراهيم كاتب مسروق البلخي، وحضرها برذعة الموسوس صاحب المعتضد ترجع إلى أيام المعتضد الذي تولى الخلافة سنة تسع وسبعين ومائتين؛ أي حين بلغ ابن الرومي الثامنة والخمسين، فيرجح إذن أن الطيرة الشديدة في ابن الرومي كانت عارضًا من عوارض الشيخوخة، وأنه أفرط فيها بعدما ابتلي بالآلام والأحزان، وساورته المخاوف من كل جانب، وقل حوله المؤاسي والرفيق. وللشيوخ كافة ميل إلى تصديق الأساطير، واستطلاع الغيوب وما يدخل في باب العيافة والزجر على العموم. فابن الرومي في شيخوخته أحجى أن يصاب بهذه العاقبة التي ادخرها له المرض والمزاج والعصر وحوادث الأيام.

إلا أننا يجب أن نحسب هنا حسابًا للمبالغة التي تدخل على كل شهرة، وتغري الناس باختراع الأقاويل وإضافة النوادر الشائعة عن كل صفة غريبة إلى الشخص الذي يشتهر بتلك الصفة، ويتفرد فيها بالظهور، فقد يكون الموضوع من أخبار هذه الطيرة أكثر من الصحيح، وقد يكون الصحيح مشوبًا بالمبالغة والإطناب.

عقيدته

تقدم في الكلام على الحالة الدينية في القرن الثالث للهجرة أنه كان عصرًا كثرت فيه النحل والمذاهب، وقل فيه من لا يرى في العقائد رأيًا يفسر به إسلامه، وبخاصة بين جماعة الدارسين وقراء العلوم الحديثة.

فابن الرومي واحد من هؤلاء القراء، لا ننتظر أن تمر به هذه المباحث التي كان يدرسها ويحضر مجالسها، ويسمع من أهلها بغير أثر محسوس في تفسير العقيدة، فكان مسلمًا صادق الإسلام، ولكنه كان شيعيًّا معتزلًا قدريًّا يقول بالطبيعتين، وهي أسلم النحل التي كانت شائعة في عهده من حيث الإيمان بالدين.

وقد قال المعري في رسالة الغفران: أن البغداديين «يدَّعون أنه متشيع، ويستشهدون على ذلك بقصيدته الجيمية»، ثم عقب على ذلك فقال: «ما أراه إلا على مذهب غيره من الشعراء.»

ولا ندري لماذا شك المعري في تشيعه لأنه «على مذهب غيره من الشعراء»؛ فإن الشعراء إذا تشيعوا كانوا شيعة حقًّا كغيرهم من الناس، وربما أفرطوا فزادوا في ذلك على غيرهم من عامة المتشيعين، وإنما نعتقد أن المعري لم يطلع على شعره كله، فخفيت عنه حقيقة مذهبه، ولولا ذلك لما كان بهذه الحقيقة من خفاء.

على أن القصيدة الجيمية وحدها كافية في إظهار التشيع الذي لا شك فيه؛ لأن الشاعر نظمها بغير داعٍ يدعوه إلى نظمها من طمع أو مداراة، بل نظمها وهو يستهدف للخطر الشديد من ناحية بني طاهر، وناحية الخلفاء، فقد رثى بها «يحيى بن عمر بن حسين بن زيد بن علي» الثائر في وجه الخلافة، ووجه أبناء طاهر ولاة خراسان، وقال فيها يخاطب بني العباس ويذكر «ولاة السوء» من أبناء طاهر:

أجنُّوا بني العباس من شنآنكم
وأوكوا على ما في العياب وأشرجوا١٩
وخلوا ولاة السوء منكم وغيَّهم
فأحر بهم أن يغرقوا حيث لجَّجوا
نظار لكم أن يرجع الحق راجع
إلى أهله يومًا، فتشجوا كما شجوا
على حين لا عذرى لمعتذريكم
ولا لكم من حجة الله مخرج
فلا تلقحوا الآن الضغائن بينكم
وبينهم إن اللواقح تنتج
غُرِرتم لئن صدَّقتم أن حالة
تدوم لكم، والدهر لونان أخرج
لعل لهم في منطوي الغيب ثائرًا
سيسمو لكم، والصبح في الليل مُولَج

فماذا يقول الشيعي لبني العباس أقسى وأصرح في التربص بدولتهم وانتظار دولة العلويين من هذا الكلام؟ فقد أنذر بني العباس بزوال الملك، وكاد يتمنى — أو تمنى — لبني علي يومًا يهزمون فيه أعداءهم، ويرجعون فيه حقهم، ويطلبون تراثهم، وينكلون بمن نكل بهم، وهواه ظاهر مع العلويين لا مداجاة فيه كهوى كل شيعي في هذا المقام، على أنه كان أظهر من هذا في النونية التي تمنى فيها هلاك أعدائهم، ولام نفسه على التقصير في بذل دمه لنصرتهم:

إن يوال الدهر أعداءً لكم
فلهم فيه كمينٌ قد كمن
خلعوا فيه عذار المعتدي
وغدوا بين اعتراض وأرن٢٠
فاصبروا يهلكهم الله لكم
مثلما أهلك أذواء اليمن
… … … … …
… … … … …
قرب النصر فلا تستبطئوا
قرب النصر يقينًا غير ظن
ومن التقصير صوني مهجتي
فعل من أضحى إلى الدنيا ركن
لا دمي يسفك في نصرتكم
لا ولا عرضي فيكم يمتهن
غير أني باذل نفسي وإن
حقن الله دمي فيما حقن
ليت أني غرض من دونكم
ذاك أو درع يقيكم ومجنْ
أتلقى بجبيني من رمى
وبنحري وبصدري من طعنْ
إن مبتاع الرضى من ربه
فيكم بالنفس لا يخشى الغبن

وليس يجوز الشك في تشيع من يقول هذا القول، ويشعر هذا الشعور؛ فإنه يعرض نفسه للموت في غير طائل حبًّا لبني علي، وغضبًا لهم، وإشهارًا لعاطفة لا تفيده ولا تفيدهم، وقد كان لا يذكر يحيى بن عمر إلا بلقب الشهيد، كما ذكره في القصيدة الجيمية، وفي خاطرة أخرى مفردة نظمها في هذين البيتين:

كسته القنا حلة من دم
فأضحت لدى الله من أرجوانِ
جزته معانقة الدارعين
معانقة القاصرات الحسانِ

وبعض هذا يكفي في الدلالة على تشيُّعه للطالبيين، واتخاذه التشيع مذهبًا في الخلافة كمذهب الشعراء أو غير الشعراء، ولا سيما التشيع المعتدل الذي يقول أهله بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، ويستنكرون لعن الصحابة الذين عارضوا عليًّا في الخلافة، ومعظم هؤلاء من الزيدية الذين خرجوا في جند يحيى بن عمر لقتال بني العباس.

فهم لا يقولون في نصرة آل علي أشد مما قال ابن الرومي، ولا يتمنون لهم أكثر مما تمنى.

ويلوح لنا أن ابن الرومي ورث التشيع وراثة من أمه وأبيه؛ لأن أمه كانت فارسية الأصل، فهي أقرب إلى مذهب قومها الفرس في نصرة العلويين؛ ولأن أباه سماه عليًّا وهو من أسماء الشيعة المحبوبة التي يتجنبها المتشددون من أنصار الخلفاء، ولا حرج على أبي الشاعر أن يتشيع وهو في خدمة بيت من بيوت العباسيين؛ لأن مواليه كانوا أناسًا بعيدين من الخلافة وولاية العهد، وهما علة البغضاء الشديدة بين العباسيين والعلويين. وقد اتفق لبعض الخلفاء وولاة العهد أنفسهم أنهم كانوا يكرمون عليًّا وأبناءه، كما كان مشهورًا عن «المعتضد» الخليفة الذي أكثر ابن الرومي من مدحه، وكما كان مشهورًا عن «المنتصر» ولي العهد الذي قيل: إنه قتل أباه «المتوكل» جريرة ملاحاة وقعت بينهما في الذب عن حرمة علي وآله.

•••

ومع هذا لم يخطئ المعري حين ظن أن للشعراء تشيعًا غير تشيع الدين والعصبية؛ إذ كان الشعراء في كل زمن يؤخذون بالعاطفة، وتستجيشهم البواعث الحية التي تجيش لها القلوب من حولهم، وكانت العاطفة أبدًا مع بني علي، حيث كانت المصلحة أبدًا مع بني العباس. وقد برز هذا الفارق في مقتل يحيى بن عمر خاصة؛ لأنه كان محبوبًا معطوفًا عليه لشجاعته ونخوته، وكرم نفسه وشبابه وجماله، وكان معذورًا في خروجه على العباسيين؛ لأنهم حرموه رزقه حتى عز عليه القوت، وجاع وأترب، وتبين ذلك لأنصاره فكانوا يعرضون عليه الطعام فيأباه ويقول: «إن عشنا أكلنا.» وفي ذلك يقول ابن الرومي من القصيدة الجيمية:

أفي الحق أن يمسوا خماصًا وأنتم
يكاد أخوكم بطنه يتبعج
وتمشون مختالين في حجراتكم
ثقال الخطى أكفالكم تترجرج
وليدهم بادي الضوى، ووليدكم
من الريف ريان العظام خدلَّج

وقد بلغ من حبه في قلوب الناس أنه لما قتل التمس قتلته أحدًا يعالج رأسه، كما تعالج رءوس القتلى لتحفظ وتنصب، فأعياهم أن يجدوه، وطال بحثهم عنه حتى عثروا برجل من أراذل السوقة رضي أن يصنع بالرأس ما لم يرضه الآخرون، ثم أرادوا نصبه في بغداد، فهاج أهلها وماجوا وخيفت الفتنة، فأنزلوه ولما يكد يرفع، ولم يعرف في تاريخ الطالبيين أحد حزن الناس لموته واضطربوا كحزنهم واضطرابهم لقتل يحيى بن عمر، ففي غضب ابن الرومي شيء كثير من غضب الشاعرية، أو من غضب السليقة الحساسة التي لا يسعها أن تهدأ وتفتر والقلوب حولها جائشة، والصدور مكظوظة، والطبائع نافرة. ولا ننسى أنه رثى يحيى وهو دون الثلاثين في سن للعاطفة عليها سلطان عظيم، وللحزم عليها سلطان ضعيف، ولكن أتراه — لولا العقيدة — كان يكرر هذا الغضب، ويخرج هذا الخروج عن الحذر؟ أكان يجازف بحياته ويقول في النونية أشد مما قال في الجيمية التي هيج لها هذا الهياج، وساوره فيها الحزن كما ساور ألوف المحزونين؟

•••

وبعدُ، فيجب أن نذكر في هذا السياق أن ابن الرومي رثى محمد بن عبد الله بن طاهر الذي تولى حرب يحيى، وجلس لقبول التهنئة بقتله، ففي هذه الملاحظة ما يجوز أن يلقي الشبهة على جدِّه في التشيع، ولدده في الخصومة للمذهب، فإذا أردنا أن نذكر ذلك وجب أن نذكر معه أمورًا كثيرة تصحح تلك الملاحظة، وترد تلك الشبهة، وهي أن ابن الرومي لم يكن قط لدودًا في خصومة، ولا صارمًا في عصبية، وأن محمد بن عبد الله بن طاهر مات بعد مقتل يحيى بثلاث سنوات سكنت فيها سورة الحزن، وفترت حدة الغضب، وأن أبناء طاهر كانوا حماة لابن الرومي يمدحهم ويرثيهم، ويختلف إلى قصورهم، ويدخل فيما بينهم من منافسة ومصالحة بين أقطابهم، فأولى أن نذكر هنا أنه نسي ذلك كله وهجاهم وثار عليهم في سورة الحزن، فرماهم بما نسميه الآن «الخيانة العظمى»، واتهمهم بالكيد لبني علي وبني العباس على السواء، وأنهم يأتمرون بالدولة العربية الإسلامية ليقموا على أنقاضها دولة الفرس القديمة؛ فقال لهم في القصيدة الجيمية: إنكم لو أمكنتكم في الفريقين فرصة:

إذن لاستقدتم منهما وتر فارس
وإن ولَّياكم فالوشائج أوشج
أبى أن تحبوهم يد الدهر ذكركم
ليالي لا ينفك منكم متوَّج
وإني على الإسلام منكم لخائف
بوائق شتى بابها الآن مرتج

وتلك سورة متشيع ناقم لا يبالي ما يقول وقد ملكه الحزن، ونسي العواقب، وراح يخبط في تهم وحزازات كان أهونها يطير بالرأس في تلك الأيام.

ويصح أن نذكر بعدما تقدم أن الطاهريين كانوا في بواطنهم متشيعين يضطرون اضطرارًا إلى حرب بني علي، وقبول التهنئة بموتهم، كما كان الطالبيون أنفسهم يضطرون إلى شهود محافل التهنئة وهم مطويون على الحزن الأليم، والثأر المقيم، ويقول ابن الأثير: إن سليمان بن عبد الله بن طاهر انهزم اختيارًا في حرب الحسن بن زيد العلوي، الذي ثار بعد مقتل يحيى بن عمر؛ «لأن الطاهرية كلها كانت تتشيع»، فلما أقبل الحسن بن زيد إلى طبرستان تأثم سليمان من قتاله لشدته في التشيع وقال:

نبئت خيل ابن زيد أقبلت حينًا
تريدنا لتحسِّينا الأمرينا
يا قوم إن كانت الأنباء صادقة
فالويل لي ولجمع الطاهريينا
أما أنا فإذا اصطفت كتائبنا
أكون من بينهم رأس المولينا
فالعذر عند رسول الله منبسط
إذا احتسبت دماء الفاطميينا

وتشيع الطاهريين معقول مرجح؛ لأنهم كانوا فُرسًا يوافق هواهم هذا المذهب، ويصلح عندهم ذريعة لقلب الدولة، وتجديد ملك فارس وقيام الدولة الطاهرية، فرثاء الشاعر رجلًا من الشيعة — على هذا الاحتمال — أمر لا غبار عليه من هذه الوجهة، ولا شبهة فيه على صدق الميل والجد في العقيدة.

وإن أحق عقيدة أن يجد المرء فيها لعقيدةٌ تجرئه إذا خاف، وتبسط له العذر والعزاء إذا سخط من صروف الحوادث، وتمهد له الأمل في مقبل خير من الحاضر، وأدنى منه إلى كشف الظلامات ورد الحقوق، وكل أولئك كان ابن الرومي واجده على أوفاه في التشيع للعلويين، أصحاب الإمامة المنتظرة في عالم الغيب، على العباسيين أصحاب الحاضر الممقوت المتمنى زواله؛ فلهذا كان متشيعًا في الهوى، متشيعًا في الرجاء، متشيعًا في الرأي الذي وافق الهوى والرجاء، وكان «على مذهب غيره من الشعراء»، وعلى مذهب غيره من سائر المتشيعين.

•••

أما الاعتزال فابن الرومي لا يكتمه ولا يماري فيه، بل يظهره إظهار معتز به، حريص عليه، فمن قوله في ابن حريث:

معتزلي مسرُّ كفر
يبدي ظهورًا لها بطون
أأرفض الاعتزال رأيًا
كلا لأني به ضنين
لو صح عندي له اعتقاد
ما دنت ربي بما يدين

يقول: إن ابن حريث هذا يبطن الكفر ويظهر الاعتزال، وهو الإيمان الصحيح في رأي المعتزلة، ثم يقول: أتراني إذن أرفض الاعتزال لأن ابن حريث يدعيه؟ فيجيب نفسه: كلا؛ لأني أضن به، وأعلم أن عقيدة ابن حريث الباطنة غير الاعتزال، ولولا علمي بذلك ما دنت ربي بما يدين.

وكان مذهبه في الاعتزال مذهب القدرية الذين يقولون بالاختيار، وينزهون الله عن عقاب المجبر على ما يفعل، وذلك واضحٌ من قوله يخاطب العباس بن القاشي، ويناشد صلة المذهب:

إن لا يكن بيننا قربى فآصرةٌ
للدين يقطع فيها الوالد الولدا
مقالة «العدل والتوحيد» تجمعنا
دون المضاهين من ثنى ومن جحدا
وبين مستطرفي غي مرافقة
ترعى، فكيف اللذان استطرفا رشدا
كن عند أخلافك الزهر التي جُعلت
عليك موقوفة مقصورةً أبدا
ما عذر «معتزلي» موسر منعت
كفاه معتزليًّا مقترًا صفدا
أيزعم القدر المحتوم ثبطه؟
إن قال ذاك فقد حل الذي عقدا
أم ليس مستأهلًا جدواه صاحبه؟
أنَّى وما جار عن قصد ولا عندا
أم ليس يمكنه ما يرتضيه له؟
يكفي أخًا من أخ ميسور ما وجدا
لا عذر فيما يريني الرأي أعلمه
للمرء مثلك ألا يأتي السددا

فواضحٌ من كلامه هذا أنه «معتزلي»، وأنه من أهل «العدل والتوحيد»، وهو الاسم الذي تسمى به القدرية؛ لأنهم ينسبون العدل إلى الله، فلا يقولون بعقوبة العبد على ذنب قضي له وسيق إليه، ولأنهم يوحدون الله فيقولون: إن القرآن من خلقه، وليس قديمًا مضاهيًا له في صفتي الوجود والقدم، وقد اختاروا لأنفسهم هذا الاسم ليردوا به على الذين سموهم «القدرية»، ورووا فيهم الحديث «القدرية مجوس هذه الأمة»، فهم يقولون: ما نحن بالقدرية؛ لأن الذين يعتقدون القدر أولى بأن ينسبوا إليه، إنما نحن من أهل العدل والتوحيد؛ لأننا ننزه الله عن الظلم وعن الشريك.

وواضحٌ كذلك من كلامه أنه يعتقد حرية الإنسان فيما يأتي من خير وشر، ويحتج على زميله بهذه الحجة فيقول له: لم لا تُثيبني؟ إن قلت: إن القدر يمنعك؛ فقد حللت ما اعتقدت من اختيار الإنسان في أفعاله.

وإن قلت: إنك لا تريد؛ فقد ظلمت الصداقة وأخللت بالمروءة.

وله عدا هذا أبيات صريحة في اعتقاد «الاختيار» وخلق الإنسان لأفعاله كقوله:

لولا صروف الاختيار لأعنقوا
لهوى، كما اتسقت جمال قطار

وقوله:

أنَّى تكون كذا وأنت مخيرٌ
متصرف في النقض والإمرار؟

وقوله:

الخير مصنوع بصانعه
فمتى صنعت الخير أعقبكا
والشر مفعول بفاعله
فمتى فعلت الشرَّ أعطبكا

إلا أنه كان يقول بالقدر في تقسيم الأرزاق، وأن:

الرزق آتٍ بلا مطالبة
سيان مدفوعه ومجتذبه

ويقول:

أمَا رأيت الفجاج واسعةً
والله حيًّا والرزق مضمونا

ولا تناقض عند القدرية في هذا؛ لأنهم يقولون بالاختيار فيما يعاقب عليه الإنسان ويثاب، لا فيما يناله من الرزق وحظوظ الحياة. ومن العزاء لابن الرومي أن يكون الرزق مضمونًا مقدرًا؛ لأنه أمان له من مخاوف الغد المجهول، وراحة من إلقاء التبعة على نفسه فيما أصابه من الخذلان والتخلف.

أما القول بالطبيعتين، فأوضح ما يكون في قوله:

فينا وفيك طبيعة أرضية
تهوي بنا أبدًا لشر قرار
هبطت بآدم قبلنا وبزوجه
من جنة الفردوس أفضل دار
فتعوضا الدنيا الدنية كاسمها
من تلكم الجنات والأنهار
بئست لعمر الله تلك طبيعة
حرمت أبانا قرب أكرم جار
واستأسرت ضعفي بنيه بعده
فهمو لها أسرى بغير إسار
لكنها مأسورة مقسورة
مقهورة السلطان في الأحرار
فجسومهم من أجلها تهوي بهم
ونفوسهم تسمو سمو النار
لولا منازعة الجسوم نفوسهم
نفذوا بسورتها من الأقطار٢١
أو قصروا فتناولوا بأكفهم
قمر السماء وكل نجم سار

وكأن الفارسية هنا تسربت إلى أقوال المعتزلة كما تسربت إلى كثير من أفكار الثقافة العربية، فإن القول بالطبيعتين من أقدم ما عرف من ديانة الفرس قبل أديان بني إسرائيل، وقبل النصرانية والإسلام، فلما جاء التوحيد الإسلامي أبطل التثنية، ولم يبطل النزاع بين الخير والشر، والنور والظلام، فجاز للمسلم أن يؤمن بالطبيعتين على أن يؤمن بالوحدانية، ولا يشرك الشر في تدبير الوجود.

وإلى هنا تكلمنا عن مذهبه، ولم نتكلم عن «فطرته الدينية» أو عن قوة الإيمان في نفسه.

والفرق بين الأمرين لا يحتاج إلى شرح طويل؛ فإن الناس قد يختلفون في المذهب أبعد اختلاف، ويتفقون في «الفطرة الدينية» أقرب اتفاق، فربما رأيت ألف رجل يدينون بكل مذهب في فجاج الأرض، وهم على الرغم من ذلك أصحاب «فطرة دينية واحدة»، مطبوعون على حماسة الدين، أو مطبوعون على حب التقديس والعبادة، يتفقون في هذه الفطرة، ويخرج كل منهم إلى معبده، فإذا واحدٌ منهم ذاهب إلى المسجد، والثاني إلى الكنيسة، والثالث إلى البيعة، والرابع إلى بيت الأصنام، أو يتفقون على هذه الفطرة ويخرج كل منهم إلى قتال الآخرين بتلك الغيرة القوية التي يقاتله بها أولئك الآخرون؛ فالفطرة الدينية توجد في أنصار كل مذهب وملة، أما المذاهب والملل فلا نهاية لها في التعدد والافتراق.

وابن الرومي كان مفطورًا على التدين؛ لأنه كان مفطورًا على التهيُّب والاعتماد على نصير، وهما منفذان خفيان من منافذ الإيمان، والتصديق بالعناية الكبرى في هذا الوجود، ومن ثم كان مؤمنًا بالله خوفًا من الشك، مقبلًا على التسليم، بسيطًا في تسليمه بساطة من يهرب من القلق، ويؤثر السكينة إلى شيء من الأشياء. وبلغ من بساطته أنه كان ينكر على الحكماء شكهم في حفظ أجساد الأتقياء بعد الموت، وحسبانه من فعل الدواء والحنوط، فقال لابن أبي ناظرة حين تذوق بعض الأجساد ليعلم ما فيها من عوامل البقاء:

يا ذائق الموتى ليعلم هل بقوا
بعد التقادم منهم بدواء
بينت عن رعةٍ وصدق أمانة
لولا اتهامك خالق الأشياء
أحسبت أن الله ليس بقادر
أن يجعل الأموات كالأحياء؟
وظننت ما شاهدت من آياته
بلطيفة من حيلة الحكماء؟

ومات وهو يقول في ساعته الأخيرة:

ألا إن لقاء الله
هول دونهُ الهولُ

وما كانت الطيرة عنده إلا شعبة من ذلك «التهيب» الديني الغريزي فيه؛ فهو يتفلسف ويرى الآراء في الدين، ولكن في حدود من الشعور لا في حدود من التفكير؛ ولهذا كان الفنان ولم يكن الفيلسوف.

وليس من «الاجتراء» أنه قال بالاختيار، ورأى له في الدين رأيًا غير ما اصطلح عليه السواد، فإنه كان يحيل الذنب على الإنسان، وينفي الظلم عن القدر في العقاب والثواب، ويتصور الله على أحسن ما يتصور المتفلسف مثله إلهه، فكأنما جاءه هذا الرأي من محاباة عالم الغيب لا من الاجتراء عليه، وإنما دفع به إلى رأي المعتزلة مخاوف الشكوك التي كانت تخامره، فلا يستريح حتى يسكن فيها إلى قرار، وينتهي من التفكير فيها إلى بر الأمان؛ ولذلك كان يأوي إلى الأصدقاء يكاشفهم بما في صدره، ويستعين بهم على تفريج غمته.

ويدمج أسباب المودة بيننا
مودتنا الأبرار من آل هاشم
وإخلاصنا التوحيد لله وحده
وتذبيبنا عن دينه في المقاومِ
بمعرفة لا يقرع الشك بابها
ولا طعن ذي طعن عليها بهاجم
وإعمالنا التفكير في كل شبهة
بها حجةٌ تعيي دهاة التراجم
يبيت كلانا في رضا الله ماحضًا
لحجته صدرًا كثير الهماهم

بيد أن «الإيمان» شيء، وأداء الفرائض الدينية شيء آخر، فقصارى الإيمان عنده أنه يؤمِّنه بقرب آل البيت، وتنزيه ربه، والاطمئنان إلى عدله ورحمته، ثم يدع له سبيله يلعب ويمرح كلما لذَّ له اللعب والمرح، ولا أهلًا بالصيام إذا قطع عليه ما اشتهى من ذلة وأرب:

فلا أهلًا بمانع كل خير
وأهلًا بالطعام وبالشراب

بل لا حرج عليه إذا قضى ليلة في السرور أن يشبهها بليلة المعراج:

رفعتنا السعود فيها إلى الفو
ز فكانت كليلة المعراج

ذلك أنه كان في تقواه طوع الإحساس الحاضر كما كان في كل حالة من حالاته، يلعب فلا يبالي أن يتماجن حيث لا يليق مجون، ويستحضر التقوى والخشوع، فلا يباريه أحد من المتعبدين، ويخيل إليك أنك تستمع إلى متعبد عاش عمره في الصوامع حين تستمع إليه يقول:

تتجافى جنوبهم
عن وطيء المضاجع
كلهم بين خائفٍ
مستجير وطامع
تركوا لذة الكرى
للعيون الهواجع
ورعوا أنجم الدجى
طالعًا بعد طالع
لو تراهم إذا هم
خطروا بالأصابع
وإذا هم تأوهوا
عند مر القوارع
وإذا باشروا الثرى
بالخدود الضوارع
واستهلت عيونهم
فائضات المدامع
ودعوا: يا مليكنا
يا جميل الصنائع
اعف عنا ذنوبنا
للوجوه الخواشع
اعف عنا ذنوبنا
للعيون الدوامع
أنت إن لم يكن لنا
شافع خير شافع
فأُجيبوا إجابة
لم تقع في المسامع
ليس ما تصنعونه
أوليائي بضائع
ابذلوا لي نفوسكم
إنها في ودائع

وله من طراز هذا الشعر الخاشع كثير لا تسمعه من ابن الفارض ولا محيي الدين.

هجاؤه

أخرج القرن الثالث للهجرة شاعرين هجائيِّينِ هما أشهر الهجَّائينَ في أدب العصور الإسلامية عامة؛ أحدهما: ابن الرومي، والآخر: دعبل الخزاعي هاجي الخلفاء والأمراء وهاجي الناس جميعًا والقائل:

إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا

وقد جمع المعري بينهم في بيت واحد، وضرب بهما المثل لهجاء الدهر لبنيه فقال:

لو أنصف الدهر هجا أهله
كأنه الرومي أو دعبلُ
وليس للمؤرخ الحديث أن يضيف اسمًا جديدًا إلى هذين الاسمين؛ فإن العصور التالية للقرن الثالث لم تخرج من يضارعهما في قوة الهجاء والنفاذ في هذه الصناعة، وكلاهما مع هذا نوع فذ في الهجاء يظهر متى قُرن بالآخر، فدعبل كما قلنا في غير هذا الكتاب:

كان صاحب طبيعة من تلك الطبائع النابية النافرة التي تخرج على المجتمع وتثور به، ولا تزال في حرب معه لا مسالمة فيها ولا مهادنة إلى أن يواريها الموت في ثراه، وكان غاضبًا أبدًا على الناس ينكر عرفهم، ويشذ على إجماعهم، ويهجو أفرادهم بأسمائهم، وهو إنما يهجو الناس جميعًا في أشخاص أولئك الأفراد … وكان يهيم على رأسه في البلاد سنين عدة تنقطع فيها أخباره، وتخفى آثاره، ثم يظهر حيث كان فجأة وقد أقرى وغنم ليبدد ما جمعه في اللهو والقصف، ثم ينقلب إلى شأنه من الإباق، والتطواف في أرجاء الأرض، وربما لقي الشراة وقطاع الطريق في بعض رحلاته، فيجالسهم ويؤاكلهم ويأمر غلاميه أن يغنيا لهم، ويعرفهم ويعرفونه فلا يمسونه بأذى ولا يذكرهم بسوء؛ لأنهم أبناء نحلة واحدة يؤلف شملهم النفور من الناس، ويوفق بينهم الشذوذ عما تواضعوا عليه من الآداب والدساتير، فهو قاطع طريق بفطرته التي ولد عليها وإن لم يحمل السيف، ولم يخرج للفتك والغيلة.

بل قد قيل: إنه قطع الطريق في بعض أيامه فعلًا، «وإنه كان يكمن للناس بالليل، فرصد يومًا صيرفيًّا طمعًا بما معه، ففتك به، ولم يجد في كمه إلا ثلاث رمانات في خرقة، فخرج هاربًا من الكوفة لاشتداد الطلب عليه»، وما كان هجوه لو بحثت في أسبابه إلا ضربًا من قطع الطريق على الناس اشتهاء في أكثر الأحيان للذة الصيد والقنص، ونزوة المطاردة والتخويف، لا طمعًا في المال أو طلبًا للتراث، فما اتفق الناس على إمام إلا هجاه، وألحَّ في هجائه وإن أحسن إليه وأجزل له العطاء، ولا ترك أميرًا ولا وزيرًا ولا واليًا إلا ناله بلسانه عرضًا أو قصدًا، ولو كان من أبناء قبيلته ومن خاصة المفضلين عليه …

أما ابن الرومي فلم يكن مطبوعًا على النفرة من الناس، ولم يكن قاطع طريق على المجتمع في عالم الأدب، ولكنه كان فنانًا بارعًا أوتي ملكة التصوير، ولطف التخيل والتوليد، وبراعة اللعب بالمعاني، والإشكال، فإذا قصد شخصًا أو شيئًا بهجاء صوب إليه مصورته الواعية، فإذا ذلك الشخص أو ذلك الشيء صورة مهيأة في الشعر تهجو نفسها بنفسها، وتعرض للنظر مواطن النقص من صفحتها كما تتطبع الأشكال في المرايا المعقوفة والمحدبة، فكل هجوه تصوير مستحضر لإشكاله، أو لعب بالمعاني على حساب من يستثيره.

هذا هو الفرق بين مذهبي هذين الشاعرين اللذين ظهرا في قرن واحد، وأخذا بطرفي الهجاء في الآداب العربية.

ولك أن تقول من جهة أخرى: إن الفرق بينهما كان فرقًا بين المذهب البدوي والمذهب الحضري في الهجاء، فقد كان دعبل بدويًّا نافرًا بفطرته، وكان ابن الرومي حضريًّا أنيسًا بفطرته، فإذا تبرم ابن الرومي بالناس، فإنما يتبرم بهم تبرم من يألفهم ويأنس إليهم، ويعاني ما يعاني من عشرتهم، ثم يسخط عليهم؛ لأنه مقيد بهم لا يستطيع الفكاك منهم، فسخطه أساسه المودة والألفة، وليس أساسه القطيعة والنفرة، كما كان السخط في نفس صاحبه دعبل الخارج على الجماعة القاطع الطريق.

ولهذا الفرق أثره في موضوع المثالب التي يلقيها كل منهما على مهجويه، فدعبل يسلب المهجو جميع الفضائل التي تعتز بها النفس الصارمة البدوية، يسلبه النخوة والكرم والبأس، وطيب النحيزة، ويجعله رجلًا يسمع البدوي صفاته فيقول: إنه حقير مرذول.

وابن الرومي يسلب مهجوه الفطنة والكياسة والعلم، ويلصق به كل عيوب الحضارة التي يجمعها التبذل والتهالك على اللذات، فإذا حذفت من هجوه كل ما أوجبته الحضارة والخلاعة الفاشية في تلك الحضارة، فقد حذفت منه شر ما فيه، ولم يبق منه إلا ما هو من قبيل الفكاهة والتصوير.

والبدوي يخاف الذم، والحضري قلما يخافه:

فما يرتاح للمدح
ولا يرتاع للشتم

كما قال ابن الرومي في بعض مهجويه. فالإفحاش وليد الحضارة، والغلو في الإفحاش وليد التهتك في الحضارة، ومتى غلا الشاعر في القذف بأدناس التبذل والخلاعة، فهناك عيبان محققان؛ أحدهما — لا شك: عيب البيئة التي أشاعت تلك الأدناس، أو جعلت الذم بها ذمًّا هينًا على الأسماع، فلا بد فيه للشاعر من المبالغة والإغراق.

والثاني: تبحث عنه في قائل الهجو ومدمنه؛ فإنه لولا عيب فيه لما اضطر إلى الهجاء، ولا أدمنه وأفرط فيه.

فما هو عيب ابن الرومي، أو ما هي عيوبه التي أولعته بالهجاء والإفحاش، وصيرته عنوانًا لزمانه في السفاهة والبذاء؟ يبدو لنا أن عيبه الأول هو الشهوانية والتهالك على اللذات؛ فالشهوانية هي التي هونت عليه الإقذاع، وسوغت له خوض الفضائح، فأوغل فيها غير مستكره ولا متحرج، ثم أعانها الضعف، وهو عيبه الغالب عليه الذي تبدأ منه وترجع إليه جميع عيوبه.

ففي هجائه صفة ذميمة يشمئز منها القارئ جدًّا في كثير من الأحيان، ولكنها صفة الضعف والخفة، وليست صفة الخبث والرداءة، وقل فيه وفي هجائه ما شئت من لوم وتهجين وتأفف، ولكنك متى قلت فيه كل ما هو أهله، وأقبلت ترد هجاءه إلى بواعثه لم تجد ثمة شرًّا دخيلًا، ولم تخطئ قط أن تجد الحرج والاضطرار، وتشعر بأن قائل هذا الهجاء رجل متألم يدفع الألم عن نفسه، وليس برجل السوء الذي يعنيه أن يوقع الألم بغيره، ويعتد إيلام الناس غرضًا له مقصودًا لذاته.

وهو مع اشتهاره بالهجاء أسلم عن غيره حالًا فيه، وأكثر عذرًا من غير المشهورين به، أسلم من البحتري مثلًا كما قال المرزباني في الموشح:

وكثير من أهل الآداب ينكر خبث لسان علي بن العباس الرومي، ويطعن عليه بكثرة هجائه حتى جعلوه في ذلك أوحد لا نظير له، ويضربون عن إضافة البحتري إليه، وإلحاقه به، مع إحسان ابن الرومي في إساءته، وقصور البحتري عن مداه، وإنه لم يبلغه في دقة معانيه، وجودة ألفاظه، وبدائع اختراعاته، أعني الهجاء خاصة؛ لأن البحتري قد هجا نحوًا من أربعين رئيسًا ممن مدحه، منهم خليفتان هما: المنتصر والمستعين، وساق بعدهما الوزراء ورؤساء القواد ومن جرى مجراهم من جلة الكتاب والعمال ووجوه القضاة والكبراء بعد أن مدحهم، وأخذ جوائزهم، وحاله في ذلك تنبئ عن سوء العهد وخبث الطريقة. ومما قبح فيه أيضًا وعدل عن طريق الشعراء المحمودة أني وجدته قد نقل نحوًا من عشرين قصيدة من مدائحه لجماعة توفر حظه منهم عليها إلى مدح غيرهم، وأمات أسماء من مدحه أولًا مع سعة ذرعه بقول الشعر واقتداره على التوسع فيه …

وقال أحمد بن أبي طاهر: ما رأيت أقل وفاء من البحتري ولا أسقط، رأيته قائمًا ينشد أحمد بن الخصيب مدحًا له فيه، فحلف ليجلسن، ثم وصله واسترضى له المنتصر — وكان غضبان عليه — ثم أوصل له مديحًا إليه، وأخذ له منه مالًا فدفعه إليه، ثم نكب المستعين أحمد بن الخصيب بعد فعله هذا بشهور، فلعهدي به قائمًا ينشده:

لابن الخصيب الويل! كيف انبرى
بإفكه المردي وإبطاله؟!
… … … … …
… … … … …
يا ناصر الدين انتصر موشكًا
من كائد الدين ومغتاله
فهو حلال الدم والمال إن
نظرت في ظاهر أحواله

ثم قال ابن أبي طاهر: كان ابن العلجة فقيهًا يفتي الخلفاء في قتل الناس، نزحه الله، ثم ختم القصيدة بقوله:

والرأي كل الرأي في قتله
بالسيف واستصفاء أمواله

فالبحتري كان في غنى عن هذا ومندوحة واسعة، ولكنك قل أن تقرأ لابن الرومي هجاء تقول إنه كان من الوجهة النفسية في غنى عنه.

على أن لصاحبنا فنًّا واحدًا من الهجاء لا ترتاب في أنه كان يختاره ويكثر منه، ولو لم تحمله الحاجة وتلجئه النقمة إليه، ونعني به فن التصوير الهزلي، والعبث بالأشكال المضحكة والمناظر الفكاهية والمشابهات الدقيقة، فهو مطبوع على هذا كما يطبع المصور على نقل ما يراه، وإعطاء التصوير حقه من الإتقان والاختراع، وما نراه كان يقلع عنه في شعره ولو بطلت ضروراته، وحسنت مع الناس علاقاته … لكن هذا الفن أدخل في التصوير منه في الهجاء، وهو حسنة وليس بسيئة، وقدرة تُطلب وليس بخلة تنبذ.

وأنت لا يغضبك أن ترى ابنك الذي تهذبه وتهديه ماهرًا فيه خبيرًا بمغامزه وخوافيه، وإن كان يغضبك أن تراه يشتم المشتوم، ويهين المهين، ويهجو من يستهدف عرضه للهجاء؛ لأنك إذا منعته أن يفطن إلى الصور الهزلية، وأن يفتنَّ في إدراك معانيها وتمثيل مشابهاتها منعت ملكة فيه أن تنمو، وأبيت على حاسة صادقة فيه أن تصدقه وتفقه ما تقع عليه. أما إذا منعت الهجاء وبواعثه؛ فإنك تمنع خلفًا يستغنى عنه، وميلًا لا بد له من التقويم.

ذلك هو فن ابن الرومي الذي لا عذر له منه، ولا موجب للاعتذار، فأما ما عدا ذلك من هجائه فهو مسوق فيه لا سائق، ومدافعٌ لا مهاجم، ومستثار عن عمد في بعض الأحيان لا مستثير، وإنك لتقرأ له قوله:

ما استبَّ قط اثنان إلا غلبا
شرهما نفسًا وأمًّا وأبا

فلا تصدق أن قائله هو ابن الرومي هجَّاء اللغة العربية، وقاذف المهجوين بكل نقيصة، لكن الواقع هو هذا، والواقع كذلك أنه كان يسكن إلى رشده أحيانًا فيسأم الهجاء ويعافه، ويود الخلاص منه حتى لو كان مهجوًّا معدوًّا عليه، ويعتزم التوبة عن الهجاء مقسمًا:

آليت لا أهجو طوا
ل الدهر إلا من هجاني
لا بل سأطَّرح الهجا
ء وإن رماني مَن رماني
أمن الخلائق كلهم
فليأخذوا مني أماني
حلمي أعز عليَّ من
غضبي إذا غضبي عراني
أولى بجهلي بعدما
مكنت حلمي من عناني

وهذا أشبه بابن الرومي؛ لأنه في صميمه خلق مسالمًا سهلًا، ولم يخلق شريرًا مطويًّا على الشكس والعداوة، بل هو لو كان شريرًا لما اضطر إلى كل هذا الهجاء، أو هو لو كان أكثر شرًّا لكان أقل هجاءً؛ لأنه كان يأمن جانب العدوان فلا يقابله بمثله، وما كان الهجاء عنده كما قلنا إلا سلاح دفاع لا سلاح هجوم، وما كان هجاؤه يشف عن الكيد والنكاية وما شابههما من ضروب الشر المستقر في الغريزة، كما كان يشف عن الحرج والتبرم والشعور بالظلم الذي لا طاقة له باحتماله ولا باتقائه. وكثيرٌ من الأشرار الذين يقتلون ويعيثون في الأرض يقضون الحياة دون أن تسمع منهم كلمة ذم في إنسان، وكثيرٌ من الناس يذمون ويتسخطون وهم مطبوعون على الخير والعطف وحسن المودة، بل هم قد يذمون ويسخطون؛ لأنهم على ذلك مطبوعون.

ومن قرأ مراثي ابن الرومي في أولاده وأمه وأخيه وزوجته وخالته وبعض أصدقائه؛ علم منها أنها مراثي رجل مفطور على الحنان ورعاية الرحم والأنس بالأصدقاء والإخوان، فمراثيه هي التي تدل عليه حق الدلالة المنصفة، وليست مدائحه التي كان يمليها الطمع والرغبة، أو أهاجيه التي كان يمليها الغيظ وقلة الصبر على خلائق الناس؛ ففي هذه المراثي تظهر لنا طبيعة الرجل لا تشوبها المطامع والضرورات، ونرى فيه الولد البار، والأخ الشفيق، والوالد الرحيم، والزوج الودود، والقريب الرءوم، والصديق المحزون، ولا يكون الرجل كذلك ثم يكون مع ذلك شريرًا، مغلق الفؤاد، مطبوعًا على الكيد والإيذاء.

وإذا اختلف القولان بينه وبين أبناء عصره، فأحجى بنا أن نصدق كلامه هو في أبناء عصره قبل أن نصدق كلامهم فيه؛ لأنهم كانوا يستبيحون إيذاءه، ويستسهلون الكذب عليه لغرابة أطواره، وتعود الناس أن يصدِّقوا كل ما يُرمى به غريب الأطوار من التُّهم والأعاجيب، في حين أنه كان يتحامى تلك التهم، ويغفر الإساءة بعد الإساءة مخافة من كثرة الشكاية، وعلمًا منه بقلة الإنصاف:

أتاني مقال من أخ فاغتفرته
وإن كان فيما دونه وجه معتب
وذكَّرت نفسي منه عند امتعاضها
محاسن تعفو الذنب عن كل مذنب
ومثلي رأى الحسنى بعين جلية
وأغضى عن العوراء غير مؤنب
فيا هاربًا من سخطنا متنصلًا
هربت إلى أنجى مفر ومهرب
فعذرك مبسوط لدينا مقدم
وودك مقبول بأهلٍ ومرحبِ
ولو بلغتني عنك أذني أقمتها
لديَّ مقام الكاشح المتكذب
ولست بتقليب اللسان مصارمًا
خليلي إذا ما القلب لم يتقلب

فالرجل لم يكن شريرًا ولا رديء النفس ولا سريعًا إلى النقمة، فلماذا إذن كثر هجاؤه، واشتد وقوعه في أعراض مهجويه؟ نظن أنه كان كذلك لأنه كان قليل الحيلة، طيب السريرة، خاليًا من الكيد والمراوغة والدسيسة وما شابه هذه الخلائق من أدوات العيش في مثل عصره، فكان مستغرقًا في فنه يحسب أن الشعر والعلم والثقافة وحدها كفيلة بنجاحه وارتقائه إلى مراتب الوزارة والرآسة؛ لأنه كان في زمن يتولى فيه الوزارة الأدباء والكتاب والرواة، ويجمعون في مناصبهم ألوف الألوف، ويحظون بالزلفى عند الأمراء والخلفاء، وقد كان هو شاعرًا كاتبًا، وكان خطيبًا واسع الرواية مشاركًا في المنطق والفلك واللغة وكل ما تدور عليه ثقافة زمانه، أو كما قال المسعودي: كان الشعر أقل أدواته … وكان الشعر وحده كافيًا لجمع المال، وبلوغ الآمال.

فماذا بعد أن يعرف الناس أنه شاعر، وأنه كاتب، وأنه راوية مطلع على الفلسفة والنجوم إلا أن تجيئه الوزارة ساعية إليه تخطب وده، كما جاءت إلى أناس كثيرين لا يعلمون علمه، ولا يبلغون في البلاغة مكانه؟! ألم يصل ابن الزيات إلى الوزارة بكلمة واحدة فسرها للمعتصم وفصَّل له تفسيرها، وهي كلمة «الكلأ» التي يعرفها عامة الأدباء؟ بلى! وابن الرومي كان يعرف من غريب اللغة ما لم يكن يعرفه شعراء عصره ولا أدباؤه، فما أولاه إذن بالوزارة، وما أظلم الدنيا إن هي ضنت عليه بحقه من المناصب والثراء!

فإذا لم تكن الوزارة، فهل أقل من الكتابة أو العمالة لبعض الوزراء والكتاب المبرزين؟ فإذا لم يكن هذا ولا ذاك، فهل غبن أصعب على النفس من هذا الغبن؟ وهل تقصير من الزمان ألأم من هذا التقصير؟!

ونبوءة أبيه ورجاؤه في مستقبله وقوله له: «أنت للشرف.» أيذهب هذا كله هباء لا يقبض منه اليدين على شيء؟ تلك النبوءات التي تنطبع على أفئدة الصغار بمثل النار، ولا تزال غرارة الطفولة وأحلام الصبا تزخرفها وتوشيها، وتعمق في الضمير أغوارها، أيأتي الشباب وهي محو، لغو مطموس لا يبين، أو لا يبين منه إلا ما ينقلب إلى الأضداد، وتترجمه الأيام بالسقم والفقر والكساد؟ وكيف يمحى إلا وقد محي القلب الذي طبعت فيه؟ وكيف ينعكس معناه إلا وقد انعكس في القلب كل قائم، والتوى فيه كل قويم؟ ذلك صعب على النفوس وليس بالسهل إلا على من يلهو به وهو بعيد.

وهكذا كان ابن الرومي يسأل نفسه مرة بعد مرة ويومًا بعد يوم:

ما لي أُسلُّ من القراب وأغمدُ
لم لا أُجرَّد والسيوف تجردُ؟
لم لا أجرب في الضرائب مرةً؟
يا للرجال! وإنني لمهند!

ولا يدري كيف يجيب نفسه على سؤاله؛ لأنه لم يكن يدري أن فضائله كلها لا تساوي فتيلًا بغير الحيلة والعلم بأساليب الدخول بين الناس، وأن الحيلة وحدها قد تغني عن فضائله جميعًا ولو كان صاحبها لا ينظم شعرًا، ولا ينظر في كتب الفلسفة والرواية والنجوم …

حسن! إذن ندع الوزارة والولاية والعمالة بعد يأس مضيض يسهل علينا هنا أن نسطره في كلمة عابرة، ولكنه لا يسهل على من يعالجه، ويشقى بمحنته في كل ساعة من ساعات حياته، ندع الوزارة والولاية والعمالة، ونقنع بالمثوبة من الوزراء والولاة والعمال إن كانوا يثيبون المادحين، فهل تراهم يفعلون؟

لا؛ لأن الحيلة لازمة في استدرار الجوائز والمثوبات لزومها في كل غرض من أغراض المعاش، ولا سيما في ذلك الزمان الذي شاعت فيه الفتن والسعايات، وما كانت تنقضي منه سنة واحدة بغير مكيدة خبيثة تودي بحياة خليفة أو أمير أو وزير، وربما كانت مصانعة الحجاب، والتماس مواقع الهوى من نفوس الحاشية والندمان، واللعب بمغامز النفوس الخفية، وإضحاك هؤلاء وهؤلاء أجدى على الشاعر في هذا الباب من بلاغة شعره، وغزارة علمه، وربما كان الوزير لا يثيب الشاعر إلا ليستصلحه، كما كانوا يقولون في لغة ذلك الزمان؛ أي ليتخذه نصيرًا له عسى أن ينفعه يومًا في مجالس الخلفاء والأمراء بكلمة يقضي بها مأربًا، أو يكبت عدوًّا، أو بحيلة يقرب بها بعيدًا، أو يبعد قريبًا، وأين يذهب ابن الرومي في هذا المجال؟ وماذا يرجو الممدوحون من تقريبه وهو رجل — كما كانوا يقولون — ممرور موسوس أدبه أكبر من عقله، ولسانه أطول من صبره؟ لقد كان صاحبنا صفرًا من هذه البضاعة، فلا جرم نراه يشكو تكبر الحجاب، ودسائس الندماء والأصحاب، ويُعطى القليل حين يجزل عطاء الآخرين، أو يثاب مرة ويحرم مرات؛ فقد بلغ من وكس حاله في هذا أنه كان يستجدي الكساء فيمطلونه، ويعود إلى الاستجداء فيعودون إلى المطل حتى يقول:

جعلتُ فداك لم أسألـ
ـك ذاك الثوب للكفن
سألتكه لألبسه
وروحي بعدُ في البدن

وبلغ من وكس حاله أن الممدوحين كانوا يقبلون شعره ولا يثيبونه؛ فإذا ألح في طلب المثوبة قالوا: خذ شعرك فامدح به غيرنا، كما فعل ابن المدبر حين قال فيه:

رددت عليَّ مدحي بعد مطلٍ
وقد دنست ملبسه الجديدا
وقلت: امدح به من شئتَ غيري
ومن ذا يقبل المدحَ الرديدا؟
ولا سيما وقد أعبقت فيه
مخازيك اللواتي لن تبيدا
وما للحي في أكفان ميت
لبوس بعدما مُلئت صديدا

وكان يصنع القصيدة ويتبعها خمس قصائد أو ستًّا ليحصل على جائزتها، فلا يحصل بعد الجهد على شيء، ويعجب لذلك ويأخذه الشك في شعره، فيقول:

عجبتُ لقوم يقبلون مدائحي
وينسون تئويبي، وفي ذاك معجب
أشعري سفساف فلم يجتبونه
وإن لا تكن هذي فلم لا أثوَّب؟

ولعله كان يتهم شعره أحيانًا فيقول:

الشعر كالعيش فيه
مع الشبيبة شيب
فليصفح الناس عنه
فطعنهم فيه غيب

أو يعتذر بالفاقة من السخف:

لا تلحني في المنطق السخيف
فإنني في حالة اللهيف
وأحوج الناس إلى رغيف

أو يقول:

قولا لمن عاب شعر مادحه
أما ترى كيف رُكِّب الشجرُ؟
رُكِّب فيه اللحاء والخشب الـ
ـيابس والشوك بينه الثمرُ
وكان أَولى بأن يُهذَّب ما
يخلق رب الأرباب لا البشرُ

ثم يعود إليه اعتداده بكلامه فيلقي الذنب على الناس لجهلهم بمعاني الكلام:

ما خمدت ناري ولكنها
ألفت قلوبنا نارها خامدة

أو يقول:

ما بلغت بي الخطوب رتبة من
تفهم عنه الكلاب والقِرَدهْ
وما أنا المنطق البهائمَ والطَّـ
ـير سليمان قاهر المَرَدهْ

أو يقول: إنهم بهائم لا يفهمون إلا البهائم:

بِحقِّهمُ إن باعدوني وقرَّبوا
سوايَ وتقريب المباعد أوجب
خفافيش أعشاها نهار بضوئه
ولازمها قطع من الليل غيهب
بهائم لا تصغي إلى شدْو معبد
وأما على جافي الغناء فتطربُ

ويخطر له حينًا أن الأمراء يحسدون شعره؛ لأنهم يقرضون الشعر فينفسون الجيد منه على الشعراء، ولا يبعد أن يكون ذلك صحيحًا كما قال:

قد بلينا في دهرنا بملوكٍ
أدباء علمتهم شعراء
إن أجدنا في مدحهم حسدونا
فحرمنا منهم ثواب الثناء
أو أسأنا في مدحهم أنبونا
وهجوا شعرنا أشد هجاء
قد أقاموا نفوسهم لذوي المد
ح مقام الأنداد والنظراء

وكان من هؤلاء محمد بن عبد الله الذي قال فيه:

إخالك إذ جوَّدت فيك مدائحي
منعت ثوابي حاسدًا لي على شعري
أتحسدني تجويد ريط نسجته
لتلبسه؟ يا للعجيب من الأمر!
تذكَّر — هداك الله — أني مادح
وأنك ممدوح فلا تعدُ بي قدري
ينافس في الشعر النظير نظيره
وجلَّ ملوكُ الناس عن ذلك النجر

فإذا لج به الغيظ واشتد عليه بلاء الحرمان من العمل والحرمان من المثوبة صرخ متعجبًا:

أذو آلةٍ فاستخدموني لآلتي
بقوتي وإلا فارزقوني مع الزَّمنَى

أي ارزقوني مع العجزة والسقماء. وهذه نهاية البؤس والخيبة، ونهاية الحيرة التي لا يهتدي فيها المسكين إلى سبب مريح، فلم يبق له من عزاء إلا أن يوقن أن الدنيا هكذا طبعت على ظلم العارفين، ومحاباة الأغبياء:

رأيت الدهر يرفع كل وغد
وبخفض كل ذي زنة شريفة
كذاك البحر يرسب فيه در
ولا تنفك تطفو فيه جيفة!

وكرر هذا المعنى في معارض شتى على قوافٍ مختلفة؛ لأنه سكن إليه ووجد فيه عزاءه ولو إلى حين.

وينبغي أن نذكر هنا شيئًا لا بد من ذكره في هذا المقام؛ لأنه لازم لإدراك حقيقة الغضب الذي كان يستولي على نفس الشاعر المحروم إذا أجاد المديح ولم يظفر بالعطاء؛ فقد كان حق الشاعر في العطاء معترفًا به يقبله الأمراء والوزراء، ويقره العرف، وتجري عليه القدوة، فنحن لا نعرف اليوم ذلك الحق للشاعر، ولا نستطيع لهذا أن ندرك غضبه وأسفه إذا حرم وتوالى عليه الحرمان. أما في عهد ابن الرومي، فغضبه من المنع وأسفه على فوات الربح من هذه المقاصد أمر لا غرابة فيه ولا اعتراض عليه، فالحكم عليه إنما يكون بمقياس أيامه لا بمقياس أيامنا التي لا يجب فيها البذل على ممدوح، ولا يجوز فيها الهجاء لشاعر محروم.

ومما ضاعف الاستخفاف بابن الرومي أنه كان متطيرًا غريب الأطوار لا يأخذه الناس مأخذ الجد، ولا يزال المعربدون منهم يتعمدونه بالعبث، ويتماجنون عليه؛ لشدة فرقه وانزعاجه من الفأل السيئ.

يضحك من كل ما بكيت له
كأن لذاته بآلامي

وكان بعضهم يصبِّحه بقرع بابه، فإذا سأله: من الطارق؟ قال: مرة بن حنظلة! فيمكث في بيته لا يريم عنه سحابة يومه! وكانوا يسوقون إليه رجلًا أحدب كريه الرؤية يقابله بوجهه إذا خرج من منزله؛ فيرتد على عقبه! وكانوا يجورون عليه بالعبث، فيتوعد فلا يحفلون، فيهجو ولكن بعد مصابرة وإعتاب، وكم قال لابن عروس:

يا ليت شعري وليت شعرك إن
قلت وقلنا واستحكم القذع
ما ينفع الصارم اللسان إذا
غودر يومًا وعرضه قطع
فارجع وبقيا أخيك باقية
واندم وفي الحلم فسحة تسع

أو كما قال لبني السمري:

يا بني السمري لا تجشموني
أن تثير القصيد كل دفين
قد تجاوزت ما تجاوزت عنكم
وتغاضت على قذاكم جفوني
لا يغرنكم بجهلي حلمي
وارعوائي إلى حيائي وديني
إن لين المهز في السيف أمضى
بغراريه في صميم الشئون

أو كما قال لغيرهم ولغيرهم من العابثين والماطلين الذين كانوا يضحكون مما يبكيه، ويتفكهون بما يحزُّ في قلبه ويدميه، فماذا أفاده العتاب، وماذا دفعت عنه الشكاية؟! لا شيء! لأن الأعراض هانت على أصحابها في ذلك العصر فلا يبالون المذمة إلا أن يكون فيها معنى الاجتراء على الجاه والقوة، وهم أحرى ألا يبالوها من شاعر كابن الرومي ليس أسهل عليهم من أن يقولوا عنه: إنه هذيان ممرور، فيضيق ذرعًا بهم ويهجو كالمدفوع إلى غير ما يحب، ويظهر ذلك منه في بعض القصائد كما يظهر من قوله:

لا يغضبن لعمرو من له خطر
فليس يرضى بظلمي من له خطر

كأن يقول: لقد صبرت على عمرو، فرضي الناس بظلمه إياي، فإذا هجوته أنا الآن فما يحق لذي خطر أن يغضب له وهو منصف بيني وبينه.

وقد يعترف بالوسواس على نفسه، ولكنه يرده إلى سوء حظه وإجحاف الأيام به كما قال حين رماه الناشئ بالوسواس:

إنْ أُوَسوَسْ فحقيق
يسعد القردُ وأُنحَسْ!
أصبح الناشئ ممن
يتغنى وهو أخرسْ
نافقًا عند أناسٍ
تعسوا والدهر أتعسْ
ته على الدنيا وقل ما
شئت واظلم وتغطرسْ
لم يُقدَّس منك شيءٌ
ولك الجد المقدسْ
كيف لا يشتد وسوا
سي وأشعارك تدرسْ؟!
وضياء الشمس لا يقـ
ـبس والظلماء تقبسْ؟!

فإذا عبث به العابثون وتحدثوا بنحسه لم يَسرَّه ذاك، وحق له ألا يُسرَّ به، وقال مناجزًا:

زعمت بأنني نحس وأني
مجيبك معلنًا لا أتقيكا

وانطلق يصخب ويثلب وهو — في رأيه — معذور في ذلك الجرم، الذي جنوه عليه قبل أن يجنيه عليهم، ومعذور حتى من الحسد الذي كان لا يداريه ولا ينكره، ولكن يقول في التماس المعذرة له:

لا تلومنَّ حاسدًا، ألم النفـ
ـس من النخس — يا أُخَيَّ — شديد

وزد على ذلك فجائعه في بنيه وأحبابه واحدًا بعد واحد وهو أحوج ما يكون إلى معونتهم وعطفهم بين قوم كأنه غريب فيهم لا يفهمهم ولا يفهمونه، وزد عليه طمع الناس فيه حتى كانت تسلبه ملكه الزهيد امرأة، كما جاء في بعض شعره، ويغصبه منزله الذي يسكنه تاجر يستهين به وبما عسى أن يصنع.

وراغمني فيما أتى من ظلامتي
وقال لي: اجهد فيَّ جهد احتيالكا
فما هو إلا نسجك الشعر سادرًا
وما الشعر إلا ضلة من ضلالكا

لهذا وأمثاله كثرت أهاجي ابن الرومي واشتد إقذاعه، وكان الذين يمدحهم بالأمس هم الذين يثلبهم بعد ذاك، يكاد لا يفصل المدح عن القدح فاصل، أو يكاد يكون المدح والقدح متواليين في صفحات الديوان؛ لأن الديوان مرتب على حسب الحروف لا على حسب التواريخ والموضوعات، ولو أننا نصبنا ميزان العدل لكان ابن الرومي ملومًا على المدح أضعاف لومه على الهجاء؛ فقد كان يكذب حين يمدح ويتوسل، ولم يكن يكذب حين يهجو وينتقم، وراجع ترجمة المهجوين في قصائدهم تجدهم كلهم أو أكثرهم لصوصًا، لا ينقضي على أحدهم في المنصب أشهر أو سنوات حتى يعمر بيته بالمنهوب المسلوب من أرزاق الرعية الضعفاء، ثم لا تنقضي فترة أخرى حتى يسلط عليه لصوص أكبر منه، فينكبونه ويستصفون أمواله كأنهم تغافلوا عنه ريثما يجمع لهم تلك الأموال. وإن في كتب التاريخ لسوءات لهم غير هذه، وآثامًا جسامًا لا يقال فيها: إنها تخرص شاعر مغبون، أو افتراء خصم متهم بالأقاويل، فإن كان الصدق عذرًا للثالب الصادق، فعذر ابن الرومي في التشهير والتجريح أوجه من عذره في الإطراء والمديح.

وقد اشتهر بالهجاء وأصبح له سلاحًا لازمًا وقدرة معروفة بين شعراء عصره، فراح يلوح به كما يلوح المهدد بسلاحه، ويعجب به كما يعجب الفنان بعمله، ولو عوفي في نفسه ورزقه لما بقي له من الهجاء إلا ناحيته هذه الفنية، وألاعيبه الصبيانية؛ فإنه على كل حال لم يحتقب قط من أدواته النية الخبيثة والطبع الشرير، أو هو على حد قوله:

لو أروض الشيطان أذعن كالكلـ
ـب، أو العود عضه الكلوب٢٢
ولما ذاك أنني الرجل الشر
ير مني الخنا ومني الوثوب
بل لديَّ الإنصاف يشفعه الإحـ
ـسان ما قارب الألدُّ الشَّغوب

ونعود فنقول: لو كان الرجل أكثر شرًّا لكان الناس أكثر اتقاءً له واجتنابًا لكيده، فقلَّت دواعيه إلى سوء المقال، وأعفى أعراضهم وأعفى لسانه فأراح واستراح.

هو وشعراء عصره

عاصر ابنَ الرومي في بيئته كثيرٌ من الشعراء، أشهرهم في عالم الشعر: الحسين بن الضحاك، ودعبل الخزاعي، والبحتري، وعلي بن الجهم، وابن المعتز، وأبو عثمان الناجم.

وليس لهؤلاء ولا لغيرهم ممن عاصروه وعرفوه، أو لم يعرفوه، أثر يذكر في تكوينه غير اثنين، فيما نظن؛ هما: الحسين بن الضحاك ودعبل الخزاعي.

فقد كان ابن الرومي معجبًا بالحسين يروي شعره، ويستملح أخباره، ويذكرها لأصحابه، وكان ابن الرومي يافعًا يحضر مجالس الأدب، ويتلقى دروسه، والحسين في أوج شهرته يتناشد أشعاره أدباء الكوفة وبغداد ومدن العراق؛ حدث محمد بن الفضل الأهوازي قال: سمعت علي بن العباس الرومي يقول: حسين بن الضحاك أغزل الناس وأظرفهم. فقلت: حين يقول ماذا؟ فقال: حين يقول:

يا مستعير سوالف الخشف
اسمع لحلفة صادق الحلف
إن لم أصح ويلي ويا حربي
من وجنتيك وفترة الطرف
فجحدت ربي فضل نعمته
وعبدته أبدًا على حرف

هكذا جاء في كتاب الأغاني. وجاء فيه أيضًا عن ابن الرومي أنه قال:

«أنشدنا أبو العباس ثعلب قال: أنشدني حماد بن المبارك صاحب حسين بن الضحاك قال: أنشدني حسين لنفسه:

لا وحبيك لا أُصا
فح بالدمع مدمعا
من بكى شجوه استرا
ح وإن كان موجعا
كبدي من هواك أسـ
ـقم من أن تقطعا
لم تدع سورة الضنى
فيَّ للسقم موضعا

قال ابن الرومي: ثم قال لنا ثعلب: ما بقي مَن يُحسن أن يقول مثل هذا.»

وروى عنه كتاب الأغاني روايات أخرى من هذا القبيل تدل كلها على الإعجاب والاستملاح، ومثل ابن الرومي يعجب بشعر الحسين الأنيق الظريف المطبوع، ولكنه لا يمتزج بطريقته ولا يتزيَّا بزيِّه؛ لأن طريقة الأناقة والصقل غير طريقة الإمعان والنفاذ التي طبع عليها ابن الرومي، فأنت تلمح أثر هذا الإعجاب في أبيات من شعر ابن الرومي كقوله:

يا وجنتيه اللتين من وهج
في صدغيه اللذين من دعج

فتعلم أنه نظم هذا البيت وهو يذكر صيحة ابن الضحاك من «وجنتي صاحبه وفترة طرفه.»

أو كقوله:

عيني شحا ولا تسحا
جلَّ مُصابي عن البكاء
ترككما الداء مستكنا
أصدق عن صحة الوفاء

فتعلم أنه نظمه وهو يذكر الأبيات التي روى في أولها لابن الضحاك:

لا وحبيك لا أصا
فح بالمدمع مدمعا
من بكى شجوه استرا
ح وإن كان موجعا

وابن الضحاك يقول:

كأنما نصب كأسه قمر
يكرع في بعض أنجم الفلك

وابن الرومي يقول:

فكأنها وكأن شاربها
قمر يقبل عارض الشمس

فهو كان معجبًا بظرائف ابن الضحاك ملتفتًا إليها، ولكنه لم يخرج عن طريقته التي طبع عليها، ولم يزد في إعجابه على أن يقتبس منه بعض الخطرات الرشيقة، وهو شيء غير اقتباس الطريقة والتشابه في السليقة.

وقد مات الحسين بن الضحاك وابن الرومي في التاسعة والعشرين، ولم نر في تاريخه ولا في تاريخ الحسين ما يشير إلى تلاقيهما في بغداد، حيث عاش ابن الرومي معظم حياته، أو في غير بغداد حيث كان يرحل ابن الضحاك.

أما دعبل فابن الرومي عارضه في موضعين؛ أحدهما: القصيدة الطائية التي نظمها دعبل حين اتهم «خالدًا» بسرقة ديكه وإطعامه لضيوفه، وقال في مطلعها:

أسر المؤذِّن خالد وضيوفه
أسر الكمي هفا خلال الماقط
بعثوا إليه بنيهم وبناتهم
ما بين ناتفة وآخر سامط
يتنازعون كأنهم قد أوثقوا
خاقان أو هزموا كتائب ناهط
أكلوه فانتزعت به أسنانهم
وتهشمت أقفاؤهم بالحائط

فزاد ابن الرومي فيها وأطالها، وبلغ بها نيفًا وستين بيتًا، وغيَّر بعض ألفاظها، فمما قال في معارضته وتمثل فيه كل مزاجه وملاحظاته:

طبخوه ثم أتوا به قد أبرمت
أوتاره لمنادف ومرابط
متجملًا لدجاجه متجلدًا
كتجلد المجلود بين ربائط
ولقد رمته يوم ذلك قدرهم
بغطائط من غليه وغطامط
حملوا عليه كل ماء عندهم
وفرات كوفتهم ودجلة واسط
وآهًا لذاك الديك بين مساقط
منه عهدناها وبين ملاقط
قوام أسحار مؤذن حارة
«وصال» زوجات كمي مآقط
ينفي مناعسه بنفس شهمة
ويشاهد الهيجا بجأش رابط

والموضع الآخر الذي عارض فيه دعبلًا أبيات ثانية، قال دعبل في مطلعها:

أتيت ابن عمرو فصادفته
مريض الخلائق ملتاثها

فعارضها ابن الرومي وزاد عليها من أبيات:

قواف أبي الوغد إبريزها
فأخرجت للوغد أخباثها
أوابد قد أخنست قبله
كهول الرجال وأحداثها
… … … … …
… … … … …
ولا جرم لي إن أساءت جنا
ه مزرعة كان حراثها

ونشأ ابن الرومي ودعبل كذلك شاعر واسع الشهرة، جذاب السيرة؛ لغرابة أخلاقه ومخاطرته وتطويفه في الآفاق، مستحسن الشعر بين من يؤثرون الفحولة اللغوية، مفضل على المحدثين من طبقته، كما قال البحتري — وكان يتعصب له: «دعبل بن علي أشعر عندي من مسلم بن الوليد؛ لأن كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم، ومذهبه أشبه بمذاهبهم.» وكان دعبل فيما عدا ذلك متشيعًا لآل علي غاليًا في تشيعه، فجذب ذلك كله نفس ابن الرومي الفتى نحوه، وحبب إليه محاكاته ومجاراته، وربما كانت الرغبة في مجاراته إحدى دواعيه إلى الهجاء.

ومات دعبل وابن الرومي في الخامسة والعشرين ولا نعلم أنهما تعارفا أو كان بينهما لقاء.

هذان هما الشاعران اللذان عاصرا ابن الرومي، وكان لهما أثر يذكر في تكوينه، أما الآخرون فالثابت أنه كان على معرفة وصحبة مع اثنين منهما، وهما: البحتري وأبو عثمان الناجم، وعرف البحتري في بيت الناجم، وكان هذا صديقًا له بقي على صداقته إلى يوم وفاته، وراويةً يحفظ شعره وأخباره، ويجري على طريقته في بعض تشبيهاته، فسأله البحتري أن يعرفه إلى ابن الرومي ففعل، وجرت بين الشاعرين صحبة غير طويلة ولا وثيقة؛ لأن البحتري كان يدل على ابن الرومي بمكانه من الخلفاء والأمراء، وكان ابن الرومي لا يطيق الصبر على ذلك، فهجاه وعاب شعره واتهمه بالسرقة، فمن قوله فيه:

قبحًا لأشياء يأتي البحتري بها
من شعره الغث بعد الكد والتعب
كأنها حين يصغي السامعون لها
ممن يميز بين النبع والغرب
رقى العقارب أو هذر البناة إذا
أضحوا على شعف الجدران في صخب
وقد يجيء بخلط فالنحاس له
وللأوائل ما فيه من الذهب
… … … … …
… … … … …
عبد يغير على الموتى فيسلبهم
حر الكلام بجيش غير ذي لجب
ما إن يزال تراه لابسًا حللًا
أسلاب قوم مضوا في سالف الحقب

ثم عاد يذكره أيام رضاه ومودته، والفرق بين مسالمته وحربه، ويقول له بعد إقذاع كثير:

يا بحتري لقد أقبلت منقلبا
يوم اكتسبت هجائي شر منقلب
… … … … …
… … … … …
قد كنت تعرف مني في الرضى رجلًا
حلو المذاقة، فاعرفني لدى الغضب
تعرف فتى فيه طورًا مجتنى سلع
للمجتنين وطورًا مجتنى رطب

ونظن أن المنافسة بينهما لم تكن وحدها سبب هذا الهجاء، وإنما آنس ابن الرومي إغراء من العلاء بن صاعد بالبحتري؛ لأنه خاطبه في هذه القصيدة بما يظهر منه أن العلاء كان يستضعف هجاء الشعراء للبحتري، ويبحث عمن يشدُّ عليه ويُفحمه كما يؤخذ من هذا البيت:

أراك لم ترض ما أهدى له نفر
من شتم أم لئيمٍ خيمها وأب

فأرضى ابن الرومي نفسه وأرضى العلاء بهجائه، وكان رد البحتري عليه ما علم القراء من إهدائه تخت المتاع وكيس الدراهم، وإبلاغه «أن الهدية ليست تقية منه، ولكن رقة عليه؛ لأنه لم يحمله على ما فعل إلا الفقر والحسد المفرط.»

عرف ابن الرومي البحتري وابن الرومي شاعر مشهور بالافتنان في المعاني، والقدرة على الهجاء، وكان البحتري يحب مجاراته في بعض قصائده، فقال له في أول لقاء بينهما: إنه عزم على أن يعمل قصيدة على وزن قصيدته الطائية في الهجاء، فنهاه ابن الرومي عن ذاك؛ لأنه ليس من عمله، فإذا كان بينهما اقتباس أو معارضة؛ فالبحتري هو المقتبس، وهو الراغب في المعارضة، على أننا لا نخاله استعار من ابن الرومي شيئًا يزيده في مذهبه الذي نبغ فيه؛ لأنهما نمطان متباينان، ولكل منهما اعتداد بنفسه يكفيه ويغنيه.

أما علي بن الجهم — المتوفى سنة ٢٤٩ﻫ — فقد كان بينه وبين ابن الرومي برزخ واسع من اختلاف المذهب في الدين والشعر، فابن الرومي متشيع وابن الجهم ناصبي يذم عليًّا وآله، «ولا يلتقي الشيعي والناصبي» كما يقول ابن الرومي، وكان ابن الجهم شديد النقمة على المعتزلة، وعلى «أهل العدل والتوحيد» منهم خاصة؛ يهجوهم، ويدس لهم، ويقول في زعيمهم أحمد بن أبي دؤاد:

ما هذه البدع التي سميتها
بالجهل منك العدل والتوحيدا؟!

وابن الرومي كان مر بك من هذه الجماعة، فمذهبه في الدين ينفره من ابن الجهم، ولا يرغبه في مجاراته ولو تشابها فيما عدا ذلك من المزاج والنزعة. لقد يهون هذا الفارق ويسهل على ابن الرومي الإغضاء عنه وهو ناشئ يتلمس القدوة، ويخطو في سبيل الشهرة، ولكنك تقرأ شعر ابن الجهم في فخره ومزاحه، فيخيل إليك أنك تقرأ كلام جندي يتنفج أو يعربد؛ لخلوه من كل عاطفة غير عواطف الجند الذين يقضون أوقاتهم بين الفخر والضجيج واللهو والسكر، وليس بين هذه الطبيعة وطبيعة ابن الرومي مسرب للقدوة، أو للمقاربة في الميل والإحساس، ولا كان في شعر ابن الجهم شيء يشعر مثل ابن الرومي أنه يقتدي به ويحتاج إلى مجاراته، فيميل به هذا الشعور إلى الإعجاب بالشاعر الذي أبعده عنه المذهب والمزاج.

•••

وقد ولد ابن المعتز في سنة سبع وأربعين ومائتين، فلما أيفع وبلغ السن التي يقول فيها الشعر، كان ابن الرومي قد جاوز الأربعين أو ضرب في حدود الخمسين، ولما نبغ واشتهر له كلام يروى في مجالس الأدباء كان ابن الرومي قد أوفى على الستين، وفرغ من التعلم والاقتباس، ولو انعكس الأمر وكان ابن المعتز هو السابق في الميلاد لما أخذ منه ابن الرومي شيئًا، أو لكان أفسد سليقته بالأخذ عنه؛ لأن ابن المعتز إنما امتاز بين شعراء بغداد في عصره بمزاياه الثلاث، وهي: البديع والتوشيح، والتشبيه بالتحف والنفائس، وابن الرومي لم يرزق نصيبًا معدودًا من هذه المزايا، ولم يكن قط من أصحاب البديع وأصحاب التوشيح، أو أصحاب التشبيهات التي تدور على الزخرف، وتستفيد نفاستها من نفاسة المشبهات.

ويجوز أن الشاعرين لم يتعارفا ولم يتلاقيا في مجلس؛ لأن ابن الرومي كان قليل الغشيان جدًّا للمجالس التي كان يحضرها الخلفاء وولاة العهود، فضلًا عن تفاوت السن والخطة، وفضلًا عن سبب آخر قد يكون من موانع اللقاء بينهما، وهو أن ابن الرومي هجا المعتز ومدح المستعين حين تنازعا الخلافة وتقاتلا عليها، وكان ابن الرومي من حزب المستعين؛ لأن بغداد كانت معه، وهي وطن ابن الرومي، ومحمد بن عبد الله بن طاهر كان ينصر المستعين، وهو يومئذ أكبر ممدوحيه، ونحن نذكر هذا السبب الأخير للإحاطة به ولا نعيره كبير التفات؛ لأن ابن المعتز كان طفلًا رضيعًا حين تقاتل أبوه وعمه، ولا يحتمل كثيرًا أنه وعى بعد ذلك كل ما قاله ابن الرومي في تلك الأيام.

ممدوحوه

لابن الرومي ممدوحون كثيرون يزيدون على الأربعين، يطول بنا البحث ولا ننتهي إلى غرض يفيدنا فيما نحن فيه لو أننا أجملنا تواريخهم إجمالًا سريعًا، بله التفصيل والإنعام، ولو كان للمدح في زمن ابن الرومي بواعث نفسية غير طلب العطاء لوجب أن نعنى بتراجم الأشخاص الذين حركوا في نفس الشاعر تلك البواعث، واستحقوا منه إكباره وثناءه؛ لأن العناية بتراجمهم في هذه الحالة عناية بالشاعر نفسه، وبواعث نظمه، ومعايير وصفه وثنائه، ولكن الشعراء كانوا يمدحون ولا يقصدون من المدح إلا الإرضاء والتفنن في معاني التعظيم، فمن العبث أن نحصي هنا تراجم لا تزيدنا علمًا بالشاعر، وليس العلم بها لذاتها مقصودًا في هذا المقام، وحسبنا أن نلم بتاريخ الأسرتين اللتين خصهما الشاعر بمعظم مدائحه، وكانت له صلة طويلة بهما، وعلاقات مذكورة في ترجمة حياته، وهما أسرة آل طاهر وأسرة آل وهب، وكلاهما من أكبر الأسر التي عرفت في تاريخ الوزارة والقيادة في الدولة العباسية.

•••

فآل طاهر أسرة قديمة تنتسب إلى أمراء الفرس الأولين، ويذكر منها في عالم الحرب والأدب والنجدة أفراد كثيرون، وأول من نبغ منها واشتهر في عهد بني العباس: طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق بن ماهان. أسلم جده رزيق على يد عبيد الله طلحة الطلحات الخزاعي، والي سجستان، فنُسب إليه ولقب بالخزاعي لهذا السبب، لا لانتمائه إلى قبيلة خزاعة من جهة النسب.

وقد ولد طاهر بقرية بوشنج من أعمال «مرو» سنة تسع وخمسين ومائة؛ حيث كان جدُّه مصعبٌ واليًا يتولى أعمال مرو مع أعمال هراة، ثم كان الخلاف بين الأمين والمأمون، فأبلى طاهر في خدمة المأمون — الفارسي الأم — أحسن بلاء، وأخلص له، ونصح في ولائه وتوطيد ملكه، فولاه خراسان وأطلق يده فيها، فأصبحت دولة طاهرية مستقلة في حكومتها لا تربطها ببغداد إلا خطبة المنبر، وقيل: إن طاهرًا قطع الدعاء للخليفة يومًا فسمَّه خادم معه كان موكلًا به من قبل المأمون، فأصبح ميتًا.

وكانت لآل طاهر مع ولاية خراسان ولاية الشرطة في بغداد، وهي من الولايات النافعة لذوي النفود، فاجتمعت لهم أسباب القوة بين العاصمة وذلك الإقليم الخطير الشأن في حياة الدولة العباسية.

وولد لطاهر ابنه عبد الله، فنشأ في رعاية المأمون نشأة فاضلة، وشابه أباه في النجدة والإقدام، وبذه في الأدب والمروءة. تولى مصر، وأعطاه المأمون مال خراجها وضياعها لسنة، فوهبه كله وفرَّقه في الناس، ورجع صفرًا من ذلك، فغاظ المأمون فعله، فدخل إليه يوم مقدمه فأنشده أبياتًا قالها في هذا المعنى، وهي:

نفسي فداؤك والأعناق خاضعة
للنائبات أبيًّا غير مهتضم
إليك أقبلت من أرض أقمت بها
حولين بعدك في شوق وفي ألم
أقفو مساعيك اللاتي خصصت بها
حذو الشراك على مثل من الأدم
فكان فضلي فيها أنني تبع
لما سننت من الإنعام والنعم
ولو وكلت إلى نفسي عييت بها
لكن بدأت فلم أعجز ولم ألم

«فضحك المأمون وقال: والله ما نفست عليك مكرمة نلتها، ولا أحدوثة حسن عندها ذكرك، ولكن هذا شيء إذا عوَّدته نفسك افتقرت، ولم تقدر على لمِّ شعثك وإصلاح حالك. وزال ما كان في نفسه.» ويقال: «إن البطيخ العبدلاوي» المعروف بمصر منسوب إليه، ولعله نسب إليه لأنه كان يستطيبه كما يقول ابن خلكان.

ولعبد الله شعر جزل وتلحين جيد، وهو القائل: «ينبغي أن يبذل العلم لأهله ولغير أهله؛ فإن العلم أمنع لنفسه من أن يصير إلى غير أهله.» ومن كلامه: «سمن الكيس ونبل الذكر لا يجتمعان.»

ومحمد بن عبد الله هذا هو الذي أدركه ابن الرومي ومدحه، وظن أنه ينفس عليه شعره فقال له:

أتحسدني تجويد ريط نسجته
لتلبسه؟ يا للعجيب من الأمر!
تذكر — هداك الله — أني مادح
وأنك ممدوح، فلا تعدُ بي قدري

ونحسب أنه لم يظلمه؛ لأنه تعود أن ينظر في شعر مادحيه نظرة الناقد المتعصب: بعث إليه حاجبه محمد بن أبي عون بأنوار من بستانه وريحان وكتب معه:

قد بعثنا بطيب الريحان
خير ما قد جني من البستان
قد تخيرته لخير أمير
زانه الله بالتقى والبيان

فوقع على ظهر رقعة:

عون يا عون قد ضللت عن القصـ
ـد وعُمِّيت عن دقيق المعاني
حشو بيتيك قد وقد، فإلى كم؟
قدَّك الله بالحسام اليماني٢٣

وكان محمد عظيم النفوذ في الدولة تميل الخلافة حيث يميل، نصر المستعين فرجحت كفته على أخيه المعتز، ودانت له بغداد وما وراءها، وأوشك أن يتفرد بالملك وحده، ثم ارتاب في المستعين فتخلى عنه، فلم يجد المستعين بدًّا من خلع نفسه، وتمت الغلبة عليه لأخيه، وينسب إليه أنه قال لما انهزم محمد بن خالد في بعض الوقائع بين جنود المستعين وجنود المعتز: «لا يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره!»

ومات محمد في ذي الحجة من سنة ثلاث وخمسين ومائتين؛ أي حين كان ابن الرومي في الثانية والثلاثين، قال ابن الأثير: «في ليلة أربع عشرة من ذي الحجة انخسف القمر جميعه، ومع انتهاء خسوفه مات محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، وكانت علته التي مات بها قروحًا أصابته في حلقه ورأسه فذبحته، وكانت تدخل فيها الفتائل، ولما اشتد مرضه كتب إلى عماله وأصحابه بتفويض ما إليه من الولاية إلى أخيه عبيد الله بن طاهر، فلما مات تنازع ابنه طاهر وأخوه عبيد الله الصلاة عليه، فصلى عليه ابنه، وتنازع عبيد الله وأصحاب طاهر حتى سلوا السيوف ورموا الحجارة، ومالت العامة مع أصحاب طاهر، وعبر عبيد الله إلى داره بالجانب الشرقي، فعبر معه القواد لاستخلاف محمد، فكان أوصاه على عماله، ثم وجه المعتز بعد ذلك الخلع إلى عبيد الله، فأمر عبيد الله للذي أتاه بالخلع بخمسين ألف درهم.»

وعبيد الله هذا كان شاعرًا كأخيه وأبيه وأكثر أفراد أسرته، وكان يقاول البحتري ويناجزه، وهو الذي نظم ديوانًا على الحرف في شكر العلاء صاعد، فعهد العلاء إلى ابن الرومي بالرد عليه، وهو القائل:

إن الأمير هو الذي
يبقى أميرًا بعد عزله
إن زال سلطان الولا
ية لم يزل سلطان فضله

وكان كأخيه محمد في نقد الشعر ولا سيما إذا مُدح به غيره، فهو الذي سمى قصيدة ابن الرومي النونية في مدح إسماعيل بن بلبل بدار البطيخ لكثرة ما ذُكر فيها من أسماء الفاكهة، فظرف في النكتة وإنْ لم ينصف في نقد القصيدة.

وقال ابن خلكان في ترجمته: «… كان عبيد الله المذكور أميرًا وَلِيَ الشرطة ببغداد خلافةً عن أخيه محمد بن عبد الله، ثم استقل بها بعد موت أخيه، وكان سيدًا، وإليه انتهت رآسة أهله، وهو آخر من مات منهم رئيسًا، وله من الكتب المصنفة: كتاب الإشارة في أخبار الشعراء، وكتاب رسالة في السياسة الملوكية، وكتاب مراسلاته لعبد الله بن المعتز، وكتاب البراعة والفصاحة وغير ذلك، وحدث عن الزبير بن بكار وغيره، وكان مترسلًا شاعرًا لطيفًا، حسن المقاصد، جيد السبك، رقيق الحاشية، ومن شعره ما ذكره ابن رشيق في كتاب العمدة، في باب الاستطراد، قال: ومن الاستطراد نوع يسمى الإدماج، ونحو ذلك قول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر لعبيد الله بن سليمان بن وهب حين وزر للمعتضد:

أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا
وأسعفنا فيمن نحب ونكرم
فقلت له: نعماك فيهم أتمها
ودع أمرنا؛ إن المهمَّ المقدم

… وله ديوان شعر، ونقتصر من نظمه على هذا القدر، وكانت ولادته سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وكانت وفاته ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثلاثمائة ببغداد …»

ولعبيد الله أخ يسمى سليمان هو الذي هجاه ابن الرومي لأنه أخلف رجاءه في رد داره، وكانت بينه وبين عبيد الله قطيعة وملاحاة شديدة، ثم اصطلحا، فخلد ابن الرومي هذا الصلح في قصيدة دالية اقتبسنا منها فيما تقدم بعض أبيات.

وانتهت إلى عبيد الله رآسة قومه كما قال ابن خلكان، إلا أن دولتهم في خراسان ذهبت منهم في أيامه، واستولى عليها في سنة تسع وخمسين ومائتين ذلك المخاطر الجريء يعقوب بن الليث الملقب بالصفار من الصفر؛ لأنه كان في صباه تاجرًا فقيرًا يعمل في النحاس، واقتصرت ولاية عبيد الله وسطوة قومه على الشرطة في بغداد، فكان هذا أول بوادر الزوال في ذلك البيت المجيد، ولحق ابن الرومي من ذلك ما لا بد أن يلحقه منه، فضلًا عن حسبانه عليه من عثرات جده ودلائل شؤمه!

•••

أما أبناء وهب فكانوا أهل كتابة لا شأن لهم بالحرب وقيادة الجيوش، جاء في الفخري أنهم كانوا «من قرية من أعمال واسط، وكانوا نصارى ثم أسلموا.»

وعملوا في الكتابة من مبدأ الدولة الأموية، ثم حظوا عند العباسيين فاشتهر منهم اثنان هما: الحسن بن وهب بن سعيد وأخوه سليمان.

وكان الحسن كاتبًا شاعرًا ولَّاه محمد بن عبد الملك الزيات ديوان الرسائل، ومدحه أبو تمام فولاه البريد في الموصل، وكانت بينه وبين أبي تمام صداقة، فلما مات هذا رثاه بقصيدة يقول منها:

فإن تراب ذاك القبر يحوي
حبيبًا كان يدعى لي حبيبا
لبيبًا شاعرًا فطنًا أديبًا
أصيل الرأي في الجلَّى أريبا
إذا شاهدته رواك فيما
يسرك رقة منه وطيبا
أبا تمام الطائي إنا
لقينا بعدك العجب العجيبا
فقدنا منك قرمًا لا نرانا
نصيب له مدى الدنيا ضريبا

ولم يزل الحسن مقربًا مجددًا حتى نكبه المتوكل مع ابن الزيات في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.

وأخوه سليمان كتب للمأمون وهو في الرابعة عشرة، حدث ابنه عبيد الله عنه أنه قال: «كان مبدأ سعادتي أني كنت وأنا صبي بين يدي محمد بن يزداد وزير المأمون — وكنا جماعة من الصبيان بين يديه — إذا راح الليل إلى داره بات واحد منا في دار المأمون بالنوبة لمُهمٍّ عساه يَعرِض في الليل، وكانت ليلة نوبتي فخرج خادم وقال: ها هنا أحد من نواب محمد بن يزداد؟ فقال الحجاب له: نعم! ها هو ذا، فأدخلني إلى المأمون، فقال لي: اعمل نسخة في المعنى الفلاني، ووسع بين سطورها، وأحْضِرْها لأُصلِح منها ما أُريد إصلاحه، قال: فخرجت سريعًا وكتبت الكتاب بغير نسخة وبيضته وأحضرته إليه، فلما رآني قال: كتبت النسخة؟ قلت: بل كتبت الكتاب، فقال: بيضته! قلت: نعم، فزاد في نظره إليَّ كالمتعجب مني، فلما قرأه تبينت الاستحسان على وجهه ورفع رأسه إليَّ وقال: ما أحسن ما كتبت يا صبي! ولكن أريد أن تقدم هذا السطر وتؤخر هذا السطر. وخطَّ عليهما بقلمه، فأخذت الكتاب وخرجت وجلست ناحية، ثم محوت السطرين وعملت ما أراد وجئته بالكتاب — وكان قد ظن أني أبطله وأكتب غيره — فلما قرأه لم يعرف مبدأ المحو فاستحسنه، وقال لي: يا صبي! لا أدري من أي شيء أعجب؟! أمن جودة محوك، أم من سرعة فهمك، أم من حسن خطك، أم من سرعتك؟! بارك الله فيك! فقبلت يده وخرجت، وكان ذلك أول علو منزلتي، وصار المأمون لا يَجري مُهمٌّ إلا قال: «هاتوا سليمان بن وهب».»

واستوزره المهتدي «ولقبه الوزير حقًّا؛ لأن من كان قبله كان غير مستحق للوزارة ولا مستقل بها.»٢٤ استكتبه يومًا عشرة كتب مختلفة إلى جماعة من العمال، فلما وضعت الكتب بين يديه قال له وقد قرأها: أحسنت يا سليمان، ونعم الرجل أنت لولا المعجل والمؤجل! وذاك أن سليمان كان إذا ولى عاملًا أخذ منه مالًا معجلًا، وأجَّل مالًا إلى أن يتسلم عمله … ونكبه الواثق وحبسه فقال — وفي هذا الشعر غناء:
نوائب الدهر أدبتني
وإنما يوعظ الأديبُ
قد ذقت حلوًا وذقت مرًّا
كذاك عيش الفتى ضروب
ما مَرَّ بؤس ولا نعيم
إلا ولي فيهما نصيب

ثم خرج من الحبس ليلة مات الواثق، ولكنه كان مطموعًا فيه لكثرة ماله، واشتهاره بالرشوة، فقبض عليه الموفق، ومات في حبسه سنة اثنتين وسبعين ومائتين، وقيل: سنة إحدى وسبعين … ولما قبض الموفق عليه وعلى ابنه عبيد الله تذاكر جماعة أنه إنما استكتبهما ليقف منهما على دخائل موسى بن بغا وودائعه، فلما استقصى ذلك نكبهما لكثرة ما لهما، فقال ابن الرومي وكان حاضرًا:

ألم ترَ أن المال يتلف ربه
إذا جم آتيه وسد طريقهُ
ومن جاور الماء الغزير مجمه
وسد مغيض الماء فهو غريقه٢٥

وسليمان بن وهب هو أبو عبد الله وجد القاسم، وكلاهما وزر للمعتضد وتلقى مدائح ابن الرومي الكثيرة، ولا سيما القاسم؛ فإنه كان له القسط الأوفر من جميع مدحه.

وكانت أول ولاية عبيد الله للوزارة في عهد المعتضد، ثم بويع المعتضد سنة تسع وسبعين ومائتين، فأقره على وزارته، ولبث فيها إلى أن مات سنة ثمان وثمانين ومائتين، وكان كاتبًا حاذقًا وسائسًا حصيفًا، وفيه يقول الشاعر:

إذا أبو قاسم جادت يداه لنا
لم يحمد الأجودان البحرُ والمطرُ
وإن مضى رأيه أو حد عزمته
تأخر الماضيان السيفُ والقدرُ
وإن أضاءت لنا أضواء غُرَّته
تضاءل النيِّران الشمسُ والقمرُ
من لم يبت حذرًا من حدِّ صولته
لم يدرِ ما المزعجان الخوفُ والحذرُ
ينال بالظن ما يعيا العِيان به
والشاهدان عليه العينُ والأثرُ
ويُروَى أنه «لما مات عزَم المعتضد على أن يستأصل شأفة أولاده، ويستصفي أموالهم، فحضر القاسم ابنه واستعان ببدر المعتضدي، وكتب خطابًا بألفَي ألف دينار فاستوزره المعتضد.»٢٦

قال صاحب الفخري: «كان القاسم بن عبيد الله من دهاة العالم ومن أفاضل الوزراء، وكان شهمًا فاضلًا لبيبًا محصلًا كريمًا مهيبًا جبارًا، وكان يطعن في دينه …»

وقال ابن خلكان: كان الوزير المذكور عظيم الهيبة، شديد الإقدام، سفاكًا للدماء، وكان الكبير والصغير منه على وجَل، لا يعرف أحدًا من أرباب الأموال إلا نقمه. وتُوفِّي سنة إحدى وتسعين ومائتين في خلافة المكتفي وعمره نيف وثلاثون سنة، وفي ذلك يقول عبد الله بن الحسن بن سعد:

شربنا عشية مات الوزير
سرورًا ونشرب في ثالثِهْ
فلا رحم الله تلك العظام
ولا بارك الله في وارثِهْ

وابن خلكان قد أخذ هذا الوصف من مروج الذهب للمسعودي، وفي هذا الكتاب أن القاسم قتل عبد الواحد عم الخليفة المكتفي، والخليفة يجهل ذلك ولا يريده، وكان القاسم يغريه به، «فوكل به من يراعي خبره، وما يظهر من قوله إذا أخذ الشراب منه، فسمع منه وقد طرب وهو ينشد شعر العتابي:

تلوم على ترك الغنى باهلية
طوى الدهر عنها كل طرفٍ وتالدِ

إلى أن يقول:

ذريني تجئني ميتتي مطمئنة
ولم أتجشم هول تلك المواردِ
فإن نفيسات الأمور مَشوبة
بمستودعات في بطون الأساود
وإن الذي يسمو إلى درك العلا
مُلقًّى بأسباب العلا والمكايد

فقال له بعض ندمائه وقد أخذ منه الشراب: يا سيدي، أين أنت مما تمثل به يزيد بن المهلب:

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
حياةً لنفسي مثل أن أتقدَّما

فقال له عبد الواحد: مه! لقد أخطأت الغرض وأخطأ ابن المهلب، وأخطأ قائل هذا البيت، وأصاب أبو فرعون التميمي حيث يقول:

وما بي شيء في الوغى غير أنني
أخاف على فخَّارتي أن تحطما
ولو كنت مبتاعًا من السوق مثلها
لدى الروع ما باليت أن أتقدما

فلما انتهى ذلك إلى المكتفي ضحك وقال: قد قلت للقاسم: ليس عمي عبد الواحد ممن تسمو همته إليها … أطلقوا لعمي كذا وكذا. فلم يزل القاسم بعبد الواحد حتى قتله.»

وكان القاسم مكروهًا على خلاف أخيه الحسن الذي كان يحبه الناس ويحسنون الظن به، فلما مات الحسن قال أبو الحارث النوفلي:

قل لأبي القاسم المرزَّا
قابلك الدهر بالعجائب
مات لك ابن وكان زينًا
وعاش ذو الشين والمعايب
حياة هذا كموت هذا
فلست تخلو من المصائب

قال أبو بكر الصولي النديم: «وقد رأيت أبا الحارث هذا وكان رجلًا صدوقًا.»

ونظم آخر في هذا المعنى فقال:

قل لأبي القاسم المرزَّا
ونادِ يا ذا المصيبتين
مات لك ابن وكان زينًا
وعاش شين وأي شين
حياة هذا كموت هذا
فالطم على الرأس باليدين

ولكنَّ عبيد الله أباهما كان على رأي يخالف رأي الناس في ولديه، فكان يقدم القاسم ويهمل الحسن، حتى راجعه في ذلك ابن الرومي بقصيدة سبقت الإشارة إليها، ولعله رأى من دهاء ابنه القاسم وغدره أنه أصلح للحكم في ذلك الزمان، وعلم أن الخلق الكريم أداة لا تنفع في هذا الغرض، فأخَّر ابنه الحسن عن منزلة أخيه.

والقاسم هذا هو الذي أجمعت كتب التاريخ على أنه قتل ابن الرومي بالسم؛ لأنه أشفق من فلتات لسانه.

وفاته

يقول ابن خلكان في تاريخ وفاة ابن الرومي: «تُوفِّي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين، وقيل: أربع وثمانين، وقيل: ست وسبعين ومائتين، ودفن في مقبرة باب البستان.»

فأي هذه التواريخ صحيح؟

إن الذين جاءوا بعد ابن خلكان تابعوه في هذا الشك الذي لا مسوغ له اعتمادًا على روايته بغير بحث في شعر الشاعر، ولا في كتب المؤرخين الذين سبقوا ابن خلكان. ولا مسوغ لهذا الشك كما قلنا لأن ابن الرومي أثبت لنا أنه بلغ الستين، وعاش إلى ما بعد سنة ثمانين إذ يقول:

طربت ولم تطرب على حين مطرب
وكيف التصابي بابن ستين أشيب

فهو لم يمت في سنة ست وسبعين على التحقيق، ولا يظن أن الستين هنا تقريبية لضرورة الشعر، وأنها قد تكون خمسًا وخمسين أو ستًّا وخمسين، فإنه ذكر الخمس والخمسين في موضع آخر حيث قال:

كبرت وفي خمس وخمسين مكبر
وشبت فألحاظها ألمها عنك نُفَّر

وليس من المعروف عنه أنه كان يعيا بنظم ما يريد.

ولو راجع ابن خلكان كتاب مروج الذهب للمسعودي لعرف منه أن ابن الرومي كان حيًّا بعد ست وسبعين، فلا محل للقول بموته في تلك السنة؛ فقد جاء في تاريخ المعتضد من ذلك الكتاب أن قطر الندى بنت خمارويه وصلت إلى مدينة السلام مع ابن الجصاص في ذي الحجة،٢٧ سنة إحدى وثمانين ومائتين؛ ففي ذلك يقول علي بن العباس الرومي:
يا سيد العرب الذي زفت له
باليمن والبركات سيدة العجم

إلى آخر الأبيات. وهذا فضلًا عن مقطوعات أخرى نظمها الشاعر في العرس الذي احتفل به الخليفة سنة اثنتين وثمانين.

فمن المحقق إذن أن ابن الرومي تجاوز سنة ست وسبعين، ولم يبق لنا إلا أن نبحث في السنتين الأخريين؛ أي سنتي ثلاث وأربع وثمانين.

فعندنا تاريخ اليوم والشهر من أولاهما، وليس عندنا مثل ذلك من الثانية، وهذا مما يرجح وفاته في سنة ثلاث وثمانين دون أربع وثمانين.

ويقوي هذا الترجيح أن مضاهاة التواريخ تثبت لنا أن جمادى الأخرى من سنة ثلاث وثمانين بدأت يوم جمعة، فيكون يوم الأربعاء قد جاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى في تلك السنة، كما جاء في تاريخ الوفاة.

وقد ضاهينا هذا اليوم على التاريخ الأفرنجي، فوجدناه يوافق الرابع عشر من شهر يونيو، أي: يوافق إبان الصيف في العراق، وابن الرومي مات في الصيف كما يؤخذ من قول الناجم إنه دخل عليه في مرضه الذي مات فيه وبين يديه ماء مثلوج، فيجوز لنا على هذا أن نجزم بأن أصح التواريخ هو التاريخ الأول، وهو «يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين».

•••

والأقوال بعد ذلك مجمعة على موت ابن الرومي بالسم، وأن الذي سمَّه هو القاسم بن عبيد الله أو أبوه.

ولكن الروايات في هذا الخبر لا تخلو من ضعف واضطراب، فالرواية التي أوردها ابن خلكان تقول: «إن الوزير أبا الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، وزير الإمام المعتضد، كان يخاف من هجوه وفلتات لسانه بالفحش، فدسَّ عليه ابن فراش، فأطعمه خشكنانجة مسمومة وهو في مجلسه، فلما أكلها أحس بالسم، فقال له الوزير: إلى أين تذهب؟ فقال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه، فقال له: سلم على والدي! فقال له: ما طريقي على النار …»

وضعف هذه الرواية ظاهر؛ لأن عبيد الله بن سليمان مات في سنة ثمان وثمانين؛٢٨ أي بعد آخر تاريخ فرض لموت ابن الرومي بأربع سنوات، فكان حيًّا عند وفاة الشاعر، ولا معنى لأن يقول القاسم له: سلم على والدي. ووالده بقيد الحياة.

والرواية التي أوردها الشريف المرتضي في أماليه أصح من هذه الوجهة؛ لأنها تقول: إن عبيد الله كان حيًّا عند موت ابن الرومي، وإنه هو الذي أوعز بقتله، ولكنها تقول أيضًا: إنه قد اتصل «بعبيد الله بن سليمان بن وهب أمر علي بن العباس الرومي وكثرة مجالسته لأبي الحسين القاسم، فقال لأبي الحسين: قد أحببت أن أرى ابن روميك هذا. فدخل يومًا عبيد الله إلى أبي الحسين وابن الرومي عنده، فاستنشده من شعره فأنشده وخاطبه، فرآه مضطرب العقل جاهلًا، فقال لأبي الحسين بينه وبينه: إن لسان هذا أطول من عقله، ومن هذه صورته لا تؤمن عقاربه عند أول عتب، ولا يفكر في عاقبته، فأخرجه عنك، فقال: أخاف حينئذ أن يعلن ما يكتمه في دولتنا، ويذيعه في تمكننا، فقال: يا بني، إني لم أرد بإخراجك له طرده، فاستعمل فيه بيت أبي حية النميري:

فقلن لها سرًّا: فديناك لا يرح
سليما، وإلا تقتليه فألممي

فحدث القاسمُ ابنَ فراش بما جرى، وكان أعدى الناس لابن الرومي، وقد هجاه بأهاجٍ قبيحة، فقال له: الوزير — أعزه الله — أشار بأن يغتال حتى يُستراح منه، وأنا أكفيك ذلك. فسمَّه في الخشكنانج فمات … قال الباقطاني: والناس يقولون: ما قتله ابن فراش وإنما قتله عبيد الله.»

وضعف هذه الرواية ظاهر كذلك؛ لأن عبيد الله كان يعرف ابن الرومي سنوات، وقد مدحه ابن الرومي وتردد عليه وتشفع لديه بين ولديه، فلا حاجة به إلى أن يطلب رؤيته قبل موته ليختبره كما جاء في هذه الرواية. أما الأخبار الأخرى المنثورة في الكتب فهي مزيج مرتبك من هاتين الروايتين.

ويصعب علينا أن نستخلص الحقيقة من الخلف والاضطراب، فإذا قلنا: إن عبيد الله هو القاتل كما نقل الباقطاني، فيجوز على هذا الزعم أنه هو الذي قال له: سلم على والدي، وليس ولده القاسم، فينتفي بذلك موضع الضعف في الرواية الأولى، ولكننا ننفيه بفرض لا يجوز الاعتماد عليه.

وإذا أردنا أن نمزج بين الروايتين ونسقط منهما ما يجب إسقاطه، فالخلاصة منهما أن عبيد الله خاف هجاء ابن الرومي، فأوعز إلى ابنه أن يسمَّه؛ لأنه كان أقرب إلى مخالطته ومنادمته، ولا صحة لما بعد ذلك من حديث القاسم وابن الرومي، وإنما هو حديث غلبت فيه فكاهة القصة على صدق التاريخ.

•••

بين هذه الشبهات المتضاربة شبهة تعرض للذهن، ولا يجوز إغفالها في هذا المقام، وهي تبيح لنا أن نسأل: ألا يحتمل أن يكون حديث السم كله خرافة مخترعة لا أصل لها، وأن ابن الرومي مات ميتة طبيعية تشتبه أعراضها بأعراض التسمم المعروفة في زمانه؟ فمن كلام الناجم الذي زاره في مرض وفاته نعلم أنه كان يشكو من إلحاح البول، فلما لاحظ الناجم ذلك قال:

غدًا ينقطع البول
ويأتي الهول والغول

وأنه كان قد أعد ماء مثلوجًا؛ لأنه «قلما يموت إنسان إلا وهو ظمآن»، وكان يقول فيما روته الأمالي وهو يشرب ولا يروى:

وأراه زائدًا في حرقتي
فكأن الماء للنار حطب

والظمأ وإلحاح البول عرضان من أعراض «مرض السكر»، وهو مرض يحدث لصاحبه التسمم، ولا سيما بعد أكل الحلوى والإفراط فيها، وابن الرومي لم تكن تعوزه أسباب الإصابة به؛ لأنه كان منهومًا بالحلوى والأطعمة الثقيلة، مستسلمًا للشهوات، مسرفًا في الشراب مع ضعف أعصابه واعتلال جسمه، فمن الجائز أنه أصيب به فاشتد عليه في شيخوخته، وفصده الطبيب وفسد الجرح كما جاء في رواية زهر الآداب، فأودى ذلك بحياته، ويسهل في هذه الحالة أن يشيع حديث السم ولواحقه لما كان يعتري ابن الرومي من كثرة التوهم، أو لما كان مشهورًا عن القاسم من سوء الطوية والضراوة بالغدر والفتك، بحيث لا يكبر عليه قتل شاعر هجاه، فإذا كان الموت قد حدث بعد وليمة في بيت القاسم، فهذا مما يؤكد التهمة ويصعب على الناس أن يعللوه بغير السم والمكيدة، وإن كان الطعام وحده كافيًا للقضاء على رجل جاوز الستين في شيخوخة متهدمة مهملة، طالت إصابته بمرض دفين لم يكن علاجه ميسورًا في أيامه.

هذه شبهة تعرض للذهن بين مختلف الشبهات، وكل قيمتها عندنا أنها مما لا يصح إغفاله في تحقيق وفاة الشاعر، فهي احتمال كل ما فيه أنه غير مستحيل.

•••

أما أن القاسم كان أهلًا لأن يغدر بابن الرومي، وأن ابن الرومي كان عرضة لغضب ذلك الوزير الفاتك المغتال، فهو احتمال جد قريب، فالقاسم جريء مستخف بالدماء، وابن الرومي قانط سريع الغضب، وليس أيسر من أن ينسى القاسم رجلًا كابن الرومي حين أقبلت الدولة عليه وعلى أبيه وعلى آله، وتبدلت مجالسهم الأولى، وأخذوا في شأن من الصولة والأبهة غير شأنهم الذي كانوا فيه، وليس أيسر من أن يطمع ابن الرومي في عمل أو مرتب أو مكافأة تغنيه حين أقبلت الدولة على ممدوحيه وأصحابه بالأمس في أيام التطلع والانتظار. ومن هنا يبدأ الغضب فاللوم والوشاية، فالمبالغة في الجفاء فالهجاء من الشاعر، فالوعيد من الأمير الذي ليس بين وعيده وإنجازه عائق من خوف ولا لمحاسبة ضمير، وسلسلة القصائد التي تشفع بها ابن الرومي وسأل العمل واعتذر من أحاديث الوشاة سلسلة طويلة يسهل ترتيبها، لولا أنه لا فائدة من هذا الترتيب.

فحسبنا منها أن القاسم سمع الوشايات التي تحدث بها جلساؤه ومنافسو ابن الرومي والمحنقون عليه لهجائه، فأمعن في جفائه والإعراض عن توسلاته وشفاعاته، فلم يفلح ابن الرومي في استعطافه بمثل قوله:

بلغ البغاة عليَّ حيث أرادوا
والله كائدهم بما قد كادوا
وهو الشهيد على أني لم أقل
بعض الذي قد أبدءوا وأعادوا
وهَبِ السُّعاة أتوا بحق واضح
أين الكرام؟ أُبدِّلوا أم بادوا؟
… … … … …
… … … … …
عفو الملوك عن الهجاة مدائح
مدحوا نفوسهم بها فأجادوا

ولم يفلح في استعطافه بأضعاف هذا الكلام، وهو كثير.

وحسبنا منها أن القاسم كان يتوعد ابن الرومي بالقتل، فقال الشاعر يقابل بين ما وشى به السعاة إليه، وما وشوا به إلى القاسم:

تحدثت الأملاء أنك حابسي
على غير إجرام وأنك مغتالي
وما قيلُ إملاء الرجال وقالهم
بأسهل من قيلي عليك ومن قالي

ثم يستطرد إلى الترضي والاستعطاف:

إخالك لو عاينتني في حفيرتي
بكيت عظامي الباليات وأوصالي
وسرك أن أحيا كما كنت مرة
ببذل الفداء الجزل والثمن الغالي
فلا تجفني حيًّا ولا تبك رمتي
كمنصرف عني يسائل أطلالي

وتكرر وعيد القاسم بالقتل، فتكرر استعطاف ابن الرومي وتذكيره بسالف المودة:

أيقتلني من ليس لي منه ناصر
عليه، وأعواني عليه مكارمه؟
أبى ذاك أن الحكم بيني وبينه
وأن علو القدر فيَّ يخاصمه

وقد طالت السعايات وطال التوسل، حتى اجتمع من ذلك ديوان غير صغير في حجمه، ولا في معانيه وابتكاراته، وابن الرومي في كل ذلك لا يرى من القاسم إلا:

غضبًا ألح من السحاب الأسحم
ورضى أعز من الغراب الأعصم

فضاق صدره وجاهره بالهجاء، وأفرغ كل ما في جعبته من قذعٍ أخفُّه:

يا من إذا ما رأته عين والده
بين الرجال اتقاهم بالمعاذير
أقسمت بالله أن لو كنت لي ولدًا
لما جعلتك إلا في المطامير

وقال في آل وهب عامةً:

متى آل وهب يرتجي الري حائم
إذا كنتم ملاك سيل المحامد؟!

واتهمهم في إسلامهم؛ لأنهم كانوا قديمًا نصارى فأسلموا، فقال فيهم هذه القصيدة:

وأحييتم دين الصليب وقمتمُ
بتشييد «بيعات» وهدم مساجد
وإبطال ما كان الخليفة جعفر
تخيره زيًّا لكل معاند

يشير إلى إبطالهم زي أهل الكتاب الذي أمر به الخليفة المتوكل في أيام غلوائه ونقمته على أصحاب النحل جميعًا وقراء الفلسفة وعلم الكلام.

فليس من المنتظر بعد هذه القطيعة وهذا الهجاء أن يتورع القاسم عن قتل ابن الرومي إذا استطاعه، وهو مستطيعه كما استطاع قتل عم الخليفة بغير جريرة، ودبر لذلك تدبيره الذي لم يعلم به الخليفة إلا بعد موته، ومتى توعد القاسم بالحبس والقتل، فليس هو بالذي يتردد في إنجازه ووعيده، أو يعجز عنه، وليس ابن الرومي بالذي يتخذ الحيطة من مكيدة يراد بها، وهو يسأل القاسم عطفًا، وينخدع في ظواهره بغير عناء.

•••

وبقيت المرحلة بعد هذا قصيرة:

ذهب ابن الرومي إلى داره وهو يتوقع الموت ويتلمس الشفاء، و«لا مفر من الموت ولا من قضائه المحتوم.» كما قال، وغلط عليه الطبيب أو عزَّ عليه دواؤه، فكانت إصابة المقدار، فتلقاه الموت آخر الأمر كما تلقته الحياة نفسًا يساورها القلق، ويتوفز فيها الحس، ولا تزال من خوف الألم في ألم: اطمأنت إلى القضاء المحتوم اطمئنانها، وأبت أن تطمئن إلى آلامه وصرعاته، فاستحضرت المدية الرميضة تحاول أن تتعجل بها الموت إذا اشتدت عليها سكراته، وأبطأ نزوله، ولم تخش من ذلك عقاب الدين، وله عليها ذلك السلطان المرهوب، وللساعة عندها «هول دونه الهول»، وبعده حساب عسير لا شك فيه.

تلك خاتمة الترجمة التي استخرجناها من شعر ابن الرومي، وعثرنا فيها بتفاصيل ودقائق لا تستخرج من شعر شاعر غيره، فكأنما انتزعها من قبضة العدم انتزاعًا، وتشبث بها كما تشبث بالحياة، فغلب عليها إهمال التاريخ غلبًا … والفضل في ذلك لتلك الملكة الفنية التي خلقت لتحس وتُعبِّر عما تحسُّه، وتسجِّل تعبيرها في سجل الفنون، والتي أرهفتها الأسقام والآلام حتى أصبحت وسواسًا يبالغ في تحريه واستيفائه كما يبالغ كل وسواس في التوكيد والتقرير.

هوامش

(١) معجم الأدباء، الجزء السادس، ص٤٧٤.
(٢) جاء في ديوانه أنه قال الأبيات الآتية في هجو غلام هاشمي يسمى جعفرًا، وهي أول ما قاله:
أجعفر حزت جميع العيوب
فما فيك من خلة تمدح
كلامك أكذب من يلمع
يخيله بالضحى صحصح
وحلمك أطيش من ريشة
وروحك من هضبة أرجح
ووجهك من وجه يوم الفرا
ق في مقلتي عاشق أقبح
فما في حياتك لي مفرح
ولا في مماتك لي مترح
ونستعرب نحن أن تكون هذه الأبيات أول ما قال، ولكنا لا نستغرب أن يقولها في المكتب؛ لأنهم كانوا يمكثون فيه حتى يحفظوا القرآن، وكان ابن الرومي شاعرًا مجيدًا وهو دون العشرين.
(٣) أولعه به: أغراه.
(٤) نقول هذا ترجيحًا لا تحقيقًا؛ لأن القصيدة مبدوءة بهذا البيت:
أمسي دمشقي الأمير ودهره
ملق عليه بركه وجرانه
فما معنى تلقيب ابن الرومي نفسه بالدمشقي في مطلع القصيدة؟ أكان ذلك لقبًا له عند الأمير؟ يجوز، وتكون النسبة إلى الدمشق، وهو الرجل السريع اليدين المنجز عمله، ولكننا لا نعلم من أخباره ما يؤيد هذا التلقيب، وهناك دمشقي صديق لابن الرومي هو الأديب «أبو العباس أحمد بن القاسم بن الخليل الدمشقي»، عاتبه الشاعر لتعاليه عن معونته فقال:
يا أيها المتعالي عن معونتنا
غِنًى بما فيه من ذهن ومن أدب
لو استعنت بنفس غير أنفسنا
أو غير نفسك قابلناك بالغضب
لكن غنيت بنفس لا كفاء لها
في النظم والنثر من شعر ومن خطب
ولا ملام على مرتاد مصلحة
باع اللجين بضعفيه من الذهب
فهل القصيدة موضوعة على لسان هذا الدمشقي؟ يجوز كذلك، ولكنه جد بعيد.
(٥) نكاد نجزم بهذا؛ لأنه لم يُشر في رثائه إياها إلى ولد تركته مع استقصائه كل معنًى يقال في موضوع، وذلك أحق شيء بأن يذكر في رثاء زوجه.
(٦) قضى ابن الرومي زمنًا لا يتزوج حتى كان يسأل «… لم لا أتزوج؟» كما جاء في أبيات له جيمية، ومن أقواله في هذا المعنى:
أنا غيران ولا زوجة لي
بل على النعمة عند ابن خلف
ومنها:
كيف ترضى الفقر عرسًا لامرئ
وهو لا يرضى لك الدنيا أمه
ومنها ما كتب به صديق له يسمى إبراهيم:
يا سَمِي الخليل إياك أدعو
دعوة يمَّمَت سميعًا مجيبا
أمة من إماء طولك أجمعـ
ـت على نقلها إليَّ قريبا
ما تزوجتها على غير تأميـ
ـلك فانظر: أجائز أن أخيبا؟
وقليل النوال في هذه الحا
لة مما أراه شيئًا عجيبا
وقد يكون بعض هذا الزمن مضى قبل زواجه الأول، ولكننا رأينا كذلك أنه قضى زمنًا في أواخر عمره وهو أعزب.
(٧) راجع اسمي ذوثوريوس وواليس في أخبار الحكماء للقفطي.
(٨) بنية الجسم من شحم ولحم.
(٩) نثيره.
(١٠)
قد مضى أكثر الشتاء وجاء الصَّـ
ـيف يعدو فلا تزده التظاء
يا عليمًا بما أكابد فيه
لا تعاونه، إن فيه اكتفاء
(١١) إذا انتفخت قطرة الماء كان لها قبة رقيقة هي المقصودة هنا.
(١٢) الخرشاء قشرة البيض العليا.
(١٣) اصطبغ ولقمته معضوضة؛ أي وضع اللقمة في الطعام وفي فمه لقمة يمضغها.
(١٤) وتر القوس لا وتر العود.
(١٥) البيتان غير موجودين في الديوان المخطوط.
(١٦) فرث: شق، وفرث الرجل: ضرب كبده وهو حي.
(١٧) الشرث من السيوف والأسنة: المحدد، وشرث الرجل: غلظ ظهر كفه.
(١٨) رَبَّانِ من أرباب العرب في الجاهلية.
(١٩) وكى القربة: ربطها، وأشرجها: ضمها، والمقصود: أخفوا يا بني العباس ما في صدوركم من بغض العلويين.
(٢٠) الأرن: النشاط وإظهار القوة.
(٢١) أقطار السماوات.
(٢٢) العود: الجمل المسن، والكلوب: المهماز.
(٢٣) الموشح للمرزباني.
(٢٤) الأغاني.
(٢٥) الأغاني.
(٢٦) الفخري.
(٢٧) الطبري يقول: إن دخولها بغداد كان لليلتين خلتا من المحرم سنة ٢٨٢.
(٢٨) راجع الفخري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤