مطاردة

شق سكون الليل الهادئ في المعادي صوت سيارة شرطة النجدة وهي منطلقةٌ كالسهم خلف سيارة سوداء كانت تسبق سيارة النجدة بنحو كیلومتر.

وكانت المطاردة المثيرة قد بدأت من ميدان التحرير … عندما سمع الملازم «خالد» قائد سيارة النجدة التي كانت تقوم بنوبتها المعتادة في الميدان صرخةً تشق هدوء الليل، وعند وصوله إلى مكانٍ اعتقد أنه مصدر تلك الصرخة، شاهد شخصَيْن يخرجان بسرعة من إحدى العمارات الكبيرة في الشارع، يحملان حقيبة وتنتظرهما السيارة السوداء أمام باب العمارة، ومحركها دائر وعلى استعداد للانطلاق … فأمرهما بالوقوف ولكنهما لم يستمعا إليه … وركبا السيارة التي انطلقت بسرعة كبيرة … وطلب «خالد» من سيارة النجدة أن تنطلق خلف السيارة، وأطلق من مسدسه عيارَيْن خلف السيارة ولكنه لم يصبها … وذهب إلى العمارة ليرى ما حدث على حين انطلقت سيارة النجدة خلف السيارة السوداء التي اجتازت شارع قصر العيني إلى مصر القديمة … ومنها إلى كورنيش المعادي حتى دخلت المعادي وسيارة النجدة خلفها … وقد ساعد السيارة السوداء على الفرار أن الساعة كانت قد تجاوزت الرابعة صباحًا والشوارع شبه خالية … وإشارات المرور معطلة.

دخلت السيارة السوداء إلى المعادي بسرعتها الكبيرة … وانطلقت بداخل الشوارع الملتوية دون أن تهدئ من سرعتها متجهة إلى ناحية إستاد المعادي الكبير قرب جبل المقطم … وكانت سيارة النجدة تسير خلفها على مبعدة دون أن تتمكن من اللحاق بها … ثم انحرفت السيارة السوداء في أحد الشوارع … وعندما انحرفت سيارة النجدة إلى الشارع، شاهد من فيها السيارة السوداء واقفة … فأسرعوا إليها وقد شهروا مسدساتهم … ولكن السيارة السوداء الكبيرة كانت مطفأة الأنوار … وخالية.

فتح رجال النجدة أبواب السيارة وفتشوها … ولكن لم يكن بها أحد على الإطلاق … ونظر رجال الشرطة حولهم … لم يكن هناك أحدٌ على الإطلاق في الشارع.

قال أحد رجال الشرطة: لقد كان أمام اللصوص دقيقة تقريبًا لكي يهربوا فهم بالتأكيد قد دخلوا منزلًا من هذه المنازل!

قال الثاني: هل يمكن أن نفتش هذه المساكن الآن؟!

الأول: هذا صعب للغاية … فلا بُدَّ من الحصول على إذنٍ من النيابة.

الثاني: أقصد تفتيش مداخل العمارات، والسلالم والأسطح؛ فهؤلاء اللصوص بلا شك ليسوا من سكان الشارع … وإلا لما حضروا إلى هنا، وهم يعرفون أننا سنفتش المنازل بحثًا عنهم.

الأول: إننا لا نعرف شكلهم … ولا أي شيء عنهم، فكيف نبحث عنهم؟

الثاني: تعالَ نفتش مداخل العمارات والسلالم لعلهم يكونون قد اختبئوا هنا أو هناك.

وأخذ الرجلان يفتشان مداخل العمارات والسلالم ويصعدان إلى الأسطح في حين قام زميلهم الثالث بالاتصال بمركز شرطة النجدة للإخطار بما حدث.

ولم يجد الرجلان شيئًا … فقد اختفى اللصان وسائق السيارة الذي كان في انتظارهما اختفاءً تامًّا … ولم يترك أحدهما أثرًا يدل عليه.

وعندما وصل رجال الشرطة إلى نهاية الشارع كانت بانتظارهما مفاجأة … فقد كان الشارع مسدودًا … ومعنى هذا أن اللصوص الثلاثة موجودون في الشارع … في أحد البيوت … فإذا تمَّ حصار الشارع فمن المؤكد أنه يمكن العثور على اللصوص … ولكن كيف يمكن هذا؟ إن هذا الحصار يحتاج إلى عشراتٍ من الرجال … ومنع السكان من مغادرة الشارع تمامًا … فهل هذا ممكن؟ هذا ما ناقشه رجال النجدة وهم يشاهدون سكان الشارع يستيقظون بعد أن تجاوزت الساعة الخامسة … وبدأ الناس يخرجون إلى أعمالهم … وقام مركز النجدة بإخطار قسم المعادي حيث خرج الشاويش «علي» متضايقًا في السادسة صباحًا لمعاينة المكان الذي وقفت فيه السيارة وبَدْء التحريات عن سكان الشارع.

وفي ذلك الصباح كان «تختخ» يجلس في حديقة المنزل وحيدًا يقرأ جرائد الصباح … فشاهد سيارة المفتش «سامي» تقف أمام المنزل وينزل منها مفتش الشرطة الشهير ويتقدَّم منه مصافحًا.

قال «تختخ»: صباح مثير هذا الذي نراك فيه يا سيادة المفتش … لا بُدَّ أن شيئًا قد حدث في المعادي.

المفتش: عندي أخبار قيمتها نحو ٥٠ ألف جنيه!

قال «تختخ» وهو يعتدل في جلسته: أعتقد أنك تفضِّل أن تشرب فنجانًا من القهوة قبل أن تبدأ الحديث.

المفتش: فعلًا؛ فإنني خرجت من منزلي دون أن أتناول شيئًا.

وقام «تختخ» فأوصى الشغالة بإعداد قدح القهوة ثم اتَّصل بالأصدقاء «محب» و«نوسة» و«عاطف» و«لوزة» … للحضور بعد أن أخبرهم بوجود المفتش «سامي».

وعندما وصل فنجان القهوة، وصل الأصدقاء الأربعة وحيوا المفتش بحرارة؛ فقد مضت مدةٌ طويلة دون أن يرَوْه.

ومع أول رشفةٍ من فنجان القهوة بدأ المفتش حديثه قائلًا: لقد وقعَت أمسِ ليلًا سرقةٌ من أخطر السرقات … وذلك أنها سرقة نقود … وسرقات النقود من أصعب القضايا بالنسبة لرجال الشرطة … فهي ليست كالمجوهرات أو الأوراق الهامة أو الأجهزة المنزلية التي يمكن تتبُّعها … فالنقود — خاصة المستعمل منها — لا يمكن تتبعها بسهولة. وقد بلغت قيمة السرقة أمس نحو خمسين ألف جنيه، هي مرتبات موظفي شركةٍ من أكبر الشركات في بلادنا … وقد تمت بطريقة سهلة للغاية … ولولا أن بواب العمارة التي بها الشركة كان يقظًا … لَتمَّت السرقة دون أن تلفت نظر أحد.

وتمهَّل المفتش ليرشف رشفةً أخرى من فنجان القهوة ثم مضى يقول: وترتيب الحوادث كما جرَت كالآتي … ففي نحو الساعة الثالثة والنصف صباح اليوم … أي بعد منتصف الليل بحوالي ثلاث ساعات ونصف، كانت سيارة النجدة العاملة في منطقة التحرير تمر في الميدان … فسمع رجالها صرخةً تنطلق من إحدى العمارات التي في صدر الميدان … ولم يكن في استطاعة الملازم «خالد»، قائد السيارة، أن يحدِّد مصدر الصرخة بالضبط … ولكنه اتَّجه ناحية مجموعةٍ من العمارات التي أتَتْ منها الصرخة … وعندما وقفَت سيارة النجدة ونزل الملازم واتَّجه ناحية العمارات لاحظ وجود تلك السيارة السوداء من طراز فورد واقفة أمام إحدى العمارات، وعندما اقترب منها شاهد شخصَيْن يحملان حقيبةً ويقفزان إلى السيارة التي كان موتورها دائرًا. فأمرهما بالوقوف ولكنهما لم يستمعا إليه … وركبا السيارة التي انطلقت قبل أن يصل إليها، فأطلق رصاصتَيْن عليها ولكنه لم يصبها. واتخذ الملازم «خالد» القرار الصحيح فأشار إلى سيارة النجدة بالإسراع إلى مطاردة السيارة السوداء … على حين اتَّجه هو إلى العمارة التي نزل منها الرجلان … ليحدد مصدر الصرخة وسببها.

قالت «لوزة» مقاطعة: وهل التقط رقم السيارة؟ قال المفتش مبتسمًا: لقد أمسكنا السيارة نفسها!

وقال «محب»: وقبضتم على اللصوص؟

المفتش: لا … لقد وجدنا السيارة فارغة … على كل حالٍ سوف أشرح لكم كل ما حدث.

ومضى المفتش يُكمل حديثه قائلًا: عندما وصل الملازم «خالد» إلى مدخل العمارة وجد أحد الأشخاص ملقًى على الأرض وقد أصيب في رأسه … فأسرع إليه … واطمأن أوَّلًا أن حياته ليست في خطرٍ برغم إصابته … واستطاع الرجل أن يشرح ﻟ «خالد» ما حدث؛ فقد كان هو بواب العمارة … دخل شخصان إلى العمارة في الساعة الثالثة تقريبًا، وكان نائمًا وحاولا ركوب المصعد، فسمع صوته واستيقظ سريعًا وسألهما عن سبب دخولهما العمارة في هذه الساعة فقالا إنهما قدما لاصطحاب أحد الأطباء من سكان العمارة لإنقاذ مريضٍ بعد أن اتَّصلا بالطبيب تليفونيًّا، وأبدى استعداده للذهاب معهما … ولما كان الطبيب من سكان العمارة فعلًا … ويحدث أحيانًا أن ينزل في هذه الساعة لعيادة أحد المرضى فإن البواب سمح لهما بالصعود … وإن كان قد لاحظ أن أحدهما يحمل حقيبةً كبيرةً ولكن ذلك لم يكن شيئًا غير عادي تمامًا … وركب الرجلان المصعد … وكان البواب قد قال لهما إن الطبيب يسكن في الدور الثالث من العمارة … ولكن لاحظ بخبرته أن المصعد وقف في الدور الخامس … وقد اندهش البواب … ولكنه تصوَّر أن عطلًا قد أصاب المصعد … أو أن أحد الراكبين قد ضغط على زر الدور الخامس بدلًا من الثالث … المهم أنه انتظر فترة ثم سمع صوت المصعد وهو ينزل، ووقف ليتأكد من أنهما كانا عند الطبيب، أو نزلا معه، ويسلِّم عليه كالمعتاد … وليفتح الباب الخارجي للمصعد … ولكن ما كاد باب المصعد يُفتح حتى فوجئ بأحد الرجلَيْن يضربه بشيءٍ في وجهه فصرخ ووقع على الأرض … على حين انصرف الرجلان مسرعَيْن.

وصعد الملازم «خالد» إلى الدور الثالث فلم يجد شيئًا غير عادي … ولكن خوفًا من أن يكون قد حدث شيءٌ للطبيب فقد ضغط جرس الباب وانتظر حتى فتح … وطلب مقابلة الطبيب الذي أكَّد أن أحدًا لم يزُرْه الليلة … وتأكَّد «خالد» من أن الدور الخامس كان مجال نشاط الرجلَيْن … وهكذا صعد إليه … وهذا الدور ككل الأدوار مكونٌ من أربع شقق … فماذا وجد؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤