مقدمة

إلى مطالع هذا الديوان

بقلم  خليل مطران

خليل شيبوب صَديقي، أرادني لأقدِّم دِيوانَه؛ حُبًّا للخَليل وكرَامة. خِلتُه مُستحييًا مما يسُومني، ما أعظمَ تواضعَه! تالله إنه ما كان مجشِّمي صعبًا إلَّا أن يدعُوني إلى غيرِ ما أَلِفْت من الصِّدق، وهذه فرصةٌ أشكُرها له؛ لأنه قيَّض لي بها أن أُبدي رأيي في الضَّرب الذي آثرَه من الشِّعر على سِواه، أقولُ من الشعر، وأرجُو أن يفرِّق القارئُ — كما فرَّقت — بين معنى الضَّرب من الشِّعر، وبين معنى الضَّرب في النظم.

الناطقون بالضَّاد في هذا الأوان فريقانِ في تصوُّر كُنهِ الشعر؛ أحدُهما يراه على المذهب المعروف كما وضِع أصلُه في الجاهلية، وعُدِّل بعض الشيءِ في صَدر الإسلام، ويأبى له إلَّا أن يكون على النَّحو والأسلوب اللذَين كانا منذ البَدء، وبالرَّصفِ والترتيب اللذَين بقِيا هما هما إلى السَّاعة، وربما لم يرَ بأسًا في استمرارِهما هكذا إلى قِيام السَّاعة.

أمَّا الفريق الثاني فيرغَب — مع الحِرص على سَلامة اللُّغة وفصاحَة التعبير وجمال الديباجة — في مجاراة سَائر الأمم من غربية ومن شرقيَّة غير عربية اللِّسان، على النَّوع الذي آثَروه من الشعر بلا محاكاةٍ آليَّة، ولا تقليدٍ أعمَى كما يقول بعضُ كتَّابنا، وهذا النَّوع الذي نعتَه الغُلاةُ جَورًا بالأوروبي أو الأعجَمي، وأنصَفه المعتَدلون المراعُون لأحوال الزَّمَن والبيئةِ والمعيشة والتحوُّلِ الفكريِّ في الفَرد والجماعة، فأسمَوه بالعَصري؛ لم تبدُ منه في آدابِنا إلَّا طلائعُ قليلة حتى الآن، ولسُوء الحظِّ كان أقلُّها مما له قيمة تُغرِي بانتِهاج هذا النهج، قبل هذا الدِّيوان.

إن الذين يُجيدون الشعرَ من الضَّربِ الأول، يدلُّونني على أنهم أتقَنوا المحاكاة صَوتًا والمضاهاةَ صناعةً، لأناس كرَّروا الجهر بذلك الصوت، والزخرفةَ بتلك الصناعة دَهرًا طويلًا.

أما مكان نفسيَّتِهم من كل هذا، فلا أراه، أو هو إن تراءَى لي فليسَ إلَّا شيئًا مبهَمًا مغيَّبًا غير واضِح الصُّور، ولا مفسَّر الرموز.

في حين أن الذين يُجيدون الشعرَ كما تُوحيه سجيَّتُهم، ويُودعون فيه حسَّاتهم بألفاظهم وفي العبارات التي يتخيَّرونها لها بمحض خِيرتهم، قد يفوتُهم بعض الصِّيغ التي أقرَرناها بالعادة، وقبِلناها على أنها الفُصحى، ونفَينا ما سواها بحُكم العُرف الذي قدسَه القِدَم وسوَّده في مخيلاتِنا كما سوَّد الأوهامَ في معظم عَقائد الأُمم؛ ولكنَّ نفوسَنا تشعر كلَّ الشعور بكل ما أودع في تلك المنشآت الجديدة من الوِجدان، وترى جليَّ الرؤية أدَق ما رُسم فيها من الصور، فإذا أتَت على القصيدة أو الديوان تبيَّنت نفسيةَ الشاعر بحقيقتِها، وتصوَّرت له شخصيةً بعينها، لا تمتزِج بشخصيَّات الآخرين من متعاطِي هذه الصناعة، غير ظانَّةٍ لحظةً أن المفردات المستظهرةَ والجملَ المحفوظة هي التي عيَّنت له مواضعها من منظُومه، لا وحيُ ضميره، ولا طربُ الباعِث الذي تحرَّك في طيِّ جَوانحه.

وإنه لغريب أن نكون وحدَنا بين الأمم، وقد أقول وحدنا دون سائر الأمم، لا نفكِّر إلَّا ما فكَّره قبلنا أهلُ لغتنا، ولا نحسُّ إلَّا ما أحسُّوه، ولا نتصور إلَّا ما تصوَّروه، على تباعُد وجوهِ الشَّبه بين كل شيءٍ من ظروف زماننا ومكاننا، وظروف أزمنتهم وأَمكِنتهم.

النوع الثاني من الشعر هو الذي آثره خليل شيبوب، وكل ما نظَمه داخل في بابه على ما سيَجده المُطالِع؛ ففي هذا الديوان لن تكونَ الضالةُ المنشودة بيتًا يُجاد، أو مفرداتٍ يبالغ في اختيارها، أو عباراتٍ يبحث جدَّ البحث عن وسائل تلفيقها؛ ليرضِي عرَضها وإن لم يكن لها جَوهر، بل ها هنا ستقرأ الشعر؛ لتعرف ماذا أراد الناظم أن يقول به من المعنى الجديد، أو أن يصف من الإحساس على مثالٍ غيرِ مسبوق، فمن يتصفَّحُ مثلَ هذه المجموعة فإنما يتصفَّحُها بشَوق المتشوِّق إلى معرفةِ نفسِ الشاعر والتأثر بمؤثِّراته، وبالرغبةِ الصادقة في استطلاع ما تسنَّى لذلك القَلب الخفَّاق والروح الخلَّاق، أن يبدِع من إشارة، أو يجدِّد من تشبيهٍ أو استعارة، أو يرسل في صفةٍ خاصَّة من مطلعٍ في الكلام، أو يهيِّئ من مقطع حلوٍ في ختام؛ إذ إنَّ المكوثَ آخر الدهر عند عادات عرفت حتى تنكَّرت، والأخذ بلا ملَل على توالي العُصور بألفاظ قُررت ومعانٍ مُجَّت من فَرط ما كُررت، كلُّ أولئك إذا طلَبه القارئ فليدع هذا الكِتاب، وسوف يدَع الديوان تلوَ الدِّيوان مما يصدُر بعده؛ لأن الرقيَّ غلَّاب، وله الفوزُ في المآب؛ ولأن العامَّةَ إن أصرَّت على الجُمود وهو التأخر أو صورة من صور الموت، فمن الخاصَّة مَن كشيبوب يأبى إلَّا التحرُّكَ إلى الأمام، وبهؤلاء النجاةُ وهم في الحقيقة طليعةُ النجاح ورسُل الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤