الفصل الثالث

المجد والجوع

تصرَّم شتاء ١٩١٦م وهو ينذر بانهيار القيصرية الروسية، وكان الإحساس بالكارثة الوشيكة الوقوع يسري في كياننا كله.

ذلك أن أمور الحرب كانت تجري على غير ما نشتهي، وازداد سخط الشعب وأصبح أكثر جهرة وأشد إلحاحًا، ولم يعد من الأسرار الخفية أن الجنود يفرون من ميدان القتال جماعات، وأن نظام الجيش آخذ في الانهيار، وحتى في إيكترنوسلاف نفسها امتلأ الجو بالشائعات الرهيبة عن راهب مشئوم فاسد السيرة يُدْعَى رسبوتين، وعن الفساد الخلقي في دوائر عليا، وعن الشغب والاضطرابات طلبًا للطعام، وعن وجود أنصار للألمان حول القيصرة، ولم يحاول مدرسونا قط كبح جماح كبار التلاميذ، ومنعهم أن يتحدثوا عن الثورة، وأخذ أصدقاء أبي يتهامسون بأصوات خافتة متوترة عن إثارة «الجماهير».

وكان أبي يعمل طوال اليوم في المصنع، وقلما كان يجد بعد الانتهاء من عمله متسعًا من الوقت يستريح فيه أو يغتسل أو يأكل، وكثرت الاجتماعات والمناقشات والتقارير يحملها الرسل من بتروغراد أو كيف، وكثيرًا ما كان بيتنا يتخذ في تلك الأيام محطًّا ينزل فيه الفارون من سيبيريا وغيرها من أقاليم المنفى في أقصى الشمال، وما أكثر ما كنا نحن الأطفال نُحجز عن حجرة الاستقبال حيث يجتمع عمال المصانع ذوو الوجوه الكالحة والمفكرون من أهل البلدة يتجادلون ساعات طوالًا خلف الأبواب المغلقة.

وذهب والداي في عصر يوم من الأيام ليقابلا صديقًا لهما يُدْعَى برامونوف كان قد فر وقتئذٍ من السجن، وعادا وهما في أشد حالات الاضطراب؛ فقد جاءت والدتي تبكي، وجاء أبي تصطك أسنانه، وكان برامونوف هذا أحد بحارة الطراد بوتمكين الذي كان تمرده وثيق الاتصال بثورة سنة ١٩٠٥م، ومن أجل ذلك كنا نعده بطلًا من أبطال البلاد، وكان إلى هذا إشبين أخي الأصغر، واستطعت فيما بعد أن أجمع شتات الحوادث التي وقعت وأؤلف منها قصة لم تبرح قط من ذاكرتي، بل بقيت فيها رمزًا للتضحية.

وكانت خلاصة هذه القصة أن برامونوف وعددًا قليلًا من أصدقائه اتفقوا فيما بينهم على أن يلتقوا عند ركن في مكان منعزل في حديقة المدينة، ولم يمضِ على لقائهم بضع دقائق حتى مر بهم جماعة من الأغراب يتظاهرون بأنهم يسيرون في المكان مصادفة، ولكن برامونوف ارتاب في أمرهم وظنهم من رجال الشرطة في ملابس عادية، فبادر بتوديع رفاقه وانطلق بين الأدغال وهو يرجو أن يتسلق سورًا من الأسوار ويفر منهم، وسرعان ما سمع أصدقاؤه صوت طلقات مسدس ووُجِدَ الهارب بعدها قتيلًا.

وكان في وسع أبي رغم مشاغله الكثيرة أن يقضي ليالي كثيرة وبعض أيام الآحاد مع أبنائه الثلاثة، وكنا نقطع الوقت في قراءة مؤلفات هرزن وتولستوي وغيرهما من الكُتَّاب، وكان أبي يختار منها بعض الفقرات ليعلق عليها ويشرح بها آراءه عن تحرير الروس من رق العبودية وعن الحرية البشرية، وكان لآرائه الحماسية — ولعلها كانت أيضًا آراءً غير صائبة — أعظم الأثر في مشاعري، وكان لها من القوة في نفسي ما للعقائد الدينية.

وانعقدت في ذلك الوقت أيضًا بيني وبين زميل لي في المدرسة يُدْعَى أسبيريدونوف أواصر صداقة قوية، وكان ذلك الشاب ابن أحد مدرِّسي المدرسة الثانوية، وكنت أقضي كثيرًا من الوقت في داره، وفي بيت هذا الصديق عرفت لأول مرة أسرة مثقفة كان الأدب والموسيقى والمسرح لديها حقائق واقعية أعظم شأنًا من الخبز ومن العمل، وكان والد أسبيريدونوف يوجه نهمنا في القراءة إلى آفاق واسعة لا تقتصر على روائع الأدب الروسي، بل تشمل كذلك مؤلفات شيكسبير وجوت وأناتول فرانس ونت همسن وهوجو وفلوبير وزولا ودكنز.

وإذا عدت الآن بذاكرتي إلى تلك الأيام الخالية أدهشني حقًّا مقدار ما قرأت وتنوع ما قرأت في تلك الأيام التي ازدهرت فيها حياتي الذهنية، وامتزج جمال هذه الكتب بأماني أبي العالية حتى أضحت بطريقة ما عنصرًا من عناصر الثورة التي كانت تكتسح في طريقها غلامًا مثلي في الحادية عشرة من عمره، وخُيِّل إليَّ وقتئذٍ أن الثغرة التي تفصل الأدب عن الحقائق الواقعية، والألفاظ عن الأعمال، قد أخذت تُسَد، وأنها عما قليل لن يبقى لها أثر.

وهبت العاصفة التي تجمعت نذرها من زمن بعيد في الأسابيع الأخيرة من شهر فبراير سنة ١٩١٧م (في أوائل مارس بالحساب الغربي)، ودهش الناس كلهم وتحيروا في أمرهم حتى الذين كانوا منهم أكثر الناس ثقة بهبوبها، فقد أصبحت كلمة الثورة يُنْطَق بها الآن جهرة وتجري على كل لسان، وحدث ذلك فجأة على غير انتظار بعد أن كانت هذه الكلمة لا ينطق بها إلا الأصدقاء الذين توثقت بينهم الصلات، وحتى هؤلاء لم يكونوا ينطقون بها صريحة بل كانوا يلمحون بها تلميحًا، وارتاع الناس من هذه الحقيقة العجيبة، وسرعان ما استحال ما كان يبدو من قبل حلًّا سهلًا ميسرًا للمشاكل القائمة إلى آلاف الآلاف من المشاكل الجديدة لعل أقلها خطرًا إيجاد الطعام للجائعين والكساء للعارين.

واضطربت شئون الحياة المألوفة كلها وتزعزعت أركانها، وفقدت المدارس والمصانع والمعاهد العامة ما كان لها من معنًى في عقول الشعب، وخرج أهل مدينتنا جماعات إلى الشوارع المكسوة بالثلوج حتى ضاقت بهم، وكأن البيوت ومكاتب الموظفين والمعامل قد انقلب باطنها ظاهرها، فلفظت كل مَن فيها مِن الناس إلى الميادين والمتنزهات، وقامت فيها المظاهرات، وخفقت الرايات، وعلت أصوات الهتاف، وتوترت الأعصاب، وانطلقت أحيانًا بعض الرصاصات، وطغى على هذا كله جو صاخب من الكلام، الكلام الكلام، فقد انطلق من الصدور ما كان مكبوتًا فيها من الألفاظ عدة قرون في خطب قوية عاطفية مثيرة للشعور سخينة وملهمة عالية مدوية داعية إلى الانتقام.

وامتلأ الجو بنداءات الثورة، وأخذت هذه النداءات تتكاثر ويتضاعف عديدها في كل يوم: لتسقط الحرب، الحرب حتى النصر! الأرض والحرية! المصانع للصنَّاع! هيا إلى الجمعية التأسيسية! السلطة كلها للسوفيت! وقرعت آذاننا في كل يوم ألفاظ جديدة وأسماء لا عهد لنا بها من قبل: بلاشفة، مناشفة، ثوار اجتماعيون وفوضويون … وكرنسكي وميلوكوف ولينين وتروتسكي … والحرس الأحمر والبيض والأشياع …

وأقيمت المنصات في الميادين الكبيرة، وتعاقب عليها الخطباء بعضهم في أثر بعض يخطبون الجماهير بأعلى الأصوات، ووقف عليها الرجال والنساء الذين لم تعلُ من قبل أصواتهم عن الهمسات، ثم اندفعوا الآن يصيحون ويخطبون ويسبون ويصخبون، وتنحى الرجال المتعلمون ذوو اللحى المشذبة عن أماكنهم إلى الجنود والعمال، وعلت أصوات الجماهير كهزيم الرعد تنادي: «حقًّا! حقًّا!» و«فليسقط، فليطرد.»

وجاء أبي في يوم من أيام المظاهرات تظلله أيكة من الأعلام التي صنعها المتظاهرون بأيديهم، ووقف يخطب من فوق منصة، وكأن الناس كلهم كانوا يعرفون اسمه.

وبدأ خطبته بقوله: «أيها الأصدقاء والإخوان، أيها العمال والفلاحون ورجال الفكر والجنود.»

وكانت هذه أول مرة سمعت فيها أبي يخطب في الجماهير، ولم يكن في وسعي أن أخفي تأثري، وكان صوته رنَّانًا، وقد تبدل كل شيء فيه حتى لم يكن لي بد من الرجوع إلى نفسي لأتأكد أن الذي يتحدث هو أبي بحق، وغدت الكلمات التي لم تكن من قبل تتعدى محيطنا، والتي تكاد تكون سرًّا من أسرار الأسرة، غدت هذه الكلمات بمعجزة لا يعلمها أحد تتردد على ألسنة الجماهير، فأصبح الناس كلهم وكأنهم من أفراد أسرتنا، وأخذ أبي يتحدث عن السجن والنفي، وعن حياة البطولة التي خاض غمارها الرفيق برمونوف، وعن المستقبل المجيد، ويحض الجماهير على التزام النظام وضبط النفس، ويحذرهم ممن يريدون أن يغرقوا الثورة في بحر من الدماء، وكان حديثه غاية في البساطة والإخلاص، كأن مستمعيه هم أبناؤه الثلاثة ضوعفوا مئات المرات.

ولما نزل عن المنصة وعزفت إحدى الفرق الموسيقية نشيد المارسييز اندفعت نحوه وشققت طريقي إليه بين أصدقائه المعجبين به، وصحت قائلًا: «ليحيَ بابا!» وضحك أبي حين سمع ندائي بأعلى صوته.

وقال لي: «ها أنت ذا يا فتينكا ترى بعينيك أن الشعب سينعم بالحرية، لقد كانت هذه غاية جديرة بأن نحارب من أجلها.»

وعرفت حينئذٍ — أو لعلي عرفت في مستقبل أيامي — أنه كان يبرر أعماله في نظري، ويشرح لي أسباب ما حل بأسرته من ضنك وشقاء على يديه.

وسرعان ما تقدم الشهر الأول من شهور الثورة وجاء في أثره الانشقاق والتهم والشقاء، وتبدلت الحماسة الأولى غضبًا وغلًّا في الصدور، واختلطت الألفاظ والحجج بالحجارة واللطمات وطلقات المسدسات، حتى أصبحت هذه أعظم شأنًا وأقوى أثرًا على مر الأيام، وعز الطعام وخُيِّل إلينا أن الخشب والفحم والكيروسين كلها قد اختفت، ولم تعمل بعض المصانع إلا عملًا متقطعًا، وأغلقت بعضها أبوابها، وقال الناس وبخاصة ذوو الثياب الحسنة: «ها هي ذي ثورتكم! ها هي ذي الثورة التي طالبتم بها!»

وأخذ أبي يزداد في كل يوم كآبة وصمتًا، وأصبح أكثر حساسية وأشد تأثرًا مما كان في سني الخطر والتضحية؛ ولما طلبت إليه أن يشرح لي أسباب تعدد الأحزاب والبرامج بدت عليه مظاهر الحيرة والارتباك.

وكان جوابه لي: «إن المسألة معقدة يصعب على مَنْ كان في مثل سنك أن يفهمها، إن هذا نزاع على السلطان، ومهما تكن الأهداف التي يسعى إليها أي حزب من الأحزاب المتنازعة، فإن من الخير ألا يفوز واحد منها فقط بالسلطة؛ لأن هذا الفوز لا يثمر إلا استبدال سادة جدد بسادة قدماء، وقيام الحكم المستند إلى القوة لا إلى إرادة الشعب الحرة، ولم يكن هذا هو الغرض الذي ضحَّى من أجله الثوار بحياتهم.»

ولما استمعنا مرة أخرى إلى خطب المناشفة والبلاشفة وغيرهم في معهد التعدين، وقد أصبح وقتئذٍ المركز الرئيسي لسوفيت إيكترنوسلاف، هز أبي رأسه في حزن وقال: «لقد حاربت للقضاء على القيصرية، حاربت من أجل الحرية ورغد العيش لا من أجل العنف والانتقام، يجب أن نظفر بحرية الانتخاب وأن تكثر في البلد الأحزاب، أما إذا سيطر علينا حزب واحد فقد قُضِيَ علينا قضاءً لا مرد له.»

– «وأي مذهب سياسي تدين به يا بابا؟ أنت منشفي أم بلشفي أم ثوري اجتماعي أم لك مذهب آخر غير هذه المذاهب؟»

– «أنا لا أدين بمذهب من هذه المذاهب يا فيتيا، لا تنسَ قط يا ولدي هذه الحقيقة: إن شعار أي حزب مهما يكن فيه من الإغراء لا يعد دليلًا على حقيقة الخطة التي سوف ينتهجها هذا الحزب إذا ما استولى على أزمَّة الحكم.»

وذهب أبي إلى جبهة القتال في رومانيا؛ ليكون فيها واحدًا من طائفة من العمال الدعاة للثورة، وكان لا يزال يعمل فيها في شهر نوفمبر حين استولى البلاشفة في بتروغراد بزعامة لينين وتروتسكي على أزمَّة الحكم، وتولوا قيادة الثورة، ثم عاد إلينا ليبلغنا أن الحرب قد انتهت، وأن كل ما يعمله الجند هو أن يلقوا بأسلحتهم ويعودوا إلى بلادهم، وهي أنباء عرفناها من قبل، فقد كنت أنا وكوتيا وأصدقاؤنا طلبة المدرسة الثانوية نقضي الساعات الطوال في محطة السكة الحديدية نشاهد القطر المقبلة من الجنوب والغرب، وقد اكتظت كلها بالجنود حتى امتلأت بهم أسقف العربات، وتعلقوا بنوافذها وفي أسفلها، وفاضت جموعهم على القاطرات نفسها، وأخذوا ينشدون الأناشيد ويسبون ويتشاجرون وينادون نداءات مختلفة، ولم نكن نحن الصغار ندرك معنى هذه الفوضى، وبدا أن الكبار أنفسهم لم يكونوا أقل منا جهلًا بكنهها وحيرة من أمرها.

ولم نكن ندرك من الحقائق المؤكدة التي تطبق علينا في كل لحظة إلا الجوع والبرد، فقد فقدت النقود قيمتها وخلت أرفف الحوانيت من البضائع، وعلاها التراب، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى شق علينا الحصول على الخدمات التي كانت من قبل من مظاهر الحياة العادية كتنظيف الشوارع والمخاطبات التليفونية ومياه الشرب والنقل، وصارت هذه الأعمال نادرة باهظة النفقة أو ممتنعة بتاتًا، وفشا وباء التيفوس حتى كانت جنازات الموتى مواكب متصلة تسير طول النهار.

وكانت بابشكا من زمن بعيد تدخر كِسرًا من الخبز المجفف، وكانت من آنٍ إلى آنٍ تحمصها وتهديها إلى الدير الذي كانت تؤثره بها عن غيره، وإلى ملاجئ الأيتام، فلما أزفت الآزفة حمدنا لها حسن صنيعها، وادخرنا كل كسرة منها لأنفسنا، واختفى من بيتنا ضوء المصباح الدفيء المبهج، وخُيِّلَ إلينا أن أيامه الحلوة قد أصبحت في خبر كان، وحلت محله ذبالة مغمورة في صحن زيت صغير، لم يكن لدينا وسيلة غيرها تضيء لنا ليالي الشتاء الطوال.

وفي هذا الضوء المضطرب الضئيل كنت أقرأ لجدتي بصوت عالٍ من الكتب التي تحبها، وهي كتب نكراسوف وتولستوي وترجنيف، وكانت بين الفينة والفينة تعيد بعدي عبارة تعجب بها فيلهيها هذا عن سماع ما يتلوها من العبارات.

وبينا كنت ذات ليلة أقرأ لها مقالة من مقالات ترجنيف شعرت بيدها تتحسس يدي، وواصلت أنا القراءة، ولما استرخت قبضتها ظننت أنها استغرقت في النوم، وأوشكت أن أتسلل من الحجرة على أطراف أصابعي حتى لا أوقظها من نومها، ولكني نظرت إلى وجهها فرأيت عينيها مفتوحتين، ووجدتها ساكنة سكونًا عجيبًا، وشاهدت ابتسامة عذبة مطبوعة على شفتيها.

وصرخت قائلًا: «بابشكا! بابشكا!» وأقبل مَنْ في الدار مسرعين.

وكان موت جدتي لأمي من الحوادث التي ظلت منقوشة في الصورة المرسومة في ذهني عن الثورة، وكانت هذه السيدة امرأة قوية الجسم حتى طحنتها رحى الجوع والبرد بثفالها، وظللت أنا وأسبريدونوف نطوف بالمدينة عدة ساعات حتى وجدنا قليلًا من الأزهار النضرة ننثرها على تابوتها، فقد بدا لنا أن نقلها إلى مقرها الأخير بغير أزهار أمر لا يليق.

واستقر النظام السوفيتي في شمالي البلاد، أي في الروسيا الأصلية، بعد أشهر قلائل، أما في سائر البلاد وبخاصة في أوكرانيا، فقد دامت الحرب الأهلية عدة سنين، وكانت حربًا وحشية جرت فيها الدماء وسادها الاضطراب، ولم تَخْلُ في معظم الأحيان من الفساد الطليق، وكانت السلطة في إيكترنوسلاف تنتقل من جماعة إلى أخرى، ثم تعود إلى الجماعة الأولى فيما لا يزيد على شهر واحد، وكثيرًا ما كانت تتداولها الأيدي عدة مرات في الأسبوع، ولم نعد نحاول أن نذكر أي الجماعات تمثل السلطة العليا في الإقليم، أهي جماعة الحمر أم البيض أم الخضر، أم أتباع بتليوري، أم قوى هتمان اسكروبودسكي أم بنكومخنو أم جريجوريف، واحتل الألمان بلدتنا بضعة أشهر، ثم جلوا عنها، وجاءت بعدهم طوائف من الجنود المتنافسين، معظمهم في أثواب بالية ممزقة، وكلهم لا يقيمون وزنًا لحياتهم ولا لحياة غيرهم، وأخذوا يتعاقبون على مدينتنا البائسة الهزيلة.

ولا تزال صور من تلك الأيام منقوشة في خيالي كأنها صحف مُزِّقَت من كتاب.

منها صورة جنديين يرتديان حلتين من حلل جنود القيصر ويمتطيان صهوة جوادين يندفعان في طريق بشكين الكبير بالقرب من بيتنا، يطاردهما فارسان صينيان يهز أحدهما سيفًا والثاني بندقية، ويقف الفارس صاحب البندقية فجأة، ويصوب بندقيته ويطلقها، ويهوي أحد الجنديين الأبيضين عن ظهر جواده، ويقف الجواد فلا يتحرك، وينتظر زميله هنيهة لينظر ماذا جرى، فيتيح بذلك الفرصة للفارس الصيني الآخر أن يلحق به ويطعنه طعنة نجلاء، وهو يصيح بأعلى صوته، فيسقط الأول كومة من اللحم مضرجة بالدماء فوق الحجارة، وتبقى الجثتان المشوهتان لا يحركهما إنسان في هذا السكون المفاجئ.

وجئت أنا وكوتيا مرة أخرى إلى محطة جوريانوف في الطرف النائي من المدينة بعد أن سِرْنا مسافة على أقدامنا كنا نتجادل فيها جدالًا عنيفًا في موضوع كتاب نقرؤه، وكانت الليلة السابقة ليلة رهيبة لم ينقطع فيها إطلاق النار، وإن كان أحد من أهل المدينة لم يعرف مَن كان يطلقه ومَن كان يطلق عليه، فلما وصلنا المحطة ألفينا جثث الموتى منتشرة فيها، ورأينا على القضبان قطارًا مملوءًا بالجنود الألمان، وعلى أرض المحطة كثيرًا من الألمان في ثياب سميكة دفئة، يضحكون ويتنقلون بين جثث الموتى، ووقف إلى جانب كومة من هذه الجثث جماعة من الجند يأكلون الشطائر ويشربون القهوة، ويضع كل واحد منهم إحدى قدميه على جثة من الجثث ليستريح.

وأسمع في إحدى الليالي بعد أن مضى هزيع من الليل جلبة خارج بيتنا، فأهرول لأستطلع جلية الأمر، وأرى الأرض مغطاة بالثلج يتلألأ في ضياء القمر، ويطرق أذني نباح كلب في مكان ما، ولا أكاد أقف حتى يمر بي رجل ضخم الجسم ينطق بألفاظ الفحش كأنه ثمل، وقبل أن تمضي على ذلك بضع ثوانٍ يجيء في أثره رجال كثيرون يلوحون بالخناجر والعصي والبنادق، وأبقى حيث أنا لحظة أنصت فيها إلى طلقات بعيدة، وصراخ يدوي في سكون الليل، فلما أصبح الصباح كان كل من في المدينة يتحدث عن هذه المطاردة، وعن بيلوشيكا صاحب القلنسوة البيضاء وزعيم اللصوص، الذي طارده الحرس الأحمر في أحياء المدينة سيرًا على الأقدام، حتى التجأ إلى شارع منعزل فضيقوا عليه الخناق وقتلوه رميًا بالرصاص.

وقلما كان يمر يوم واحد لا تُرْوَى فيه قصص مروعة عن المذابح المدبرة في الأحياء اليهودية، وعن غارات العصابات المسلحة على المصارف المالية، وعن الهجوم على قطر السكك الحديدية، وتعاقبت الحكومات فكانت كلما جاءت واحدة منها لعنت سابقتها ووصفتها بأنها «عصابة مسلحة»، حتى إذا أفلت زمام الحكم من يدها أصبحت هي الأخرى «عصابة مسلحة» كأختها، ومر بنا أسبوع، ولعله أطول من أسبوع، بلغ فيه الاضطراب غايته حين تولت الأمر حكومة «مخنو» أو الحكومة الفوضوية التي تحصنت في إيكترنوسلاف، ولكن الحمر لم يلبثوا أن عادوا إليها، وقضوا على حكومة مخنو فأضحت كأن لم تغنَ بالأمس.

وليس من السهل أن يرسم أحد صورة لهذا العهد كما ارتسمت في مخيلة غلام ممن كانوا يعيشون فيه، نعم إن كثيرًا من الأحداث التي عرفناها أو فهمنا معناها بعدئذٍ قد انطبعت في تلك الصورة، ولكن الحقيقة المدهشة التي لا تفتأ على طول العهد ماثلة في أذهاننا هي أن شئون الحياة العادية ظلت تجري في مجراها بطريقة لا نعرف كنهها خلال الاضطراب الناشئ من الحرب الأهلية والفتن الحماء، وأخطار ذلك العهد وأهواله، فقد ظللنا كسابق عهدنا نعمل وندرس ونأكل وننام ونقرأ ونضحك ونعقد صداقات جديدة، بل بلغ من أمرنا أننا كنا نضع الخطط للمستقبل؛ ذلك أن الاضطراب أصبح في تلك الأيام من الأمور الطبيعية المألوفة، بل إنه كاد يصبح طريقة من طرائق الحياة، لقد كان هذا الاضطراب عنصرًا جديدًا من عناصر الحياة اليومية الرتيبة.

وسبب ذلك أن الحياة — أي إرادة البقاء وعادة البقاء — كانت أقوى من أعمال العنف ذاتها.

كانت البرقية التي جاءت إلينا من ألكسندروفسك بتوقيع عمتي شورا، وكانت تسألنا فيها هل جاءنا عم بطرس لسبب ما؟ وأبرق أبي في الحال أنه ليس عندنا، ثم جاءتنا بعد بضعة أيام رسالة تقول: إن عمى بطرس قد وُجِدَ ميتًا مقتولًا، وإن حضورنا جنازته إن استطعنا قد يخفف من وقع المأساة على الكبار من أفراد الأسرة.

وسافر أبي من فوره وإن كان قليل الرجاء في أن يصل إلى ألكسندروفسك قبل موعد الجنازة، وقرر بعد أن استشار والدتي في الأمر أن يأخذني أنا وكوتيا معه، فقد يكون منظر الحفيدين الصغيرين القويي الجسم المفتولي العضلات بلسمًا لجراح الأبوين الثاكلين.

ولم يشترك بطرس في اضطرابات الثورة؛ لأن شئونها كلها كانت تسبب له الملل والضيق، وكان يخيل إليه أنها تقطع على الناس حياتهم، وهي حياة في وسعهم أن يجعلوها على قصرها سارَّة هنيئة إذا امتنعوا عن العبث بها ومحاولة إصلاحها، ولما عاد من ميدان القتال خلع حلته العسكرية وحصل على منصب مدير لمصرف صغير في ألكسندروفسك، ولم نكن ندري حين ركبنا القطار كيف قضى الرجل نَحْبَه.

وكان القطار مزدحمًا بالركاب حتى كاد يختنق بهم، فقد كان آلاف الآلاف من الناس وقتئذٍ — أو لعلنا قد خُيِّل إلينا أن آلاف الآلاف منهم — يسافرون فارين من نار إلى نار لينجوا بأنفسهم من أتون الثورة القومية المشتعل في جميع أنحاء البلاد، وكانوا تارة يبتعدون عن الانتقام بضع خطوات، وتارة أخرى يندفعون إليه ليتعجلوه، ولم يكن في القطار شبر واحد خاليًا من الركاب والأمتعة، فقد كان الناس يجلسون على رفوف النوم العليا تصطدم أحذيتهم الموحلة وأقدامهم الملفوفة بالخرق البالية بأرجل من تحتهم من الآدميين، وكان جو القطار ثقيلًا مليئًا بالرائحة الكريهة.

ولما وصل محطة سلافجو رود ذهبت إلى دورة المياه لآتي بقليل من الماء، فلما عدت رأيت رجلًا واقفًا بباب العربة يحمل في يده مسدسًا من طراز موزر، فراعني هذا المنظر وصحت قائلًا: «بابا»، فرد عليَّ الرجل بقوله: «لعن الله أباك! ادخل إلى العربة وأمسك عن الصياح، وإلا أرديتك قتيلًا.»

وبدأ القطار يتحرك ساعة أن اتخذت طريقي إلى جانب أبي، ورأيت الركاب جميعهم وقد رفعوا أيديهم فوق رءوسهم، وأخذ الأطفال يبكون من الخوف بأصوات خافتة، ووقفت عند كلٍّ مِن طرفي العربة شرذمة من الرجال المسلحين، وأخذت شراذم أخرى تجمع النقود والبضائع القيِّمة من ركاب العربة جزءًا جزءًا بطريقة منظمة حتى وصلت إلى الجزء الذي كنا فيه.

وصاح أحد أفراد العصابة في وجه أبي بصوت الآمر المغيظ: «أي شيء معك؟ هاته!»

فأجابه أبي وهو هادئ يبتسم: «أي شيء معي؟ إن معي ساعة وقليلًا من النقود الصغيرة وولديَّ.»

ولما تمَّ للصوص مغنمهم هدأ سير القطار مرة أخرى وقفزوا منه، وانبعثت طلقات نارية من بعض العربات، وشاهدت أحد اللصوص يقف كأن الطلقات أدهشته، ثم يسقط من مكانه ببطء، وقتل أحد الركاب لصًّا آخر قبل أن ينزل من القطار، وكان جسمه لا يزال معلقًا به حين وصلنا إلى مستقرنا، وما من شك في أن الذين هجموا على القطار في هذه المرة لم يكونوا رجالًا دُرِّبوا على هذا العمل من قبل، وإلا لما حدث لهم ما حدث.

ولم أكد أعرف ألكسندروفسك حين أقبلت عليها، فقد زال عنها في هذين العامين ما كان لها من سحر وفتنة، وذهبت أناقتها وأفسدها «كر الغداة ومر العشي». ورأيت محطتها مهجورة خالية، ومصابيح شوارعها محطمة، وحتى الثلوج التي تكسو أرضها قد علتها الأقذار، ولما سأل أبي أحد الناس: «أية طائفة تتولى الحكم؟» هز الرجل الغريب كتفه مشمئزًّا، وتمتم قائلًا: «علم ذلك عند الشيطان!»

وخُيِّلَ إليَّ أن البيت الذي قضيت فيه أسعد أعوام طفولتي قد انكمش وتقادم عهده بين يوم وليلة. ووصلنا المدينة متأخرين عن موعد الجنازة فلم نشترك فيها؛ وذلك لأنا لم نتسلَّم رسالة شورا في الوقت المناسب، ورأيتها تخيط شيئًا في ركن من أركان الدار، وقد احمرَّت عيناها وجرى الدمع على خدَّيها، وعانقتنا جدتي نتاليا مكسمفنا، وحاولت أن تبتسم كسالف عادتها، ولكن بريق عينيها قد زال عنهما إلى غير رجعة، ولم تستطع أن تتملك عواطفها أكثر من بضع لحظات، ثم أخذت تولول وتنظر إلى المصباح الموقد تحت الصورة المقدسة، وترسم علامة الصليب على صدرها المرة بعد المرة.

«إن بيتيا عمك الصالح يا فيتيا لن يعود إليك أبدًا! لقد ذهب ولدي الصغير بيتيا إلى غير رجعة، رباه لقد قتلوه ولن يعود إلينا أبدًا.»

وجلس فيودور بنتليفتش عند نهاية المنضدة ولم يلقِ بالًا إلينا، وكان من أصعب الأشياء أن أصدق أن هذا الرجل هو جدي الوقور القوي، فقد تبدل كأن شيئًا من داخل جسمه ذاب وتركه جسدًا مترهلًا وعظامًا نخرة، ثم نظر إلينا بعد هنيهة، وهز رأسه بالتحية، وقام من مكانه على مهل.

وقال وقد مُلئَ صدره حقدًا: «ها قد وقع يا أندراي ما كنت تنتظره! ها هي ذي ثورتك الحبيبة إلى قلبك! ها هم أولاء يقتتلون ويتبادلون إطلاق الرصاص، ويسرق بعضهم بعضًا، ويعذبون الجماهير بالجوع والبرد! وها أنت ذا لا ترى ثورة بل ترى اغتيالًا وجرائم.»

وعلا صوته من شدة الحزن والغضب، وصاح وهو يقبض على كتفي أبي ويهزهما هزًّا: «ويل لأبناء الكلاب! لِمَ قتلوا بُطرسًا؟ وبأي ذنب قتلوه؟ إن الألمان لم يقتلونا ولم يفعلوا بنا ما يفعله إخواننا الروس. شكرًا لك يا أندراي، شكرًا لك على ثورتك الحبيبة إلى قلبك.»

وأطرق أبي برأسه وظل صامتًا لا يحير جوابًا، فقد رأى ألا جدوى في الألفاظ والشروح، وأبصرت أسرة فيودور بنتليفتش عميدها يبكي أمامها لأول مرة، وبللت الدموع لحيته البيضاء وعلقت بها، وسار متباطئًا إلى ركن الدار الذي علقت فيه الصور المقدسة، وقد زايله انتصاب قامته العسكري وخر راكعًا وقال: «اهدِ اللهم عبيدك الضالين، ولا تسلط الأخ على أخيه والابن على أبيه، ورُدَّ على عبيدك عقولهم ونجهم من الهلاك.»

ثم قام بعد أن هدأ روعه، ومسح الدموع عن خديه، وقال: «لعل الله يغفر لك يا أندراي كما يغفر لك أبوك.» ثم التفت إلى زوجته وقال: «أطعمي الأطفال وأنيميهم.»

وأخذت شورا بعدئذٍ تحدثنا عن موت أخيها وهي تبكي وتنتحب؛ فقالت: إنه لم يعد من المصرف في ليلة من الليالي، فظنت أنه ربما قرر لسبب ما أن يزورنا في إيكترنوسلاف، ومن أجل ذلك بعثت إلينا بالبرقية التي جاءتنا، وبعد أربعة أيام من تغيبه وجد أحد الفلاحين جثته بالقرب من إحدى الطرق على بعد من المدينة، وقد دُسَّ منديل في فمه، وشُدَّت يداه خلف ظهره، واخترقت عدة رصاصات رأسه، وأُخِذَت منه مفاتيح المصرف التي كان يحتفظ بها معه عادة.

وعادت شورا تندبه قائلة: «لقد سكت قلبه ولكن ساعته كانت لا تزال تدق، الساعة التي تُمْلأ كل خمسة أيام، والتي كان بيتيا يفخر بها.»

ولعل سبب مقتله أن جماعة من اللصوص أرادوا أن يسرقوا أموال المصرف، فاغتصبوا مفاتيحه من بطرس، ثم بدا لهم أن يقتلوه ليتخلصوا من شاهد عليهم، وربما كانوا ممن يعرفهم عمي، ولعلهم بعدئذٍ خارت عزيمتهم، فلم ينفذوا ما أرادوا من السرقة.

وعدنا إلى بلدنا محزونين تتشعبنا الهموم، ولم يفق جدي من أثر الكارثة التي حلت به من جراء موت ابنه الأصغر، فقضى نحبه بعد أشهر قليلة، ولحقت به زوجته بعد زمن قصير.

كانت ضيعة إلين بالقرب من كربينو على نهر الدنيبر من أغنى الضياع وأكثرها جمالًا في ذلك الإقليم، فقد كانت تضم آلافًا مؤلفة من الأفدنة الخصبة التربة تنتج القمح، ومساحات واسعة من أرض الكلأ والغابات وبساتين الفاكهة، كما كان فيها كثير من الإصطبلات ومصانع الألبان الواسعة، وكانت تخترقها الطرقات المرصوفة بالحصباء، تظللها الأشجار، وتلتقي عند القصر العظيم الذي كان يسكنه أصحاب الضيعة في غابر الأيام، وينعمون فيه بمباهج الحياة، وكان النهر في تلك البقعة بخلع على الضيعة شيئًا من هدوئه وجلاله، فقد كان يشق طريقه أسفل الصخور الصلدة الوعرة، وكأن الطبيعة قد أجهدت نفسها لتخلع على هذا الركن من أركان الريف كل ما فيها من تباين، وتكسوه حلة من الجمال لا يكاد يوجد لها مثيل.

فلما قامت الثورة قسمت معظم الأراضي على الزراع الذين كانوا يعملون فيها، ولكن قلب الضيعة نفسها، ويشمل خمسمائة فدان من الأرض المنزرعة، والبستان العظيم، وبِرْكَة لتربية السمك، وقصر إلين نفسه وغيره من الأبنية؛ كل هذه قد جُعِلَت في بداية عام ١٩١٩م مزرعة تعاونية لصنَّاع المدينة، واستقرت فيها نحو مائة أسرة جيء بها من إيكترنوسلاف، وكانوا يطلقون عليها اسم النبات، وهي كلمة روسية معناها «قرع الأجراس».

وكان آل كرافتشنكو من بين هذه الأسر، وبقينا أربع سنين أو نحوها حتى بلغت السابعة عشرة من عمري نتخذ المزرعة التعاونية موطنًا لنا، والحق أن أبي كان من الذين وضعوا أساس هذا المشروع، وهو الذي جاء إليها بعدد كبير من عمال المصنع الذي كان يعمل فيه، وحبَّذ سوفيت الإقليم هذه الفكرة وقسَّم الأرض، وأمد الوافدين ببعض ما يحتاجونه من الأدوات والماشية زيادة على ما كان باقيًا منها في الضيعة القديمة.

أما في المدينة نفسها فقد كاد الإنتاج أن يقف لقلة المواد الغفل، وعز الطعام حتى أصبحت تهددها المجاعة، وأخذ الناس يهاجرون إلى الريف لعلهم يجدون فيه ما يرد عنهم غائلة الجوع، وكانت المجاعة الروحية هي الأخرى من أسباب هذه الهجرة، فقد كان بعض المهاجرين يتوقون لأن يحققوا في إحدى المزارع التعاونية ولو قليلًا من الأحلام التي كانت تتراءى لهم في سني حماستهم الأولى للثورة، وكانوا يأملون أن يكون «قرع الأجراس» نذيرًا يذكر الناس بالمثل الأعلى للأخوة الذي نسوه في غمرة نزاعهم واقتتالهم، حين أخذ الشيوعيون يستعينون بالجاسوسية للقبض على الناس جماعات، وإعدامهم رميًا بالرصاص لأتفه الأسباب.

ودُعِيَ والدي أكثر من مرة للانضمام إلى الحزب الشيوعي، ولكنه لم يلبِّ الدعوة، وكان يقول في شيء من الغلظة إن معدته لا تهضم الطغيان والإرهاب وإن استظلا بالراية الحمراء، ورأى رجالًا من المال ومن أرباب الفكر ممن ظلوا طوال حياتهم بمنأى عن النزاع مع القيصر ينضمون إلى الحزب الشيوعي بعد أن بدا لهم أن السلطة الدائمة ستئول إليه، ووضع بعضهم لأنفسهم سيرًا ثورية خيالية، ولكن هذا كله لم يفد إلا في تقوية عزيمته على أن يبقى مجاهدًا حرًّا في الكفاح لإصلاح شئون العالم.

وجاء صناع المدن إلى المزرعة ممتلئين غيرة وحماسة، بلغت حد الاستخفاف بالأخطار، وكان همهم الأول بطبيعة الحال أن ينتجوا القوت ليطعموا منه أهلهم، ولكنهم كانوا يريدون فوق ذلك أن يبرروا بإنتاجهم تضحيتهم الأولى في سبيل القضية السياسية، وكان الزُّرَّاع الأولون من أهل مزرعة إلين وما جاورها يسخرون من صناع المدن المنعمين الذين انقلبوا زُرَّاعًا، ويقولون هازئين: «سنرى الآن كيف يفلح الشيوعيون أرضنا.»

وكانت سخريتهم اللاذعة صادرة من قلوب طيبة، ومنطوية على صداقة ساذجة، كما كان الكثيرون منهم يأتون إلينا ليرشدونا ويقدموا لنا المعونة في كل عمل من أعمالنا الزراعية، ولم يُظْهِر هؤلاء الفلاحون تبرمهم من هذه التجربة، بل كانوا يأخذون الزُّرَّاع الجدد في كنفهم ويبسطون عليهم شيئًا من الرعاية غير الرسمية، ويرعون لهم حق الجوار، وكثيرًا ما كانوا يأتون إليهم حين تشتد الحاجة إلى الأيدي العاملة، ويمدون لهم يد المساعدة؛ ولهذا كانت السنة الأولى سنة رخية ناجحة بفضل هذه المعونة، وبفضل الخبراء الزراعيين الذين جاءوا من مدرسة إرَسْتُفكا الذائعة الصيت، وإن لم تكن هذه المدرسة قريبة من المزرعة التعاونية.

وكانت حياة الشبان في هذه المزرعة مليئة بكل ما يدعو إلى النشاط ويستثير المشاعر، وأحببت أنا العمل وحياة الريف وشعور الزمالة مع رفاق مثلي. وقلق آباؤنا من جراء إهمال تعليمنا، وحاولوا أن يعوضونا عن ذلك الإهمال بشيء من التعليم الناقص، ولكن أحدًا منا لم يكن يشاركهم في فزعهم هذا، وكنا نقضي الفترات القصيرة التي نخلو فيها من عملنا المجهد في السباحة وصيد السمك والتجديف والألعاب الرياضية وارتياد الأقاليم المجاورة لنا، ووجدت أن المجال واسعًا لإشباع حبي للخيل، وهو حب متأصل فيَّ كأنه جاء معي إلى العالم من يوم وُلِدت. وكان يسرني أن أقدم المعونة إلى جراشف سائس الخيل في المزرعة، كما كانت حياة الزُّرَّاع تستهويني، فاتخذت منهم أصدقاء لي أقضي في بيوتهم كثيرًا من الليالي مع من كان من أبنائهم وبناتهم في مثل سني.

ولم تكن الحرب الأهلية بعيدة عنا بطبيعة الحال، وكم من مرة سببت الاضطراب لحياتنا، وكم من مرة أوشكت أن تمحو مزرعتنا التعاونية من الوجود، ولشد ما كنت أنا وقنسطنطين نفخر بأنا قد كبرنا وأصبح في مقدورنا أن نشترك في الوحدات المسلحة التي أنشأها أبي وغيره من الزعماء للدفاع عن مزرعتنا، بل إن أخي الأصغر أوجين نفسه قد تعلم وقتئذٍ استخدام الأسلحة النارية، وكانت هذه القرية مسرحًا للمعارك بيننا وبين المغيرين من الحمر أو البيض أو العصابات الأخرى التي لا لون لها من قطاع الطرق، الذين كانوا يغيرون على المزرعة يطلبون الطعام والغطاء والخيل نفسها في بعض الأحيان، وكان التظاهر بالقوة مضافًا إلى استعدادنا لأن نقتسم مع الوافدين ما نستطيع الاستغناء عنه من مواردنا سببًا في نجاة المزرعة من هجمات كبريات العصابات النهابة الجوالة.

ومن حوادث ذلك الوقت حادثة لا تُمْحَى أبدًا من ذاكرتي، فقد كنت في صباح أحد الأيام أرعى الخيل على نشز من الأرض استطعت بفضله أن أرى الحادث الذي أصفه للقراء واضحًا أمامي كأني أرقبه على شاشة في دار خيالة. خرج جماعة من الفرسان تبلغ عدتهم حوالي ثلاثمائة معظمهم من القوزاق وغيرهم من الروس البيض، خرجوا فجأة من الطريق الرئيسي يركضون فوق حقول القمح متجهين نحو النهر، وجاءت في إثرهم جماعة أخرى من الحمر أكثر منهم عددًا تطاردهم مطاردة عنيفة. وضيق الحمر الخناق على البيض فلم يجد هؤلاء سبيلًا للنجاة إلا بالاندفاع إلى ماء النهر من فوق الجرف الصخري، وحاولوا أن يعبروا النهر سباحة ولكن مطارديهم نصبوا مدافعهم الرشاشة على حافة الأجراف الصخرية وحصدوهم عن آخرهم.

وتكررت هذه الحادثة بجميع تفاصيلها تقريبًا بعد شهر واحد من ذلك التاريخ أو أقل، مع فارق واحد، وهو أن الحمر في هذه المرة هم الذين دُفِعوا إلى النهر من فوق الأجراف الصخرية، وأنهم هم الذين قُتِلوا واحدًا بعد واحد حين كانوا يحاولون العبور إلى الشاطئ الآخر، وألفنا نحن رؤية أجسام الموتى تقذفها المياه إلى أرض الضيعة أو قريبًا منها حتى لم نعد نذكر هذه الحوادث.

وحدث مرة بعد الحصاد الأول في ليلة من ليالي الخريف قبل أن يخيم الظلام أن كنت أنا وجراشف في أحد الإصطبلات، فأقبلت نحونا عربة من عربات الزُّرَّاع يجرها جوادان وفيها أربعة رجال وامرأة، وكان الركاب والخيل جميعهم يكسوهم العثير ويتصبب منهم العرق، ونصب في مؤخر العربة مدفع رشاش، وكانت المرأة في نحو الثلاثين من عمرها وعلى شيء من الجمال، وكانت تعلق على ملابسها شارة الممرضات، أما الرجال فكان أحدهم يلبس ملابس المدنيين، واثنان منهم يرتديان الزي الرسمي للتشيكا وهم رجال الشرطة السوفيتية السرية الرهيبة، التي أصبحت تقذف الرعب في القلوب، ولما يمضِ على إنشائها إلا وقت قصير، وأما الرابع فكان رجلًا بدينًا غليظًا يرتدي زي البحارة.

وعرَّفنا الرجل المدني بنفسه فقال إنه ليهومانوف، وهو نفس ليهومانوف الذي أصبح فيما بعد رئيس لجنة إيكترنوسلاف الإقليمية، وصاحب الأمر والنهي في ذلك الإقليم. وقال لنا إن سَرِيَّة من البيض تتعقبهم، وإنهم في حاجة إلى خيل جدد تمكنهم من الهرب، وقال: إن الوقت لا يسمح لهم بأن ينتظروا حتى نستشير أحدًا، وإن في وسعنا إن كنا نريد أن نسترد خيلنا أن نصبحهم إلى كمسكوى.

ورضينا بهذه الخطة، وسرعان ما كنا نحن السبعة في العربة نسوط الخيل ونندفع في الطريق مسرعين حتى لم يكن في وسعنا أن نتبين ما كان ملقًى على الجانبين من جثث الموتى التي ظنناها حجارة وأنقاضًا، وحدثنا ليهومانوف عنها فقال إن معظمها من جثث الحرس الأحمر، وإن واقعة حربية عنيفة حدثت في ذلك المكان في الأيام القليلة الماضية.

وكان البَّحار يصيح من حين إلى حين قائلًا: «سنأخذ حقنا من أولئك الأنذال، سنقطع حواصلهم أبناء الكلاب.»

ولم تحدث لنا حوادث غير مستحبة حتى اجتزنا قرية أُولِي، وبدأت أظن أن معظم الخطر الذي كنا نريد النجاة منه خطر موهوم، فلما أن اجتزنا أولي انثنينا إلى طريق مجاور للنهر، ولم نكد نسير في هذا الطريق عشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة على الأكثر، حتى طرق أسماعنا دق الطبول وركض خيل مقبلة من خلفنا، وأدركنا أن نحو اثني عشر رجلًا كانوا يقتفون أثرنا، وكان في وسعنا أن نسمع صراخهم دون أن نتبين أقوالهم، وعرفنا من هذا الصراخ أنهم يأمروننا بالوقوف، وقفز بحارنا من مقعده إلى جانب المدفع الرشاش وهو يسب ويلعن، وأخذ يطلق منه الرصاص، وشاهدنا بعض مَن كانوا يطاردوننا يهوون عن ظهور الجياد، وأكبر الظن أن الذين بقوا منهم على قيد الحياة قد كفُّوا عن مطاردتنا.

ووصلنا كمنسكوى في تلك الليلة، ونزلنا في بيت صغير اتضح لنا أن من فيه يعرفون ليهومانوف، وكان مما قاله لي: «ستنام الليلة مع الممرضة في حجرة واحدة، فأنت لا تزال طفلًا.» واختص جراشف والبحار بحجرة أخرى مجاورة لحجرتنا، واتفقا على أن يتناوبا حراسة العربية والجوادين، وخرجت من الحجرة بعض الوقت لأتيح للممرضة أن تأوي إلى الفراش، ثم عدت إليها وخلعت ملابسي في الظلام، ولم ألبث إلا قليلًا حتى استغرقت في النوم.

واستيقظت من نومي بعد بضع ساعات كما أظن على أصوات مهتاجة وجلبة شديدة طردت الرقاد من عيني، فسمعت الممرضة تصرخ بصوت مختنق ونغمة هستيرية: «دعني أبها الوحش، وإلا أيقظت كل من في البيت! اخرج من هنا لساعتك!» وكان يتسرب إلى الحجرة من ضوء القمر ما يكفي لأن أتبين بحارنا مرتديًا نصف ملابسه، وقد انقلبت سحنته من أثر هياجه، وهو يحاول أن يغتصب الممرضة، وكانت هي تقاومه بكل ما فيها من قوة، وقد انتفش شعرها، وتعرى ثدياها حيث مُزِّق قميصها.

وما أن رآني البَّحار أجلس في فراشي حتى خلَّى سبيلها وخرج مسرعًا من الحجرة وهو يسب ويلعن، وأغلق الباب من ورائه بدوي شديد، وسمعته يتمتم قائلًا: «أيها المزارع القذر!» أما الممرضة فأخذت تبكي وتنتحب.

وقالت والعبرات تكاد تخنقها: «أولئك القوم، أولئك القوم الغلاظ، أولئك هم الذين تقوم على أكتافهم الثورة.»

وعرضت عليها وأنا مضطرب مثلها أن أدعو ليهومانوف وسائر مَن معه.

فأجابت بقولها: «لا، خير لنا ألا نضايق ليهومانوف، فحسبه ما هو فيه، إنه من خيار القوم، وهو رجل من ذوي المُثل العليا حقًّا.»

ولم ننم في تلك الليلة بعد هذه الحادثة، بل ظللنا نتحدث — أو بعبارة أصح ظلت هي تتحدث وأنا أستمع إليها — حتى طلع الفجر، وكان مما قالته لي أنها ابنة أحد كبار الموظفين في حكومة القيصر، وأضافت إلى ذلك قولها: «ولما شبت الثورة احتضنتها وألقيت بنفسي في تيارها؛ لأني كنت طول حياتي أحب عامة الشعب وأتوق إلى مساعدتهم، ومن أجلهم قطعت صلتي بأسرتي، وذهبت إلى مدرسة الطب في خاركوف، أتلقى فيها دروسًا في التمريض، وأنا الآن في جماعة التشيكا — الشرطة السرية — وأنا أبغض الشيء الكثير من فعالهم، ولكني أعمل في مداواة الجراح لا في التقتيل.

وينبغي لنا ألا نفقد الأمل أو نتخلى عن الكفاح منضمين إلى الآلاف من أشراف الناس أمثال ليهومانوف، وإن وُجِدَ بيننا أولئك الطعام والوحوش أمثال ذلك الرجل الذي هجم عليَّ في هذه الليلة، وإنك لتجد في مقابل هذه الحادثة القذرة مائة من حوادث الشهامة والبطولة.»

ثم أسرَّت إليَّ بأن ذلك الرجل الذي همَّ بها لم يكن بحَّارًا بحق، فهو قد عثر على حلة البَّحارة في مكان ما، ولبسها لأنها ترفع من شأنه في أعين الثوار.

ولما عدت أنا وجراشف على ظهري جوادينا إلى ضيعتنا في صباح ذلك اليوم حدثته بما وقع في أثناء الليل، وكان هو صانعًا بسيطًا لا يفهم إلا القليل مما يحدث في البلاد، ولكن أسبابًا قوية أعادت إلى ذاكرتي في السنين التالية ما قاله لي وقتئذٍ: «نعم، يا فيتيا، لقد كانت تلك الممرضة على حق فيما قالته، إن في الثورة كما في كل شيء سواها ما هو خير وما هو شر، ولكن المسألة هي هذه: أي الطائفتين سيكون لها الغلبة حين تهدأ الثورة وتستقر الأمور، طائفة الأشراف أو طائفة الوحوش؟ أتكون الغلبة لأمثال ليهومانوف أم لأمثال البَّحار الزائف؟»

والآن ونحن نسير على مهل، كان في وسعنا أن نشاهد الجثث التي مررنا بها في مساء اليوم الماضي، وكنا نرى في بعض الأماكن تلالًا من الأرض قد كُوِّمَت حديثًا، ودفن فيها الفلاحون أهل تلك الجهات بعض الموتى، وكان كثير من أجسام الموتى عاريًا، وقل منهم من كانت في أرجلهم أحذية، فقد كانوا يجردون من ملابسهم ليكتسي بها الأحياء.

وأُدْخِلْتُ أنا وقنسطنطين في مدرسة إرستفكا الزراعية في كمسرفكا في أواخر فصل الحصاد الثاني، أي في خريف عام ١٩٢٠م.

وكان هذا المعهد قد أنشأه في الجيل الذي قبل الثورة رجل من كبار الملاك في ذلك الإقليم يُدْعَى إرستس برودسكي، كما كان ينفق عليه بكرم وسخاء، واقتطع الأرض اللازمة له من ضيعته الخاصة، وأقام له أبنية فخمة على ربوة تشرف على بحيرة جميلة، وبُنِيَت بعض ردهاته على طراز القصور الأوكرانية القديمة، وغُطِّيَت الجدران بصور من رسم كبار الفنانين الذائعي الصيت، ونقوش من الفسيفساء تصوِّر موضوعات شعبية، وكان بالمعهد بطبيعة الحال أحدث ما اخترع من الآلات الزراعية.

وامتدت أيدي السالبين أكثر من مرة إلى المدرسة، فدمرت بعض مبانيها ومناماتها حتى أصبحت غير صالحة للانتفاع بها، ونُهب أثاثها، وانتزعت بعض الكتل الخشبية من جدرانها وسقوفها لتتخذ وقودًا، وتلفت الآلات الزراعية ولم تجد من يصلحها، وتشتتت معظم الماشية التي كانت في إرستفكا، وهي ماشية ذائعة الصيت نالت الجوائز في معارض ويانه وبراج.

لكن كثيرًا من قدماء المدرسين ظلوا في أماكنهم، وانضم إليهم مدرسون جدد، ومن أجل ذلك تجمَّع في المعهد نحو ستمائة طالب وطالبة قدموا من جميع أنحاء الروسيا ليدرسوا فيه العلوم الزراعية الحديثة، ويُدرَّبوا على أعمالها، على الرغم من القحط الشامل ونقص الأدوات، وكانوا يستعينون على العيش بما تخرجه أراضي المعهد من الحاصلات، وألَّفت الصعاب المشتركة بين المدرسين والطلبة، وكانت المدرسة تحت إشراف السوفيت، ولكن السياسة لم يكن لها إلا شأن قليل في سير الدراسة، وكان المشرفون علينا يسلمون بأننا حين نهيئ أنفسنا لأن نستخرج من التربة الروسية أكبر ما يمكن استخراجه من الطعام وأحسنه لنطعم به الشعب الروسي، إنما نعمل كل ما تنتظره «الثورة» منا.

وكنت أنا وأخي وطالب ثالث يُدْعى فيودور من أهل توابسي نسكن معًا في كوخ يمتلكه أحد الفلاحين في هذا الإقليم، وولَّى الشتاء مسرعًا وأقبل الربيع، واستُبدلت بالدروس في حجر الدراسة الزراعة العملية في أملاك المدرسة، وكانت هذه الفترة عظيمة الفائدة لي، وتبينت فيما بعد أنني أخذت منها أكثر مما كنت أتوقع وقتئذٍ، فقد كان القليل الذي تعلمته من العلوم الزراعية عظيم النفع لي في أيام الزراعة الجماعية.

وعزَّ الطعام وأخذ الحصول عليه يزداد صعوبة يومًا بعد يوم، وفقدت النقود قيمتها، وكان ما بقي من التجارة يجري بطريقة المقايضة البدائية، ولم يكن في وسعنا أن نحصل على شيء من المعونة من المزرعة التعاونية، بعد أن انقلبت فكرة المشروعات التعاونية الخلابة إلى تخاصم وتطاحن وأحقاد توغر الصدور، وشرع المقيمون فيها يهجرونها أفواجًا أفواجًا، وأخذ المدخر من الخبز ينقص تدريجًا، حتى استلزم الأمر فرض أشد القيود على توزيعه، ولم يكن الفقر كما يبدو بشيرًا صالحًا بالعالم الجديد، ولو كان هذا العالم بقعة صغيرة كأرض المزرعة التعاونية، أرض قرع الأجراس.

لكن المتاعب لم تكن لتوهن عزيمة غلمان في أوائل العقد الثاني من عمرهم، أو تُدْخِل الرعب في قلوبهم، فقد تعوَّدنا أن نعيش على الكفاف، وأن نخرج للبحث عن الوجبة الثانية، ولم يكن ذلك ليكلفنا كبير مشقة، فقد كانت قطر السكك الحديدية بكمسرفكا في هذا الربيع غاصة بالجند الذاهبين إلى ميدان القتال، حيث كانت رحى الحرب تدور مع البولنديين.

ولم يكن علينا إلا أن نأخذ من الجند بعض طعامهم، وكان في وسع الرفاق الثلاثة الذين يسكنون معًا في إرستفسكا أن يقوموا بهذا العمل على خير وجه.

فقد كنا في أيام العطلات، وفي أيام الدراسة إذا استطعنا أن نسترق منها بضع ساعات، كنا في هذه وتلك نقيم عند محطة السكك الحديدية «حانوت حلاقة متنقل للطلاب»، وكان هذا هو العنوان الذي كتبه كوتيا على لافتة كبيرة بخطه الجميل، ومن تحتها كُتِبَت العبارات التي تُكْتَب على أمثال هذا الحانوت: «حلاقة اللحى وقص الشعر، خدمة طيبة ممتازة، يُدْفَع الأجر سلعًا»، وتحت هذه العبارات كلها كان التوقيع الذي لم يخلُ من فكاهة ساذجة: «جماعة العمل الذي لا خير فيه».

وكان فيودور قد تعلم شيئًا من هذه الصناعة في بعض أسفاره، فتولَّى هو حلاقة اللحى، وتوليت أنا وأخي قص الشعر، وكان من نصائح فيودور لنا: «لا يهمكم هذا العمل، فهو كحصاد الكلأ في المراعي، ضربات طويلة هينة ثم تسوية أعقاب الشعر بعدئذٍ.»

وتجمَّع الجند حول الشبان الحلاقين الهواة، وسخروا منهم ودفعوا لهم نظير إثخانهم بالجراح أجورًا سخية كما يفعل خلق الله الكرام، وكثيرًا ما كنا نعود إلى رفاقنا نحمل لهم الشيء الكثير من الخبز واللحم والخضر وغيرها من المأكولات، وكثيرًا ما كان حانوت الطلبة الحلاقين المتنقل يرفع علمه أيام الآحاد في سوق المدينة، ويكسب من وراء ذلك أجورًا طيبة، وكان الفلاحون يؤجرونهم بيضًا وبطاطس بل ودجاجًا في بعض الأحيان.

وما لبث هذا الكنز الثمين أن نضب مَعِينه، فلم يكن لدى أحد من الناس طعام يؤديه أجرًا لقص شعره، وكانت نذر الجفاف الذي حل في عام ١٩٢١م غير خافية، وأدرك الفلاحون هذه النذر فغلُّوا أيديهم وقطبوا وجوههم، ولما لم نجد في المدرسة ما نأكله عدنا إلى المزرعة التعاونية، فوجدنا أن نار الحماسة التي كانت تضطرم في صدور أهلها قد خَبَتْ، وحل محلها قنوط هادئ مستكين، وهجرها معظم أهلها الأولين فلم يبقَ منهم إلا القليل، وحتى هؤلاء كان معظمهم يعمل في المصانع القريبة منها.

وكنت وقتئذٍ قد بلغت السادسة عشرة من عمري، وكان بكربينو على بُعْد بضعة أميال من «دق الأجراس» مصهر معادن صغير أتمرن فيه، والتحقت في هذه القرية صبيًّا أتمرن على العمل عند صانع أقفال، وكانت هذه أول مرة أؤدي فيها عملًا جثمانيًّا شاقًّا أؤجر عليه، وأحسست وقتئذٍ بأني قد كبرت بحق آخر الأمر، حين كنت أعود إلى بيتي في ملابسي الملطخة بالزيت، رثَّ الهيئة، مصدعًا من شدة التعب.

وخبت نار الفتن الأهلية أو كادت، وأصبحت مجالس السوفيت هي المسيطرة على البلاد لا ينازعها في الأمر منازع، وجاء دعاة الحزب إلى المصنع أحيانًا ليخطبوا فينا وقت الغداء أو بعد الفراغ من العمل، وكان الشباب ذكورًا وإناثًا يُصْغُون إلى هؤلاء الدعاة ويعون أقوالهم، أما الكبار فلم يكونوا في الغالب يلتفتون إليهم، وبعثت خطبهم فينا نحن الشبان بعض الأمل في هذا الوقت العصيب وقت الشدة والقنوط، وكنا نتردد أحيانًا على نادٍ للعمال تزينه صور مطبوعة للينين وتروتسكي وماركس وأنجل، وحكم مكتوبة بحروف بيضاء على قطع من النسيج الأحمر.

وكنت أنا أستمع بشوق إلى المحاضرات التي يلقيها علينا رجال من المراكز العامة، بل إني كنت أجرؤ أحيانًا على إلقاء بعض الأسئلة، وزادتنا الصعاب العاجلة المحيطة بنا أملًا في المستقبل الموعود، وكنت أنا شخصيًّا أتقلب بين نارين: نار الشكوك التي تحيط بي في منزلي، ونار التعطش إلى الإيمان القوي. وأدركت في تلك الأيام اعتراض أبي على وسائل العنف التي يلجأ إليها الشيوعيون، ولكن خُيِّلَ إلى عقلي الفتي على مر الأيام أنه متزمت في فضائله فوق ما يجب، وأن مثاليته أصبحت لسبب ما مثالية «بالية» في غير أوانها.

وكنت أحيانًا أسأله: «ولِمَ لا تأتي إلى النادي وتستمع إلى المحاضرات؟» وذلك لأني كنت أتوق إلى أن أستدرجه معي إلى الحياة الجديدة.

فكان يجيبني بلهجة الآسف الحزين: «وماذا يستطيعون أن يقولوا لي؟ لقد نسيت أكثر مما يعرفون، لا يا ولدي أشكرك، ليست البيضة هي التي تعلم الدجاجة.»

وما أن حل صيف عام ١٩٢١م حتى بلغ القحط غايته، وصحب القحط ذلك الوباء الذي لا يفارقه أبدًا وهو وباء التيفوس، وأهلك القحط والوباء ملايين الأرواح قبل أن ينقضي عهدهما الرهيب، فقد حل القحط بالبلاد في أبشع مظاهره بعد سني الحرب الطوال والنزاع الداخلي، وتركز في إقليم الفلجا ولكن آثاره الرهيبة امتدت إلى ما وراء الدنيبر، وكان أشد الأقاليم قحطًا بوجه عام أشدها انهماكًا في الحرب الأهلية، كأن الأرض هي الأخرى قد جشأت لكثرة ما طعمت من الدماء.

وليس في مقدور الكاتب مهما كان بليغًا أن يصف ما عاناه الشعب من أهوال وآلام؛ فقد كان الناس ينظرون إلى كل شيء حي — من خيل وكلاب وقطط وغيرها من الحيوانات المدللة — بعيون نهمة يائسة، وماتت الحيوانات التي لم تُذْبَح من شدة الجوع، وكان الناس يلتهمونها التهامًا رغم تحذير السلطات الرسمية مما يتعرض له آكلوها من الوباء، وكانوا يقشرون لحاء الأشجار ويغلُونها ليتخذوا منها «شايًا» و«حساءً»، ويمضغون الجلد غير المدبوغ ليقتاتوا به، وانتزع من الحقول كل ما كان فيها من بقايا النبات والكلأ، وانتشرت الشائعات بأن الناس أخذوا يأكلون موتاهم، ويحزننا أن نقول: إن معظمها كان صادقًا، فقد عرفت أنا نفسي حوادث من هذا القبيل في رومنكوفا وأولي وبنكوفا وغيرها من القرى المجاورة.

وأصبحت مناظر الموتى — الموتى المنتفخين البشعين — من المناظر المألوفة في حياة الناس، وشغل كل منا بنفسه وبحرصه على أسباب حياته، فلم يكن يلاحظ غيره من الناس أو يُعنى بهم في سريرة نفسه أقل العناية. وأخذ الصالحون من الناس الذين لم يكونوا في الظروف المادية يطيقون رؤية آلام الغير؛ أخذ هؤلاء يخفون الطعام ليطيلوا حياتهم بضعة أسابيع أو شهور، دون أن يفكروا في جيرتهم الذين كانت تنتفخ بطونهم ويموتون حولهم من فرط الجوع.

وكنت أنا قويًّا سليم الجسم لا أحتاج إلا للقليل من الطعام والشراب ليحفظا عليَّ حياتي، فركبت القطار مع غلام آخر في الضيعة يُدْعَى سينا وذهبنا شمالًا إلى إقليم بَلْطوا؛ لنبحث عن الطعام، وأخذنا معنا كل ما يمكن أن يُسْتَبْدَل به الطعام، من ملابس قديمة، وملاعق من فضة، ومجوهرات من أنواع مختلفة لم تعد لها قيمة، وفرشات وغيرها من الأدوات المنزلية؛ ذلك أن النقود أضحت في تلك الأيام عديمة النفع، أما البضائع فكان يمكن استبدال بعضها ببعض إذا واتى الإنسان الحظ.

ووصلنا بلدة بريلوكي بعد أيام قليلة وقررنا أن نجرب حظنا فيها، فوجدنا بها مئات غيرنا وفدوا إليها للغاية نفسها، واشتدت المنافسة بيننا، فوقفنا طوال اليوم في الأسواق نعرض بضاعتنا الهزيلة ونرجو الزُّرَّاع أن يفحصوا هذه الكنوز، ولما حل المساء ذهبنا نجوس خلال القرى، ونتنقل من قرية إلى قرية، ومن بيت إلى بيت، يعيننا في عملنا أنَّا كنا كلانا صغيرَي السن، وأني كنت أستطيع أن أتحدث إلى الفلاحين بلغتهم الأوكرانية، وأخذنا في كل يوم نتخلص من بعض ما معنا، ونشهد أكياسنا تُمْلَأ سويقًا ودقيقًا وحمصًا وفولًا، ولم نكن نجد صعوبة في المبيت بمنازل الفلاحين، وخاصة إذا اتخذنا البنات اللاتي في مثل سننا وسيلة إلى هذه الغاية، وكان في وسع أولئك البنات أن يأتيننا بالملح والسكر وبعض الحبوب الزيتية واللحم المقدد وما إليها من مواد الترف نظير ما نقدمه لهن من الخواتم والحلى الرخيصة.

وكنت أنا وسينيا أسعد حالًا من أي رجل من رجال المال استطاع أن يعقد صفقة بآلاف الريالات؛ وذلك أننا كنا نرد إلى أُسَرنا الحياة ونطيلها عدة شهور.

وركبنا القطار إلى موطننا وقد غصَّ بالخلائق من رجال ونساء وأطفال كلهم عائدون إلى أقاليم المجاعة يحملون أكياسهم ولفافاتهم الثمينة، ولم نكن نجرؤ على إغماض أعيننا لئلا يُسْرَق متاعنا، فلما أن وصلنا زنامنكا في ظلام الليل أقبل الجند وعمال السكك الحديدية وأمرونا بالخروج من عربة القطار، وتكدسنا في حجرة انتظار كانت قبل مجيئنا إليها غاصة بغيرنا من الخلائق البائسين، ولم يعرف واحد منا شيئًا عن سبب إخراجنا منه وبقينا كلنا ننتظر وصول قطار آخر ونحن صابرون صبر العير، خلقه في نفوسنا طول العذاب وتبلد الحواس، فلما أقبل لم يستطع ركوبه إلا أقوى الناس أجسامًا وأسرعهم حركة وتخلفت عنه أنا وسينيا.

ولم يكن في حجرة الانتظار القذرة ضوء إلا فتائل زيتية، وكان الزحام شديدًا، والناس مكدسين في الحجرة يسير بعضهم فوق بعض إذا أرادوا الذهاب إلى دورات المياه، والأطفال يصرخون في أماكن متفرقة من الحجرة والرضع يمتصون أثداء جافة خاوية، وكان في ركن من أركان الحجرة زوجان يتعانقان ولا يأبهان لنكات من حولهما من الناس.

ولكن الذي وُجِّهَت إليه أنظار من لا تزال لديهم بقية من حب الاستطلاع تحملهم على أن يوجهوا أنظارهم إلى شيء ما؛ منظر امرأة جاءها المخاض فأخذت تئن وتتوجع كما يتوجع الحيوان المصاب، ونحَّى النساء عنها من كان حولها من الناس، وجاء الرجال بدلاء الماء، ونسوا كفاحهم مع الجوع وهم يشاهدون حياة جديدة تخرج إلى العالم أمام أعينهم، وانبعث صراخ خافت من مولود جديد ينبئ أن المعجزة قد حدثت، وارتد الناس إلى ما كانوا فيه من شقاء.

ورأيت أم الطفل في الصباح مستلقية على أرض المحطة القذرة ووجهها أصفر لا أثر للدم فيه، وقد وضعت رأسها على كيس قذر أظهر هذا الوجه الشاحب في وضوح، وعلى صدرها المولود الجديد ملففًا في خرق بالية؛ فرثيت لحالها، وأشفقت عليها، وتركت سينيا ليُعْنَى بمتاعنا، ثم هرولت إلى القرية، وكان معي ثلاث روبلات فضية من العملة القيصرية، فجست خلالها نحو نصف ساعة كاملة، استطعت في خلالها أن أحصل على زجاجة صغيرة من اللبن الساخن، وملء صفحة خشبية صغيرة من حساء الخضر، فلما تقدمت بهاتين الهديتين ومعهما فوطة نظيفة إلى الشابة حدقت فيَّ ورمقتني بنظرة تنم عن اعترافها بالجميل، وعن أنها لا تكاد تصدِّق ناظريها.

وخاطبتني باللغة الأوكرانية قائلة: «شكرًا لك أيها الشاب.» وكان لها عينان جميلتان في وجه بائس معذب، ثم واصلت حديثها قائلة: «ما اسمك؟»

فأجبتها: «فكتور أندريفتش.»

فقالت بصوت خافت ضعيف وهي تبتسم لأول مرة: «متعك الله بما تحب ووقاك من كل مكروه، سأسمي ابنتي فكتوريا حتى تذكر صنيعك هذا طول حياتها.»

وحدث وأنا عائد إلى سينيا في الطرف الآخر من الحجرة أن قام شاب وبش كان يرقب ما حدث، وصاح صيحة تنم عن الخبث والسفالة: «انظروا أيها الرفاق ها هو ذا أبو المولود!»

وكان أطول مني قامة بحيث لا يعلو رأسي عن كتفيه، عريض العظام، تبدو عليه مظاهر القوة والغلظة، ولكن الإنسان إذا غضب لا يحسب للعواقب حسابًا، فاندفعت نحوه وضربته ضربة قوية، وما كان أشد دهشتي حين رأيته ملقًى على الأرض، وعرف من لغط الحاضرين أنهم كانوا في صفي، فقام من فوق الأرض في هدوء، ومسح الدم الذي كان تحت أنفه، وعاد إلى حيث كان متاعه.

ولم يُسْتَقْبَل فاتح منتصر بأحسن مما استُقْبِلَ به الشاب فكتور حين جاء إلى بيته، يرزح تحت عبء كيس من الطعام. وقمت في الشهور التالية بعدة رحلات في القطار وعلى ظهور الخيل، وكان صليب جدتي الذهبي آخر ما بعناه من كنوز الأسرة، فقد ظللنا محتفظين به طالما بقي لدينا شيء من الأمل بأنا نستطيع العيش دون أن نفرط فيه، ثم جاءنا العون بعد ذلك من أمريكا على يد جماعة الإخوان «الكويكريين»١ وإدارة الإنقاذ الأمريكية التي أنشأها الرئيس هوفر وغيرهما من الجماعات، ولكن معظم هذه المساعدات كان يذهب إلى إقليم الفلجا، أما أوكرانيا فكانت على أبواب حصاد جديد، ثم عادت الحياة فيها ببطء إلى مجراها المألوف.

وعدت أنا إلى دكتي في حانوت صانع الأقفال في كربينو.

١  Quakers ومعناها المهتزون، طائفة دينية متزمتة، وكان أول من سمَّى أفرادها بهذا الاسم القاضي بنت في دربي؛ وذلك لأن منشئها جورج فكس (١٦٢٤–١٦٩٠م) أمره هو ومن كان معه أن «يهتزوا» حين يسمعون كلمة الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤