الفصل الأول

فرار في دجى الليل

لقد كانت كل دقيقة قضيتها في السيارة من الحجرة المستأجرة إلى «محطة الاتحاد» في ليلة الأحد تبدو مفعمة بالأخطار، وبما لا أعرف مما تخبئه لي الأقدار، فلقد خُيِّل إليَّ أن الشوارع نفسها والمباني المظلمة تعاديني وتتوعَّدني، وكنت قد قطعت هذا الطريق نفسه عشرات المرات في السبعة الشهور التي أقمتها بعاصمة الولايات المتحدة، قطعته وأنا جذل مرتاح النفس لا أكاد ألحظ ما يحيط بي فيه، أما في هذه المرة فقد كان كل شيء عكس ما تعوَّدته؛ لأني كنت فيها هاربًا.

وكانت الأسرة الأمريكية التي أقيم معها في واشنجتن تكرم الرجل الغريب المقيم بين ظهرانيها، وتعامله معاملة الصديق، فإذا مرضت أهمها أمري، وعنيت بي عناية غير متكلفة، وسرعان ما تطورت تلك العلاقة التي لم تكن في بداية أمرها إلا علاقة مالية محضة؛ فأصبحت علاقة إنسانية تربط قلوبنا، وكل ما كان لاختلاف لغتينا من أثر في هذه العلاقة أن أضاف إليها قليلًا من الحماسة، وأحسست أن أولئك الأمريكيين الطيبين حين يشفقون على روسي بعيد عن وطنه إنما يعبرون عن شكرهم لجميع الروس، إلى حلفائهم البواسل الذين كانوا وقتئذٍ يصدون جحافل الألمان المغيرين في جبهة طولها ألف ميل، وكان أولئك الأمريكيون يعزون إليَّ أنا نفسي الفضل في كل نصر تناله الجيوش السوفيتية.

وكنت قبل فراري قد أديت أجر مسكني مدة أسبوع مُقدمًا، ولكني مع هذا غادرت المنزل في الليلة الموعودة دون أن أودِّع مَنْ فيه بكلمة، وكل ما قلته لهم أني آذن لهم بتأجير حجرتي إذا اضطرتني ظروف رحلتي إلى البقاء في خارج المدينة إلى ما بعد يوم الثلاثاء؛ وذلك أني كنت أريد أن يبقى أصحاب المنزل على غير علم بمكان وجودي وبعزمي على ألا أعود إليهم إذا ما جاءهم رجال بعثة المشتريات السوفيتية يسألونهم عني.

وبقيت بضعة أيام في مكاتب تلك البعثة أتظاهر بأني أشكو الصداع واضطراب الصحة بوجه عام، وأشرت في صباح يوم فراري إشارة عابرة إلى عدد قليل من الزملاء أن من الخير لي «أن أبقى في المنزل طلبًا للراحة»، وأني قد لا أجيء إليهم في يوم الإثنين؛ وقصدي من هذا أن أعمل جاهدًا على أن أكسب يومًا قبل أن يُكْشَفَ أمر غيابي.

وبعد أن قبضت مرتبي عن شهر مارس أصررت على أن أسوي مستندات نفقات رحلتي الأخيرة إلى بلدة لنكستر من أعمال بنسلفانيا ورحلتي السابقة إلى تشكاجو، وتبيَّن لي أن نحو ثلاثين ريالًا لا تزال باقية لي من ذلك الحساب، وكنت أبغي من هذا ألا أترك ما يبرر اتهامي بأن المخالفات المالية هي سبب فراري، وعمدت فضلًا عن هذا إلى ترتيب أوراقي جميعها على خير وجه حتى يستطيع من يخلفني أن يبدأ العمل من حيث تركته.

وما من شك في أن بعض أعضاء البعثة من رجال ونساء قد عاد إلى أذهانهم بعد فراري وبعد أن نَشَرَت أنباء هذا الفرار جرائد واشنجتن ونيويورك في صفحاتها الأولى، أن حالهم قبل أن أفارقهم كان يمتاز بشيء من الحماسة والحرارة، وأن ضغط يدي وأنا أسلِّم عليهم وأقول «مع السلامة» كان أكثر من المُعتاد. وما من شك كذلك في أنهم أدركوا أني كنت أودعهم الوداع الأخير في صمت وسكون، ذلك أن أحدًا منهم لن يجرؤ بعد الآن على لقائي حتى ولو كان هذا اللقاء هنا في أمريكا بلاد الحرية. لقد تقاربنا أنا وبعض هؤلاء المواطنين في خلال الأشهر التي قضيناها في العمل معًا، وفَهِمَ كُلٌّ منا صاحبه وإن لم يتحدث إليه كثيرًا، ولو أنني استطعت أن أفارقهم علنًا وأظهر لهم عواطفي على الطريقة الروسية، لخفَّ عني دون ريب بعض العبء الذي ينوء به الآن كاهلي.

وكانت ليلة الفرار ليلة ليلاء، خفيت نجومها، وبدا لي أن محطة السكة الحديدية ملأى بالإنذار والوعيد، فماذا يكون من أمري لو أنني التقيت بزميل لي فنبَّه من يجب تنبيههم؟ وما من شك في أن حقيبتَي الملابس اللتين كانتا معي، وهذه الرحلة التي لم يصرَّح لي بها، ستثيران الريبة في نفسه من فوره، وماذا يحدث إذا كان الرفيق سيروف أو القائد رودنكو قد عرف خططي، وكأن الأقدار أرادت أن تحقق هذه المخاوف، فوقعت عيناي فجأة على إنسان يلبس حلة من حلل الجيش الأحمر، وما كدت أراها حتى جمد الدم في عروقي من شدة الرعب، فجذبت قبعتي حتى غطيت بها عيني، وخبأت رأسي بطوق معطفي أكثر من ذي قبل، وتسللت بجوار الجدار وظهري متجه على الدوام نحو مواطني.

واتخذت مكاني في القطار في عربة من التي يركب فيها عامة الشعب؛ وذلك لأن موظفي السوفيت كانوا يسافرون على الدوام في عربات بُلمان الفاخرة، وكان في هذا ما يقيني إلى حد ما خطر لقاء أحد ممن يعرفونني، وفي هذه العربة المعتمة المزدحمة الساكنة استسلمت وحدي لأفكاري.

وكنت أدرك من زمن طويل أن هذه الساعة الحاسمة آتية لا ريب فيها؛ لذلك هيأت أسباب فراري من عدة شهور، وأخذت أترقبه وأنظر إليه على أنه خلاص لي مما كانت تعانيه نفسي من ضلالات النفاق والغيظ والاضطراب التي ألحَّت عليها سنين طوالًا، وقدَّرت أن هذا الفرار سيكون وسيلتي التي أُكفِّر بها عن تلك الآثام المروِّعة التي ارتكبتها مع زملائي من الطبقة الحاكمة في بلادي، والتي يؤنبني عليها ضميري.

أما الآن وقد أصبح هذا الفرار حقيقة واقعة فلم يكن فيه شيء من الحبور أو الابتهاج الذي يصحب الحرية في أول عهد المرء بها، بل شعرت من حولي بفراغ مؤلم ترددت فيه أصداء المخاوف وتبكيت الضمير بأصوات عالية، خُيِّلَ إليَّ معها أن الجنود والبحارة المغفين في العربة الملأى بالدخان قد سمعوها بلا ريب.

وقلت في نفسي: إنني أجتث حياتي من أصولها اجتثاثًا لا يبقي على شيء منها، وقد يكون اجتثاثًا أبديًّا، وإنني من تلك الليلة أجعل من نفسي إنسانًا شريدًا لا وطن يؤويه ولا أسرة تضمه ولا أصدقاء يركن إليهم، وإنني لن أرى بعد هذه الليلة وجوه الأقارب والأصدقاء، وأمسك بأيديهم أو أسمع أصواتهم، وهم الذين لحمهم من لحمي وعظامهم من عظامي، كأن هؤلاء جميعًا قد فارقوا الحياة، ومن أجل هذا فارقني شيء في دخيلة نفسي عظيم القيمة لي، وأيقنت أن سأحس في حياتي أبد الدهر بذلك الفراغ، ذلك الفراغ الرهيب، وذلك الموت الزؤام.

أما موقفي من البلاد التي وُلدت فيها فسيكون موقف الرجل الطريد المنبوذ من حكومتها، وسيصدر النظام السياسي الذي قضيت فيه حياة كلها كدح وولاء حكمًا عليَّ من تلقاء نفسه بالإعدام، ولن يفتأ عماله السريون ينغصون عليَّ حياتي ويقتفون أثري أينما كنت، ويتتبعون خطواتي، ويراقبونني من تحت نوافذ حجراتي، وسيقضون على حياتي إذا أمرهم سادتهم بالقضاء عليها. أما هؤلاء الأمريكيون الذين أرجو أن أُلقي بينهم عصا التسيار فهل يكون في وسعهم أن يدركوا ما في انشقاق شيوعي روسي على الدكتاتورية الروسية من معانٍ وأخطار؟ ألا ما أطيب قلوب هؤلاء الأمريكيين!

وفي بلادي نفسها سيكون أصدقائي وزملائي في العمل، بله الذين يحبونني ويعطفون عليَّ، سيكون هؤلاء جميعًا موضع الشبهات وغرضًا للمثالب والاتهامات، وإذا شاءوا أن يظلوا أحياء من بعدي كان عليهم أن يمحوا ذكراي من صدورهم، وإذا أرادوا أن ينجوا بأنفسهم من العذاب فعليهم أن ينكروني ويتبرءُوا مني، كما كنت أتظاهر في أيامي الخالية بأني أنكرت من جرُّوا على أنفسهم انتقام الدولة السوفيتية وتبرأت منهم.

تُرى هل أنا على حق من الوجهة الأدبية في أن أعرِّض إلى الخطر حياة أولئك الرهائن الأبرياء في الروسيا إذا كان في هذه التضحية إراحة لضميري ووفاء ما عليَّ من دَين يقتضيه مني الحق كما أراه أنا؟ لقد كانت هذه أقسى مشكلة واجهتني، وماذا كان يرى في عملي هذا جدي التقي فيودور بنتليفتش ذلك الرجل الصالح الذي قضى حياته في طاعة الله وخدمة القيصر لو أنه كان وقتئذٍ حيًّا يرزق؟ وماذا كان يقول عني أبي ذلك الثائر الروسي المتعصب لآرائه لو أنه بقي على قيد الحياة بعد العامين اللذين قضاهما في ظل الاحتلال الألماني الوحشي؟

لقد كان لي في هذه الأفكار المُتلاحقة شيء من التعزية على الأقل. إن جدي لم يكن يدرك قط سبب وقوف ابنه ووالدي أندراي في وجه القَيصر وتقاليد الأجيال الطويلة، ولكن أندراي كان قوي الإيمان بعقيدته الجديدة الغريبة، وكان لا يتردد في الذهاب إلى السجن في سبيلها، ومن أجل ذلك كان جدي يختم ما يكيله له من عبارات اللوم بأن يدعو له بخير. أما أبي فكان يحب زوجته وأبناءه، ومع ذلك فإنه لم يتردد قط في أن يعرِّضنا جميعًا للجوع والدموع ليخدم بذلك القضية التي كان يدافع عنها، ولم أكن أشك مطلقًا في أنه هو كان يفهم موقفي ويرتضيه لو أنه طال به الأجل.

وكان من أسباب عزائي — وإن يكن عزاءً شديد الوَقع على نفسي — أن أفكر أن أخي قنسطنطين الذي كان طول حياته بالقرب مني قد مات، قد قُتِلَ وهو يدفع عن بلادنا الغزاة النازيين، وهو ضابط في جبهة القوقاز، وإذن فهل يصب رجالنا الرسميون جام غضبهم على عجوز مسكينة لا سند لها ولا معين قد خرجت توًّا من أحد معسكرات الاعتقال الألمانية، يصبُّون عليها جام غضبهم لأنها والدتي؟ أو هل يثأرون لأنفسهم مني في شخص المرأة التي ظلت زوجة لي ثلاث سنين لم تعرف في خلالها شيئًا عن شكوكي السياسية ولا عن فراري؟

كانت هذه الأفكار لا تزال تتردد في خاطري، وكان وقعها مؤلمًا لنفسي، ولكن صداها ضعف بعض الشيء وإن لم يخفت كله حين وقف بي القطار في نيويورك في الساعة الثالثة من صباح يوم الأحد، ورأيت الضابط الروسي السالف الذكر مرة أخرى على طوار المحطة يحمل في يده حقيبة ملابس، ولا يعرف شيئًا عن وجودي في ذلك المكان، غير أني تباطأت في سيري؛ لأطيل ما بيني وبينه من بعدُ.

واتخذت لنفسي اسمًا إيطاليًّا تسميت به حين نزلت في فندق حقير في أحد أطراف المدينة، من ذلك النوع الذي تؤدي فيه أجر حجرتك مقدمًا، وكأن هذه الحجرة قد أُعِدَّت خصيصى لمن يريد الانتحار، فقد كانت ضيقة، مقبضة الرائحة، وأغلقت بابها عليَّ وأخذت أكتب في ضوء مصباحها الكهربائي الضئيل بيانًا نشرت بعض الصحف الأمريكية بعض ما جاء فيه بعد يومين من ذلك الوقت.

ولو أن إنسانًا شهد مسلكي الخفي في تلك الأيام العصيبة، وعرف ما قضيته من الليالي ساهدًا مؤرَّقًا، واطلع على فراري خفية من واشنجتن، واختفائي في نيويورك؛ لظن أني ارتكبت جريمة شنعاء، وأني أعمل على تضليل رجال الشرطة، ولكنني في واقع الأمر لم أسرق ولم أقتل، وكل ما فعلته أني اعتزمت التخلي عن عملي بوصفي مبعوثًا اقتصاديًّا لحكومتي.

وما من شك في أن الأمريكيين على بكرة أبيهم لا يوجد بينهم من يعرف أنْ ليس بين الجرائم التي يرتكبها أحد أبناء الدولة الدكتاتورية جريمة أعظم شناعة وأوخم عاقبة من الفرار؛ ذلك أن هذا العمل هو الكفر بالدولة إلههم الدنيوي، وهو لا يؤدي إلى اعتبار «المجرم» خارجًا على وطنه مهدر الدم وكفى، بل إنه يحرم عليه تبادل الرسائل مع أحبابه من أهل بلده ويجلله العار أينما حلَّ، وإذا جرؤ مواطن سوفيتي على مقابلته أو إظهار العطف عليه كان في ذلك انتحاره السياسي، بل قد يكون فيه انتحاره الجسمي.

ولم يكن العمل الذي أقدمت عليه من الخطى التي يخطوها روسي سوفيتي، وخاصة إذا كان شيوعيًّا قديم العهد بالشيوعية وذا مركز ممتاز في صفوف البيروقراطية، وهو مستهتر أو مندفع بمؤثرات وقتية. لقد كان هذا عملًا نبتت أصوله في أعماق عقله من زمن بعيد، ثم ترعرعت ولم يكن في الإمكان اجتثاثها، وليست أسباب العمل الذي أقدمت عليه مما يطفو على السطح، بل هي مما يجب البحث عنه في الأعماق البعيدة، وفي طيات حياتي كلها.

وتحدثت إلى عدد من الأصدقاء في يوم الإثنين الثالث من شهر أبريل سنة ١٩٤٤م، وفي مساء ذلك اليوم نفسه نُشِرَ خبر فراري في الصفحة الأولى من جريدة نيويورك تيمس، وكان نشر الخبر في هذا الوقت من الأهمية بمكان، بل لعله كان السبب في نجاتي من الموت، فلو أن حراسي السوفيت علموا بفراري قبل أن يعرفه عامة الشعب لاتهمتني السفارة الروسية في واشنجتن لدى وزارة الخارجية الأمريكية بأني جاسوس ألماني، ولطلبت إليها أن تقبض عليَّ فورًا لأُنْقَل إلى اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية، أما وقد كُشِفَت الحقائق أمام الشعب الأمريكي وأخذ هذا الشعب يرقب فصول الرواية، فإن السفارة السوفيتية أصبحت عاجزة كل العجز عن عمل شيء، أو عاجزة عنه وقتًا ما على الأقل.

ونشرت التيمس الخبر بالعنوان التالي: «موظف سوفيتي في هذه البلاد يعتزل عمله»، أما الخبر نفسه فقد بَدَأ على النحو الآتي:

بالأمس أعلن فكتور أ. كرافتشنكو أحد موظفي بعثة المشتريات الروسية في واشنجتن استقالته من عمله، ووضع نفسه «تحت حماية الرأي العام الأمريكي»، بعد أن اتهم الحكومة السوفيتية في هذه الاستقالة بأنها فيما تعلنه من رغبة في التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى إنما تجري على سياسة نفاق «ذات وجهين»، واتهم حكم ستالين بالعجز عن توفير الحريات السياسية والمدنية للشعب الروسي.

ويحمل مستر كرافتشنكو جواز سفر كُتِبَ فيه أنه «ممثل الحكومة السوفيتية» … وهو ضابط في الجيش الأحمر، وكان قبل أن يرسَل إلى الولايات المتحدة في شهر أغسطس الماضي مديرًا لعدد من دور الصناعة الكبيرة في موسكو، ومن قبل هذا كان رئيسًا لقسم الذخائر الملحق بمجلس وزراء الجمهورية الروسية الاشتراكية السوفيتية المتحدة، وهي أكبر الجمهوريات المنضمة إلى اتحاد الجمهوريات السوفيتية، وكان إلى وقت فراره عضوًا في الحزب الشيوعي الروسي منذ عام ١٩٢٩م، وشغل عدة مناصب هامة تحت الحكم السوفيتي.

ورفض مستر كرافتشنكو لأسباب وطنية أن يردَّ على الأسئلة الخاصة بمسلك الحكومة السوفيتية في الشئون العسكرية، أو أن يكشف عن شيء من التفاصيل المتعلقة بالأمور الاقتصادية، وبخاصة ما يتصل منها بتطبيق قانون الإعارة والتأجير على يد بعثة المشتريات السوفيتية، أو في بلاد الروسيا نفسها.

وتلت هذا النبأ فقرات من البيان الطويل الذي ظللت أكدح في إعداده طوال يوم الأحد. لقد حوى هذا البيان عصارة نفسي، ولكن شيئًا من قوته لم يظهر من خلال المداد البارد الذي كتبه به الطابع؛ ذلك أن أبناء البلاد الحرة قلما يجدون في تجاربهم ما يحملهم على تصديق مشاعري ومسلكي، وهم لا يرون في أية مأساة مهما بلغت من الشناعة إلا أنها أمر شاذ خارج على المألوف.

وحاولت في هذا البيان أن أشرح للشعب الأمريكي، ولرفاقي في بلدي ولأصدقائي في بعثة واشنجتن، الأسباب التي دفعتني إلى أن أخطو هذه الخطوة الرهيبة، ولكني كنت كلما أمعنت في الكتابة، ومحوت ما كتبت، ثم أعدت كتابته من جديد، بدا لي العمل ميئوسًا منه؛ ذلك أني لم أجد في لغة من اللغات التي يتكلمها البشر ألفاظًا ألخص بها حياتي كلها.

ولم يكن عزمي على قطع صلاتي بالحكم السوفيتي — وهو يبلغ مبلغ إعلان الحرب إلى هذا الحكم وإلى كل دولة بوليسية — أمرًا عارضًا نشأ عفو الساعة، بل كانت أصوله متغلغلة في كل أطوار حياتي وأفكاري وتجاربي؛ وهو بهذا المعنى لم يكن قرارًا اتخذته، ولا عملًا من أعمال الإرادة، بقدر ما كان نتيجة منطقية وغاية محتومة، أدت إليها عملية طويلة متصلة الحلقات.

وإذا أردت أن أشرحها شرحًا وافيًا وجب عليَّ أن أعود إلى الأيام الماضية، أيام الحماسة والغيرة على العدالة التي كانت تتأجج بين جوانحي منذ طفولتي على ضفاف الدنيبر، وإلى أيام الهيام بالحرية الذي كان يملأ قلبي وأنا غُلام، حين كانت الثورة والحروب الأهلية تتأجج نيرانها في مدن أوكرانيا وسهوبها، وإلى حماسة الشباب الشيوعي، ثم إلى حياة العضو العامل في الحزب الشيوعي، وإلى الشكوك والإخفَاق المتكرر، والمحاولات اليائسة التي توالت عامًا بعد عام، والتي كانت تسند عقيدة منهارة مزعزعة بما تبثه في نفوس معتنقيها من أوهام خداعة قوية.

وقصارى القول أني إذا أردت أن أشرح هذا كله وجب عليَّ أن أقص قصة حياتي من أولها إلى آخرها، وحياة الروسيا من حيث صلتها بحياتي نفسها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤