الفصل الثامن والعشرون

الفرار من الظلم

جاء في الأخبار التي أذاعتها الصحف عن خروجي على الحكم السوفيتي أن انخداعي بشيوعية ستالين زال بعد أن ذقت طعم الديمقراطية الأمريكية، ثم قيل تصريحًا أو تلميحًا: إن وجودي في جو الحرية الأمريكية هو الذي حملني على قطع صلتي بلجنة المشتريات السوفيتية.

وقد أضْفَتْ هذه الأقوال وأمثالها على قصة فراري مظهرًا روائيًّا، كما أن فيها ثناءً مستطابًا على الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن القصة كما ترويها هذه الصحف بعيدة كل البعد عن الحقيقة، وهذه الحقيقة هي أني قد قررت من زمن بعيد أن أُلْقِي عن كاهلي نير الطغيان في أول فرصة متى سنحت وأينما سنحت، ولو أني أُرْسِلْتُ إلى الصين أو بتاجونيا بدل الولايات المتحدة لما ترددت قط في أن أحاول نيل حريتي حتى أستطيع القيام بالواجب الذي عاهدت نفسي على القيام به.

ولقد عاهدت نفسي على القيام بهذا الواجب عن وعي وقصد، وإن لم أعلم بالضبط في أية لحظة من حياتي اتخذت هذا القرار؛ ذلك أنه كان نتيجة لإحساسات نبتت ونضجت من داخل نفسي، نضجت على مهل ولكن كان لا بد لها أن تنضج، وكان كل ما فيَّ وكل ما يحيط بي يدفعني إلى ذلك دفعًا، لقد كان يحيط بي في طفولتي جو مشبع بمثالية أبي القوية وإيمان أمي العميق، ولقد كان صلاحهما وحبهما للإنسانية مختلفين في ظاهرهما ولكنهما متفقان بطريقة ما في حقيقة أمرهما، وما من شك في أن هذه الحقيقة ذاتها هي التي لازمتني طوال حياتي.

وثمة عامل آخر دفعني إلى الإقدام على ما أقدمت عليه، وذلك هو الروح الذي أخرج من أمتي في أحلك عهودها، وتحت سيطرة أقسى حكامها وأشدهم بطشًا، ثوارًا خرجوا على هؤلاء الحكام، ولو أنني اعتقدت أن في طاقتي أن أجاهد في سبيل الحرية داخل حدود الاتحاد السوفيتي لما تخطيت هذه الحدود … ولو أنني كان لديَّ أمل حقيقي في أن الأمور ستنصلح في بلادي فتباح فيها الحريات السياسية والاقتصادية ويتخلى زعماء هذا العهد عن البرنامج الشيوعي الدولي لما غادرت البلاد، ولكني وجدت مع الأسف الشديد أنه كلما مضت السنون خطا هذا العهد خطوات لا تقربه من المثل العليا التي تتضمنها مبادئ الثورة بل تبعده عنها.

وأيقنت أن الأمل في خلاص الروسيا من محنتها يضعف شيئًا فشيئًا، وأن مستقبلها يزداد قتامًا، وأن الضمانات التي لا بد منها لقيام الحريات الاقتصادية والديمقراطية تزداد في كل يوم ضعفًا وبعدًا عن متناول أيدينا، بل إن ذكرياتها توشك أن تمحى من عقول الروس؛ ذلك أن سلطان القوة الغاشمة كان يزداد كل يوم في شدته واستهتاره وغزوه للعقول، ولقد ظن بعضنا في وقت من الأوقات أن بلادنا هي الأخرى ستطبق فيها المبادئ التي تضمنها ميثاق الأطلنطي وصك الحريات الأربع، ولكن سرعان ما تكشفت عن أبصارنا هذه الغشاوة وانمحى من عقولنا هذا الوهم، وأدركنا من فورنا أن بلادنا لن تفيد أقل فائدة من هاتين الوثيقتين، وأنهما بالنسبة لنا ليستا إلا قصاصتين من الورق.

وقد يسألني بعضهم لِمَ ظللت في خدمة الحكومة السوفيتية سبعة شهور كاملة بعد أن جئت إلى الولايات المتحدة؟ والجواب أني كنت محتاجًا إلى بعض الوقت أدرس فيه ما حولي وأقدر فيه ظروفي النفسية قبل أن أخطو الخطوة الرهيبة، وكذلك يفعل السجين الذي يريد الفرار من سجنه، فإنه يقضي بعض الوقت في دراسة عادات السجانين وطبيعة الأرض المجاورة لسجنه.

والروسي الذي نشأ في أحضان العهد السوفيتي وتحت رعايته يجد نفسه حين يخرج إلى العالم غير السوفيتي لأول مرة مخلوقًا حائرًا لا يكاد يجد له ناصرًا أو معينًا، ويرى المواءمة البسيطة بينه وبين حياته الجديدة مشكلة معقدة، ويتبين أن تفكيره وإحساسه يختلفان عن تفكير من حوله وإحساسهم، وأنه في حاجة إلى بعض الوقت يخلع فيه عن نفسه طبقة بعد طبقة من الغشاء الدكتاتوري السميك الذي غشي عقله على مر السنين، وتلك عملية معقدة غاية التعقيد.

ولقد كنت في أمريكا رجلًا غريبًا ليس لي فيها صديق واحد غير سوفيتي، لا أستطيع التفاهم مع أهلها ولا موارد لي فيها أعيش منها، ولو كان لي في أمريكا أصدقاء ظاهرون أو مختفون بقدر ما للدكتاتورية السوفيتية من أصدقاء ومناصرين، لحلت مشكلتي على أهون سبيل … ويقيني أن تعليمي الهندسي وخبرتي الهندسية سيعيناني على كسب عيشي، ولكنني حين أقطع صلتي بالبعثة سأكون شخصًا مفلسًا، لا صديق لي ولا معين يرد عني الأداة الجبارة الرهيبة أداة الثلب والانتقام التي يسيطر عليها السجانون المحنقون، ولم تكن الشهور السبعة التي قضيتها في أمريكا أتأقلم فيها وأتعلم فيها بعض الألفاظ الإنجليزية، وأتصل فيها بعدد قليل من الناس، لم تكن هذه الشهور السبعة بالزمن الطويل.

وكنت أعرف قبل أن أخطو الخطوة التي لا رجعة فيها بشهر كامل على الأقل أن موعد هذه الخطوة هو آخر شهر مارس من عام ١٩٤٤م، ومن أجل ذلك قضيت معظم هذا الشهر متنقلًا في أنحاء البلاد، فسافرت مرتين إلى لنسكتر وبنسلفانيا، ومرة إلى تشكاجو وكان أكثر ما يشغل بالي ألا أفعل ما يضر أصدقائي وزملائي في البعثة أو في الروسيا، فلم أفشِ خططي لواحد منهم بالقول أو بالإشارة رغم إحساسي بأني في حاجة إلى الصديق، وحنيني إلى من أفضي إليه بسري، لكنني كنت أعلم حق العلم ما يصيب المواطن السوفيتي إذا علقت به أقل ريبة، وجاء رجال القسم السياسي يمعنون في الفحص عن أمري.

وكان يهمني فوق هذا ألا أترك لرجال البعثة سبيلًا للطعن في أخلاقي، لقد كانت سجلاتي الخاصة بما عهد إلي من الأعمال الهامة المتصلة بقانون الإعارة والتأجير لا مطعن فيها ولا مغمز، وكنت أحرص على أن تظل كذلك إلى آخر عهدي بها، ولهذا عنيت كل العناية بتصفية أعمالي بقدر ما تسمح لي به الظروف، وتركت كل شيء منظمًا يستطيع من يخلفني من الأخصائيين في أعمال المعادن أن يبدأ عمله من حيث انتهيت، وسويت حساباتي المالية بعناية وإتقان في صباح آخر يوم قضيته في مركز البعثة العام في الشارع رقم ١٦، وكنت حين غادرت مقر عملي أدين البعثة بثلاثين ريالًا، فكان هذا من أسباب غبطتي، وإن كان كل ريال منها يعدل في ذلك الوقت ألف ريال.

ولقد وصفت فراري في الصحف الأولى من هذا الكتاب، وقلت: إني صيرت نفسي رجلًا طريدًا لا وطن له، وأصبحت هدفًا لحقد الشيوعيين الأمريكيين وزملائهم القادمين من خارج أمريكا، والذين يؤمنون بأنهم على حق في مذهبهم، ثم إني جعلت نفسي فوق هذا هدفًا لحقد من هم أشد خطرًا من هؤلاء، وهم رجال أعظم حكومات العالم بأسًا وأشدهن قسوة.

وكان المستقبل أمامي حالكًا رهيبًا مقبضًا للرجاء؛ ذلك أني أقدمت عن قصد، وعن علم بما يترتب على هذا الإقدام من العواقب الوخيمة، أقول: أقدمت على اختيار حرية مزعزعة غير مأمونة وفضلتها على استعباد مريح مأمون العاقبة، وليس في العالم كله من يعلم ما للدولة الدكتاتورية البوليسية الحديثة من قوة ورهبة، وما تتصف به من انحطاط وفساد خلقي شامل، وما تقذفه من رعب في النفوس، ليس في العالم كله من يعلم ذلك إلا رعايا هذه الدولة الذين عاشوا تحت سلطانها زمانًا طويلًا.

وكنت أعلم وقت أن غادرت واشنجتن أن البعثة الروسية فيها قد أصدرت قرارًا صدَّقت عليه موسكو بتعييني في منصب دائم في هذه البلاد، وكان هذا التعيين بمثابة ترقية كبيرة لي، وكان المقرر أن أتولى عملي في هذا المنصب الجديد بعد بضعة أيام قليلة لا تعدو اليوم الثالث من شهر أبريل، وكانت موسكو تدعو لي فيه بالنجاح والتوفيق، ولعلي كنت أعود بعدئذٍ إلى بلادي أحمل معي خبرتي في الشئون التجارية الخارجية، لأكون ابنًا بارًّا لستالين نجا من أعاصير المغريات الرأسمالية، ولم يكن ثمة حد بعد هذا للدرجات العلا التي كان في وسعي أن أرقاها في سلم البيروقراطية.

ولو أني وصلت إلى هذه الدرجات العالية لبقيت مع هذا عبدًا ذليلًا خاضعًا لسلطان القوة الغاشمة، عاجزًا عن خدمة بني وطني، محالفًا للطاغين الظالمين، ومن أجل هذا آثرت عامدًا أن أبقى في خارج البلاد؛ لأني كنت في حاجة إلى الحرية كي أستطيع مصارعة الاستبداد، ورضيت أن أقاسي في سبيل هذه الحرية ما لا يُحْصَى من المتاعب وأتعرض لشتى المجازفات الاقتصادية والأخطار الجسمية، وستُطْوَى بعد هذه الساعة صفحة فكتور كرافتشنكو، وتُمْحَى شخصيته من الوجود، فقد يصبح إيطاليًّا أو يوغوسلافيًّا أو برتغاليًّا أو ما شئت من القوميات إلا القومية الروسية، ألا ما أكثر الأسماء التي تسميت بها! وآويت إلى فندق مجهول مقبض في قلب مدينة مانهتن، وفيه أعددت البلاغ الذي أرسلته إلى الصحف والذي نُشِرَ بعضه في جريدة نيويورك تايمز وغيرها من الجرائد التي صدرت بتاريخ ٤ إبريل سنة ١٩٤٤م، وإذا ما قرأت هذا البلاغ الآن بعد أن انتهت الحرب بانتصار الروس وحلفائهم، فإني لا أجد فيه ما يجب تعديله، بل إني لأجد عكس هذا، أجد أن الزمن قد حقق مخاوفي وتحذيري.

لقد اتهمت الكرملن وقتئذٍ بأنه يعمل لأغراض تتعارض مع التعاون المزعوم بينه وبين البريطانيين والأمريكيين وإن كان حليفهم في الظاهر، ولقد كتبت في ذلك الوقت أن موسكو — وإن تظاهرت بحل الدولية الشيوعية — لا تزال توجه الحركات الشيوعية في جميع أنحاء العالم، وحين أشرت في هذا البلاغ إلى السياسة التي يتبعها ستالين إزاء بولندا والأمم البلقانية وتشكوسلوفاكيا والمجر والنمسا وغيرها من البلاد، حاولت أن أظهر أن الأغراض التي يهدف إليها أغراض سوفيتية خالصة لا تتفق قط مع المبادئ الديمقراطية، ثم أضفت إلى هذا قولي: «تدَّعي الحكومة السوفيتية أنها تعمل لإقامة صرح الديمقراطية في البلاد المحررة من نير الفاشية، ولكنها لم تخط خطوة جدية واحدة نحو منح الشعب الروسي الحرية الأولية.

ولا يزال الشعب الروسي كما كان في العهود الماضية خاضعًا لضروب من العسف والظلم لا يمكن وصفها، ولا تزال الشرطة السرية تعمل عن طريق آلاف الجواسيس التابعين لها، وتفرض سلطانها المطلق على سكان البلاد الروسية، ولقد أخذت الحكومة السوفيتية تقيم نظامها السياسي نظام العسف الخارج على كل الشرائع في الأقاليم التي حُرِّرَت من الغزاة النازيين، ولا تزال السجون ومعسكرات الاعتقال تعمل عملها كما كانت تعمل من قبل.

وأدرك الشعب الروسي أن ما عقده في بداية الحرب من أمل في الإصلاح السياسي والاجتماعي كان مجرد أحلام وأوهام.

واعتقادي أن الشعب الروسي أشد حاجة من سائر شعوب العالم إلى الحقوق السياسية الأولية، وإلى حرية القول والصحافة، وإلى التحرر من العوز والخوف، وكل ما ناله هذا الشعب من حكومته فيما يتصل بهذه الحريات هو الألفاظ الجوفاء، ولقد مضت عليه السنون الطوال وهو يرزح تحت سلطان الخوف والعوز، ولئن كان الشعب الروسي جديرًا بنعمة الحرية فيما مضى، فهو الآن أجدر بها من ذي قبل بفضل تضحياته التي تجل عن الوصف والتي أنقذت البلاد وأنقذت الحكم الحاضر نفسه من الدمار، فاستطاع بذلك أن يكيل الضربات القاصمة إلى الفاشية ويقرر مصير الحرب النهائي.»

ولم يحدث شيء يغير الصورة التي رسمتها في هذه العبارات وقت كتابتها، فما زال طغيان ستالين قائمًا مركزًا مسيطرًا على البلاد، يحكمها بالعسف والجبروت، ولا تزال وسائل الإرهاب على ما كانت من غلظة وقساوة، ولست أطمع في أن يدرك المواطن العادي في أمة ديمقراطية حقيقة العسف القائم في الدول الدكتاتورية، وحسبي أن أقول: إن الذين وصفوا عرائض الاتهام ضد مجرمي الحرب النازيين قد أوشكوا أن يدركوا هذه الحقيقة حين وضعوا الحكم النازي في هذه العرائض، فلما أن قرأت الوثائق لم أتمالك أن صحت: ها أنا ذا أجد هنا على الأقل وصفًا موجزًا يليق بالعهد السوفيتي، وكل ما نحتاجه فيها أن نغير قليلًا من الأسماء وأن نستبدل السوفيت بالنازي، فنحصل على صورة صادقة لعصابة الكرملن.

إن في هذه الوثائق لوصفًا صادقًا لمبادئ الزعامة النازية كما نراها في العقائد وفي الأعمال الفاشية، وهي بعينها مبادئ الكرملن، تقول عرائض الاتهام: «لقد حل المتآمرون جميع الأحزاب السياسية عدا الحزب النازي، وحرموا تأليف شيء منها … وحولوا الريشستاغ إلى هيئة لا تضم إلا مرشحيهم، وقضوا على حرية الانتخابات الشعبية … وأقاموا نظامًا من الإرهاب يسلطونه على من يعارضون هذا الحكم أو من يرتابون فيهم ويظنونهم من معارضيه، ووسعوا نطاق هذا النظام إلى أبعد الحدود.» فلما قرأت هذه التهم خُيِّل إليَّ أني أقرأ تهمًا موجهةً للطغيان السوفيتي ولجميع الدول البوليسية الدكتاتورية لا تختلف عنها إلا في أسماء الضحايا والمتآمرين.

ولكن من بين أولئك الذين يحكمون على المتآمرين الهتلريين رجالًا لا تطاوعهم نفوسهم أن يحكموا على الذين تآمروا من الروس السوفيت على حريات الشعب الروسي؛ ولذلك لا يزال من واجبنا أن ننبه الضمير العالمي إلى الفظائع التي تُرْتَكَب ضد هذا الشعب.

وسرعان ما حققت الحوادث النذر التي بدأت بها حياتي الجديدة.

ذلك أن لجنة المشتريات حين ظهرت أنباء فراري في الصحف ادعت أول الأمر أنها لا تعرفني، وما من شك في أنها إنما فعلت ذلك لأنها كانت تنتظر ما ترسله إليها موسكو من التعليمات، ثم اعترفت بعدئذٍ بوجودي وأخذت تذيع البيانات التي تسوِّئ بها سمعتي.

وكان أهم ما ادعته ادعاء لم أتنبه أنا إليه، وهو أني لا أزال ضابطًا في الجيش الأحمر، ثم حاولت بناءً على هذا الادعاء أن تصف فراري السياسي بأنه هروب من الجندية، لتتخذ منه أساسًا لطلب تسليمي لستالين لإعدامي رميًا بالرصاص، ولم يكن هذا الادعاء صحيحًا، فقد انتهت حياتي الحربية القصيرة قبل سنتين من ذلك الوقت في أحد المستشفيات، وأصبحت من ذلك الحين موظفًا مدنيًّا خالصًا، قبل أن تفكر وزارة الشئون التجارية الخارجية في إرسالي إلى خارج البلاد، وفضلًا عن هذا فإني أُعْفِيت إعفاءً تامًّا رسميًّا من جميع واجباتي العسكرية قبل أن ترسلني وزارة الشئون التجارية الخارجية في مهمتي إلى أمريكا، ولم يكن في وسعها أن ترسلني قبل هذا الإعفاء.

وتدخلت الصحافة الشيوعية الظاهرة والمستترة في الكفاح الناشب بيني وبين الحكومة السوفيتية بكل ما أوتيت من قوة، فهاجمتني جريدة الديلي ووركر الصادرة في ٥ أبريل في مقال بإمضاء شخص يُدْعَى ستاروبين عنوانه قصة هارب حقير: هتلر يدعو آخر أنصاره في هذه البلاد، وكتب هذا المقال بالأسلوب المألوف أسلوب السباب والشتائم الحزبية، ولكنه كانت تسري فيها كله نغمة قد لا يدركها غير المطلعين، نغمة ظلت تدوي عالية في أذني التي ألفتها من زمن بعيد.

وكانت هذه نغمة التهديد المباشر، فقد أبلغ الرفيق ستاروبين الرؤساء: «نبأ خيانة حقيرة أقدم عليها إنسان يدَّعي أنه موظف في بعثة تجارية سوفيتية» وكتب معلقًا على هذا النبأ: «إن أولئك الخونة من تروتسكي إلى من هم دونه من أمثال هذا الإنسان المسمى كرافتشنكو يخدعون الناس إلى حين ولكن.» وهنا يبدأ الإنذار المقصود: «عين الإنسانية اليقظة البعيدة النظر ويدها الشديدة البطش ستلاحقانهم وتمحوان في آخر الأمر أثرهم.»

ولما قرأت هذه الألفاظ ذكرت أن اليد التي بطشت بتروتسكي كانت تقبض على معول هشمت به رأسه في مدينة المكسيك، وتلت هذه العبارة السابقة بضع فقرات قليلة كلها شتائم مقذعة عاد بعدها الرفيق ستاروبين إلى نغمته الأولى: «وما من شك في أن كرافتشنكو كان يعد العدة لهذا الفرار.» ثم أشار إلى ما أعلنته من أني أضع نفسي تحت حماية الرأي العام الأمريكي، وختم مقاله بقوله: «إن بلادنا ليست أرضًا مباحةً لا أصحاب لها، يلجأ إليها أعداء حلفائنا وأعداء مجهودنا الحربي … وإذا ما أصبحت الولايات المتحدة مرتعًا لهذا النوع من الحشرات، وملجأ للأشخاص الذين لم يؤتوا قسطًا كافيًا من الرجولة يستطيعون، أن يوجهوا لشعب الاتحاد السوفيتي مباشرةً ما يوجهونه إلى جريدة نيويورك تايمز من الأقوال التي تلوكها ألسنتهم وهم يحتسون الخمور كان ذلك اليوم أشد أيامنا نحسًا.»

وبهذا القول أدخلت جريدة الديلي ووركر في روع الأغبياء من قرائها أن في مقدور كل من أوتي «قسطًا كافيًا من الرجولة» أن يتحدث إلى شعب الاتحاد السوفيتي مباشرةً، وقد جاء هذا عقب قولها: إني كنت «أعتقد أن أيامي على ظهر الأرض أصبحت معدودة»؛ لأن الشرطة السوفيتية المنوط بها مراقبة ما في القلوب وإن ظلت إلى ذلك الوقت تجهل آرائي، ستمحو آثاري، ولكن ذلك لن يكون بيد العمال السريين لبلاد الرفيق ستاروبين الروحية بطبيعة الحال بل بيد «الإنسانية السائرة إلى الأمام».

ولم أجد صعوبة في حل رموز هذه الرسالة، فقد كان معناها أنني إذا لم أعد إلى التزام الصمت فإن «العين اليقظة واليد الباطشة» ستعملان عملهما، فلا تزال المعاول في الأيدي، وقد يظن البعض أن هذه ألفاظ خطابية، ولكنني لسوء حظي أعلم الشيء الكثير عن أساليب العهد الذي خرجت عليه وعن عماله.

ويلوح أن قلم المخابرات السوفيتية في نيويورك لم يجد صعوبة ما في تتبع آثاري ومعرفة مكاني، رغم ما اتخذته من الاحتياط الشديد، وسرعان ما تبينت أن رجال هذا القلم يتسكعون في الطرقات المواجهة للفندق الذي أقيم فيه، وكثيرًا ما غيرت الفنادق، وتسميت بأسماء مختلفة، وواسيت نفسي بأني قد اختفيت عن أعينهم، ولكني سرعان ما كنت أرى هؤلاء الرجال أنفسهم يراقبون مساكني المؤقتة، وكثيرًا ما كنت أغشى المجتمعات، وأركب السيارات وهي مسرعة لأتخلص ممن يقتفون أثري، ولكن ذلك لم يجدني نفعًا.

وأردت أن أنجو مدة وجيزة من هذه الرقابة المحطمة للأعصاب، فقبلت دعوة وجهها إلي نفر من الأصدقاء الجدد لقضاء بعض الوقت معهم في مدينة وسط الأقاليم الغربية من الولايات المتحدة، وكان هؤلاء الأصدقاء من الأمريكيين الذين بحثوا عني، وتعرفوا إليَّ بعد مقالة كتبتها في جريدة الكوزمو بوليتن، وإذا كنت لم أخبر أحدًا بسفري فقد ظننت أني قد أفلحت بمهارتي في ركوب القطار دون أن يراني الرقباء، ولكني كنت مخطئًا في ظني، فقد وجدت أصدقائي الذين كانوا في انتظاري على إفريز المحطة في رعب شديد، وأشاروا إلى ثلاثة رجال ظلوا طوال الخمس عشرة دقيقة الأخيرة يراقبونهم مراقبة شديدة دون أن يخفوا اهتمامهم بهم.

وما من شك في أن هذا الثالوث كان في انتظاري، ولاحظت أن أحدهم كان يضع يده اليمنى في جيبه على الدوام، لا يخرجها منها أبدًا، ولا يحول نظره عني مطلقًا، ولما ركبنا عربتنا استقلوا هم أيضًا عربة أخرى، وساروا من ورائنا دون أن يحاولوا إخفاء أنفسهم عنا، وسرنا بعربتنا في المدينة إلى غير مكان مقصود لعلنا نفر منهم، ولكن ذلك لم يجدنا نفعًا، ولم تمر بنا السيارة الأخرى وتختفي عن أعيننا إلا حين وقفنا عند مركز من مراكز الشرطة، واستطعنا أن نقرأ رقم السيارة، ودلت تحرياتنا فيما بعد على أن لوحتها التي تحمل هذا الرقم لوحة مسروقة من سيارة أخرى.

ورأيت هذه السيارة المشئومة نفسها عدة مرات في الأيام التالية تحوم حول البيت الذي كنت أقيم فيه في إحدى ضواحي البلدة، وحدث بعد ذلك أن طُلبت عدة مرار من نيويورك نفسها للتحدث بالتليفون، وفي هذه الأحاديث كانت أصوات غريبة يدعي أصحابها أنهم «أصدقائي» تنذرني بأن حياتي في خطر، وبأن من واجبي أن أختفي عن الأنظار، وما من شك في أن الخطة الموضوعة كانت تقضي بإخافة من نزلت في دارهم ليخرجوني منها، ثم استدراجي بعدئذٍ إلى مكان خفي «يقضى» علي فيه بسهولة، وأحسست وقتئذٍ كأني عدت إلى اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية، ولم أكن في الولايات المتحدة الأمريكية بلاد الحرية، ولم أكن أدري هل أستطيع بعدئذٍ أن أعيش وأن أعمل بلا خوف على حياتي؟

واحتمل أصدقائي ذلك الضغط والإرهاب بشجاعة، وسأظل مدينًا لهم بالشكر ما حييت فقد كان مضيفي يأوي إلى فراشه ليلة بعد ليلة وبالقرب منه بلطة — وهي السلاح الوحيد الذي كان في بيته — استعدادًا للخطر المرتقب، وبرهن غيره من الأمريكيين — وبعض الروس أيضًا — في أجزاء أخرى من البلاد على أنهم لا يخشون الإرهاب السوفيتي ولا يترددون في المخاطرة بأنفسهم لينقذوا بذلك حياتي، بينا كنت أعمل في تأليف هذا الكتاب.

وها أنا ذا قد فرغت من تأليفه، وقصصت فيه قصتي، وقد يفلح القتلة الذين يدَّعون أنهم يعملون لخدمة: «الإنسانية السائرة إلى الأمام» في «القضاء» عليَّ، وقد يتصرَّم أجلي ولكنهم لن يفلحوا في محو هذا السِّفْر المُهْدَى إلى الشعب الروسي الذي أنشأني، والذي طال أمد عذابه، والذي أرجو أن يستمتع يومًا ما بالحرية الحقة والديمقراطية الاقتصادية الصحيحة.

فإذا حل ذلك اليوم فسوف نقترب حقًّا من المثل الأعلى الذي ننشده، وهو أن يكون العالم كله عالمًا واحدًا؛ ذلك أنه ما دام سدس العالم، وقد اتسعت الآن رقعته بالضم والتسلط والغدر بالأمم الضعيفة، ما دام سدس العالم عبدًا ذليلًا للطغيان يعيش في ظلام فكري حالك، فإن السلام الذي يقوم فيه سيكون سلامًا مزعزعًا، هذا إذا قام فيه سلام على الإطلاق.

وليست الخطوة التالية التي يجب أن تخطوها الشعوب نحو السلام والأمن هي إقامة نظام عالمي شامل — وإن كان هذا النظام سيقوم حتمًا في يوم من الأيام — بل هي تحرير الجماهير الروسية من الطغاة الذين يستبدون بها، وما على الإنسان إلا أن يفترض أن معجزة قد حدثت فحولت الروسيا إلى بلاد ديمقراطية لكي يوقن أن كثيرًا من التوتر الذي يسود العالم الآن ويهدد السلام العالمي سيزول من تلقاء نفسه، ويصبح التعاون العالمي الحق أمرًا غير بعيد، وقد يقال لي: إن تحرير الروسيا من نير الطغاة أمر يهم الروس دون غيرهم، وما أبعد أولئك الذين يظنون هذا الظن عن محجة الصواب؛ ذلك أن سلامة المدنية بأجمعها، وقيام صرح السلام الدائم القوي الأركان، موقوفان من وجوه عدة على هذا التحرير.

ولست من المسرفين في التفاؤل الذين يعتقدون أن هذه المعجزة ستحدث في حياة هذا الجيل، ولكني أعرف عن يقين أن أول شرط لتحرير الروسيا على يد أبنائها هو أن يفهم العالم الديمقراطي حقيقة الأحوال السائدة فيها، فإذا تم هذا فإن الرأي العام العالمي ومعونته الأدبية والروحية اللذين يسخران في هذه الأيام لنصرة استبداد الكرملن، إن هذا الرأي وتلك المعونة سيقويان أمل الروس في الحرية.

وهذا الكتاب الذي يصف قصة رجل من الروس لم ينتزع من قلبه حبه للحرية وهيامه بها، ولا تختلف حياته عن حياة سائر مواطنيه، دعوة حارة ألجأ بها إلى ضمير أمريكا وضمير العالم الديمقراطي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤