الفصل الخامس عشر

الأدب الفارسي

من غارات التتار إلى انقضاء الدولة الصفوية من منتصف القرن السابع الهجري إلى منتصف القرن الثاني عشر

أجملنا في الجزء الأول من قصة الأدب أحوال الأدب الفارسي الإسلامي منذ نشأته إلى غارات التتار؛ أي من أواخر القرن الثالث الهجري إلى منتصف القرن السابع. فصوَّرنا بعض مظاهر هذا الأدب القيِّم الواسع على قدر ما يحتاج قرَّاء العربية الذين يبغون أن يعرفوا من هذا الأدب ما لا يسع المتأدب جهله.

وفي هذا الفصل نسوق الكلام في تاريخ هذا الأدب أو التعريف ببعض أحواله بعد غارات التتار إلى انقضاء دولة الصفويين. وذلكم زهاء خمسة قرون، سيطر فيها على إيران كلها أو أكثرها التتار الإيلخانيون، ثم تيمورلنك وخلفاؤه، ثم الصفوية. وبين هذه الدول دولٌ صغيرة نشأت في الاضطراب الذي يقارن سقوط دولةٍ كبيرة وقيام أخرى، كما عاصرت الإيلخانيين والتيموريين دولٌ أخرى في أرجاء إيران، ولكن تاريخ هذه الدول الثلاث الكبيرة يوضح عصور التاريخ الإيراني في هذه القرون الخمسة.

مقدمة

فجئ التتار الأقطار الإسلامية بغاراتهم المدمرة في العقد الثاني من القرن السابع الهجري. وسرعان ما اجتاحوا بلاد ما وراء النهر، لم يثبت أمامهم جيش، ولا ردَّت بأسهم مدينة. ولم يستطع ملوك خوارزم أن يصدُّوا هذا السيل الجارف بالبأس ولا بالحيلة. وعبرت الجيوش التتارية نهر جيحون إلى بلاد الفرس، ويممت فرق منهم الغرب فانساحت في أوروبا الشرقية.

وكان التتار حيثما ساروا ينشرون الخراب والدمار، ويشيعون الفزع والهلع كالنيران المضطرمة، والرياح العاصفة. وقد صدقت فيهم مقالة الفرس: جاءوا وقتلوا وأخربوا، وأحرقوا وحملوا وذهبوا.

ولا يسعني — كلما كتبت عن غارات التتار — أن أنسى الكلمات المبكيات التي خطها مؤرخٌ معاصر؛ ابن الأثير صاحب التاريخ الكامل، فليقرأها من شاء.

ظلت حوادث التتار تضطرب فيما وراء النهر وشمال إيران حقبة. فلما كانت سنة إحدى وخمسين وستمائة وجَّه منكوقا آن ملك التتار — حفيد جنكيز خان — أخاه هولاكو للقضاء على حصون الإسماعيلية وعلى الخلافة العباسية في بغداد، فأخضع أمراء إيران والقوقاز إلى آخر سنة ثلاث وخمسين. ثم فتح قلاع الإسماعيلية سنة أربع وخمسين. ثم عمد إلى بغداد ففتحها، وقتل الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين في المحرم سنة ست وخمسين.

ثم توجه صوب الغرب يبغي الشام ومصر واستولى على البلاد، حتى كانت موقعة عين جالوت في فلسطين سنة ثمان وخمسين، فردَّت الجيوشُ المصرية والشامية التتار، وعلَّمت المسلمين أن هذا العدو الهائل لا يستعصي على الشجاعة والصبر. فارتدَّ خطر التتار عن مصر، ثم انحسر شرُّهم عن الشام سريعًا، ولكن بقي سلطانهم في العراق، واتصل مُلكهم من بادية الشام إلى التركستان الشرقية.

وكان لهولاكو من هذه الأقطار ما فتحه منذ وجَّهه أخوه للفتح، وهو ما بين جيحون إلى البحر الأبيض، وما بين جبال القوقاز إلى المحيط الهندي. وقامت له ولذريته من بعده دولةٌ واسعة استمرت إلى سنة ٧٤٤ﻫ، وعرفت باسم الدولة الإيلخانية، أي دولة ملوك الأقاليم، تمييزًا لهم عن دولة الخاقان الأعظم، وكانوا يعترفون بسلطان الملك الأعظم الخاقان وارث عرش جنكيز خان.

فصل قيام الدولة الإيلخانية — في العالم الإسلامي الشرقي عامة وفي إيران خاصة — بين عهدَين من التاريخ مختلفَين في السياسة وفي الآداب والعلوم والفنون. وفيما يلي إجمال الكلام في الدول التي سيطرت على إيران منذ زالت الخلافة العباسية سنة ٦٥٦ﻫ، إلى أن زالت الدولة الصفوية سنة ١١٤٨ﻫ، وذلك خمسة قرون، وإجمال الكلام في الأدب في تلك العصور.

ويمكن أن نقسم هذه الحقبة قسمَين؛ الأول: عصر التتار والتيموريين، والثاني: عصر الصفويين، الأول من سقوط بغداد إلى سنة ٩٠٧ﻫ، والثاني من هذه السنة إلى سنة ١١٤٨ﻫ.

القسم الأول: التتار والتيموريون

الفصل الأول: التتار

توفي هولاكو بعد ثماني سنين من فتح بغداد، فخلفه ابنه أباقا سنة ٦٦٣ﻫ، ثم توالى على الملك تسعة بعد أباقا، لا ينفسح المجال لتعدادهم بله وصف أحوالهم وسِيرهم، ولكن الذي يعنينا أن نبيِّن كيف استجاب التتار سريعًا للحضارة المحيطة بهم، ودخلوا في الجماعة الإسلامية. بعد أن تنازعتهم الأديان حينًا، وطمع الصليبيون ودول أوروبا في محالفتهم ومحالفة الخاقان الأعظم على قتال المسلمين. أسلم تكودار بن هولاكو وتسمَّى أحمد، فلما مات أباقا تنازع الملك هو وأرغون بن أباقا، فانتصر أكثر المغول للأول، فملك مُتسمِّيًا السلطان أحمد، وسارع إلى إعلام علماء بغداد وسلطان مصر برغبته في نصرة الإسلام وموادَّة المسلمين، ولكن أرغون ائتمر مع بعض كبراء المغول، حتى خَلع السلطان أحمد وقتله.

ولم يمضِ أكثر من أحد عشر عامًا بعد قتل السلطان أحمد، حتى تولى الملك غازان حفيد أباقا، وكان تولِّيه إيذانًا بظفر الإسلام بالمغول كلهم في الدولة الإيلخانية.

وكان غازان قد وعد مربِّيه الأمير نوروز أن يسلم إذا أظفره الله بالملك على عمه بايدو، فلما مَلك أنجز وعده. ففي الرابع من شعبان سنة ٦٩٤ﻫ أسلم هو وعشرة آلاف من المغول في حضرة الشيخ صدر الدين إبراهيم ابن الشيخ سعد الدين الحموي. واستمر الإسلام منذ ذلك اليوم دينًا لملوك المغول في إيران، حتى انتهت دولتهم سنة ٧٤٤ﻫ.

كان سيل التتار طاميًا جارفًا مدمِّرًا، ولكن لم يجرف كل الزروع والأشجار في إيران، ولم يذهب بالبذور كلها من هذه الأرض الخصبة، فنمت على الزمان جذور، ونبتت بذور، فلم تعدم إيران في عصر التتار أدبًا. ثم كان إقليم من إيران بنجوة من هذا السيل، إقليم فارس؛ الإقليم الجنوبي الغربي من إيران، الذي نشأت فيه الدولة الفارسية الأولى، والذي حفظ تراث إيران بعد غارات الإسكندر المقدوني حقبًا طوالًا.

كان في هذا الإقليم إمارة أنشأها أحد أتابكة السلاجقة سنقر بن مودود، ودامت زهاء قرن ونصف (٥٤٢–٦٨٥ﻫ)، وحفظت نفسها في هذه العصور المضطربة بمسالمة الفاتحين، والتودُّد إليهم. أدى أمراؤها الجزية للسلاجقة ولملوك خوارزم، ثم صانعوا ملوك التتار وأدوا إليهم الجزية كذلك فجنَّبوا بلادهم الكوارث التي حلَّت بغيرها. وانتهت دولتهم بتزوج الأميرة أبش خاتون — آخر من ملك من هذه الأسرة — بالأمير منكَو أحد أبناء هولاكو، فدخل الإقليم في سلطان التتار، حتى توفيت الأميرة في ١١ ذي القعدة سنة ٨٦٥ﻫ.

كانت هذه الإمارة إبِّان غارات التتار مثابة للناس وأمنًا؛ فلجأ إليها كثير من العلماء والأدباء. وقد أشاد الشيخ سعدي الشيرازي — وهو ينتسب إلى الأمير سعد بن أبي بكر من أمراء هذه الدولة — بما فعل هؤلاء الأتابك لحماية البلاد، قال في مقدمة كتابه «البستان» أبياتًا تَرجمتُها بالعربية:

فمن يبغ أمنًا بهذي الفتن
فليس له غير هذا الوطن
فطوبى لبيت كبيت العتيق
حواليه من كل فجٍّ عميق
لقد صدَّ إسكندر بالحديد
وبالقِطر يأجوج يبني السدود
وقد فقت إسكندرًا في النُّوَب
أقمت ليأجوج سد الذهب١

وفي شيراز من هذا الإقليم نشأ اثنان من أعظم شعراء إيران: الشيخ سعدي الشيرازي، وقد تقدم ذكره في الجزء الأول من قصة الأدب، وحافظ الشيرازي. وحسبنا أن نذكره من بين شعراء هذا العصر؛ عصر التتار:

(١) حافظ الشيرازي

شمس الدين محمد الحافظ الشيرازي، ولد في شيراز في أسرةٍ فقيرة، وتوفي أبوه وهو صبي، فاضطرته الفاقة إلى أن يكسب قوته بالعمل في مخبز، ولكن طموحه إلى المعرفة وميله إلى التعلُّم نزعا به إلى مناهل العلم في شيراز؛ فكان يغشاها كلما أمكنته الفرصة.

ولسنا ندري كيف طلب الحافظ العلم، ولكنا نظن أنه سار في طلبه على نهج معاصريه. وقد حفظ القرآن، وبهذا لقِّب «الحافظ»، وأخذ عن علماء شيراز في الدُّور والمساجد والمدارس.

وقد تولَّى التدريس من بعدُ في بعض مدارس شيراز، درَّس التفسير والكلام والنحو والأدب.

figure
حافظ الشيرازي (بجانب الشجرة) وصديقه الشيخ أبو إسحاق.

وعرف حافظ في بلاده عالمًا، ثم ذاع صيته عارفًا، وانتشر كلامه في الآفاق شاعرًا. وعظَّمه العامة والخاصة، والملوك والرعيَّة وحسُن اعتقادهم فيه، فكانوا يتلقَّون أشعاره على أنها رموز للأسرار الإلهية، وإشارات للمعارف القدسية، وأبيات تشبه في ظاهرها كلام الشعراء، وفي باطنها كلام العارفين والأولياء. ومن أجل هذا سمَّوه «لسان الغيب» ودعوه «ترجمان الأسرار».

واتصل ببعض أمراء زمانه وكبرائه، وذكرهم في شعره وسجَّل بعض الخطوب في منظوماته، ولكن ذكر هؤلاء الأمراء والكبراء، وتسجيل هذه الخطوب كان يأتي جملًا موجزة، أو إشاراتٍ خفية في أثناء شعره. لم يصرِّح بالمدح إلَّا قليلًا، ولم يذهب فيه مذاهب المدَّاحين، بل كان البيت أو الأبيات القليلة تأتي في ثنايا غزل من غزلياته لا يكاد القارئ يدرك أن الشاعر قطع سياقه ليمدح.

ولحافظ في الشعر أسلوبٌ دقيقٌ جميل يشبه النغَم الموسيقي المحكَم، جانست كل لفظة صاحبتها، وأصابت كل كلمة دلالتها. ومعانيه بين التصريح والتلويح، والظهور والخفاء، تستغرق عناية القارئ، وتستولي عليه، فيتأملها حريصًا عليها معجبًا بها. وقلَّ من يساير حافظًا في إحكام السبك، ودقة النسج، وإجادة النظم. فلا تجد في أوزانه وقوافيه — على كثرة ما كنَّى وورَّى وجانس — تكلُّفًا أو اضطرابًا أو فضولًا. وكثيرًا ما أتى بالرديف في شعره فلم يهن ولم يتكلف.٢

وتبدو مهارته في أكمل وجوهها حين يضمِّن المعاني الصوفية المعاني الظاهرية المألوفة، فيقسم كلامه بين أهل الظاهر وأهل الباطن، فمن شاء تغنَّى به في مجلس شراب بين الندماء والأحباب، ومن شاء تواجد به بين الصوفية، وتجاوز ظاهره إلى معانيه الخفية.

هو كذلك في معظم ديوانه المسمَّى الغزليات،٣ ولكنه بين الحين والحين يبدو صوفيًّا صريحًا، أو يعرض معانيه في صورٍ شعرية غير محتملة إلا التفسير الصوفي، ثم يسارع إلى التحجب بين أزهار الرياض، ومجالس الشراب، ويسمعك رنين الكئوس وأحاديث الندامى، وأغاريد البلابل، ويحدثك عن الخدود والعيون والحواجب والطُّرَر والأفواه، سنَّة شعراء الغزل والخمر.

ولولا هذه الجلَوات التي يمرُّ بها قارئ شعره، وهذه اللمعات التي يدلُّ بها على نفسه ما التمس الناس في شعره شيئًا وراء المعاني الظاهرة.

وعابرُ ديوان حافظ كالسائر في حديقة ورد؛ تروعه الصور الكثيرة، والألوان المختلفة، ولكنها كلها ورد. فهو يعرض صورًا كثيرة لحقائقَ قليلة.

أو هو كالمطرب يسمعك كثيرًا من الأوزان والألحان والأنغام، ولكنها لا تعدو حديث الحبيب في جماله ووصله وهجره وبعده وقربه ورضاه وغضبه. وكل ما سمعت من هذا معجبٌ مطربٌ رائع، وكأن كل قطعة — بإحسان التعبير وإجادة التصوير — تتضمن معاني جديدة لم تتناولها قطعة قبلها.

وهذه قطع من شعر حافظ ترجمتها منثورة إلا واحدة نظمتها. وقد أردت أن تكون الترجمة عُطلًا من الزينة مُبينة عن المعنى في غير تكلف:

١

لا ترجَون طاعة وصدق عهد مني أنا السكران الذي طار ذكري باحتساء الكأس يوم «ألست».٤
حينما توضأت من ينبوع العشق، كبَّرت أربع تكبيرات على كل كائن.
ناولني الصهباء أعلمك — من أسرار القضاء — أي وجه تيَّمني وأيُّ عَرف أسكرني!
إن الطود هنا أخف من النملة، فلا تيأسنَّ من الرحمة يا عابد الخمرة.
ليفدِ فمك الروح، فما أنبت بستانيُّ العالم في حديقة النظر، أجمل من هذا الكِمِّ بين الزهَر.
ما اطمأن تحت هذه القبة الزرقاء غيرُ هذه النرجسة السكرى لا مسَّتها الضرَّاء!
لحافظ من عشقك ملك سليمان، ولم تنل يده من وصلك إلا الريح.

٢

وهذه قطعة من أجمل ما عرف الشعر الصوفي وأبعده مرمًى:

تحدث شعاع حسنك بالتجلي في الأزل، فبدا العشق وأضرم في العالم نارًا لم تزل.

وتجلَّى عشقه فما رأى المَلك ولهان، فقلبته الغيرة نارًا تشتعل في الإنسان، وأراد المدعي أن يطالع السرَّ فيعلم، فدفعت يد الغيب في صدر غير المحرَم.٥ وهمَّ العقل أن يضيء من هذه الشعلة سراجًا، فتلألأ برق الغيرة وزلزل العالم هياجًا.
اقترع الآخرون على العيش وقلبي المغتم، عاودت قرعته الغم. نظر ليرى في العالم صورته، فضرب في مزرعة الإنسان خيمته. إنما خط حافظ سجلَّ الطرب في عشقك، حينما خطَّ على أسباب الفرح من أجلك.٦
وحافظ يبين في شعره عن انقباض واكتئابٍ وحزن، ويعرب عما يمتحن به في هذا العالم، ويغلب عليه التشاؤم، ولكنه يبين عن فرحه وسروره أحيانًا، وعن تهلُّله وإشراقه، وتأميله وانبساطه، كأنه برئ من مرض، أو استراح من ألم، أو ظفر بما يريد بعد عناء، أو حُمَّ له بعد طول الفراق لقاء. فغزله الذي أوله:

تعالَ فإن قصر الأمل واهن القواعد، وهات الخمر فأساس العمر على الرياح.

يقول فيه:

لا تؤمل صدق العهد من الدنيا المتقلِّبة، فإن هذه العجوز عروس لألف زوج.

ويقول بعد هذا البيت كالذي أفاق من غفوة:

ماذا أقول لك؟ كم بشَّرني ملك الغيب البارحة، وأنا في الحانة سكران خائر!

قال: أيها البازي الطموح، أليف السدرة، ليس مقامك في زاوية المحن هذه. لا لا! استمع، ألا تسمع الصفير ينبعث من شرفات العرش. ما الذي أصابك في هذا الشرك.

وله غزل أوله:

ترك شيخنا البارحة مسجده إلى الحانة، فما ترون يا إخوان الطريقة.

يقول فيه:

جلا علينا وجهك الجميل آية من اللطف، فليس في تفسيرنا إلا اللطف والجمال.

وهذا البيت يبين عن الأصل الذي يصدر عنه حافظ، فقد أدرك من الجمال الإلهي في هذا العالم ما أنطقه بتفسير هذا الجمال كالطائر الغرد الذي يشرف على شجرة في روضة يقلب نظره بين المياه والأزهار والأشجار، وكأن تغريده ترجمة الجمال الذي يرى، وتفسير الحسن الذي يُبصِر، بالأصوات والأنغام.

ولا أنسى كلما تحدثت عن حافظ غزله الرائع الذي أوله:

رأيت البارحة الملائكة تدق باب الحانة، وتصوغ طينة آدم كأسًا.

ويعلن عن اغتباطه بما أدرك فيقول:

إن سكان حرَم الملكوت شاركوني الشراب وأنا حِلس التراب. أحمد الله فقد وقع الصلح بيني وبينه. وهذه الحور راقصة تشرب كئوس الشكر فرِحة.

ويقول بعد هذا البيت وكأن هذا الصلح هو إدراك الستر المحجب، والاطلاع على الحقيقة الخفية التي ضلَّ عنها الناس:

التمس عذرًا لحرب الاثنتين والسبعين ملة، فقد عميت عليهم الحقيقة، فضربوا في بيداء الخرافات.

٣

وهذه قطعةٌ أخرى من قطعه التي يبين فيها عن نفسه في ثورة وهياج:

تعالى الله أي سعادة لي الليلة فقد أوافي حبيبي بغتة الليلة!
سجدت حين رأيت وجهه الجميل بحمد الله ما أحسن عملي الليلة!
قد أثمر غصن عيشي بوصله، فأنا مجدود ظافر الليلة!
ينقش دمي على الأرض «أنا الحق» كالحلاج إن صلبتني الليلة!
في يدي براءة ليلة القدر أتى بها طالعي اليقظان الليلة!
صح عزمي على أن أرفع الغطاء عن الطبق ولو ذهب رأسي الليلة!
أنت صاحب نعمة وأنا مستحق فهات زكاة الحسن فلي الحق هذه الليلة!
إني لأخشى أن يَمَّحِي حافظ من الثورة التي في رأسي الليلة.

فهذه إحدى قطعه التي لا تفسر في جملتها إلا بالمعاني الصوفية. وهي من الأبيات التي يرمي بها الوجد أحيانًا، فيُغلَب حافظ على تقنُّعه وتحجُّبه، فقد عزم على أن يبوح بالسر ولو كان في هذا قتله. وإن قتل فلن يحوِّله القتل عن هذا الإدراك الذي أحاط به، وتغلغل في سريرته، وسرى في دمه، فلو سال دمه على الأرض ما دلَّ إلا على هذا المعنى، وما رسم على الأرض إلا الكلمة الناطقة بالفناء، والتي صلب بها الحلاج «أنا الحق»، بل يخشى حافظ مما ثار نفسه هذه الليلة أن يمَّحي.

figure
الحافظية في مدينة شيراز، حيث ضريح حافظ الشيرازي.

وهذه قطعة يدعو حافظ فيها إلى الرجاء والتفاؤل ترجمتها نظمًا:

يوسف المفقود في أوطانه، لا تحزنَن!
عائد يومًا إلى كنعانه، لا تحزنن!
بيت الأحزان تراه عن قريب روضة،
يضحك الورد على بنيانه، لا تحزنن!٧
رأسك الأشعث يومًا سوف يلقى زينة،
ويفيق القلب من أشجانه، لا تحزنن!
هذه الأفلاك إن دارت على غير المنى
لا يدوم الدهر في حِدْثانه، لا تحزنن!
أيها البُلبُل تغدو في ربيع ثانيًا،
تستظل الورد في أغصانه، لا تحزنن!
لست تدري الغيب في أسراره، لا تيأسَنْ؛
كم وراء الستر من أفنانه، لا تحزنن!
إن إلى الكعبة في أشواقك اجتزت الفلا
فدهاك الشوك من سَعدانه، لا تحزنن!
يعلم الله مُحيل الحال ما أحوالنا،
والعدى والحِبُّ في هجرانه، لا تحزنن!
يا فؤادي إن يَسِل بالكون طوفان الفنا
فُلْك نوح لك في طوفانه، لا تحزنن!
منزلٌ جِدٌّ مَخوف ومراد شاحطٌ،
لم يَدُم فجٌّ على ركبانه، لا تحزنن!
حافظٌ ما دمت بالفقر وليل مظلم
في دعاء الله أو قرآنه، لا تحزنن!

وفي هذه القطعة مثل من الأوزان والقوافي الفارسية. فالوزن من الرمل المثمَّن أي ذي التفعيلات الثماني. والرمَل في العربية لا يزيد على ست.

والقافية مردوفة، تكررت فيها كلمة «لا تحزنن» والْتُزم الروي في الكلمات التي قبلها. وهذا شائع في الشعر الفارسي عامة، وشعر حافظ الشيرازي خاصة.

وقد كتب تاريخ حافظ وترجم ديوانه الدكتور إبراهيم أمين المدرس بكلية الآداب، فليرجع إليه من شاء المزيد.

•••

ولا يتسع المجال لتتبع الآثار الأدبية في عهد التتار، وحسبنا أن نقول إنه كان عصر اضطراب في أوله، اضطرب فيه الأدب، فكانت فترة دَهِش فيها الناس لما أصابهم، ولم يجدوا من يشجعهم أو يستمع لهم، فانقطع النسَق فكان عهد التتار فاصلًا بين عهدَين.

والذي يثير إعجاب المؤلف في هذه الحقبة التأليف التاريخي وحده. فقد عني التتار بتسجيل أخبارهم، وتدوين مآثرهم وتعريف الناس بسير آبائهم، فألِّفت كتب في التاريخ هي أحسن ما أنتجه عصر من عصور إيران.

ومن أجل هذا يحسن أن نفصِّل الكلام في هذا الجانب من الثقافة الإيرانية في ذلك العصر.

وأترجم لأكبر مؤرخي هذا العصر، الذي مهد السبيل لمن بعده، وهو رشيد الدين فضل الله صاحب الكتاب المعروف «جامع التواريخ».

(٢) رشيد الدين وكتابه جامع التواريخ

استجاب التتار سريعًا للإسلام وحضارته، واستعانوا بالمسلمين في تدبير دولتهم، ثم أسلموا واندرجوا في الجماعة الإسلامية.

وقد نَبَه في عهدهم وزراء رعوا السياسة والعلم، وتركوا في التاريخ آثارًا محمودة منهم أسرة الجويني؛ شمس الدين محمد صاحب الديوان، وأخوه علاء الدين عطا ملك، وابنه بهاء الدين. تولى شمس الدين الوزارة لهولاكو ولابنه أباقا. وولي علاء الدين أمر بغداد أربعًا وعشرين سنة منذ عام ٦٥٧ﻫ. وكان بهاء الدين واليًا على العراق العجمي وفارس.

وكان لهذه الأسرة فضل في تدبير الملك ورعاية العلم والأدب، وكان فيها الأدباء العلماء. وقد ألَّف عطا ملك كتابًا ضخمًا في تاريخ التتار سماه «تاريخ جهانكُشا» أي فاتح العالم، يعني جنكيز خان. أكمله سنة ٦٥٨ﻫ، بعد فتح بغداد بسنتين، وانتهى فيه إلى حوادث سنة ٦٥٥ﻫ.

ومن كبار الوزراء والعلماء والمصلحين في دولة الإيلخانيين رشيد الدين فضل الله بن عماد الدولة أبي الخير بن موفَّق الدولة علي. كان جده موفق الدولة هو ونصير الدين الطوسي في أسْر الإسماعيلية في قلعة ألمُوت حينما استولى عليها هولاكو سنة ٦٤٦ﻫ، السنة التي ولد فيها رشيد الدين، فدخل موفق الدولة في خدمة هولاكو.

وصار رشيد الدين طبيبًا لأباقا بن هولاكو، ونبُه شأنه، وعلت مكانته. فلما ولي محمود غازان ٦٩٤ﻫ زادت مكانة رشيد، وعُرف فضله، وتمكنه في علومٍ أخرى إلى الطب الذي عُرفت خبرته فيه من قبلُ. فلما عُزل الوزير صدر الدين الزنجاني المعروف بصدر جهان وقتل، ولي رشيد الدين الوزارة وأُشرِك معه سعد الدين سنة ٦٩٧ﻫ. وذلك بعد ثلاث سنين من ولاية غازان. وصحب غازان في غزواته في الشام، وكان كاتبه باللغة العربية. واستمر رشيد الدين وزيرًا بعد موت غازان، فوزر لأولجايتو (خدا بنده) وأغدق عليه خدا بنده الهبات وقرَّبه إليه، وركن إليه في تدبير الملك، فبلغ رشيد الدين أوج سلطانه، وتصرف كما يشاء خُلقه وعلمه وحكمته.

بنى رشيد الدين بجوار السلطانية دارِ الملك الجديدة ضاحيةً سماها الرشيدية. وبنى فيها مسجدًا كبيرًا ومدرسة ومارستانًا ومستشفًى، ودورًا أخرى للخيرات وزهاء ألف منزل.

وبعد قليل بنى ضاحيةً أخرى قرب الغازانية شرقي تبريز، وأنفق أموالًا كثيرة، حتى ساق إليها الماء من نهر سراوْ (سراورُود) في قنواتٍ منحوتة في الصخر، مكَّنه من هذه الأعمال ما أفاض عليه السلطان من الأعطية.

وفي عهد أبي سعيد بن أولجايتو (٧١٦–٧٣٦ﻫ) أشرك معه في الوزارة علي شاه، ونالت الدسائس المتمادية من رشيد الدين فعُزل. ورغب في أن يعيش في دَعةٍ بعيدًا عن الدسائس، وكان من الأمراء من يودُّ رجوعه إلى الوزارة، فاهتم منافسه علي شاه فاتهمه أنه هو وابنه الصبي إبراهيم وضعا السم لأولجايتو في دواءٍ صنع له، وصدَّق أبو سعيد التهمة، وكان صبيًّا في الخامسة عشرة من عمره؛ فقتل الرجل العالم الخيِّر الحكيم الحازم بعد أن لبث يدبر ملك المغول عشرين عامًا. قتل سنة ٧١٨ وقد نيَّف على السبعين، وقتل معه ابنه إبراهيم وهو صبي في السادسة عشرة من عمره، وتلك كانت غايةَ وزراء المغول الإيلخانيين لم ينجُ منها إلا قليل.

وتبع قتلَه مصادرة أمواله وتعذيب أقاربه ونفيهم وإبطال أوقافه، وأبيحت المحلة التي بناها، وسميت الربع الرشيدي.

دفن رشيد الدين في القبر الذي أعده لنفسه، ولكن هذا الرجل الكبير لم يترك له حتى قبره، فقد أمر ميرانشاه ابن تيمورلنك بعد مائة عام أن ينبش القبر، وتنقل عظام المقبور إلى مقبرة اليهود. وكان حساد الرجل يزعمون أنه يهودي الأصل، ومنهم من زعم أنه لم يزل على اليهودية.

(٢-١) كتبه

كان رشيد الدين — على كثرة شواغله — معنيًّا بتأليف الكتب في موضوعاتٍ شتى، فألف:
  • (١)

    جامع التواريخ، وسنعود إلى الكلام فيه.

  • (٢)

    وكتاب الأحياء والآثار، وهو ٢٤ فصلًا تتناول موضوعاتٍ مختلفة في الطبيعة والزراعة والغرس وتربية الحيوان وقتل الحشرات الضارة، وفي العمارة والتحصين وبناء السفن، واستخراج المعادن إلخ. وهذا الكتاب مفقود.

  • (٣)

    والتوضيحات، وهو في العقائد والتصوف، كتبه بأمر أولجايتو ومنه نسخة في مكتبة باريس.

  • (٤)

    ومفتاح التفاسير، في بلاغة القرآن وفي المفسرين وطرائقهم وموضوعاتٍ دينية أخرى.

  • (٥)

    والرسالة السلطانية في العقائد، ألَّفها على أثر مجادلة وقعت في مجلس أولجايتو.

  • (٦)

    ولطائف الحقائق في العقائد أيضًا، وهي ثلاثون رسالةً صدَّرها بمقدمة حدَّث فيها برؤيا رأى فيها الرسول صلوات الله عليه ليلة السادس والعشرين من رمضان سنة ٧٠٥ﻫ، وهذه الأربعة الأخيرة مكتوبة بالعربية، وقد جمعت وسميت المجمومة الرشيدية، ونسخها موجودة.

وكتبٌ أخرى.

(٢-٢) عناية رشيد الدين بكتبه

توسل رشيد الدين بوسائلَ عدة لتخليد كتبه، كان يأمر أن تنسخ من كل كتاب نسخٌ كثيرة ويعيرها للعلماء مرخصًا لهم في نسخها.

وأمر بأن يترجم كل كتاب له عربي إلى الفارسية، وكل كتاب له فارسي إلى العربية، وأن ينسخ من هذه وهذه نسخٌ كثيرة لتحفظ في خزانة الجامع في المحلة المنسوبة إليه «الربع الرشيدي».

وأمر أن تجمع رسائله مع ما يتصل بها من صور وخرائط في مجموعٍ واحد، سمي جامع التصانيف الرشيدي، وتوضع في خزانة هذا الجامع.

وأمر أن تكتب أربعة من كتبه في الطب وتدبير المغول للحكومات باللغات الثلاث العربية والفارسية والصينية.

وأباح نسخ كتبه كلها لمن يشاء، وخصص مالًا من وقف الجامع لنسَّاخين يكتبون في كل سنة نسختَين من كل كتبه؛ إحداهما بالعربية والأخرى بالفارسية ترسلان إلى إحدى المدن الإسلامية الكبرى.

وأمر أن تُنسخ هذه الكتب على أحسن الورق البغدادي بأحسن الخطوط وأوضحها، وأن تقابل بالأصول مقابلةً دقيقة.

وأمر أن يُختار النساخون من مهرة الكتاب الذين يجيدون الكتابة، ويسرعون فيها، وأن يعملوا في المساجد. وكلما كملت نسخة وضعت على كرسي بين المنبر والمحراب، وتُلي عليها دعاء للمؤلف كتبه لنفسه، ويكتب هذا الدعاء آخر كل نسخة، ويتلوه تحميد أنشأه رشيد الدين، وخاتمة يكتبها قيِّم الوقف يبين فيها تاريخ النسخة، والمدينة التي كتبت لها، ويذكر اسمه ونسبه ليدعو له المسلمون.

ثم تحمل النسخة إلى قضاة تبريز ليشهدوا أن وصايا الواقف قد أنفذت في كتابتها. وترسل إلى المدينة التي كتبت لها، فتوضع في خزانةٍ عامة، وييسر للناس الاطلاع عليها واستعارتها برهنٍ يقدره قيِّم الخزانة.

وأمر أن تكتب نُسَح من المجموعة الرشيدية وبيان الحقائق وكتاب الأحياء والآثار، وتعطى لأحد المدرسين في الجامع يقرأ منها كل يوم ويفسرها للطلاب. وعلى كل مدرس أن ينسخ من أحد هذه الكتب نسخةً عربية وأخرى فارسية في مدةٍ محدودة، فإن لم يفعل عزل. والنسخة التي يكتبها تكون له يتصرف بها كما يشاء. وتُيسَّر مطالعة هذه الكتب لمن يشاء، ولكن لا تنقل من خزانتها.

وعلى قُوَّام الوقف أن ينفذوا شروط الواقف في غير تبديل ولا تحريف ولا ونى، ومن لم يفعل فعليه لعنة الله.

(٢-٣) جامع التواريخ

هو بالعربية والفارسية.

أشار السلطان غازان أحد الملوك من بني هولاكو على وزيره رشيد الدين فضل الله بأن يكتب تاريخ المغول وقبائلهم وأنسابهم باللغة الفارسية. وجمع إليه كل خبير بتاريخ المغول، ويسَّر له الاستفادة من سجلات الدولة، فلم تمنعه شواغله الكثيرة أن يجمع هذا التاريخ الجامع، ويقول دولتشاه: إن المؤلف لم يجد وقتًا للكتابة إلا ما بين صلاة الفجر وشروق الشمس من كل يوم. وقد توفي غازان قبل أن يتمَّ الكتاب، فأمر أخوه وخليفتُه أوليجايتو بإتمامه وتصديره باسم غازان الذي أشار بتأليفه.

في كشف الظنون: «لما شرع في التبييض مات السلطان غازان في شوال سنة ٧٠٤ﻫ، وجلس مكانه أخوه خدابنده محمد، فأمره بإتمامه وإدخال اسمه في العنوان. وأمر أيضًا بإلحاق أحوال الأقاليم وأهلها وطبقات الأصناف، وبأن يجعل جامعًا لتفاصيل ما في كتب التاريخ.

وأمر مَن تحت حكمه من أصحاب تواريخ الأديان والفرق بالإمداد إليه من كتبهم. وأمر أيضًا بأن يجعله مذيلًا بكتاب صور الأقاليم ومسالك الممالك، فأجاب وكتب أحوال الدولة الجنكيزخانية، وأمة الترك مفصَّلًا في مجلد، وذكر خلاصة الوفيات في مجلدٍ آخر، وذكر صور الأقاليم في مجلدٍ آخر على أن يكون ذيلًا له، ونقل أخبار كل فرقة على ما وجد في كتبهم بغير تغيير …» إلخ.

فقد أمر أولجايتو بكتابة جزءٍ آخر، في تاريخ البشر وبخاصة المدن الإسلامية، وجزءٍ ثالث في تقويم البلدان. والذي في أيدينا اليوم الجزء الأول الذي يتضمن تاريخ المغول، ويسمى أحيانًا التاريخ الغازاني، والثاني المتضمن التاريخ العام.

وتم الكتاب كله سنة ٩١٠ﻫ.

والجزء الأول فيه بابان؛ الأول: في قبائل المغول والترك وفروعها وأنسابها وأساطيرها. والثاني: تاريخ جنكيز خان وآبائه وخلفائه إلى غازان خان.

والجزء الثاني مقدمة؛ تاريخ آدم والأنبياء، وبابان؛ الأول: في ملوك الفرس قبل الإسلام، والثاني: في سيرة الرسول صلوات الله عليه والخلفاء إلى زوال الخلافة العباسية بأيدي المغول، وملوك الفرس بعد الإسلام الغزنويين والسلاجقة وملوك خوارزم وأتابكة فارس، وتاريخ الإسماعيلية.

ثم في الترك، وأهل الصين، واليهود والفرنج وملوكهم وبابواتهم والهند وبوذا ودينه.

وهذا كتاب له قيمته وخطره في التاريخ بما جمع تواريخ أممٍ كثيرة في عصورٍ متطاولة، وبما استقصى المواقف في جمع الأخبار من مصادرها المكتوبة وغير المكتوبة، وهو نسيج وحده في طريقته وأسلوبه.

وقد يُسِّر للمؤلف من المصادر وأتيح له من الرواة ما لم يجتمع مثله لمؤرخ.

يزاد على هذا التقاء تواريخ الأمم، وحوادث العصور فيه؛ فهذا مؤلِّفٌ مسلم يكتب لسلاطين تجاذبتهم الأديان حينًا، ثم سكنوا إلى الإسلام. وهو يكتب في حدود عصورٍ مختلفة، ما قبل غارات التتار وما بعدها. وحسبنا أنه يؤرخ لبني جنكيز وهم في مركز الحضارة الإسلامية، ولكنهم متصلون بأمتهم وبسننهم إلى قلب الصين.

قال المؤلف في أول الكتاب:

أكتب تواريخ أصل المغول ونسبهم، ونسب سائر الأتراك الذين يشبهون المغول، فصلًا بعد فصل، وأرتب تلك الروايات والحكايات التي تتعلق بهم مما كان موجودًا في خزائنهم المعمورة، ومما وجد عند بعض الأمراء ومقرَّبي الحضرة الشريفة مودعة. وإلى هذا الزمان لم يجمعها أحد، ولم يتيسر له سعادة هذا التصنيف، وشرف هذا التركيب والتأليف. وكل واحد من المؤرخين كتب سطرًا من ذلك من غير معرفة بحقيقة الحال، بل سمعه من أفواه العوامِّ وتصرَّف فيه على وجهٍ اقتضاه رأيه، ولم يتيقن صحة ذلك لا هو ولا غيره.

وقد تلا رشيد الدين مؤرخون في العهد التتاري، فكتبوا كتبًا في التاريخ قيِّمة منها تاريخ كَزيده للمستوفي وتاريخ الوصَّاف، كما كتب قبل رشيد الدين تاريخ جهانكَشا (فاتح العالم) لعطا الجويني.

واتصل التأليف في التاريخ بعد عهد التتار، فكُتبتْ روضة الصفا وحبيب السيَر وغيرهما.

الفصل الثاني: عصر التيموريين

١

تيمورلنك وأولاده
سنةَ توفي أبو سعيد ثامن ملوك المغول الإِيلخانيين وآخرهم، ولد رجل قُدِّر له أن يسيِّر على إيران وما يليها عاصفة من الخراب والدمار كالتي أثارها بنو جنكيز من قبلُ. ذلكم تيمور الذي عرف باسم تيمورلنك.٨

ولد في كَشَّ فيما وراء النهر سنة ٧٣٦ﻫ. وقد وُصل نسبه بجنكيز خان، وليس يتسع مجال القول هنا لنبين كيف نشأ تيمور، وكيف تسلَّط، وكيف نشر فتوحه في إيران والهند وآسيا الصغرى والشام.

حسبنا أن نقول إن إيران في الحقبة التي بين وفاة أبي سعيد وغزو تيمور إياها، وهي خمسة وأربعون عامًا، كانت مقسمة بين أربع دولٍ صغيرة، أعظمهم وأجداهم على الأدب آل المظفر في ولاية فارس والعراق العجمي وكرمان. وكانت دار ملكهم شيراز، وهم الأسرة التي عاش في كنفها حافظ الشيرازي.

ثم شرع تيمور يفتح إيران سنة ٧٨٢ﻫ، فاستولى عليها سريعًا فيما استولى عليه من الأقطار.

وتوفي سنة ٨٠٧ﻫ وقد امتدت دولته من دهلي إلى دمشق، ومن بحيرة آرال إلى خليج البصرة، وكانت سمرقند دار ملكه.

وكان عسيرًا أن يُحتَفظ بهذا الملك الفسيح، فاسترد بعض الدول المغلوبة ما سُلِبوه بعد موته، وتمكن أولاده من تثبيت سلطانهم في الولايات الشمالية من إيران.

وتنازع بنو تيمور على الملك زمنًا إلى أن قضى عليهم الشيبانيون فيما وراء النهر والصفويون في إيران.

ودامت دولة تيمور وخلفائه إلى سنة ٩٠٧ﻫ، فقد استمرت زهاء مائة وأربعين عامًا (٧٧١–٩٠٧ﻫ).

٢

كان القرن التاسع الهجري عصر اضطرابٍ سياسي في إيران والبلاد المتصلة بها، فقد أعقب موتَ تيمورلنك سنة ٨٠٧ﻫ اضطرابُ الدولة التي بناها بالسيف والرعب. واستطاع ابنه شاه رُخ أن يثبِّت سلطانه على معظم أرجاء المملكة، وأن يثبُت لثورات أقاربه بين الحين والحين. فلما مات شاه رخ سنة ٨٥٠ﻫ خلفه ابنُه أُلُغ بك، فلم يغنِ غَناء أبيه، وتوفي بعد قليل. فكان الأمر بعده كما قال السير جون ملكولم: «بعد موت ألغ بك نرى طائفةً من ذرية تيمور يتنازعون أرجاء الإمبراطورية. وقد بلغ إجلال الناس للدم التيموري حدًّا يسَّر لكل من يفخر بجريان هذا الدم في عروقه أنصارًا يمكِّنونه من الظفر بعرش أو قبرٍ مجيد.»

ونشأت في هذا القرن دولٌ جديدة، فنازعت بني تيمور المتنازعين: دولةُ الأزبَك فيما وراء النهر، ودولتا التركمان المعروفتان: قَره قُيونلو (ذوو الشاة السوداء)، وآق قُيونلو (ذوو الشاة البيضاء). وكانت خاتمة هذا الاضطراب المستمر انتصار الشاه إسماعيل مؤسس الدولة الصفوية في موقعة شُرور سنة ٩٠٧ﻫ بعد مائة سنة من موت تيمور. وكان هذا الانتصار على جيوش آق قيونلو فاتحة انتصارات مدَّت سلطان إسماعيل ما بين نهر جيحون وخليج البصرة وأفغانستان والفرات؛ فجمع شمل هذه البلاد مرةً أخرى.

٣

وإنما يعنينا من ذرية تيمور الأمراء الذين كان لهم أثرٌ حميد في السياسة والعلوم والفنون:
  • (١)

    شاه رخ بن تيمور، وكان أمير خراسان أيام أبيه، تولاها وعمره عشرون سنة عام ٧٩٩ﻫ، وضرب النقود باسمه. ثم امتد سلطانه بعد أبيه على معظم إيران وما وراء النهر. ولم يكن همه توسيع ملكه، بل إصلاح ما أفسده أبوه وتعمير ما أخربه. وقد أجمع مؤرخوه على مدحه والإشادة بحبه للسلم وعنايته بتعرف أحوال الرعية وإسعادها. وكان مكرمًا رجال العلم والأدب فقصدوه من كل جانب.

  • (٢)

    ولم يدم ملك ابنه ألغ بك أكثر من ثلاث سنين، ولكنه شارك في نشر العلم. وقد بنى مرصد سمرقند حينما كان أمير تركستان في عهد أبيه، وإليه ينسب زيج ألغ بك أو الزيج الجديد السلطاني.

  • (٣)

    وكان السلطان أبو سعيد حفيدُ ميران شاه بن تيمور ذا عناية بالعلم والأدب كذلك. وقد استقرَّ ملكه في هراة اثني عشر عامًا.

وأعظم بني تيمور أثرًا في العلوم والآداب السلطان أبو الغازي حسين الذي ملك هراة بعد موت أبي سعيد سنة ٨٧٣ﻫ، واستمر ملكًا إلى أن توفي سنة ٩١١ﻫ. وفي كنفه عاش الجامي زمنًا طويلًا، وإليه أهدى كثيرًا من مؤلفاته. وكان السلطان أديبًا شاعرًا، ولكن الفضل الأكبر في تثبيت دولته واجتماع العلماء والأدباء حوله يرجع إلى وزيرٍ عالمٍ شاعرٍ خيِّرٍ معمِّرٍ محبٍّ للعلماء صارت هراة في أيامه مجمع النابغين من رجال العلوم والفنون، حتى عدَّت إذ ذاك كمدينة غزنة في عهد السلطان محمود، فلا يستطيع من يتكلَّم في هذا العصر أن يغفله، ذلكم هو الوزير الكبير علي شيرنوائي.

ولد في هراة سنة ٨٤٤ﻫ، ومات ودفن بها سنة ٩٠٦ﻫ، وكانت وزارته في ذلك العصر المضطرب مصدر سلم وإصلاح. وقد وثق به السلطان حسين، وكان رفيقه في طلب العلم، فألقى إليه مقاليد الدولة، فيسر الله الأمور، وعمَّ السلم، حتى استطاع هذا الوزير أن يفرغ بعض الفراغ للإشراف على المؤلفين، وأن يشاركهم في التأليف والنظم، ووجد سبيلًا للرياضة الروحية، وأدخله صديقه الشيخ الجامي في الطريقة النقشبندية.

وقد أجمع مؤرخوه على أنه كان من الأفذاذ الذين تزيَّن بهم تاريخ الإسلام، حتى بابُر، وهو أدق نقدًا وأكثر اقتصادًا في المدح من أصحاب التراجم، يقول إنه لا يعرف مثله في السخاء ورعاية العلماء.

وقد شجع هذا الوزير كثيرًا من العلماء والأدباء على التأليف وقرض الشعر. وكان صديقًا للجامي ومحسنًا إليه، وقد أهدى إليه الجامي كثيرًا من كتبه. ورثى الوزير صديقه الجامي حين مات ونظم منظومة طويلة سماها «خمسة المتحيرين» تخليدًا لذكرى صديقه وشيخه في التصوف.

وكان هذا الوزير مولعًا بالموسيقى والغناء والتصوير والنقش، فعاش في رعايته كبار المصورين والموسيقيين، ومنهم المصور الكبير بهزاد، وشاه مظفر، والموسيقي قول محمد وشيخي النائي، وحسين العودي.

وكان شاعرًا عظيمًا أغنى اللغة التركية الشرقية بمنظوماته المطولة، وهي ستة مثنوياتٍ كبيرة. وكان مؤلفًا خصب القريحة كتب تسعةً وعشرين كتابًا في موضوعات مختلفة في عهد السلطان حسين، آخرها «محاكمة اللغتين». وهو كتاب أراد أن يبين فيه امتياز اللغة التركية على الفارسية، كتبه سنة ١٩٠٥م قبل وفاته بسنةٍ واحدة. وقد رأيت في إستانبول معجمًا له في اللغة العربية سماه سبعة الأبحر.

وقد أهدى إليه كثير من المؤلفين كتبهم، منهم الشيخ الجامي، وله ألَّف كتابه «نفحات الأنس» في تراجم الصوفية، ودولتشاه الذي أهدى إليه كتابه «تذكرة الشعراء».

وأما كلفه بالتعمير وبرُّه بالفقراء وعنايته بدور العبادة والعلم، فحسبنا في ذلك أن نعرف أن بناءه وترميمه ووقفه تناول ثلاثمائة وسبعين بناء بين مسجدٍ ومدرسةٍ وخان ودار صدقة في خراسان، وأنه جلب الماء من عينٍ بعيدة في طريقٍ وعر إلى مدينة المشهد، فهي تسقى منها حتى اليوم.

٤

نرى إذن أن عصر بني تيمور، على كثرة فتنه وحروبه، كان عصر ازدهار للآداب والفنون. كان هؤلاء الأمراء المتنازعون كالأمراء الذين استقلوا في العراق والشام وإيران في القرن الرابع الهجري، فتنافسوا في إحياء الآداب، بل كانوا كملوك الطوائف في الأندلس، تنافسًا في تقريب العلماء والشعراء.

يقول الدكتور مارتن: «إن تكن جيوش تيمور قد محت آثارًا جميلة، فإن خلفاءه أحدثوا كثيرًا من بدائع الصناعات، وأبلغوا الفنون الفارسية أعلى درجاتها. كانوا في فترات السلم يعنون بالكتب، وينظمون الشعر، وكثير منهم أجاد في شعره، فالسلطان حسين مرزا لم يكن شاعرًا قليل الخطر، وشعره التركي يفوق شعر كثير من شعراء وقته، وقد كتب أيضًا باللغة العربية.

إنهم كانوا في أساليب حياتهم يشبهون أمراء أوروبا المعاصرين، أو أمراء فرنسا في القرن الثامن عشر، ولكنهم كانوا في الأدب أعظم أثرًا. كان شاه رُخ وأُلُغ بك، وباي سُنقُر، والسلطان حسين، محبين للكتب يعنون بالإجادة في نسخها وتذهيبها وتحليتها، فهم لا يقلون عن معاصريهم دوقات برجندي Bergundy، ولا يقاس بهم عشاق الكتب في إيطاليا في القرنَين السادس عشر والسابع عشر.

كان باي سنقر والسلطان حسين في إيران كما كان وليم موريس في إنجلترا بعد أربعة قرون، إنهم لم يكتفوا بجمع الكتب، بل خلقوا فنونًا لها، ولا يمكن أن يقاس بالكتب الشرقية في ذلك العصر أجملُ ما عرفته أوروبا من الكتب. وكان باي سنقر خاصة مولعًا بالفنون الكُتُبيَّة، فنشأ في رعايته أجمل الأساليب في صناعة الكتب، وكان من أعاظم المولعين بالكتب في العالم كله. كان يعمل بأمره وتشجيعه أربعون صَنَعًا في النسخ، وبلغت العناية بالورق والتصوير والتجليد حدًّا لا يعرف نظيره حتى اليوم.

وقد أخرجت إيران أجمل بُسُطها في عهد التيموريين، لا في عهد الشاه عباس، وصنع في قصورهم من السلاح والدروع والأدوات والآنية المحلاة بالعاج ما لم تعرف مثله الأقطار الأخرى.»

٥

العلماء والكتاب والشعراء

وقد نبغ في هذا العصر كثير من الكتاب والمؤلفين، عدَّ المؤرخ خُوندَمير في كتابه «حبيب السير» زهاء مائتين من الكتاب والمؤلفين في ذلك العصر.

فمن المؤرخين حافظ أبرو صاحب «زبدة التواريخ» ألَّفه لشاه رخ، وفصيحي الخوافي صاحب «المجمل» في التاريخ والجغرافيا، ألفه لشاه رخ أيضًا، وعبد الرازق السمرقندي صاحب «مطلع السعدين» أهداه إلى أبي سعيد، ومعين الدين الإِسفيزاري صاحب «روضات الجنات» في تاريخ مدينة هراة، كتبه للسلطان حسين.

ومنهم المؤرخ الكبير ميرخُوند صاحب «روضة الصفا» أمضى معظم حياته في هراة في كنف الوزير علي شير.

ومن أصحاب التراجم دولتشاه صاحب «تذكرة الشعراء»، وحسين الواعظ صاحب «روضة الشهداء» في مصارع آل البيت، وعلي بن حسين الواعظ صاحب «رشحات عين الحياة» في تراجم الصوفية. وقد ألَّف السلطان حسين كتابًا في التراجم سماه «مجالس العشاق»، كما ألف وزيره علي شير «مجالس النفائس» في تراجم الصوفية والشعراء.

وكان للشعر رواج في ذلك العصر، وقد أثر شعراؤه في تركيا وما وراء النهر والهند، وكانت الصناعة والتكلف غالبَين على الشعراء، إلا جماعة من كبرائهم.

ومن كبار الشعراء شاه نعمة الله الكرماني، وهو صاحب طريقة في التصوف، توفِّي ٨٣٤ﻫ، وسيد قاسم الأنوار ولد في ولاية تبريز سنة ٧٥٧ﻫ، ومات في خَرجِرد سنة ٨٧٣ﻫ وكاتبي النيسابوري، وإمامي الهروي.

وقد ذكر علي شير ٤٦ شاعرًا معاصرًا.

وأما التصوف فكان غالبًا على العلماء والشعراء. وقد ألِّفت في تراجم الصوفية «نفحات الأنس» للجامي و«الرشحات» للواعظ و«شرح المثنوي» لكمال الدين الخوارزمي.

وإذا أردنا أن نختار من أدباء هذا العصر من يتمثل فيه علم العصر وأدبه وتصوفه في أكمل صورها فذلكم:

(٣-١) الشيخ عبد الرحمن الجامي

أ

هو نور الدين عبد الرحمن الجامي بن نظام الدين أحمد الدشتي بن شمس الدين محمد، كان جده من دشت إحدى محلات أصفهان، ثم رحل إلى ولاية جام من خراسان، وهناك تقلد القضاء والإفتاء، وتزوج امرأة من ذرية الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، فوُلد له نظام الدين، وكان شمس الدين وابنه يُعرفان هناك بلقب الدشتي، نسبةً إلى دشت أصفهان.

وهنالكم في قريةٍ اسمها خرجرد من قرى جام، ولد عبد الرحمن وقت العشاء، ليلة الثالث والعشرين من شعبان سنة ٨١٧ﻫ.

وقد بين هو مولده في بيتين له بالفارسية.

ورحل في صغره مع أبيه إلى هراة، وهنالك غلب عليهما لقب الجامي نسبةً إلى ولاية جام التي رحلا عنها، وللجامي بيتان يذكر فيهما أنه يسمى الجامي من جهتَين:

لأنه من ولاية جام، ولأنه من المقتدين بشيخ الإسلام أحمد الجامي.

ب

بدأ عبد الرحمن تعلمه في المدرسة النظامية في هراة، فدرس علوم الدين وأخذ علوم البلاغة، فقرأ المفتاح والمطوَّل وحواشيه. وكان من أساتذته علي السمرقندي من تلاميذ السيد الشريف الجرجاني. قال عنه الجامي إنه لم يكن له نظير، ولكنه استغنى عنه بعد أربعين يومًا. وكذلك سمع دروس شهاب الدين الجاجَرمي الذي تتصل تلمذته بسعد الدين التفتازاني. قال الجامي إنه لزمه مدةً طويلة فلم يستفد منه إلا مسألتَين اثنتين.

ثم توجه إلى سمرقند في طلب العلم، وحضر درس قاضي زاده الرومي، ووقعت بينهما مباحثاتٌ طويلة انتهى فيها الشيخ إلى رأي تلميذه. وقد قال قاضي زاده وهو يتحدث عن الأذكياء: إنه لم يعبر نهر جيحون إلى هذا الجانب منذ حللتُ به مثل الشاب الجامي ذكاءً وجودة طبع.

وكذلك درس في سمرقند الهيئة وظهرت براعته فيها، ونقد أقوال علمائها، وقد سُئل مرةً في هراة عن مسائل من الهيئة، فأجاب عنها ارتجالًا.

تجلى نبوغ عبد الرحمن في كل ما قرأ أو سمع من العلوم، ولعل حدة ذكائه هوَّنت عليه التلقي عن الأساتذة، فقد روي عنه أنه قال وقد ذكر أساتذته: «لم أقرأ على واحدٍ منهم درسًا، فكان فهمه خيرًا من فهمي، بل كنت أفوقهم في البحث والإدراك، ولا أعرف لأحدٍ منهم عليَّ حق الأستاذية، وإنما أنا تلميذ والدي أخذت عنه اللغة.»

وكان عبد الرحمن ممتازًا بعلوِّ نفسه كما امتاز بذكائه، أراده جماعة من إخوانه طلاب العلم على أن يذهب معهم إلى أحد أمراء السلطان شاه رخ؛ ليحصلوا على وظيفة. فطال وقوفهم على الباب، ثم قابلوا الأمير، فلما خرجوا قال الجامي: «لا أعود إلى مثل هذا أبدًا.» فلم يُرَ بعدها على باب أحدٍ من أرباب المناصب.

تصوفه

ثم ذهب إلى خراسان، فلقي سعد الدين الكشغري، وسلك طريقته. وكان سعد الدين خليفة الطريقة النقشبندية، ويحكى أن هذا الشيخ كان يجلس على باب جامع هراة، وكلما بصر بالجامي مارًّا قال: «إن في هذا الشاب مخايلَ عظيمة، ولا أدري كيف نصطاده لطريقتنا.» فلما جاء الجامي إليه قال: «اليوم ظفرت شبكتنا بصقر!» وكان أسف العلماء على تصوفه بمقدار فرح الصوفية به، قال محمد الجاجَرمي: «إن خراسان أخرجت بعد خمسمائة سنة رجلًا كاملًا، فقطع عليه سعد الدين الطريق وأضاعه.» يعني أن سعد الدين نقله من طريق العلماء إلى طريق التصوف.

ارتاض عبد الرحمن رياضةً صوفية، وأخذ نفسه بالمجاهدات الشاقة، واعتزل الناس واستوحش منهم، وساح في البلاد، فلقي كثيرًا من كبار الصوفية في خراسان وما وراء النهر.

د

حجه وسياحته

عزم على الحج سنة ٨٧٧ﻫ، فتأهب للسفر في ربيع الأول، فاجتمع كبراء بلده ليمنعوه من الحج قائلين إن خيرًا كثيرًا يصيب الفقراء من السلاطين على يديك، وإن كل فائدة تفيدها الفقراء تعدل الحج مشيًا، فأجابهم وكان يحب الفكاهة: «لقد تعبت من كثرة حجي ماشيًا، وأود أن أحج مرةً راكبًا.»

أخذ طريقته إلى الحج، حتى بلغ همذان، فلقيه حاكمها فضيَّفه هو وكل القافلة، ثم أرسل معه خفراء حتى جاوز جبال كردستان وبلغ العراق. بلغ بغداد أول جمادى الآخرة، وزار مزارات أهل البيت في النجف وكربلاء. وقد اعترض بعض الشيعة في بغداد على أبيات في كتابه «سلسلة الذهب»، وتألَّبوا عليه. فجلس الشيخ في إحدى مدارس بغداد، واجتمع إليه الكبراء والعلماء، فقرأ الأبيات التي اعتُرض عليها، وفسَّرها تفسيرًا أرضى الحاضرين، ثم قال: «لقد مدحت العلويين في «سلسلة الذهب» مدحًا خفت معه من السُّنِّيين في خراسان، وما حسبت أني سأتعرض لثورة الروافض في بغداد.»

وقد نظم قصيدة يشكو جفاء أهل بغداد، ولعلها الواقعة الفذة التي تطاول فيها الناس على الشيخ، ثم ذهب إلى الحرمين، ونظم قصائد يترجم فيها عن شعوره هناك.

وبعد الحج توجه إلى الشام، وسمع الحديث في دمشق، ثم توجه إلى حلب.

ولما سمع السلطان العثماني محمد الفاتح (٨٥٥–٨٨٦ﻫ)، أن الشيخ ذاهب إلى الحجاز أرسل إليه بعض خواصِّه ومعه خمسة آلاف قطعةٍ ذهبًا، وبضعة آلاف فلوري ووعد بآلافٍ أخرى، وسأله أن يشرف بلاد الروم بزيارته. فلما جاء الرسول إلى دمشق كان الشيخ قد ذهب إلى حلب، وعلم وهو في حلب بمقدم رسول الفاتح، فخشي أن يدركه هناك، فعجل الخروج منها إلى تبريز. وكانت الحرب إذ ذاك ناشبة بين العثمانيين وأمير أذربيجان، فتطوع بعض الأمراء لحفاوة قافلة الجامي، حتى جاوز بها المواضع المخوفة. ودعاه بعض الناس إلى التوقف في طريقه، فاعتذر بأنه يريد أن يرى والدته العجوز، ورجع إلى هراة سنة ٨٧٨ﻫ، فبقي بها في رعاية السلطان حسين ووزيره علي شير، حتى توفي سنة ٨٩٨ﻫ.

وقد رثاه علي شير وكثير من الشعراء، وأرَّخوا موته بكلماتٍ منها الآية: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ومنها: «آه أز فراق جامي، آه أز فراق جامي.»

و

وكان الشيخ الجامي، على علمه وزهده وتقواه وتصوفه، حسنَ العشرة فكهًا يحب المزاح، وقد سارت له لطائفُ دقيقة وأجوبةٌ مُسكِتة، فهو من هذه الناحية يشبه الشيخ سعدي الشيرازي.

كان من معاصريه شاعرٌ يسمى ساغري، وكان يدَّعي أن الشعراء تسرق معانيه، فنظم الجامي بيتَين في هذا المعنى:

يقول ساغري إن لصوص المعاني سرقوا من شعره كل معنًى جيد. صدق، لقد سرقوا معانيه، فما رأيت في شعره بيتًا له معنًى.

ومما يَذكر في كتابه بهارستان أن رجلًا أحسَّ بضيق صدره، فذهب إلى طبيب، فسأله: ما عملك؟ قال: شاعر، قال: أنظمتَ شعرًا من قريب؟ قال: نعم، قال: هل أنشدته أحدًا؟ قال: لا، قال: فأنشدني. فأنشده فاستعاده مرة بعد مرة، ثم سأله: كيف تجدك الآن؟ قال: قد استرحت، قال: نعم، كان هذا الشعر معقَّدًا في صدرك.

ز

وقليل من العلماء والأدباء من بلغ في حياته المكانة التي بلغها الجامي بين العامة والخاصة؛ فقد أجمع الناس على تعظيمه والتبرك به، وراسله الملوك ورغبوا في زيارته فأبى. وممن راسله وتودَّد إليه السلطان يعقوب من أمراء آق قيونلو (٨٤٤–٨٩٦ﻫ) وجهان شاه قره قيونلو (٨٤١–٨٧٢ﻫ)، والسلطان محمد الفاتح (٨٥٥–٨٨٦ﻫ)، وقد ذكر هؤلاء في شعره، والسلطان بايزيد الثاني ابن الفاتح (٨٨٦–٩١٨ﻫ).

وفي منشآت السلاطين رسالتان من هذا السلطان وجواب الجامي عنهما. ومنهما يتبين تعظيم السلطان للشيخ، وإمداده إياه بالمال.

كان الجامي عالمًا شاعرًا صوفيًّا، وقد كتب في موضوعاتٍ كثيرة نظمًا ونثرًا.

فأما مؤلفاته المنثورة، فمنها «نفحات الأنس» في تراجم الصوفية ألَّفه (سنة ٨٨٣ﻫ)، وشواهد النبوة (سنة ٨٨٥ﻫ)، وشرح اللمعات للعراقي (سنة ٨٨٦ﻫ)، واللوائح واللوامع شرح فصوص الحكم لابن عربي، وشرح النصوص لصدر الدين القنوي، وشرح التائية والخمرية لابن الفارض، وناي نامه، وهو شرح مقدمة المثنوي، وشرحه على الكافية في النحو العربي، وقد سماه الفوائد الضيائية نسبةً إلى ابنه ضياء الدين، وهو شرحٌ ذائع جدًّا في البلاد الإسلامية الشرقية، ألَّفه لابنه بعد أن قرأ له كلستان سعدي، وكتابُ بهارستان، وهو قصصٌ أدبيةٌ أخلاقية.

وله مؤلفاتٌ أخرى في التفسير والحديث والتوحيد والتصوف إلخ تقارب الأربعين.

وأما منظوماته فضربان؛ الأول: الديوان، وهو ثلاثة أقسام: فاتحة الشباب، وواسطة العقد، وخاتمة الحياة.

والضرب الثاني: سبع منظوماتٍ قصصيةٍ مطولة تسمى هفت أورنك، وهي:
  • (١)

    سلسلة الذهب، وتتضمن مسائلَ فلسفية ودينية وأخلاقية، أتمها سنة ٨٩٠ وقدمها للسلطان حسين بَيقرا.

  • (٢)

    وسلامان وأبسال، وهي قصة فيها ألف ومائة بيت تذكِّر القارئ بقصة حيِّ بن يقظان، نظمها ليعقوب بن أوزون حسن (آق قيونلو).

  • (٣)

    وتحفة الأحرار في التصوف، جعلها على مثال مخزن الأسرار لنظامي، وأتمها سنة ٨٨٦ﻫ، وهي ألف وسبعمائة بيت.

  • (٤)

    وسبحة الأبرار في التصوف كذلك، وفيه قصص وأمثال كثيرة، وقدَّمه للسلطان حسين.

  • (٥)

    يوسف وزليخا، وهو أسْيَر منظومات الجامي أتمَّه سنة ٨٨٨ﻫ، وقدمه للسلطان حسين.

  • (٦)

    ليلى والمجنون، ويشتمل على ٣٧٦٠ بيتًا نظمها في أربعة أشهر سنة ٨٨٩ﻫ.

  • (٧)

    خسرونامه سكندري، في الأخلاق والحكم، نظمها للسلطان حسين.

ويضيق المقام عن التحدث في بعض منظوماته أو إيراد شيء من شعره، فأكتفي بالحديث عن أقصر هذه المنظومات القصصية، قصة سلامان وأبسال، وهي قصةٌ رمزيةٌ صوفية، وهذه خلاصتها:

كان في بلاد اليونان ملك ذو شوكة، وكان في عهده حكيم يعترف الحكماء بإمامته، وعرف الملك قدره فقرَّبه واصطفاه واتبع مشورته في أموره كلها، فسُخِّرت له ممالك الأرض كلها، واستقر له السلطان، وسعد الناس بعدله وسخائه.

وفكَّر الملك في أمر نفسه، فرأى أنه ظفر بكل ما تمنَّى إلا ولدًا يخلفه، ويحيي ذكره، فأفضى للحكيم بأمنيَّته، وقال: لا نعمة أعظم من الولد. وبيَّن عون الولد لأبيه، ودفعه عنه في الحادثات.

فلما سمع الحكيم كلام الملك قال إن الولد لا يكون إلا بالشهوة، ومن الشهوة يُظلِم العقل والفكر ويزين القبيح، وتذهب الحكمة من القلب، والنور من العين.

وتكلم الشاعر في مضارِّ الشهوة، وانتقل إلى ذم النساء، ووصفهن بالغدر وكفر النعمة.

ودبَّر الحكيم تدبيره فأخذ نطفة من صلب الملك بغير شهوة، ووضعها في مكانٍ ملائم، فنشأ منها بعد تسعة أشهر طفلٌ سوي. وفرح الملك به أيَّ فرح، وسماه سلامان واختار له مرضعةً شابة، سنُّها دون العشرين اسمها أبسال، أوتيت من الجمال ما يعجز عنه البيان، وقد وصف الشاعر جمالها وصفًا مفصَّلًا، وأحبت المرضعة طفلها، بل جُنَّت به. وافتنَّت في تنظيفه وتزيينه، وشغلت به ليلًا ونهارا، حتى بلغ الرابعة عشرة من عمره كالبدر في الرابعة عشرة من الشهر. وشب سويًّا جميلًا روعةً للناظرين، وفتنةً للمتأمِّلين.

وكان من حدة الفهم والذكاء، وتصريف الكلام منثوره ومنظومه، وجودة الخط موضعَ الإعجاب والتعجب. وقد أوتي حظًّا من كل حكمة، وحذق حكمة اليونان.

وكان ذا ولع بتهيئة مجالس الطرب بالليل، وكان إذا لعب برأسه الشراب شارك المغنِّيين والموسيقيين، «تارة يمزج صوت الناي بالسُّكْر فيملأ الآذان سكرًا، وتارةً يتناول الرباب، فيشعل النغمات التي تحرق الألباب. ويسْلط البندق الرطب على الوتر، فيرمي الأخضر واليابس بالشرَر. وحينًا يحتضن العود كالطفل الصغير، ويعرك أذنه فيثير الأنَّات الحزينة، ويقطر الأهداب دمًا.»

وكان يسمر كل ليلة حتى السحر، وينام قليلًا، ثم يخرج إلى الميدان صبحًا بين السكر والنوم. فيلعب بالكرة مع أترابه من بني الملوك، فيبزُّهم في تلقف الكرة بالصولجان، لا تطيش له ضربة، ولا تخيب له عزمة.

ثم ينصرف إلى المناضلة فيوتر أقواسه ويرمي، فلولا السماء لجاوزت سهامه الأفق، لا يسلم من سهمه غزال عدَّاء، ولا طائر يخفق في جو السماء.

وهو في الجود والبذل بالغاية التي لا تدرك، إذا قيس به حاتم ومَعن فهما بخيلان.

تعوَّد بسط الكف حتى لو انه
ثناها لقبضٍ لم تطعه أنامله

… إلخ.

وبلغ سلامان مبلغ الرجال، وحدَّثت أبسال نفسها به، وعزَّ عليها مرامه، فجعلت تتجمل له، لتعرض نفسها في فنون من الصور، وألوان من الجمال، لتأسر قلب سلامان.

واستطرد الشاعر إلى قصة يوسف فقال إن زليخا أمرت، فبني لها قصرٌ أبيضُ ناصع، ثم أمرت نقاشًا ماهرًا أن يصورها في كل جانبٍ منه. فلما راودت يوسف كان كلما أعرض عنها رأى صورتها، ففتنته لولا أن رأى برهان ربه.

وعمل في سلامان جمالها وتجمُّلُها، وتزُّينها وتحيُّلها، ولكنه خاف العاقبة، وآثر العافية، وخشي أن تذهب اللذة الزائلة بما يطمح إليه من جاهٍ وجلال.

ثم غلبه هوى أبسال فأذعن له، وطابت بينهما الصحبة، فأفضى اليوم إلى الأسبوع، والأسبوع إلى الشهر، والشهر إلى السنة.

ولكن الدهر كان يناديهما بالغيب أن ليس من دأبي أن أترك الصفاء لأهله، كم صحبة وصلتها نهارًا، ثم قطعتها ليلًا! وكم دولة طلعت بها مع الليل، وفي الصباح سال بها السيل.

وانقطع سلامان عن لقاء الملك وحكيمه. فسألا حتى أُخبرا الخبر، فدعواه وسألاه فعرفا كنه الأمر، فعمدا إلى النصيحة، وكان من قول أبيه:

«لقد أدميتُ قلبي كالشقائق سنين، حتى نالت يدي وردة مثلك … إنما يجدر بك اللعب بالصولجان، وركض الخيل في الميدان، لا الإمساك بالطُّرر كالصوالج، والقعود مع الغواني اللواعب. ويجدر بك أن ترمي الصَّيد فتُصميه في البيداء، لا أن تكون كالصيد غرضًا لهذه الظباء، وأن تضرب بالسيف في صفوف الرجال، وتقطع أعناق الأبطال، لا أن تفرَّ من الشجعان، وتعرض رقبتك لسيوف النساء، بالله يا بني دع هذا واطمح للمقصد الأسمى، وإلا قتلت أباك غمًّا.»

فأجاب سلامان إنه طوع أمر والده، ورهن إشارته. وشكا إليه ما يلقى من حب أبسال، وقال إنه مغلوبٌ على أمره.

وقال الحكيم:

«إيه يا باكورة البستان القديم وآخر ما أبدع قلم التكوين، يا قارئ كتاب السبع والأربع،٩ وعالم صفحات الليل والنهار! أنت خازن كنز آدم، وأنت نسخة هذا العالم. اعرف نفسك ولا تحسبنها هَمَلا، فأنت أرفع من كل ما أقول.

إن الذي صورَتْ جنتَك يدُ قدرته كتب في قلبك حروف حكمته؛ فأنقِ صدرك من نقوش الصور، ووجَّه هذه المرآة إلى المعاني الكُبَر، حتى يكون صدرك للمعاني كنزًا ومرآتك لنور المعرفة مَظهرًا …

لقد كنت عالي المنزلة في مبدئك، وكان على الأفلاك موكبك، فرمتك شهوة النفس من عُلاك، وجعلَتْ حضيضَ التراب مثواك.»

وأجاب سلامان:

«يا من روح أفلاطون منه في حبور، وأرسطو لأمره أسير. كانت العقول عشرة أول الأمر، فجعلتها أنت أحد عشر.

أنا سالكُ طريقك، وأصغر تلاميذك، ولكن لا يعزب عن رأيك المنير، أنه ليس باختيار المسير. إن قدرة الفاعل على قدر القابل، وليست القابلية بجعل جاعل. فكيف أنقطع آخرًا، عمَّا كنت له في بدايتي قابلا!»

وضاق الأمر على سلامان بما لقي من اللوم، وهجر الملك والحكيم وهرب مع أبسال.

ويصف الشاعر ما يفعل اللوم بالعشاق، ويبين أن سلامان لم يجد بدًّا من فراق وطنه، وأنه هيَّأ محملًا له ولأبسال، وسارا لا يفترقان ليل نهار، حتى أتيا بحرًا واسعًا عميقًا مائجًا، السمك فيه ظاهرٌ جميل الألوان والأشكال، يشق الماء كما يُشَق الديباج الأزرق بمقراض من الفضة. وأراد سلامان أن يعبرا فوجد زورقًا كالهلال، فركبا فيه مسرورَين فصار الهلال منزلًا للشمس والقمر. وسار الزورق تملأ شراعه الريح كالبط يسبح على الماء، ويشقُّ صفحة البحر بصدره مسرعًا إلى مقصده، له سرعة السهم وإن كان محنيًّا كالقوس.

ولاحت وسط اللجِّ غابة يعجز الوهم عن وصفها، اجتمعت فيها أصناف الطير كله، أسرابًا إثر أسراب، وأفواجًا بعد أفواج، والأشجار ناضرةٌ متشابكة، والثمر في أصول الشجر يابسًا وجنيًّا. وفي ظل كل شجرة ينبوع كعين الشمس، والأغصان تهزها الريح فتنثر ما عليها من زهرٍ وثمر.

«فلما رأى سلامان جمال المكان، كفَّ عن السفر العنان، وأقام مع أبسال فيه وادعَين، ومن الخوف والرجاء فارغَين، فرحَين ممتزجَين كالروح والبدن، نضرَين كالورد والسوسن، صحبة لا يعلق بها فساد الدخلاء، وراحة لا يشوبها عناء. ووَرْد لا يصحبه وخز الشوك، وكنز لا يقاربه نَكْز الثعبان. فهما نائمان في المرج كل آن، شاربان من الينابيع لا يفتران، تارة مع العنادل في غناء، وأخرى في حديثٍ حلو مع الببَّغاء، يجولان حينًا مع الطاووس، ويتبختران حينًا مع الحَجَل.

وقصارى القول أنهما وصلا النهار بالليل في طربٍ وحبور وجَذَل. وماذا بعد أن يؤنسك الحبيب، ويبعد عنك الحاسد والرقيب!»

وعرف الملك بعد حين خبرهما؛ فاشتد حزنه لهما، وتتبع أخبارهما، فلم يقف لهما على أثر، فعمد إلى «مرآة العالم» التي يتجلَّى فيها كل شيء. وهي كقلب العارف لا يخفى عليه ما في العالم من خيرٍ أو شر، فرآهما الملك في هذا النعيم فرقَّ لهما.

وازداد الملك على مر الزمان حسرة، ولم يرعَوِ ابنه — معقد رجائه — عن غيِّه. فوجَّه همته وفكره إلى سلامان، حتى حال على البُعد بينه وبين حبيبته. وكانت العاقبة أن عاود أباه معتذرًا إليه مما جناه.

وذهب الفرح بالملك كل مذهب حين رأى وجه ابنه، وبالغ في الحفاوة به وإعظامه وإكرامه، وقال له:

المُلك لك فخذه، ولا تخرجه من سلالتك. انفض يدك من هذه الغانية، وامحُ من يدك حنَّاء هذه الجميلة. فما يجتمع تدبير الملك وعبادة الغانيات، فاختر أن تكون ما تشاء، إما مَلِكًا وإما زيرَ نساء.

وفعلت النصيحة بسلامان فعلها، فضاق بالدنيا وضاقت به. فانطلق هو وأبسال إلى البادية، وجمعا حطبًا، وركما بعضه على بعض، حتى صار كالجبل، ثم أضرما فيه النار، ونظرا إليها فرحَين، ثم تقدما إليها فدخلاها غير هائبَين.

واطلع الملك على هذا بالغيب، فوجَّه همته إلى إهلاك أبسال وإنجاء سلامان، فظفر بما أراد.

«كان هذا ذهبًا، وكانت هذه غشًّا على الذهب، فبقي الذهب خالصًا وذاب الغش، إذا ألقي الذهب المغشوش في النار لم يعمل حرُّها إلا في غِشِّه. إن للرجال مددًا من الله، فليس هذا من همة الرجال بعيدًا. يعرف هذا كل ذي همة، وإنما ينكره من لا همة له. ورأى سلامان أنه بقي واحترقت حبيبته، بقي جسمًا بغير روح، فاضطرم في نفسه الحزن، وأرسل الآهات نارًا، وأسال الدمع مدرارًا.»

وكلما جنَّه الليل في داره، أطال الحديث مع خيال حبيبته:

«يا من أحرقني فراقه، وحُرمَتْ عيني جماله، كنتَ أنيس روحي سنين، وكنتَ نور ناظري الحزين.

كان كلٌّ لصاحبه قرة عين، وكنا بالوصال سعيدَين. عشنا فارغَين من همِّ الناس، لا نعرف أحدًا ولا يعرفنا أحد، وقد كفَّ الفلك يد جَوره، وسارت الأمور على هوى الفؤاد، يجمعنا الليل سرَّين، ويرانا النهار نجيَّين. ليت النار حين اضطرمت، أحرقتني وأبقت عليك! ويلي قد احترقتِ وبقيتُ، ويلاه إنه حظي العاثر. ليتني حم لي لقاء، وسلكتُ معك طريق الفناء، وخلصتُ من الوجود الشقي، ووصلت إلى النعيم الأبدي!»

ونَمى خبر سلامان إلى الملك، فذهب به الغم المذاهب. قال: وا رحمتاه لسلامان! لقد كان مع أبسال في همٍّ، وهو بدونها أسير الغم، كان في غمٍّ بها، وهو في غمٍّ من دونها. إن قبة السماء دار غم عُجاب، الخلوُّ من الغم فيها كِذاب. حينما ضُربت طيبة آدم، وخُلعت عليها الصورة أمطر عليه سحاب البلاء مطر الغم أربعين صباحًا. فلما مضت الأربعون أمطر عليه الطرب يومًا واحدًا. فلا يخلص من الغم إنسان، ولا يجد السرور إلا يومًا واحدًا من أربعين، ثم تنتهي الأمور إلى السرور، ولكن يعلم العارفون أن هذا في الدار الآخرة.

وبهظ الملكَ أمرُ سلامان، وعجز عن التدبير له فعرضه على الحكيم العالم، وسأله أن ينقذه بحكمته. قال الحكيم: إن لم ينقُضْ سلامان عهدي، ولم يخرج عن أمري، رددت إليه أبسال عما قليل، وخلصته من هذا الحال الوبيل. أطبُّ لأمره أيامًا، وأردُّه نجيَّ أبسال دوامًا.

وسمع سلامان هذا من الحكيم، فأسلس له قياده، وأخلص له طاعته، وفتح قلبه لأمره.

فلما انقاد سلامان للحكيم أقبل عليه يعلمه ويفقهه، وأتى بالسحر في تلقينه وتقويمه. وكان سلامان كلما ذكر أبسال صاح وناح. فصنع الحكيم صورة أبسال، فكان يجلوها عليه كلما ثار به الوجد، فتسكن ثورته، فيزيل الحكيم الصورة.

«إذا قويت همة العارف خلق ما يشاء غير عاجز، فإذا غفل عنه لحظة فارقته صورة الوجود.»

وكان الحكيم بين الحين والحين يعرض في أحاديثه للزُهرَة يصف جمالها، ومكانتها بين الأنجم، ويحدث عن غنائها وطربها، وإصاخة الأفلاك لأغانيِّها.

وكان سلامان يصغي إلى حديث الزهرة فيُشرَب قلبه الميل إليها. وازداد الميل على تكرار الأحاديث. فلما آنس منه الحكيم هذا توجه إلى الزهرة، فأثَّر فيها، حتى تجلت في جمالها كاملًا، وفعلت فعلها في روح سلامان وقلبه؛ فامَّحت صورة أبسال من ضميره، وتمكَّن حبُّ الزهرة في قلبه.

رأى الحُسن الباقي فأعرض عن الفاني، وآثر العيش الخالد على المتاع البائد.

مبايعة الملك وأركان دولته سلامان بالملك

رأى الملك سلامانَ قد خلص من هذه المحنة، وسمت همته إلى المعالي، ففوَّض إليه الملك. وأعدَّ حفلًا دعا إليه الملوك والكبراء ورؤساء الجند. وبويع في هذا الحفل لسلامان، ووضع الملك التاج المرصَّع على رأسه، وأجلسه على عرشٍ من الذهب، وفوَّض إليه الأقاليم السبعة، وعلمه كيف يسوس الملك، وكتب له وصية تليت على الحضور.

وهي وصيةٌ بليغة تتضمن سياسة الناس بالعدل، والعطف على المظلوم والقسوة على الظالم، واختيار الوزراء والعمال، وتعرُّف أخبار الرعية كل حين.

مغزى القصة

في كل صورة من القِصص حصة من المعنى لأهل الدقائق. وقد تمَّت صورة هذه القصة، فعليك الظفر بمعناها. فليس الغرض منها القيل والقال بيننا وبينك، بل كشف حالنا وحالك، ما المراد بالملك والحكيم؟ وسلامان هذا الذي ولده الملك بغير صاحبة؟ ومن أبسال التي سعدت بسلامان؟ وما جبل النار والبحر؟ ومال المُلك الذي ناله سلامان حين صحا من حب أبسال؟ وما الزُّهَرة التي سلبت قلبه، وجلت عن المرآة صورة حبيبته؟

استمع لشرحها واحدةً واحدة، وكن من الفَرْق إلى القَدَم أذنًا مُصغية: لما خلق الصانع الواحد هذا العالم، بدأ بالعقل الأول، وتمت العقول عشرة. وعاشِرُها مؤثر في العالم. وهو لهذا يسمى العقل الفعَّال، وهو في العالم مفيض الخير والشر، وكفيل بالنفع والضرِّ، وهو مستغنٍ عن الجسم والجسمانيات، وهو بذاته وفعله منفصل عنها، يؤثر فيها دون اتصال. وروح الإنسان وليدة تأثيره، ونفسه أسيرة تدبيره. هما طوع حكمه وغريق إحسانه، هو الملك الآمر المؤمَّر، وسواه مأمور مسخَّر.

وهو المقصود بالملك في هذه القصة. وأما الحكيم فهو الفيض الذي ينزل منه على العالم، وروحه الطاهرة تسمى النفس الناطقة، وهي وليدة هذا العقل دون صلة جسمانية. ومفارقة هذه الصلة الجسمانية هي التي كنَّى عنها بالولادة من غير أب.

وهذا الوليد الطاهر سمي سلامان، وأما أبسال فهو هذا الجسم أسير الشهوة، والخاضع لأحكام الطبيعة.

الجسم حي بالروح، والروح بالجسم تدرك المحسوسات. فكلاهما، من هذا، عاشق صاحبه.

وما البحر الذي كانا فيه، وسعدا بالوصال في نواحيه؟ بحر الشهوات الحيوانية، ولجة اللذات النفسانية.

عالَم في موجه مستغرق، وهو في استغراقه بعيد عن الحق. وأما حرمان سلامان من أبسال على قربها منه، فقد عُني به تأثير الشيخوخة، وطيُّ بساط الشهوة.

وما ميل سلامان نحو الملك، وتوجهه إلى عرشه؟

هو الميل إلى اللذات العقلية، والتوجه إلى مملكة العقل.

وما هذه النار؟ هي الرياضة الشاقة، إلى أن تحترق الطبيعة.

احترقت بها آثار الطبع، وبقيت الروح، وقد عزفت عن الشهوات الحيوانية.

ولكن لإلفها هذا الطبع عمرًا عاودها ألم فراقه بين الحين والحين.

ولهذا وصف الحكيم جمال الزُّهرة، وأوحى عشقها إلى نفسه، حتى سكن على مرِّ الزمان إليها، وخلا من عشق أبسال وهمِّها. فما الزهرة؟ هي الكمالات العليا، التي تكمل الروح ببلوغها.

ومن هذا الجمال يصير العقل نورانيًّا، ومَلِكًا في المُلك الإنساني.

قد أجملتُ لك هذه الأسرار، واختصرت هذا المقال. فإن لم يكن لك من التفصيل بدٌّ، فأعمل فكرك، حتى تتجلَّى لك الأسرار القديمة.

القسم الثاني: عصر الدولة الصفوية (٩٠٧–١١٤٨ﻫ)

١

figure
الشاه عباس الأول أعظم الملوك الصفويين وعلى يده باز للصيد.

كان صفيُّ الدين الأردبيليُّ من أسرةٍ علوية تنتسب إلى موسى الكاظم بن جعفر الصادق، وبين صفي الدين وموسى تسعة عشر أبًا.

وكان لصفي الدين هذا مكانةٌ عظيمة في أردبيل وما حولها، يعظمه الناس ويقصدونه من البلاد القريبة والبعيدة.

وتوفي في جيلان سنة ٧٣٥ﻫ، وخلفه أبناؤه وازدادت على مرِّ الأيام مكانتهم وشوكتهم، حتى حارب بعضُهم لحماية طريقتهم ودعوتهم الشيعية، وقُتل بعضهم في الحرب.

قُتل الشيخ حيدر، وهو الحفيد الخامس لصفي الدين سنة ٨٩٣ﻫ، وترك أطفالًا، أحدهم عمره سنةٌ واحدة اسمه إسماعيل، وتقلبت الحوادث بإسماعيل، حتى بويع بالملك في تبريز سنة ٩٠٥ﻫ، وسنُّه ثلاث عشرة سنة.

وكان هذا إيذانًا بقيام دولة هي أعظم الدول التي تسلطت في إيران بعد الإسلام، وهي الدولة التي سميت الصفوية نسبةً إلى الشيخ صفيِّ الدين أحد أجداد الأسرة التي أقامتها.

وكان في إيران اثنا عشر أميرًا متفرقين في أرجائها حين بويع إسماعيل في تبريز، منهم أمراء من ذرِّية تيمورلنك.

وقد دانت البلاد سريعًا لهذه الدولة الجديدة، فبلغت جيوش إسماعيل هَراة بعد سنينَ قليلة. وشمل ملكه ما بين نهر جيحون وخليج البصرة وأفغانستان ونهر الفرات. ودام الملك لهذه الدولة زهاء قرنَين ونصفًا. وبلغت حدودها في عهد الشاه عباس الأول حدود الدولة الساسانية القديمة.

وهذه الدولة تخالف الدول التي نشرت سلطانها على إيران قبلها من وجوه:
  • الأول: أنها بسطت سلطانها على إيران كلها، واتخذت دار ملكها في إيران نفسها. وكانت الدول قبلها تنشأ خارج إيران، ويمتد سلطانها على جانب منها، أو تنشأ في إقليم من إيران وتسيطر عليه.
  • والثاني: أنها نشرت المذهب الشيعي بالترغيب والترهيب، وجعلت من العصبية المذهبية عصبيةً سياسية في نزاعها مع الأمم المجاورة، ولا سيما الترك العثمانيين.
  • والثالث: أنها كانت في التاريخ الإيراني صلة بين العصور القديمة والعصور الحديثة، واتصلت بدول أوروبا وغيرها، وقبست من الحضارة الأوروبية.

ولهذه الدولة آثارٌ جليلة تشهد بعمران البلاد في عهدها وازدهار الصناعات.

وأعظم آثارها في أصفهان، التي اتخذها الشاه عباس الأول ومَن بعده دار الملك، فاتسع عمرانها، وبنيت فيها المساجد والقصور التي لا تزال قائمة يتجلَّى فيها الجمال والجلال. وقد زخرت أصفهان بالعمران، حتى شاع بين الفرس هذا القول:

إصفهان نصف جهان (إصفهان نصف الدنيا).

ونبغ في هذا العصر كبار المصوِّرين مثل رضاي عباسي، ولا تزال آثارهم زينة في القصور القديمة والكتب.

(٣-١) المذهب الشيعي

جدَّ الصفويون في نشر المذهب الشيعي بالترغيب والترهيب. وقسَوا على الناس في هذا قسوةً شديدة، واصطنعوا لتبليغ دعوتهم علماءَ كثيرين من أهل إيران ومن البلاد العربية. فانحاز إليهم علماء الشيعة من البلاد الإسلامية الأخرى، ولا سيما جبل عامل من بلاد الشام، والبحرين، فرحين بالدولة القائمة على مذهبهم، الداعية إليه، والناصرة له بالسيف. وتعاونت الدولة والعلماء على إدخال الناس في التشيُّع طوعًا وكرها، وجدَّ العلماء في تأليف الكتب المبسوطة والموجزة، ووضحوا أصول المذهب وفروعه.

وكان أكثر هذه المؤلَّفات بالعربية، وقليل منها بالفارسية؛ إذ كانت العربية لسان العلم إلى ذلك العصر.

وقد بالغ الملوك الصفويون في إكبار المجتهدين وتعظيمهم، واعتقدوا أنهم نواب الإمام المعصوم أو المهدي المنتظر صاحب الزمان (عجَّل الله فرَجه).

روي أن ملَّا عبد الله التوني سار راكبًا في ميدان الشاه بأصفهان وأمامه عباس الأول أعظم السلاطين الصفويين ماشيًا، ليرى الناس منزلته وقوَّته.

وكذلك روي أن الأمير محمد علي ميرزا أعطى مجتهدَين كُلًّا منهما ألف تومان؛ ليكتبا له دعاء يضعان عليه توقيعهما ويختمانه، يضمن به مكانًا في الجنة. فلما تردد أحد المجتهدَين — السيد رضا — قال له الأمير: اكتب الوثيقة، وأشهد عليها علماء النجف وكربلاء أنلْ ذلك المكان من الله سبحانه وتعالى.

ويروى أن أحد ضباط الشاه عباس الكبير اقترف ذنبًا، فاستشفع الملَّا أحمد الأردبيلي، فكتب الشيخ إلى الشاه عباس:

يعلم باني مُلك العارية عباس أن هذا الرجل إن كان ظالمًا أولَ الأمر فهو الآن في صورة المظلوم، فإن غفرت ذنبه فلعل الحق سبحانه وتعالى يغفر ذنوبك.

كتبه عبد سلطان الولاية١٠ (بنده شاه ولايت) أحمد الأردبيلي
فأجاب الشاه عباس:

يعرض عباس أنه عدَّ الخدمة التي أمرتم بها منة فأنفذها، لا يُنسي هذا المحب من دعاء الخير.

كتبه كلب أستانة (عتبة) علي، عباس

وسيطر المجتهدون على الناس، وعظم سلطانهم فأمروا ونهوا، وأحيوا وأماتوا. روي أن حجة الإسلام محمد باقر قتل سبعين، وعُرف من بَعدُ محمد علي — وكان معاصرًا لكريم خان زند — باسم قاتل الصوفية (صوفي كُش) لكثرة من قتل منهم.

والخلاصة أن المجتهدين بلغوا من السلطان والتمكُّن في نفوس العامة والخاصة ما جعلهم ذوي الكلمة العليا في المملكة. فكان أكبر أمل الناشئ من طلبة العلم أن يبلغ يومًا رتبة الاجتهاد أو يقاربها، فتوجهت الهمم إلى العلوم الدينية، وانصرفت على الأدب. وأشبهت المملكة كلها مدرسةً دينية يدبِّر أمرها المجتهدون.

(٣-٢) الأدب في عهد الصفويين

١

اتفقت كلمة مؤرخي الآداب الفارسية على أن عصر الصفويين — على عظمة ملوكه، واتساع عمرانه، وازدهار صناعاته — كان عصر كساد في الأدب الإيراني.

ذلكم أن سلاطين الصفويين كانوا حماة المذهب الشيعي، فصرفوا همتهم إلى نشره وتأييده. ودعوا الأدباء إلى مدح الأئمة العلويين ورثائهم، والتحسر لما أصابهم. ولم يشجعوا الشعراء على النظم في فنون الشعر المألوفة التي سار عليها شعراء إيران من قبلُ.

كان الصفويون، ولا سيما طهماسب وعباس الأول، يحرِّضون الشعراء على مدح آل البيت ورثائهم.

روي أن محتشمًا الكاشاني نظم قصيدةً بليغة يمدح بها الشاه طهماسب، وأرسلها إليه من كاشان. فقال: «لا يرضيني أن يُشغل الشعراء بمدحي. فينبغي أن يمدحوا صاحب الولاية والأئمة المعصومين. ويلتمسوا الصلة من أرواحهم المقدسة قبل أن يلتمسوها منا.» فنظم محتشم موشحه المسمى هفت بند في رثاء آل البيت، ونال الصلة التي كان يرجوها، وتبعه شعراء زمانه، فنظم كثيرٌ منهم موشحًا سباعيًّا (هفت بند).

ولإعراض الصفويين عن الشعر، كسد في إيران، فقصد الشعراء بمدائحهم سلاطين الدولة التيمورية في الهند (الدولة المغولية)، فلقوا من الكرامة والعطاء ما فاتهم في بلادهم. وقد عدَّ البداءوني زهاء مائة وسبعين شاعرًا من أصلٍ إيراني مدحوا هؤلاء السلاطين، ونالوا جوائزهم. وذكر الشيخ شبلي النعماني في كتابه «شعر العجم» واحدًا وخمسين شاعرًا هاجروا من إيران إلى الهند في عصر جلال الدين أكبر (٩٦٣–١٠١٤ﻫ)، وحظوا بلقاء السلطان ومدحه.

وقد جمع شبلي أبياتًا من الشعر الفارسي تُبين عن حنين شعراء الفارسية في ذلك العصر إلى بلاد الهند، وتمنِّيهم أن يظفروا بالسفر إليها، منها قول صائب: «لا يخلو رأس من الفكر في حبك كما لا يخلو قلب من أمل السفر إلى الهند.»

ومن أعظم شعراء الفرس الذين هاجروا إلى الهند عرفي الشيرازي وصائب الأصفهاني، هاجر الأول في صباه، واتصل بجلال الدين أكبر، وتوفي في الهند سنة ٩٩٩ﻫ في سن السادسة والثلاثين. وسيأتي ذكر الثاني.

٢

ومع هذا فلم تخلُ هذه العصور من شعراء مجيدين ساروا على نهج سلفهم، وحفظوا سنن الشعر الفارسي، ونظموا في القصص والتصوف كعهدنا بالعصور الماضية، إلى موضوعات الشعر الأخرى.

فالشاعر هلالي المتوفى ٩٣٥ﻫ نظم قصة الملك والسائل (شاه وكَدا) ومنظومةً أخرى سماها صفات العاشقين، ووحشي المتوفى سنة ٩٩١ﻫ، وهو أحد شعراء الشاه طهماسب، نظم منظومتَين سمَّاهما الخلد الأعلى (خلد بَرين) والناظر والمنظور، كما نظم قصة فرهاد وشيرين التي أولع شعراء الفرس بنظمها، ولكنه خلف هذه القصة غير كاملة، حتى انتدَب لها الشاعر وصال فأتمها سنة ١٢٦٥ﻫ بعد ما يقارب قرنَين من نظمها.

ومن شعراء هذا العصر شوكت البخاري المتوفى ١١٠٧ﻫ، وهو ذو مكانةٍ عالية عند الشعراء العثمانيين. ومنهم فضولي البغدادي أحد شعراء القرن العاشر الهجري (توفي ٩٧٠ﻫ)، وهو شاعر بالألسن الثلاثة: العربية والفارسية والتركية، ولكنه غلبت شهرته بالشعر التركي، وشعره مثالٌ بيِّن لما بين الآداب الثلاثة من اتصال.

وله منظومة ليلى والمجنون باللغة التركية، وقد ترجم كتاب حسين واعظ الكاشفي المسمى «روضة الشهداء» إلى اللغة التركية، وسماه «حديقة السعداء»، وهو في ذكر الشهداء من آل البيت النبوي.

ومن أدباء هذا العصر وعلمائه الشيخ بهاء الدين العاملي صاحب المخلاة والكشكول في اللغة العربية، وله منظوماتٌ فارسيةٌ مختلفة يغلب عليها التصوف، وستأتي ترجمته. ومنهم مُلَّا محسن فيض الكاشاني، وهو شاعرٌ متصوف.

ولا بد للباحث، مهما أوجز، من الاهتمام بموضوعٍ حديث في أدب هذا العصر هو: مراثي آل البيت، وموضوعٍ قديم هو التصوف.

(٣-٣) مراثي أهل البيت

لم تزد فنون الشعر الفارسي في هذا العصر، ولم تخرج عن النهج الذي سلكه السلف من شعراء الفرس، ولم يبلغ شعراء العصر شأو من تقدمهم، إلا فنًّا واحدًا عني به شعراء الفرس منذ ذلك العصر، ووسَّعوه وافتنُّوا فيه على مر الزمان، وفاقوا فيه من سبقهم من الشعراء، وهو رثاء آل البيت، فهو أَولى فنون الشعر بالكلام في هذا العصر:

أ

كانت واقعة كربلاء مثار غمٍّ وحزن في نفوس كثير من المسلمين، وتلتها وقائع زادت هذه النفوس غمًّا وحزنًا.

وقد وجدت هذه الوقائع أول ترجمانٍ بليغ لها في الشاعر العربي الأسدي الكميت بن زيد.

وقفَّى شعراء العربية على أثره، وكان أبعدهم صيتًا في هذا الأمر السيد الحميري من شعراء القرن الثاني الهجري، ودعبل الخزاعي من شعراء القرن الثالث، والشريف الرضي من شعراء القرن الرابع.

ب

وانتقل هذا الفن إلى الفارسية، فنظم فيه الشعراء بين مقلٍّ ومكثر، حتى كان هذا العصر الذي نؤرخه — عصر الصفويين — فوجَّه السلاطينُ الشعراءَ إلى رثاء آل البيت وحرَّضوهم عليه. فأكثروا فيه وتفنَّنوا، وعالجوه بما عرف في الشعر الفارسي من الإطناب والغلوِّ.

وكان من السابقين إليه المبرَّزين فيه محتشم الكاشاني، ومن شعره السائر في المراثي موشحه المعروف «هفت بند».

وفيه ستة وتسعون بيتًا مقسمة على اثني عشر قسمًا، في كل قسم سبعة أبيات على رويٍّ واحد والثامن مطلق. وبهذه السبعات المتفقة في الروي سمي هذا الموشح هفت بند. وقد ترجمتُ منه الفاتحة والخاتمة وأربعة أقسامٍ أخرى، وحاولت أن أجعل النثر في الترجمة مسايرًا للشعر في الأصل على قدر الإمكان، فحافظت على الرديف، وهو الكلمة المكررة في أواخر الأبيات، وجعلت كل بيت في سطر.

١

ماذا الهياج في العالم، وماذا النواح والبكاء والمأتم؟
ما هذه القيامة الهائلة تصعد إلى العرش من الأرض، ولم ينفخ في الصُّور ليوم العرض؟
من أين تنفس هذا الصبح المظلم، فماج به الناس والعالم في غمٍّ؟
أترى الشمس قد طلعت من المغرب، فذرَّات العوالم كلها تهيج وتضطرب؟
إنها قيامة الدنيا لا جرم، هذه القارعة المسماة بالمحرَّم.
إن ملكوت القدس وليس مكان جزع، سمدت فيه الملائكة من الهلع،
والمَلَك والجن في نواحٍ دائمٍ، يشاركون في مأتم أشرف بني آدم؛
شمس السماء والأرض نور المشرقين،
ربيب صدر رسول الله الحسين.

إلى أن يقول:

٢

ليت سرادق السماء خوى، وليت هذا السقف الرفيع هوى!
ليت سيلًا أسود عمَّ الأقطار، وطلا وجه الأرض بالقار!
ليت شعلة من آهات أهل البيت المحرقة، رمت هذه السماء بصاعقة!
ليته، وقد تحرك الفلك بهذا المصاب، ظل وجه الأرض كالزئبق في اضطراب!
ليته حينما دخل جسمه في الرغام، خرجت أرواح الخلائق من الأجسام!
ليته حين فُلْك أهل البيت انحطم، غرق العالم في بحرٍ من الدم!
إن لم يقع هذا الانتقام بالدهر، فكيف تكون مؤاخذة الدهر يوم الحشر؟!
إن بيت النبي حين يرفع أيديه يتظلم
يزلزل أركان العرش الأعظم.

ثم يقول بعد أربعة أقسام:

٣

ولما بلغت هذه القافلة الميدان، ثارت ضوضاء الحشر في الكون والمكان،
ودوَّت بالنواح ست الجهات، وعمَّ البكاء ملائك سبع السموات،
لم يبق في البادية غزال إلا شلَّت رجله، ولا طائر إلا هوى من عشه،
وكانت قيامة تُنسي القيامة الأخرى، حين وقعت عيون آل البيت على القتلى.
فما تقلَّبت العين من أجسام الشهداء، إلا على ضربةٍ أو طعنةٍ نكراء!
ووقعت بغتةً عين بنت الزهراء، على جسد إمام الزمان في العراء؛
فصاحت: «هذا الحسين»، بغير اختيار، فاشتعلت في العالم كله النار!
ثم رجعت شاكية بضعةُ البتول
إلى المدينة تقول: يأيها الرسول،

٤

هذا القتيل الملقى في البيدا، حُسَينك، هذا الصيد المضرج بالدماء حسينك!
هذه الشجرة الناضرة التي بنار العطش، صعَّدت الدخان من الأرض إلى العرش، حسينك!
هذا القمر الساقط في بحرٍ من الدم، وجروحه تُربي على عدد الأنجم، حسينك!
هذا الغريق في محيط الشهادة، وقد تورَّد من موج دمائه وجه البادية، حسينك!
هذا الظمآن المحروم من الفرات الميمون، وقد صارت الأرض من دمه جيحون، حسينك!
هذا الملك القليل الجند الذي خرج من الدنيا الخدوع، بجيش الآهات والدموع، حسينك!
هذا القالب الملقى بغير كفن، الملك الشهيد الذي لم يدفن، حسينك!
ثم توجهت شطر البقيع تخاطب الزهراء؛
فأحرقت سمك البحر وطير الهواء.

٥

يا أنس القلوب الكسيرة إلينا انظري، غرباء بغير صديقٍ ولا عشيرة، إلينا انظري!
انظري أولادك شفعاء المحشر، في صولة قلوبٍ قاسية كالحجر، انظري!
لا لا! تعالي كالسحاب الراعد إلى كربلاء، وإلى طغيان سيل الفتنة وموج البلاء، انظري!
انظري أجساد القتلى في الدم والتراب، ورءوسَ الرؤساء على الحراب، انظري!
ذلك الرأس الذي كان مكانه كتف المصطفى، فصلته من كتفه طعنات العدى، فانظري!
وذلك الجسد الذي كان صدرك مرباه، يتدحرج في تراب كربلاء، ويلاه، فانظري!

ويختم التركيب بهذا القسم:

٦

صمتًا محتشم! فقد ذاب قلب الحجر، وزلزل العزاء وعيل المصطبر.
صمتًا محتشم! فمن هذا الكلام الذي يقطر الدماء، احترق طائر الهواء وحوت الدأماء.
صمتًا محتشم! فمن هذا الكلام ذي الشرر، فاضت عيون السامعين بصافي الدرر.
صمتًا محتشم! فمن هذا الشعر المثير البكاء، تخضَّب وجه الأرض بدموع مازجتها من القلوب دماء.
صمتًا محتشم! فمن هياجك صار نور الشمس، كاسفًا كالقَمراء في الحِندس.
صمتًا محتشم! فقد بكى الفلك بالدم، حتى جاش البحر بحباب كالعندم.
صمتًا محتشم! فمن غبار غم الحسين القتيل، احتجب من وجه الرسول جبريل.
لم يقترف الفلك الغادر كهذا الإثم منذ كان،
ولم يقسُ هذه القسوة على مر الزمان.

عنى محتشم بهذه المراثي المبكية المفظعة التي يملؤها النواح والبكاء، والدموع والدماء، ويسيطر فيها الغلوَّ والإغراق. وسار شعراء على هذا النهج، وافتنُّوا في الرثاء، وعنوا بالحوار في المراثي ويسَّروها للتمثيل. فنشأت قصصٌ منظومةٌ تمثيلية كمل تطورها في العصر الذي يلي هذا العصر الذي نؤرخه، وهو عصر القاجاريين، وكان لها على العامة تأثيرٌ بالغ يبكون لسماعها وينوحون، ويلطمون الخدود ويلتدمون، ويبلغ بهم الهياج أحيانًا حد الجنون.

(٣-٤) التصوف

لم يخلُ الشعر الفارسي في هذا العصر من شعرٍ صوفيٍّ صريح، واستمرت النزعة الصوفية واضحةً في الشعر الفارسي كله، ولكن المؤرخ لا يظفر في هذا العصر بشاعرٍ صوفي يلحق كبار الشعراء الذين نشَّأتهم العصور الماضية مثل سنائي والعطار والرومي والجامي.

وكان من أسباب هذا بغض الصفويين للصوفية، وقسوتهم عليهم، والعداء بين شيعة ذلك العهد عامة وبين الصوفية.

وحسبنا أن ننقل هنا كلام المجلسي أحد أكابر مجتهدي الشيعة في العصر الصفوي. فقد قال وهو يدفع عن أبيه تهمة التصوف: «لا يُسيئنَّ أحد الظن بأبي، فيتوهَّم أنه كان من الصوفية. كلا، ما كان منهم، فقد عرفت أحوال أبي سرًّا وعلانية، وأحطت بعقائده. كان أبي سيئ الظن بهم، ولكنه في أول أمره حينما كان الصوفية في عنفوان قوَّتهم، انتظم في صفوفهم ليستطيع أن يمحو ويستأصل جذور هذه الشجرة الخبيثة الزقُّوميَّة، فلما أخمد نار عارهم صرَّح بما يكنُّ في نفسه.»

وقد كتب كثير من علماء الشيعة في الطعن على الصوفية والتشنيع عليهم، وأثاروا عليهم العامة فقُتل كثير منهم.

فقد نال الصوفية من الاضطهاد، وأصاب شعرهم من الكساد في دولة الصفويين ما نال كثيرًا من فروع الفكر والأدب الأخرى.

وفي التصوف تجلَّى نبوغ شعراء الفرس، والشعر الصوفيُّ أجمل أشعارهم وأعلاها، وأرقُّها وأعمقها؛ فكان من العدوان على الصوفية أن نال الشعر الصوفيُّ خاصة والشعر الفارسي عامة ما ناله من فتور وخمود.

ولكن الصفويين — وإن بطشوا بالصوفية — لم يمحوا من الأدب الفارسي هذه النزعة الروحية التي شاعت فيه، ولم يطمسوا هذه الصور الجميلة التي أبدعها فيه شعراء التصوف العظام. فما خلا الشعر الفارسي في جملته من نفحات التصوف، حتى عصرنا هذا، وما خلا أدباء الفرس من متصوفين في العصور كلها.

وحسبي هنا مثلًا من الشعر الصوفي في العصر الصفويِّ وما تلاه، موشح هاتف الأصفهاني المسمَّى «ترجيع بند»، والترجيع اصطلاح في الأدب الفارسي لموشح يُكرَّر فيه بيت بعينه بعد كل قسم من أقسامه.

هاتف عاش أكثر عمره بعد زوال دولة الصفويين، ولكنه عاش في آثار هذه الدولة، وفي الأحوال الأدبية التي سيطرت في عهدها.

السيد أحمد هاتف الأصفهاني من أسرةٍ آذريَّة الأصل، ولكنه ولد في أصفهان وعاش بها أكثر عمره، وأمضى سنين في قم وكاشان.

وطلب العلم في صباه وبرع في اللغة العربية، ويُروى أن له فيها شعرًا، وكان له منزلة في الأدب بين معاصريه.

وتوفي في مدينة قم سنة ١١٨٩ﻫ.

وله ديوان فيه قصائد وغزليات ورباعيات، وهو في الغزل يسير على آثار سعدي وحافظ. وله مَراثٍ بليغة يرثي بها أصدقاءه وكبراء عصره.

وصيت هاتف في الأدب يرجع معظمه إلى ترجيعه الصوفيِّ، فهو من الشعراء الذين أذاعت بصيتهم منظومةٌ واحدة، وهم في تاريخ الأدب كثير.

ولعل هذا الفصل الذي أكتبه عن الأدب الفارسيِّ في كتاب قصة الأدب، لا يتسع لترجيعٍ طويلٍ كهذا، ولكن لا بد منه للتمثيل، ولا يحسن الاكتفاء بجزءٍ منه، فقد تُرجم إلى العربية لأول مرة أثناء كتابة هذا الفصل، فينبغي أن يقدَّم تحفة لقراء الكتاب على طوله.

وليس هاتف مبتكرًا في ترجيعه، فقد سبقه شعراء التصوف فلم يدَعوا لقائلٍ بعدهم مقالًا، وفي ترجيعه هذا معانٍ وألفاظ من شعر العطار، وجلال الدين الرومي، وأوحدي المراغي، وغيرهم من أئمة الشعر الصوفي، ولكن حسب هاتف أنه ارتفع إلى هذه الطبقة، فأحسن محاكاتها، وعارض أشعارها معارضة شاعرٍ مطبوع، لا ناظمٍ مقلِّد.

(٣-٥) موشح هاتف

١

يا فداك الأرواح والأبدان
وهي نثر الطريق لا العِقيان
مالِكَ القلب! في فدائك قلبي
مالكَ الروح! مهجتي قربان
مَخلَص القلب من يديك عسير
ويسيرٌ للروح فيك امتهان
ملء طُرْقي إلى وصالك هَول
داء عشقي يعيا به الحُسبان
أعْبُدُ، روحنا فِداك ورَهنُ الْـ
أَمر منك العيون والآذان
ذا فؤادي إن شئت صلحًا، وروحي
إن ترَ الحرب، كلنا إذعان
طاف بي الشوق والصبابةُ وهنًا
هائمَ القلب، والهوى حيران
وانتهى بي هوى الحبيب لدير
فيه جمع المجوس والرهبان
خلوةً جئت — لا رأت عين سوء —
عندها الحق ضاء لا النيران
ورأيت النار التي راء موسى
ليلة الطور والدُّجى ضَحيان
يوقد النار بالتبتُّل شيخ
حوله من مجوسه ولدان
كل فضيِّ العذار والخدِّ ورد
مبسم ضيِّق، وحلوُ لسان
ورباب والناي والعود واﻟﺸمـ
ـﻊ ونُقْل والراح والريحان
ويدير الكئوس كالبدر ساقٍ
فكِهٌ مطرب له ألحان
وشيوخ المجوس والوُلْد والمو
بذ كلٌّ أمامه غلمان
ومن الدين قد عراني حياء
فتنحيتُ أن يراني العيان
سأل الشيخُ: من ترون؟ فقالوا:
عاشق عيل صبره ولهان
قال: كأسًا من الرحيق وإن لم
يُدعَ في الشُّرب ذلك النَدمان
صَبَّ نارًا في الكأس ناريٌّ كفَّ١١
عابد النار كأسه ملآن
ضل حين احتسيت عقلي وحِسِّي
أُحْرِق الكفر فيَّ والإيمان
سقط السكر بي، وفي ذلك السكر
بلفظٍ يعيا به التبيان
قال هذا الكلام لي كل عضو
فيَّ حتى الوريد والشريان:
واحد ليس في الوجود سواه
وحده لا إله إلا هو

٢

لستُ يا خلُّ صارمًا منك حبلي
لا وإن فيك قُطِّعت أوصالي
فمئات الأرواح منِّا تُفَدِّي
بسمةً حلوة بفيك الحالي
يا أبًا في الغرام يكثر نصحي
لن ترى الابن أهل هذا المقال
ينصح الناسُ بالسلوِّ فهلَّا
نصحوني بعشقك القتَّال
أنا نحو النجاة أعرف نَهْجي
ما احتيالي؟ عَلِقت بالأحبال
راعني في الكنيس ظبي النصارى
قلت: يا آسر القلوب الخالي
في خيوط الزُّنار قد شدَّ شعري
شعرة شعرة بهذا الجمال
عن طريق التوحيد حتام تجفو
وإلامَ التثليث يا ذا المِحال؟
كيف يُسمى الحق الوحيد بروح
وأب وابنه لدى الضُّلال
فَتح الثغر ساحرًا بكلامٍ
في ابتسام ينسيك عذب الزلال
لو بسرِّ التوحيد كنت خبيرًا
تهمةَ الكفر لم تُدِر بالبال
في ثلاثٍ من المرايا شعاع
من مُحَيَّا الجميل في الآزال
أنت تدعو الحرير خزًا وديبا
جًا وإبريسَما على أقوال
بينما نحن في الحديث إذ النا
قوس دوَّى لنا بلحنٍ عال:
واحد ليس في الوجوه سواه
وحده لا إله إلا هو

٣

جئت بالأمس حانة للمدام
وبقلبي للعشق وقْدُ الضِّرام
مجلسًا جئت ذا بهاء ونور
بائع الخمر رأس هذا النظام
وقف الخادمون صفًّا فصفًّا
ومن الشَّرب حَلقة في انتظام
جلس الشَّرب حول شيخٍ مهيب
بين سكر ودهشة الأحلام
طاهرو القلب، والسريرة ودٌّ
صمتوا والقلوب فيض كلام
كل عين، من العناية، للحق
وأذن للسرِّ والإلهام
قول هذا لذلك: اشرب هنيئًا
وهَناك الشرابُ ردَّ النِّدام
أذُنٌ للرباب، والعين للكا
س وطوع اليدين كل مرام
فتقدمت قائلًا في خشوع
يا نجيَّ الملائك الأعلام
عاشقٌ موجَع يريد معينًا
فانظرنْ ما دواء هذا السقام
ضحك الشيخ قائلًا: إيه يا من
لك شيخ العقول في الخدَّام
أين منا أنت الذي من حياء
منك بنت الكروم رهنُ اللثام
قلت: في الروح شعلة هات ماءً
يطفئ النار وهي ذات ضرام
هذه النار أحرقتني أمس
ليت كالأمس ليلتي في الغرام
ضاحكًا قال: هاك كأسًا فلما
نلتها قال: خَفْ كثير المدام
فتجرَّعتُ جرعةً خلصتني
من شعوري ومحنة الأفهام
ثم أبصرت واحدًا ما سواه
ليس غير الخطوط والأرقام
بغتة من صوامع الكون أُسْمعـ
ـت حديث المقرَّبين الكرام:
واحد ليس في الوجود سواه
وحده لا إله إلا هو

٤

افتح القلب تبصر الروح جهرًا
والذي لا يُرى تراه مُقرًّا
إن توجِّه لساحة العشق وجهًا
ترَ كل الآفاق وردًا وعطرًا
وتَرَ الأنجم العلى دائرات
بِمُنى أهل هذه الأرض طرًّا
والذي يبتغي الفؤاد تراه
وكذا كل ما ترى العين سَرًّا
وترى السائل الذي لا تبالي
يزدري ملك ذلك الكون كبرًا
وترى للحفاة أقدام صدق
في ذرى الفرقدين تخطِر خطرًا
وترى حاسري الرءوس وظل الـ
ـعرش فوق الرءوس يبسط سترًا
وترى كل واجد في سماع
نفضت كفَّه العوالم حُرَّا
وترى الشمس حين يسفر عنها
كل قلب لذرة حين تُفرى
وترى العشق كيمياء لروح
إن تُذِبها في وقدة العشق حَرَّى
وترى مُلك «لا مكان» فسيحًا
إن تجد من ضيق الجهات مَفَرًّا
والذي لا ترى العيون تراه
سامعًا ما اختفى عن الأذن سِرًّا
وإلى أن ترى من الخلق والعا
لم فردًا له الفؤاد أقرَّا
أخلص الروح والفؤاد لفرد
ترَ عينَ اليقين سرًّا وجهرًا:
واحد ليس في الوجود سواه
وحده لا إله إلا هو

٥

وجهه من مشارق الأنوار
في تجلِّيه يا أولي الأبصار
في متوع النهار تطلب شمسًا؟
أنت في الليل من ضياء النهار
خلِّص النفس من ظلامك تبصر
كل شيءٍ يفيض بالأنوار
قائدًا تبغي والعصا كالأعمى
في طريقٍ أضاء للتسيار
ألفُ لون، والماء في غير لون،
لك تبدو في الورد والأزهار
في طريق الطِّلاب أقدم جريئًا
وتزوَّد بالعشق للأسفار
رُبَّ أمر في العشق يبدو يسيرًا
وهو في العقل عُقدة النُّظار
قل «حبيبي» بغدوة وأصيل
واطلبَنْ بالعشيِّ والإبكار
إن يقل ألف مرة: لن تراني
فاجعل الوجه قبلة الأنظار
لتنال المكان تعجز عنه
قدم الوهم أو رُؤى الأفكار
وتُرى في حضرةٍ ليس فيها
جبرئيل الأمين في الحُضَّار
ذلك الزاد والطريق وذا المنـ
ـزل أقدم إن كنت أهل خِطار
وإذا للطريق لم تكُ أهلًا
قل حبيبي، ونم إلى الأعذار
هاتفُ! العارفون حين دعوهم
أهل صحو حينًا وصرعى عقار
مِن مُدام ومطرب وسقاة
ومجوس والدير والزنار
قصدوا رامزين أسرار غيب
هي بين الإيماء والإظهار
إن يلُحْ سرُّهم لقلبك تعلم
إن هذا لسرُّ ذي الأسرار:
واحد ليس في الوجوه سواه
وحده لا إله إلا هو

وأختم هذا الفصل بالكلام عن شاعرٍ من أكبر شعراء الفرس في العصر الصفوي، وعالمٍ أديب من أكبر علمائهم وأدبائهم:

(٣-٦) صائب الأصفهاني

ولد في قرية عباس آباد على مقربةٍ من أصفهان وحصَّل العلم في هذه المدينة. وسافر في شبابه إلى الهند، وكانت مطمح أدباء الفرس وشعرائهم، ولحق به أبوه فردَّه إلى أصفهان. ونبه شأنه هناك واتصل بالشاه عباس الثاني الصفوي (١٠٥٢–١٠٧٧ﻫ)، وتوفي بأصفهان.

وله مختارات من الشعر الفارسي دلَّت على سعة اطلاعه وحسن ذوقه، ويشبِّهه الشيخ شبلي النعماني بأبي تمام في هذا الاختيار.

وكان صائب معجبًا بحافظ يتخذه إمامًا، فظهرت في شعره مَشابه من شعر حافظ، من بُعد الغور ودقة التصوير وجمال التعبير.

وله ديوانٌ كبيرٌ متداولٌ مخطوط ومطبوع.

وفي شعر صائب تتجلى القوة الروحية، والعظمة النفسية، التي تهزأ بما تلقى من محن وشدائد، وتعلو على كل رغبةٍ ورهبةٍ في هذه الدنيا، وهو في هذا يشبه جلال الدين الرومي، ومحمد إقبال شاعر الهند في العصر الحاضر. وإقبال يكرِّر القول إنه من نفحات جلال الدين، وصائب يذكر في مواضع من كتبه «مرشد الروم» يعني جلال الدين، معظِّمًا له معجبًا به.

وهذه أمثلةٌ قليلة من شعر صائب ذهبت الترجمة المنثورة بكثيرٍ من جمالها وروعتها:

١

تُلوِّن براعيمَ القلوب أنفاسُنا، وتأبى عار الرنين أجراسنا.١٢
إن هيجان الربيع كامن في عالمنا الحائر، وإن بدا يابسًا قفصنا١٣ الظاهر.
عَطَلُنا زينة المرج الناضر، وشوكنا نظام الروض العاطر.
نُصعَّد كصدر الشمس أنفاسنا ناضجة، لا كأنفاس الصباح الباردة.
استيقظ الورد المصوَّر من نوح البلابل، وكذلك إمدادنا للربيع النائم.
أشفق قلب العشق من فجاجتنا، ودمى قلب البستان من غضِّ ثمارنا.١٤
كل برعوم ضحك بنفَسنا اللطيف، لا يبرد قلبُه الحار برياح الخريف.

٢

لست ممن يحلفون بالذهب والنِّثار، إنما تحفة المحترفين قبضة من شرار،
لا أتخذ البساتين والحصون في البلاد، إنما بستاني البيداء وحصوني الأطواد.
تداركْ من أظلمت أيامهم بسراج يبعث النور، ليكون شمعًا على قبرك المهجور.
إن شوكًا من أجل الناس ترفعه، ينقلب ربيعًا في ترابك منبعه.
إن تُصِب قلب نملة بغمٍّ يسير، أوقِظتَ في قبرك للحساب العسير.

٣

جُرحُنا يتحدَّى الخِنجَر، وزجاجنا يصادم الحجر.
إن شوق الساقطين في طريق العشق، يأخذ القدم ويمنح الجناح برفق.
اليأس أول أملنا، وإنما يُثمر حين يَذبل، نخلنا.
لا يُحرَم العنكبوت صيدَ الذُّباب، يعطي الرزق جناحًا ذلك الرازق الوهاب … إلخ.

٤

الفَلَك من تجمُّلنا بغير قرار، والسيف من تحملنا في نار.
بلغتْ أوج الشمس قطرةُ الندى، كذلك تنزُّلنا في رقيٍّ على المدى.
نبلغ المطالب بالانكسار، ولنا من الانكسار سلَّم كموج البحار.
حتَّامَ الشكوى من عناء الشباك، إن في هذا العناء رَوح الإدراك.
يا صائبُ! من الأفكار شعر ذو ألوان، ومن تغريد بلبلنا هذا الروض ذو أفنان.

ومن علماء هذا العصر وأدبائه الذين تتمثل فيهم الثقافة في نواحيها المتعددة:

(٣-٧) بهاء الدين العاملي

بهاء الدين محمد بن حسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي الهَمْداني، ولد في بعلبك سنة ٩٥٣ﻫ.

كان أبوه حسين من علماء الشيعة في جبل عامل، وكان من تلاميذ الشيخ زين الدين الملقب بالشهيد الثاني. فلما قتل الترك زينَ الدين لتشيعه، هاجر الشيخ حسين إلى إيران. وكانت إذ ذاك موطنًا لدعوة الشيعة، وملجأً لعلمائهم، في سلطان الدولة الصفوية، وسافر معه ابنه بهاء الدين صبيًّا.

وفي إيران جدَّ بهاء الدين في تحصيل العلوم، ولا سيما العلوم الدينية والرياضة والطب، وأخذ عن والده وعلماء آخرين منهم ملَّا عبد الله اليزدي تلميذ جلال الدين الدَّواني تلميذ السيد الشريف الجرجاني.

وذاع صيت بهاء الدين، وعلت مكانته، حتى تولى مشيخة الإسلام في أصفهان دار الملك.

ثم سافر للحج وطوَّف في الحجاز ومصر والشام والعراق في زيِّ الدراويش سنين كثيرة، يقال إنه ساح ثلاثين سنة.

وفي مصر جمع كتاب الكشكول، قال المنيني:١٥ وكان يجتمع مدة إقامته بمصر بالأستاذ محمد بن أبي الحسن البكري، وكان الأستاذ يبالغ في تعظيمه، فقال له مرة: يا مولانا أنا درويشٌ فقير، فكيف تعظمني هذا التعظيم؟ قال: شممت منك رائحة الفضل.

وامتدح الأستاذ بقصيدته المشهورة التي مطلعها:

يا مصر سقيا لك من جنةٍ
قطوفها يانعةٌ دانية

والظاهر أنه كان يكتم أمره في سياحته، ولا يرغب في التعريف بنفسه. وقد لقي كثيرًا من العلماء والصوفية، ثم رجع إلى أصفهان. وبلغ عند السلاطين الصفوية أرفع المنازل، قال المنيني:

«ثم عاد وقطن بأرض العجم، وهناك همى غيث فضله وانسجم، فألَّف وصنَّف، وقرَّط المسامع وشنَّف، وقصدته علماء تلك الأمصار، واتفقت على فضله أسماعهم والأبصار. وغالت تلك الدولة في قيمته، واستمطرت غيث الفضل من ديمته، فوضعته على مفرقها تاجًا، وأطلعته في مشرقها سراجًا وهَّاجًا، وتبسمت به دولة سلطانها شاه عباس، واستنارت بشموس رأيه عند اعتكار حنادس الباس، فكان لا يفارقه سفرًا ولا حضرًا، ولا يعدل به سماعًا ونظرا.

وكانت له دارٌ مشيدة البناء، رحبة الفناء، يلجأ إليها الأيتام والأرامل، ويغدو عليها الراجي والآمل. فكم مهد به وضع! وكم طفل بها رضع! وهو يقوم بنفقتهم بكرةً وعشيًّا، ويوسعهم من جاهه جنابًا مَغشيًّا.»

وكانت وفاته سنة ١٠٣١ﻫ بأصفهان ونقل منها إلى طوس، فدفن بداره على مقربةٍ من مسجد علي الرضا، وقد زرت قبره حينما ذهبت إلى مشهد طوس عام ١٣٥٢ﻫ.

وكان الشيخ العاملي من كبار علماء الشيعة ودولةُ الصفويين في أوجها، أيام الشاه عباس الكبير. وقد ألف في فقه الشيعة وأصول الفقه والتفسير والحديث والنحو البلاغة والهيئة والفلك والحساب والهندسة.

وله كتابا الكشكول والمخلاة في مسائلَ شتى غير مرتبة، يغلب عليها الأدب والتصوف والفلسفة والرياضة. وقد كتب في كل موضوع عرف في عصره، حتى الجفر والرمل والطلاسم، وله في هذه الفنون خمسة وتسعون كتابًا ورسالة.١٦

وللشيخ بهاء الدين من سعة العلم، وتعدُّد الفنون، وجودة التأليف والتلخيص، وصحة التعبير، ومن البراعة في النظم والنثر ما لم يتفق إلا لقليلٍ من العلماء.

وكانت عيشته واسعةً مختلفة الجوانب كسعة علمه وتعدد فنونه. كان شيخ الإسلام في دولة الصفويين، وكان ذا منزلةٍ عالية عند سلاطينهم، وكان يخالط أصناف الناس كلها؛ يخالط العلماء والصوفية، ويشهد حلقات الحوَّائين والمشعوذين، ويُرَى حينًا مع الشاه عباس الكبير، وحينًا في بيت عجوزٍ فقيرة.

وقد طالت سياحته، وامتدت إلى أقاليمَ مختلفة، فزادته معرفة بالناس، وتجربة بالجماعات والأفراد.

وكان مرجعَ العلماء والأدباء في حياته، وما تزال كتبه مرجعًا لهم بعد مماته، ولا سيما كتاب الجامع العباسي في الفقه، وزبدة الأصول في أصول الفقه، والحبل المتين في الحديث والفقه، ومفتاح الفلاح في الأوراد والأذكار، إلى شعره العربي والفارسي الذي يتمثل به الناس في أحوالٍ مختلفة، وموضوعاتٍ شتَّى.

وكان الشيخ على مشاركته في كل فنٍّ ومخالطته لكل صنف، نقيَّ السيرة، مبرَّأً من المطاعن، تقيًّا زاهدًا، لم تشغله مشيخة الإسلام، وممارسة الفنون الكثيرة عن رياضة نفسه وتصفيتها، وسلوك طريق الصوفية، بل رأى هذه الرياضة أعلى وأجدى من علوم الظاهر، ونعى على الواقفين عند حدود العلوم، الغافلين عما وراء هذه الرسوم:

أيها القوم الذي في المدرسة
كل ما حصَّلتموه وسوسة
ذكركم إن كان في غير الحبيبْ
ما لكم في النشأة الأخرى نصيبْ
علم رسمي سر بسر قيلست وقال
نه أزو كيفيتي حاصل نه حال
علم نبود غير علم عاشقي
ما بقي تلبيسُ إبليس الشقي

أدبه:

كان العاملي من أدباء اللغتَين العربية والفارسية، وله شعرٌ عربيٌّ جيِّد منه قصيدة في مدح الإمام المهدي، صاحب الزمان، أولها:

سرى البرق من نجد فجدَّد تذكاري
عهودًا بحُزوَى والعُذَيب وذي قار
وهيَّج من أشواقنا كل كامن
وأجَّج في أحشائنا لاعج النار
ألا يا لُيَيلات الغُوير وحاجر
سُقيتِ بهام من بني المزن مدرار
ويا جيرةً بالمأزِمين خيامهم
عليكم سلام الله من نازح الدار
خليليَّ مالي والزمان كأنما
يطالبني في كل وقتٍ بأوتار
فأبعد أحبابي وأخلى مرابعي
وأبدلني من كل صفوٍّ بأكدار
وعادل بي من كان أقصى مرامه
من المجد أن يسمو إلى عشر معشار

وللشيخ تمكُّن في الأدب الفارسي له فيه مؤلفاتٌ منثورة ومنظومة، منها قصة القط والفأر، وهي قصةٌ صوفيةٌ منثورة، وكتاب اللبن والسكر، وكتاب الخبز والحلوى. وهما منظومتان صوفيتان كذلك.

وفي خلال شعره الفارسي كثيرٌ من الأبيات العربية تصلح أن تكون مثالًا من شعره، وتغني عن ترجمة بعض أبياته الفارسية.

في فاتحة منظومة الخبز والحلوى:

أيها اللاهي عن العهد القديم
أيها الساهي عن النهج القويم
استمع ماذا يقول العندليبْ
فهو يروي من أحاديث الحبيب
يا بريد الحيِّ أخبرني بما
قاله في حقنا أهل الحمى
هل رضوا عنا ومالوا للوفا
أم على الهجر أقاموا والجفا

وفي الكتاب فصل عنوانه: «في التأسف والندامة على صرف العمر فيما لا ينفع يوم القيامة» وأوَّله:

قد صرفت العمر في قيلٍ وقال
يا نديمي قم فقد ضاق المجال
واسقني تلك المدام السلسبيل
إنها تهدي إلى خير السبيل
هاتها صهباءَ من خمر الجِنان
دع كئوسًا واسقنيها بالدنان
ضاق وقت العمر عن آلاتها
هاتها من غير عصر هاتها
قم أزل عني بها رسم الهموم
إن عمري ضاع في علم الرسوم

وأول فصل آخر عنوانه «في تأويل قول النبي : حب الوطن من الإيمان.»

أيها المأسور في قيد الذنوب
أيها المحروم من سرِّ الغيوب
لا تقم في إثر لذات الجسد
إنها في الجيد حبل من مسد
قم توجَّه شطر إقليم النعيم
واذكر الأوطان والعهد القديم

وفي المنظومة فصل عنوانه: «في نغمات الجنان من جذبات الرحمة» منه:

اشفِ قلبي أيها الساقي الرحيم
بالتي يحيا بها العظم الرميم
خمرة من نار موسى نورها
دنُّها قلبي، وصدري طُورها
دأبها إرجاع أيام الشباب
من يذق منها عن الكونَين غاب
قم ولا تُمهل فإن الصبح لاح
والثريا غرَّبت والديك صاح
يا مغنِّي قم فإن العمر ضاعْ
لا يطيب العيش إلا بالسماعْ
واروِ عندي من أحاديث الحبيب
إن وقتي في سواها لا يطيب
واطوِ عنِّي ذكر أيام الفراقْ
إن ذكر العهد مما لا يطاق
قم وزمزِم لي بأشعار العرب
كي يتم الحظ فينا والطرب
وافتتح منها بنظمٍ مستطاب
قلته في بعض أيام الشباب
قد صرفت العمر في قيلٍ وقال
يا نديمي قم فقد ضاق المجال
ثم زمزم لي بأشعار العجم
كي تريح الروح من همٍّ وغم
وابتدئ منها ببيت المثنوي
للحكيم المولويِّ المعنوي
بشنو أزني جون حكايت ميكند
از جدائيها شكايت ميكند١٧

(وينقل هنا مقدمة المثنوي كلها، ثم يعود إلى النظم العربي، فيختم به المنظومة):

قم وخاطبني بكل الألسنة
علَّ قلبي ينتبه من ذي السِّنة
إنه في غفلةٍ عن حاله
خابط في قيله مع قاله
كلُّ آنٍ زاده قيد جديد
قائلًا من جهله: هل من مزيد؟
نائم في الغيِّ قد ضلَّ الطريق
هائم من سكره لا يستفيق
عاكف دهرًا على أصنامه
يهزأ الكفَّار من إسلامه
كم أنادي وهو لا يصغي التناد
وا فؤادي وا فؤادي وا فؤادْ
يا بهائيُّ اتخذ قلبًا سواه
فهو ما معبوده إلا هواه
١  البيت الثاني نظمه الشيخ سعدي بالعربية.
٢  الرديف كلمة تكرر في آخر الأبيات، ويُلتزم رويٌّ قبلها. والتزام كلمةٍ واحدة دون تكلف لا يكون إلا براعة.
٣  الغزل في اصطلاح الأدب الفارسي أبياتٌ قليلة تقال في معانٍ شتى أغلبها الغزل في معناه العربي. وهو يقابل القصيد، وهو منظوماتٌ غلب فيها الطول تقال في الوصف والمدح والهجاء إلخ.
٤  يون ألست: إشارة إلى الآية الكريمة أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى.
٥  يستعمل في الفارسية المحرَم في معنى الأمين على السر والأهل له. وهو في العربية بمعنى أقرباء المرأة الذين لا يحل لهم تزوجها. وهم أمناء عليها.
٦  خط على أسباب الفرح، أي ضرب عليها بالقلم (شطبها).
٧  بيت الأحزان اعتكف فيه يعقوب حزنًا على يوسف.
٨  لنك: الأعرج.
٩  سبعة الأفلاك وأربع الطبائع أو العناصر.
١٠  سلطان الولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
١١  ناريٌّ كف: ترجمة آتش دست، وهي بالفارسية كناية عن السرعة والمهارة.
١٢  يشبه القلب بالبرعوم، وهو الزهرة لم تفتَّح، ويقول إن نَفَسنا ينضج هذا البرعوم وأجراسنا تؤثر بغير صوت. ومعنى البيت الثاني والثالث أن ظاهر هؤلاء الناس فيه فقر وضعف، ولكن في قلوبهم الجمال والجلال والقوة.
١٣  القفص: محبس الطير المعروف.
١٤  يعني أن حالتهم الدنيا لها أثرٌ عظيم، فكيف بأحوالهم العليا؟
١٥  انظر كلام المنيني في آخر كتاب الكشكول، ط القاهرة.
١٦  انظر كتاب الشيخ البهائي لسعيد نفيسي.
١٧  ترجمة هذا البيت:
استمع للناي غنَّى وحكى
شفَّه البَين طويلًا فشكا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤