الفصل الثالث

مستقبل البشرية

قيل له إنهم ماتوا وهم يضحكون. وضع فينسنت زيجاس هذه الحقيقة المستبعدة في اعتباره وهو يكتب في دفتر يومياته تحت ضوء المصباح المتقطع ويبقي نظره بحذر على الحشرات الكبيرة التي كانت تزحف في خيمته. «هل تسبب بخار عفن خفي في قتل هؤلاء الأشخاص؟ هل انتشر وباء مجهول ذو طبيعة جوية أو كونية أو أرضية في كل الأرجاء بلا رحمة وتسلل إليهم وتسبب في تسممهم وقتلهم؟»

ذلك العام كان عام ١٩٥٠، وكان زيجاس طبيبًا أستراليًّا يعمل في مناطق نائية من بابوا غينيا الجديدة. ضم المشهد الطبيعي الجبلي ما يزيد عن ٧٠٠ قبيلة لكل واحدة منها لغتها، والعديد منها لم يكن يعلم بوجود الأخرى. ومع بزوغ فجر عصر الفضاء، كانت هناك ثقافات تنتمي إلى العصر الحجري تكدح للعيش في غابة مطيرة تغطيها السحب. وفي إحدى القرى صادف زيجاس أفرادًا من قبيلة «فور» يمرون بمراحل متنوعة من سقم شديد. البعض عانى صعوبة في النطق بكلام واضح والسير بغير ثبات والارتجاف المستمر، والبعض الآخر لم يعد باستطاعته السير؛ إذ يستلقون على الأسرَّة ويهزون أطرافهم هزًّا عنيفًا، ويظهرون تغيرًا حادًّا في المزاج ونوبات من الضحك العشوائي. كان ثمة مجموعة أخيرة عاجزة عن ضبط النفس وتغطيها القُرح. استغرق التدرج خلال مراحل المرض عامًا. كانوا يطلقون عليه كلمة «كورو» التي يستخدمها أفراد قبيلة فور للإشارة إلى الارتجاف. جميع الضحايا تقريبًا كانوا من الإناث. وحسب علم زيجاس، كان هذا المرض مهلكًا على الدوام.

لم يستطع زيجاس الربط بين المعاناة التي رآها وطقوس الدفن التي شهدها، والتي كان يقوم فيها أحد أقرباء القروي المتوفى حديثًا من ناحية الأم بتمزيق الجثة، وإزالة اللحم، ونزع المخ والأعضاء الداخلية. لم يربط ذلك بحقيقة أن السيدات يطعمن الأطفال والكهلة وجبات معدة من تلك الأعضاء الداخلية، أو يقدمن إليهم حساءً ذا لون رمادي باهت معدًّا من المخ.

جاء الربط بين تلك الأمور في وقت لاحق على يد كارلتون جايدوسك، الذي فاز في وقت لاحق بجائزة نوبل عن عمله. لقد استنتج جايدوسك أن مرض كورو لم يكن مرضًا وراثيًّا ولا فيروسيًّا، بل كان مرتبطًا بمرض يصيب الغنم كان معروفًا لمئات السنوات، يسمى بمرض الراعوش، وهو التهاب يصيب الدماغ. لم يُعزل العامل المعدي نفسه حتى أوائل الثمانينيات من القرن العشرين على يد ستانلي بروزينر الذي فاز هو أيضًا بجائزة نوبل على اكتشافه. كانت أمخاخ مَن ماتوا على هذا النحو مليئة بالثقوب كالجبن السويسري. ولم يمت أي من أفراد قبيلة فور بسبب مرض كورو بعد أن توقفوا عن أكل لحم البشر.

إن السبب في إصابة البشر بمرض كورو والغنم بالراعوش، والمرض القريب له وهو «مرض جنون البقر» هو بريون؛ والبريون كائن صغير للغاية مسبب للمرض، ولأنه يبدو غير مهم بدرجة كبيرة من المروع أنه يستطيع أن يتسبب في مرض بشري مهلك لا سبيل إلى علاجه. البريون هو بروتين مشوَّه. وقد فوجئ علماء الأحياء حين علموا أن بروتينًا يمكن أن يكون عاملًا معديًا؛ لأن «المذهب الرئيسي» لعلم الأحياء يذهب إلى أن الأحماض النووية، كالحمض الريبي النووي (الرنا) والحمض النووي (الدنا)، مطلوبة لنقل المعلومات الوراثية. تخيل أن جوربًا واحدًا غير مطوي على نحو سليم في أحد الأدراج يمكن أن يتسبب في وفاة كل سكان أحد المنازل.

***

(١) مصير الأنواع

(١-١) الوردة هي الوردة

أفضل سبيل للتعمق في فكرة النوع هو البدء بالحديث عن شيء مألوف؛ شيء له رائحة طيبة أيًّا كان اسمه. تستوطن الورود نصف الكرة الشمالي؛ إذ ترجع حفرياتها إلى العصر الأوليجوسيني منذ ٣٥ مليون عام. زينت الورود كوكبنا لوقت طويل قبل أن يتطور البشر ويعجبوا بها. وقد عُثر على أكاليل الورود في قبور المصريين القدماء، وظهرت في اللوحات الجصية في كريت التي تعود لعام ١٧٠٠ قبل الميلاد، في ذروة الثقافة المينوية، وفي ألواح الكتابة المسمارية من بلاد الرافدين، واستخدم الإغريق والرومان الورود في مهرجاناتهم الدينية والدنيوية على حد سواء.

تخيل أنني أعطيتك وردتين، وأنهما تختلفان في اللون والرائحة وحجم وشكل البتلات وطبيعة الأوراق والأشواك. هل هما نوعان مختلفان؟ قد يكون اتخاذ القرار بشأن ذلك صعبًا؛ لأن علماء النبات يخبروننا بأن هناك أكثر من ١٠٠ نوع من الورود، وقد يتباين بعض أفراد النوع نفسه بقدر يزيد عن التباين بين الأنواع المنفصلة المتعارف عليها. ومع الدراسة المفصلة للأمر، تصير مسألة تحديد النوع مسألة شائكة بدرجة أكبر. في أواخر القرن الثامن عشر حدث أول تهجين بين الورود المعمرة شديدة الاحتمال التي زرعها الصينيون لآلاف الأعوام والورود الأوروبية التي لا تزهر إلا مرة واحدة في الموسم، وعملت التجارب التالية النشطة على توجيه الطبيعة لإنتاج ما يزيد عن ٢٠ ألف «تنويعة من الورود»، التي، على تباينها، ما هي إلا أشكال مهجنة من مجرد حفنة من الأنواع الأصلية.

ما النوع؟ في البداية فضَّل علماء الأحياء تعريفًا وصفيًّا يقوم على الشكل، وهو ما يعرف بعلم التشكل (أو المورفولوجيا)؛ فشجر الخشب الأحمر يبدو كشجر الخشب الأحمر، والأسد يبدو كالأسد. كان الشكل هو أساس أول نظام تصنيف أحيائي وضعه كارل لينيوس في منتصف القرن الثامن عشر، وهو يجدي للغاية بصورة عامة (الشكل ٣-١).١ حدد إرنست ماير ١٣٧ نوعًا من الطيور في جبال غينيا الجديدة، وصنف علماء النبات مئات الأنواع من النبات في ولاية تشياباس في المكسيك، وفي كلتا الحالتين لم تختلف نسبة ٩٩٪ من تصنيفاتهم عن «التصنيفات الشعبية» لسكان المناطق المحليين. وحين يتفق الخبراء مع آراء الأشخاص العاديين المبنية على البديهة عادة يعلن كلا الجانبين انتصارهما ويقنعان بما وصلا إليه.
fig13
شكل ٣-١: صورة توضح ٥٠ نوعًا مجهريًّا مختلفًا من طحلب الدياتوم. توجد طحالب الدياتوم في قاعدة العديد من السلاسل الغذائية البحرية والمائية. في هذه الأمثلة تبدو الأشكال مميزة وجلية للغاية بدرجة تسمح لطريقة التصنيف الحيوي التقليدية بالعمل على نحو جيد. (Randolph Femmer, National Biological Information Infrastructure and the U.S. Geological Survey)

مع ذلك، تتصف استثناءات القاعدة التي تقول: «إذا كان الطير يبدو كبطة ويسبح كبطة ويصدر صوت البطة، فهو إذن بطة» بأنها متباينة ومحيرة؛ فقد توصل علماء الأحياء إلى عدة أمثلة لأفراد من كائنات موجودة داخل عشيرتين ويصعب للغاية التمييز بينها، لكن مع ذلك لا يتزاوج بعضها من بعض، وهو ما يشير إلى أنها تنتمي لأنواع مختلفة. مثال طيب على ذلك هو نوعان من ضفادع الشجر رمادية اللون تعيش في وسط وشرق الولايات المتحدة، يبدو النوعان متماثلين، ويعيشان في مواطن الغابات نفسها، ويأكلان النوع نفسه من الفرائس، ومع ذلك يُصدر كل منهما أصواتًا متباينة أثناء موسم التزاوج لا تجذب إلا أفراد النوع نفسه. وقد أثبت اختلاف عدد الكروموسومات الموجودة بهما حقيقة أنهما نوعان مختلفان.

لا يقدِّم علم التشكل عونًا كبيرًا حين يتعلق الأمر بتصنيف الميكروبات؛ كالبكتيريا التي تتكاثر عن طريق الاستنساخ.٢ التكاثر اللاجنسي يعمل أيضًا على تعقيد مسألة تعريف الأنواع، كما هو الحال حين تتكاثر النباتات وبعض الحيوانات عن طريق التبرعم. علاوة على ذلك، قد تبدو أفراد النوع نفسه مختلفة للغاية في مراحل مختلفة من دورة حياتها؛ كما هو الحال مع الديدان والفراشات، أو قد تختلف بسبب المحاكاة البيئية؛ فكثيرًا ما تغير إناث الفراشات المنتمية لأحد الأنواع من شكلها لكي تحاكي الأنواع المحلية غير الصالحة للأكل كاستراتيجية دفاعية.
fig14
شكل ٣-٢: يعد ازدواج الشكل الجنسي الشديد شائعًا بين العناكب. يتعايش ذكر العقرب صغير الحجم والأنثى الأكبر حجمًا الظاهرين بالصورة (وهما من نوع أرجيوبا أبينسا) بصعوبة، ومن المرجح أن تلتهم الأنثى الذكر بعد التزاوج. ويمكن للتباين الشديد في الحجم والشكل بين الجنسين أن يوحي بأنهما نوعان مختلفان. (Sanba38, Wikipedia GNU License and Creative Commons License)

يمكن أن تكون البيئة العامة مسئولة عن الاختلافات التي قد تجعل الملاحظ غير المتخصص يعتقد أنه ينظر إلى أنواع مختلفة؛ فأحد أنواع النباتات السهمية له أوراق مميزة سهمية الشكل حين ينمو على اليابسة، لكنه يتخذ أوراقًا طويلةً ورفيعةً حين ينمو في الماء. ولنباتات كوب الماء أزهار، أو بالأحرى أوراق معدلة، يمكنها أن تتغير من اللون الأزرق إلى الأحمر وفقًا لعامل حموضة التربة وكمية الألومنيوم التي يمتصها النبات.

قد ترى العين غير المدربة بطة ذات لون بني فاتح وأخرى ذات ألوان مبهجة تجمع ما بين الأخضر والأبيض والأسود على أنهما من نوعين مختلفين وليس كأنثى وذكر من النوع نفسه. يمكن أن يتخذ ازدواج الشكل الجنسي صورًا متطرفة. كان داروين أول من أدرك أن الكائن الصغير الذي عُثر عليه متشبثًا بأنثى البرنقيل هو في الحقيقة ذكر النوع نفسه. وكثيرًا ما تكون ذكور العناكب أصغر حجمًا بكثير من إناثها، ونحن جميعًا نعلم كيف يمكن أن ينتهي ذلك الأمر (الشكل ٣-٢). ويمكن أن يزيد وزن إناث سمك أبو الشص بمقدار ١٠٠ مرة عن وزن ذكوره. يتصف ذكر سمك أبو الشص بأنه بدائي التركيب، وليس له جهاز هضمي؛ إذ يلتحم بالأنثى ويتطفل عليها فحسب، ليصير جهازًا لإنتاج الحيوانات المنوية. ومن الديدان البحرية نوع نادرًا ما يُرى فيه الذكر لأنه صغير للغاية، ويعيش في الجيب التناسلي للأنثى. وليس الطلاق خيارًا مطروحًا في هذه الحالة.

(١-٢) النوع والجنس

إن كانت المظاهر خادعةً، فما البديل؟ منذ أربعينيات القرن العشرين كان التعريف البيولوجي للنوع هو أكثر المعايير قَبولًا: مجموعة من الكائنات تتزاوج، أو تستطيع التزاوج فيما بينها، فأحد أفراد النوع يمكنه أن يتناسل مع فرد آخر من النوع نفسه، لكن ليس مع فرد من نوع آخر. والمفهوم المماثل على المستوى الوراثي هو تجميعة جينات وهي: كل الجينات الموجودة في مجتمع يتزاوج أفراده فيما بينهم، فكل الأفراد المنتمين للنوع نفسه يتبادلون الجينات مع تلك التجميعة، وهو ما يفسر التنوع الجيني لأحد الأنواع. يبدو الأمر بسيطًا، لكن تظهر الصعوبة مجددًا في التفاصيل والاستثناءات.

لا يمكن تطبيق التعريف البيولوجي القياسي على أي كائن حي يعتمد كل الوقت أو معظمه على التكاثر اللاجنسي، فبين الحيوانات مجتمعات معينة من السحالي والسلمندر تتكون جميعها من الإناث. هي تضع بيضًا لم يُخصب قط ويفقس إناثًا من أجل استكمال دورة الحياة. بل إن التكاثر اللاجنسي أكثر شيوعًا في النباتات، ومن الأمثلة المألوفة على ذلك الهندباء البرية والفراولة والشجر الأحمر. ثمة عملية يتكاثر بها نصف أنواع النبات البالغ عدده تقريبًا ٢٥٠ ألف نوع، وأيضًا الغالبية العظمى من النباتات المزهرة والسراخس، وتُعرف هذه العملية باسم تعدد الكروموسومات، وفيها تتشكل مجموعات عديدة من الكروموسومات. إننا نرث مجموعة واحدة من الكروموسومات من كل والد، لكن يمكن للنباتات أن تملك ثلاث مجموعات (الموز والتفاح والزنجبيل)، أو أربع مجموعات (البطاطس والقطن والكراث)، أو ست مجموعات (القمح والشوفان والكيوي)، أو حتى ثماني مجموعات (الفراولة وزهرة الثالوث).

تأتي بعد ذلك مشكلة السلالات المهجنة؛ فالغراب الأبقع والغراب الجيفي يبدوان مختلفين، ويتزاوج كل نوع منهما داخل مجموعته الخاصة، لكن أحيانًا ما يتزاوج النوعان ليكوِّنا سلالة هجينة. في حالات أخرى يكون التهجين مقصورًا على منطقة بعينها.٣ فطيور الصفارية في مقاطعة بولوك وتلك في بالتيمور يقتصر كل منهما على منطقته، لكنهما يمتزجان ويتزاوجان فيما بينهما على شريط رأسي في وسط الولايات المتحدة، فالمجتمعان متمايزان وراثيًّا، لكن جيناتهما قابلة للتبادل عبر منطقة الحدود. لا يبدو أن تدفق الجينات يجعل المجتمعين متجانسين. وعند النظر إلى السلالات المهجنة من منظور آخر فهي تخبرنا بشيء ما عن كيفية تشكُّل الأنواع المختلفة فعلًا.

عادةً ما يفشل التزاوج بين نوعين مختلفين من الثدييات يبدوان متشابهين بدرجة كبيرة؛ لأن النتيجة تكون كائنًا عقيمًا، والبغال مثال جيد على هذا. لكن ثمة سلالات مهجنة من الثدييات أنتجت في الأسر كالأسود الببرية (هجين الأسد-النمر)، والأحصنة الوحشية (هجين الحمار الوحشي-الحصان)، والدلافين الأحوات (هجين الحوت-الدولفين)، ونمور اليغور (هجين النمر-اليغور)، وجِمال الكاماس (هجين الجمل-اللاما)، والبيفالو (هجين ثور البيسون-البقرة). يمكن أن يحدث ذلك في البرية أيضًا في مواقف نادرة مثلما في حالة البلينكس (هجين الببكت-الوشق)، والبيزلي (هجين الدب القطبي-الدب الأشيب)، وهجين الذئب الرمادي والقيوط التي أدت إلى ظهور الذئب الأحمر منذ آلاف الأعوام.

إننا نسير ببطء تجاه منطقة حساسة وهي: وجود حاجز منيع لا تنتهك حرمته بيننا والأنواع الأخرى.٤ إن لُقح أحد الحيوانات بحيوان منوي لإنسان فلا شيء يحدث؛ لأن حاجز النوع منيع للغاية. نحن نشارك الشمبانزي في ٩٩٪ من سلاسل الحمض النووي، كم من المقنع إذن أن يوجد هجين من الإنسان والشمبانزي؟ لدينا ٢٣ زوجًا من الكروموسومات وللشمبانزي ٢٤ زوجًا؛ لذا يكون الحد الفاصل أن عدم تطابق الكروموسومات يحول دون تشكل جنين قابل للنمو. لكن في مثال آخر قريب الشبه، جرى تزاوج الحصان البلدي الذي يملك ٣٢ زوجًا من الكروموسومات مع حصان برزوالسكي الذي يملك ٣٣ زوجًا من الكروموسومات، وكانت النتيجة ذرية شبه خصبة. كان العالم السوفييتي إيليا إيفانوف قد حاول التهجين بين البشر والقردة كجزء من خطة ستالين لإيجاد جندي يتمتع بقوى تفوق قوى البشر. وما من دليل على نجاحه، لكن فكرة التجربة وحدها تبث الخوف في نفوس معظم الناس.

إن تحديد إمكانية نجاح التناسل بين نوعين أمر بسيط إلى حد ما، لكن تطبيق التعريف البيولوجي بصورة عامة يؤدي إلى مواقف افتراضية. لن نعرف أبدًا هل أمكن التكاثر بين كائنَين منقرضَين عثرنا على حفرياتهما في وقتنا المعاصر. وثمة أنواع لها ذرية طويلة في سجل الحفريات: هل كان بإمكان كائن ثلاثي الفصوص وجد منذ ٣٤٠ مليون عام التناسل مع آخر وجد منذ ٣١٠ مليون عام؟ ماذا عن العبارة المعقدة «التزاوج المحتمل بين الأنواع»؟ افترض أنه جرى الفصل بين مجموعتين من الحلزونات بطريق مرور سريع. يعد عبور هذا الحاجز أمرًا مهلكًا. نحن نعرف أن المجموعتين «لا» تتزاوجان فيما بينهما، لكن ذلك قد لا يكون كافيًا للإعلان عن أنهما نوعان منفصلان؛ لأننا لا نعلم هل «بإمكانهما» عبور الحاجز أم لا.

فيما يتعلق بموضوع تعريف النوع لم يكن داروين مُشجعًا للغاية؛ ففي عام ١٨٥٦ كتب داروين يقول: «إنه لمن المضحك حقًّا أن نرى الأفكار المختلفة التي تراود أذهان علماء الطبيعة حين يتحدثون عن النوع … جميعها يأتي، حسبما أعتقد، من محاولة تعريف شيء غير قابل للتعريف.» تكون التعريفات العملية مجديةً في الغالب، لكن مرونة الآليات البيولوجية تحول دون شعور العلماء بالثقة في تعريفاتهم.٥
يصطبغ تعريف النوع بطابع شخصي، فحين نقول إننا مختلفون عن القردة، فنحن نعلن انفصالنا، ونعلن ضمنيًّا تفوقنا. كان الغوريلا «جاي» أشهر الحيوانات التي قطنت حديقة الحيوان حين كنت أعيش في لندن وأنا طفل. كان غوريلا فضي الظهر يعيش في المنخفضات الغربية ويزن أكثر من ٢٧٠ كيلوجرامًا، ويصل امتداد ذراعيه إلى ثلاثة أمتار تقريبًا، ويماثل مقاس محيط عنقه محيط خصر الإنسان. كان يهدهد برفق الطيور الصغيرة التي تطير في قفصه، لكن كانت أصابعه القادرة على التقاط قطعة معدنية بقيمة السنت قادرة أيضًا أن تكسر عنق الحارس إن اقترب منها أكثر مما ينبغي. أدرك الآن كعالم أن الحمض النووي لديه يكاد يتطابق جزئيًّا مع الحمض النووي لديَّ. لقد شاهدته آنذاك كطفل دون أي مفاهيم مخزنة مسبقًا، وأذكر إحساسي بالسوء بشأن القذارة التي يتسم بها قفصه. أذكر أيضًا تحديقي في عينيه؛ كانت التجربة عميقةً وتكاد تكون صادمة؛ لقد رأيت الفضول والشفقة والكرامة، لقد رأيت إنسانًا.٦

(١-٣) محرك التطور

إن أردنا مناقشة مسألة نهاية البشرية، فعلينا أن نعرف من أين أتينا نحن وملايين الأنواع الأخرى. من السمات الجلية للتطور تكوُّن أنواع جديدة، ومن المذهل — حتى لعلماء الأحياء الذين يفكرون في الأمر طوال الوقت — أن يؤدي سلف ميكروبي مشترك إلى كائنات شديدة التنوع كالفطريات والطحالب والفراشات والأفيال وأفراس البحر. ومع ذلك يمكن للتقنيات المرتبطة بتطور السلالات أن تتبع الشكل الواسع لهذا التطور على مدار ٤ مليارات عام عن طريق استخدام الانحراف التدريجي لسلاسل الدنا والرنا. وفي عالم الميكروبات، ما النباتات والحيوانات إلا أغصان صغيرة على شجرة الحياة. ومن منظور ذلك السُّلم المزدوج المتشابك الذي يحمل برنامج عمل الحياة بأسرها، جميع الكائنات شيء واحد.

في ليلة ما منذ سنوات قلائل، وبينما كانت محادثة مفعمة بالنشاط والحيوية تدور حولي وأنا بإحدى الحانات، استغرقتُ في التفكير في موضوع وحدة الحياة. بقياس الانحرافات المتراكمة لسلسلة الحمض الأميني لبروتين السيتوكروم، يتطابق الإنسان جزئيًّا مع قرد الربص بنسبة ٩٩٪، في حين يتطابق جزئيًّا مع الدجاج بنسبة ٨٤٪ وبنسبة ٦٨٪ مع العثة و٦٠٪ مع الخميرة.٧ حدقتُ في كوبي وأدركت أننا لسنا مختلفين تمامًا، أقصد أنا والجعة. إن كان هذا هو التنوع الناتج عن إعادة ترتيب حروف أبجدية جينية واحدة تخيل ما القصص التي قد تُحكى حين يرتبط الأمر بنطاق من الأبجديات الجينية؟

إن كل كائن حي هو تجسيد مادي لمعلومات موروثة مشفرة داخليًّا، وفي علم الأحياء يكون النمط الجيني هو «برنامج العمل» أو مجموعة التعليمات التي تنظم عملية تكوين وتشغيل أحد الكائنات، وهي مكتوبة بأبجدية رباعية الأحرف مزدوجة القواعد من الدنا، ويكون النمط الظاهري هو النتيجة؛ أي التجسيد المادي للكائن. يذهب علماء الأحياء إلى أن النمط الجيني يضم شفرات النمط الظاهري. والجين هو وحدة المعلومات التي تعمل على تشفير سمة معينة، ويطلق على إجمالي كل الجينات في أحد المجتمعات اسم تجميعة الجينات. تؤدي الطفرة إلى تباين طفيف في الشكل الجزيئي للجين، ويطلق عليه اسم الأليل. بعد ذلك يعمل التكاثر على إيجاد تجميعات جديدة من الأليلات يحملها الكائن الوليد؛ مما يؤدي إلى تباين في النمط الظاهري.

أدرك علماء الأحياء المعاصرون أن «حجم» الحمض النووي وتباينه المجهري لا يفسران ثراء عملية التطور، وقد اعتنقوا مبدأ جديدًا يعرف باسم علم الأحياء الإنمائي التطوري. يقر هذا المبدأ بأن النباتات والحيوانات مكونة من وحدات؛ بمعنى أنها كثيرًا ما تنشأ من أجزاء متكررة كالضلوع أو أجزاء الجسم. هو يقر أيضًا بأن التحكم في الجينات أمر معقد؛ فالجينات لا يمكن تشغيلها وإيقاف تشغيلها فحسب، بل يمكن أيضًا تنظيمها عن طريق البيئة، والجينات نفسها يمكن أن تستخدمها كائنات مختلفة بصور مختلفة. وأخيرًا، إن قدرة النمط الجيني على تغيير نمطه الظاهري استجابة للبيئة تعني أن التغير الجيني يمكن أن يتبع عملية تطور السمات الجديدة لا أن يتسبب فيها؛ فليس كل تطور موروثًا.

إن التباين المحتمل لمادتنا الجينية هائل؛ فهناك ١٠٦٠٠ تجميعة ممكنة للأليلات البشرية؛ لذا تأكد أنه ما من شخص آخر عاش، أو سيعيش، ولديه التركيب الجيني الذي لديك. والتباين البيئي في النمط الظاهري يعني أن التوائم المتطابقة ليست متطابقةً حقًّا؛ فالوالدان يمكنهما التمييز بينهما، علاوة على أن لكل منهما بصمات أصابع مختلفة. ومن ثم، في ظل هذه الاحتمالية الجينية الكبيرة للغاية، والطرق العديدة للتعبير عنها في بيئة معقدة، يصير لدى عملية التطور مقدار كبير من المادة الخام للعمل عليها من خلال آلية الانتخاب الطبيعي.

كل هذا الخلط والتباين الجيني يكشف عن احتمالات، لا عن مقصد بعينه، فليس لكل شيء معنى. والطبيعة شديدة البخل، لكنها أحيانًا تكون كسولة؛ فللرجال حلمة ثدي لأن للنساء مثلها، ووجود هذه الحلمة لا يتكلف الكثير. وبعض السمات ما هي إلا بقايا لا لزوم لها ولا ضرر منها؛ كالزائدة الدودية وضروس العقل، لذا لم تحاول الطبيعة التخلص منها. وتشكيل المجتمعات على يد البيئة المتغيرة هو العامل الأقوى في التطور، وهو يخلق عددًا من الخاسرين أكبر من الفائزين.

(١-٤) تطورنا نحن البشر

في ضوء ما تقدم، كيف يمكن للأنواع الجديدة أن تتطور؟ إننا نسعى إلى ربط التطور صغير النطاق — التغيرات التي تطرأ على التركيب الجيني لأحد المجتمعات مع تعاقب كل جيل — بالتطور شامل النطاق؛ أي ظهور شكل جديد متمايز من الناحية المادية من أشكال الحياة. يروق لعلماء الأحياء الجدال كثيرًا بشأن معدل التطور، لكنه لا بد أن يكون تدريجيًّا؛ فالطيور لا تبدأ فجأة في الطيران، والرئيسيات لا تنمي مهاراتها الحسابية على نحو مفاجئ. وفي إطار نطاق ممتد للتطور يكون من الصعب تحديد متى ينشأ نوع جديد، وهذا هو سبب استخدام التعريف البيولوجي العملي متى أمكن.

يخضع تكوين الأنواع الجديدة لعمليات تدفع في اتجاهات متعارضة، فالتدفق الجيني الناتج عن التكاثر يميل إلى الإبقاء على تشابه المجتمعات بعضها مع بعض؛ مما يثبط نشأة أنواع جديدة. تسجل المجتمعات انحرافًا وراثيًّا بسبب الانتخاب الطبيعي وبسبب التباينات العشوائية في معدل تكرار الأليلات، وخصوصًا في المجتمعات الصغيرة، وتلك عملية تُعرف بالجنوح الجيني. وآخر آليتين تجعلان من تشكُّل أنواع جديدة أمرًا محتملًا. وإن اعترض شيء ما التدفق الجيني لأي سبب من الأسباب فإن الجنوح الجيني يضمن نشأة أنواع جديدة.

العزل الجغرافي هو أوضح الطرق التي تعيق المجتمعات عن تبادل الجينات. لا يتطلب العزل وجود محيط أو سلاسل من الجبال الفاصلة؛ فقد يكون على صورة تباين في الموطن في منطقة مجاورة. حتى ١٥٠ عامًا مضت عاشت الأسود في الأرض العشبية المفتوحة في الهند وعاشت النمور في الغابات، لم يحدث تهجين بين النوعين في البرية. وحتى حين عاش النوعان في المكان نفسه بالضبط حالت أسباب أخرى دون حدوث التزاوج بينها. فكِّر فحسب في مشكلات الجنس؛ فالأزواج المحتملون ربما يتناسلون في أوقات مختلقة، أو ربما يلتقون لكن يستطيعون تبين آليات هذا الأمر، أو ربما يعجزون عن نقل الحيوان المنوي، أو يعجزون عن تخصيب البويضة. وحتى إن خصبت البويضة فقد يموت الجنين، أو يتمتع هجين الجيل الأول بكفاءة أقل، أو قد يكون عقيمًا. إن التفكير في ذلك الأمر مجهد، وهو ما قد يعد سببًا آخر وراء فشل الاتصال الجنسي.

كل هذه الأفكار محتملة فيما يتعلق بتطور أسلافنا الذين عاشوا منذ أزمان سحيقة. لقد ظهرت الثدييات على نحو بارز كنوع جديد بعد انقراض العصر الطباشيري الثلاثي منذ ٦٥ مليون عام، ويعتقد أنه منذ حوالي ٣٥ مليون عام انتقل بعض أوائل القردة الشبيهة بالإنسان فوق طوف من النباتات عبر المحيط الأطلنطي الأضيق آنذاك متجهة من أفريقيا إلى أمريكا الجنوبية. ومن ثمَّ انعزلت قردة العالم الجديد عن قردة العالم القديم من الناحية التكاثرية، واتبع كل منهما مسارات تطورية خاصة به بعد موجة من التطور (الشكل ٣-٣).
fig15
شكل ٣-٣: شجرة تطور أسلافنا من الرئيسيات توضح موجة من التنوع منذ حوالي ٣٥ مليون عام، التي يستدل عليها من الينقولات القهقرية، وهي آلية يمكن للجينات من خلالها أن تضاعف نفسها بسرعة نسبية وتوجِد شكلًا جينيًّا جديدًا. وآخر علاقة تطورية تربطنا بالثدييات الأخرى ترجع إلى ما قبل حدث الانقراض الذي وقع في العصر الطباشيري الثلاثي. (Kazuhiko Ohshima, Tokyo Institute of Technology)

انفصلت سعادين العالم القديم عن القردة منذ حوالي ٢٥ مليون عام، لكن النوعين تعايشا جنبًا إلى جنب في بيئات الغابات الأفريقية نفسها. وفي خضم التنافس على الموارد عانت القردة ضعفًا في التنوع؛ إذ لم يكن باستطاعتها مواكبة السعادين ذات الضروس الحادة والقنوات الهضمية المتخصصة التي منحتها نطاقًا أوسع من النظام الغذائي، ففي المناخ البارد المتغير الذي ميَّز حقبة الميوسين من منتصفها وحتى آخرها؛ منذ حوالي ١٠ إلى ١٥ مليون عام، كانت القدرة على استغلال موارد غذائية جديدة ميزة قاطعة.

كان الحدث المحوري في تطور البشر هو انفصال سلالات أشباه الإنسان عن سلالات الشمبانزي منذ نحو ٧ ملايين عام، وهو ما كشفت عنه حفريات الجماجم. كانت الصدمة بالغة حين بَيَّنَ الباحثون عام ٢٠٠٦ أن سلالات الشمبانزي والبشر تشاركت في الجينات منذ فترة وجيزة لا تزيد عن ٥ أو ٦ ملايين عام.٨ بعبارة أخرى، لقد تناسل البشر والشمبانزي لما يزيد عن المليون عام قبل أن يقع الانفصال الثاني والأخير. لم يكن أبناء العصر الفيكتوري ليوافقوا على ذلك، لكن من المؤكد أن التطور ليس المجال المناسب لمن يسهل إثارة غثيانهم. عادة ما تنقرض المجتمعات الهجينة لأن الذكور يعانون العقم، وأفضل تخمين لما حدث هو أن الإناث الهجينة تزاوجت مع ذكور الشمبانزي لإنتاج ذرية قادرة على الحياة وانبثقت السلالة البشرية من ذلك المجتمع الهجين.

عاش الشمبانزي على الفاكهة في الغابات المدارية لملايين الأعوام، وتطور إلى عدد من الأنواع كالغوريلا التي تتغذى على النباتات وأشباه الإنسان التي تحركت في الغابات الأكثر جفافًا والسهول التي امتدت بين الغابات. واصل البشر والشمبانزي الانحراف بعضهم عن بعض انطلاقًا من نقطة التفرع التي وقعت منذ ٥ ملايين عام أو نحو ذلك. وبين حشائش السافانا المتناثرة طَوَّرَ البشر الحركة على طرفين لقطع مسافات أكبر، وهذا منحهم فرصة الوصول إلى أنواع أكثر من الغذاء، وسرعان ما انتشر البشر عبر قطاعات كبيرة من جنوب القارة الأفريقية.

منذ حوالي ٣ ملايين عام، بدأ المناخ يبرد ومرَّ بتقلبات جوية عنيفة انخفضت معها درجات الحرارة بمقدار ٤ إلى ٦ درجات مئوية (٨ إلى ١٠ درجات فهرنهايت) عن أي وقت آخر طيلة ملايين السنوات. تعرضت كل الأنواع للضغوط وبعضها انقرض. تكيف البشر عن طريق تطوير الأدوات والهجرة واللجوء إلى الصيد. طوَّر «الإنسان الماهر» مخًّا ضِعف حجم مثيله لدى أي قرد آخر، وحدد علماء الوراثة جينًا واحدًا ربما سهَّل هذه الزيادة.٩ وبعد أن انتشر البشر بحثًا عن الغذاء، صاروا صيادين وطرائد في الوقت ذاته. هذا الافتراس أدى إلى تعاون اجتماعي استفاد من المخ الحديث الأكبر حجمًا على نحو صريح. وعلى النقيض، لم تساعد قردة الشمبانزي بعضها بعضًا، حتى إن لم تكن هناك تكلفة مترتبة على المساعدة. لقد زاد التطور الاجتماعي من الانفصال بين النوعين.
في التطور البشري الحديث، كانت هناك شواهد على العزل التكاثري؛ فقد انعزل سكان أستراليا الأصليين عن البشر الآخرين طيلة ٥٠ ألف عام، لكن حين سمحت لهم وسائل السفر الحديثة بمقابلة مجتمعات أخرى تناسلوا حسب ما نعلم اليوم من عدد كبير من السلالات المشتركة. ومع ذلك، لا يقف التطور ساكنًا، فثمة دليل على أن جينًا — يُطلق عليه اسم «ميكروسيفالين»١٠ وينظم حجم المخ — قد انتشر تحت الضغط الانتخابي منذ وقت حديث يمتد إلى ٣٧ ألف عام مضت، وذلك قبل أن يبدأ البشر ارتقاءهم السريع على سلم الثقافة والحضارة مباشرة. هذا الاكتشاف يوضح المرونة المذهلة للمخ.

وفي إطار الصورة الكبيرة طغى التواضع على التغيرات الوراثية الجينية على مدار المائة والخمسين ألف عام الماضية. ولو جلبنا شخصًا من ذلك الوقت ثم أخذ حمامًا وحلق ذقنه وارتدى ملابسه ثم دُفع به إلى منزلك أو مكان عملك، فلن يبدو شكله مستغربًا. فقط لا تدخل معه في عراك على ركوب إحدى سيارات الأجرة.

(١-٥) نهاية الخط

إن كان النجاح يقاس بالأعداد، فعدد البشر البالغ ٦ مليارات شخص يبدو عددًا كبيرًا في الظاهر فحسب. فقريدس البحر الذي يعيش في القطب المتجمد الجنوبي يعد جزءًا جوهريًّا من النظام البيئي للمياه الباردة، ويتوفر منه حوالي ٥ × ١٠١٤ كائن، ومع أن كل واحد من هذه الكائنات لا يزن سوى جرام واحد فإنها إن جُمعت معًا في كومة ستزن مليار طن؛ أي أكثر من وزن كل البشر. أنجح الأنواع هو أيضًا قاطن للمحيطات؛ البكتيريا التي يُطلق عليها اسم «إس إيه آر-١١». هذا الكائن الحي هو أيضًا مشارك رئيسي في النظام البيئي العالمي؛ إذ يعمل «كمضخة» تزيل ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي. وهناك ٣ × ١٠٢٩ خلية منتشرة من هذه الخلايا، أضف لهذه القيمة أو اطرح منها عددًا يسيرًا. ذلك يعني أنه يوجد ١٠٠ مليار مليار خلية منها مقابل كل فرد منا.

إن قيس النجاح في ضوء طول عمر الأنواع وتنوعها فالأبطال الحاليون هم النمل؛ إذ عاش النمل طيلة ١٠٠ مليون عام، ويمثله ٢٠ ألف نوع. وتاريخيًّا، نرفع القبعات إعجابًا لثلاثيات الفصوص التي ضمت ١٧ ألف نوع وتباينت في حجمها من المجهري إلى ما يزيد طوله عن قدم واحدة، وناضلت طيلة ٢٥٠ مليون عام من انفجار الكمبري إلى انقراض العصر البرمي. بل إن الأمونيتات، التي ضمت ١٠ آلاف نوع وتراوحت في حجمها من ملليمترات قليلة إلى ثلاثة أمتار أدت أداءً أفضل؛ إذ بقيت منذ ٤٠٠ مليون عام مضت حتى انقراض العصر الطباشيري الثلاثي. أما البشر فهم حديثو المولد؛ إذ لم يمر على وجودهم سوى مليون عام فقط.

شهدت الأرض نصف مليار نوع خلال ٤ مليارات عام، ولا تتجاوز نسبة من تبقى منها على قيد الحياة ٢٪. ويطلق على المعدل العام لفناء الأنواع اسم معدل الانقراض السابق لظهور البشر. يمكن أن تفنى الأنواع بسبب تغيرات في البيئة المادية أو البيولوجية، وثمة العديد من العوامل التي تساهم في هذا الأمر مثل حجم المجتمع والقدرة التكاثرية والصفات الجينية والتوزيع الجغرافي والعلاقات القائمة مع الأنواع الأخرى.١١

في المتوسط، تبقى أنواع الكائنات والنباتات وحيدة الخلية من ١٠ إلى ٣٠ مليون عام، في حين تبقى أنواع الحشرات عدة ملايين من الأعوام. أما أنواع الثدييات فمتوسط مدة بقائها هو مليون عام. تزايد التنوع الحيوي على نحو كبير منذ «الحدث» الذي شهده العصر البرمي منذ ٢٥٠ مليون عام، وهو ما يعني أن أنواعًا جديدة تظهر أكثر من تلك التي تختفي. إن مهد التنوع الحيوي الحالي هو المناطق المدارية، والسبب في ذلك هو انخفاض معدل تبدل الكائنات في المناطق القريبة من خط الاستواء؛ فالأنواع تظهر بمعدل أقل في المناخ الدافئ، لكنها تختفي أيضًا بمعدل أقل، وهو ما يعني وجود عدد كبير منها في أي وقت بعينه. اكتشف الباحثون حديثًا أن كمية الطاقة المطلوبة لخلق نوع جديد كمية ثابتة.

fig16
شكل ٣-٤: لم يشهد تطور التنوع الحيوي في النصف مليار عام الماضية ازديادًا قويًّا إلا منذ ١٠٠ أو ١٥٠ مليون عام، حين ضاهى التنوع على اليابسة نظيره في المحيطات. تعني «الأنواع المحددة جيدًا» المجموعات ذات التحديد الزمني الدقيق في سجل الحفريات. ويشهد الاتجاه السائد السلس مقاطعات من جانب حوادث الانقراض الجماعية الخمسة وعدد مشابه من أحداث الانقراض الصغرى. (Albert Mestre, Wikipedia GNU License and Creative Commons License)
خلال الخمسمائة مليون عام الماضية، وهي الفترة التي لها سجل حفريات جيد بدرجة كافية لحساب عدد الأنواع وقياس التنوع الحيوي، قوطع معدل الانقراض المنخفض بثبات من قبل عمليات انقراض حادة مفاجئة سببتها الكوارث الطبيعية. ثمة خمسة أحداث انقراض «جماعي» — وقعت منذ ٤٣٥ و٣٧٠ و٢٥٠ و٢٠٥ و٦٥ مليون عام — بالإضافة إلى عدد مماثل من أحداث الانقراض الأكثر اعتدالًا. لقد فنت حوالي نسبة ٩٥٪ من جميع الأنواع البحرية والبرية في نهاية العصر الباليوزي (حقبة الحياة القديمة) منذ ٢٥٠ مليون عام مضت. وقعت معظم هذه الأحداث بسبب أنشطة بركانية عاتية بدَّلت المناخ والغلاف الجوي، ووقع بعضها بسبب حوادث اصطدام مذنبات بالأرض، وأبرزها حادث انقراض العصر الطباشيري الثلاثي الذي وقع منذ ٦٥ مليون عام (الشكل ٣-٤).

وفقًا لكل الأدلة نحن نمر حاليًّا بانقراض جماعي سادس أو «موت عظيم»؛ ففي سجل الحفريات وصلت الخسارة السابقة للأنواع إلى حوالي ٣٠ نوعًا سنويًّا، أما طبقًا لتقييم الألفية للنظم البيئية الذي أجرته الأمم المتحدة فقد زاد المعدل الحالي للانقراض بمقدار ١٠٠٠ مرة ليبلغ ٣٠ ألف نوع سنويًّا. لا يزال المعدل المستقبلي المتوقع وفق ما يسير عليه تدمير المواطن الطبيعية والاحترار العالمي أعلى بعشر مرات، وفي ضوء بعض التقديرات قد تكون نسبة ٣٠٪ من النباتات والحيوانات في جميع أنحاء العالم في طريقها للانقراض في غضون مائة عام، لكن على النقيض من كل أحداث الانقراض السابقة، هذا الانقراض يحمل بصماتنا في جميع جوانبه، وهو ما يثير التساؤل: إن تسببنا في كارثة بيئية، فهل سنبقى على قيد الحياة؟

(٢) أسوأ أعداء أنفسنا

(٢-١) التعامل مع مخلفاتنا

تخيل الأرض وهي معلقة في الفضاء، تتدلى كلؤلؤة باهتة في ظلمة الليل، ولا يزيد غلافها الجوي الرفيع في سمكه عن قشرة ثمرة التفاح. الآن ركز انتباهك على الكوكب واستمع إليه وهو يدور وضوء الفجر يمرق عبر سطحه. من شأن شروق الشمس عادةً أن يستحثَّ مجموعة من الأصوات وتطير العصافير عبر الضوء المنتشر بسرعة مئات الأميال في الساعة، لكن في هذا اليوم خيَّم الصمت فحسب على كل شيء.

إنها الصورة الذهنية التي استحضرها كتاب بارز من تأليف راشيل كارسون صدر عام ١٩٦٢ تحت عنوان «الربيع الصامت»، وقد ساعد هذا الكتاب في انطلاق الحركة البيئية. مسَّت دعوتها المدوية ضد الاستخدام غير المقيد للمبيدات وترًا حساسًا، لكنها أوجدت أيضًا رد فعل معاديًا مزعجًا؛ فقد حشدت شركات صناعة المواد الكيميائية جهودها للسخرية منها وتكذيبها، وشرع روبرت وايت ستيفنز، المتحدث الرسمي لتلك الشركات، في التحدث بالنبرة نفسها قائلًا: «إن اتبع البشر تعاليم الآنسة كارسون فسنعود إلى «العصور المظلمة»، وسترث «الحشرات» و«الأمراض» و«الهوام» الأرض مجددًا.» لكن ثبتت صحة ادعاءاتها بالكامل على يد إحدى اللجان الاستشارية الرئاسية، وسرعان ما تبعها إقرار تشريع يشدد من الرقابة على المبيدات الكيميائية. وقد ترسَّخ إحساسنا بالأرض كنظام بيئي هش عام ١٩٦٨ حين أرسلت مركبة الفضاء «أبولو ٨» أول صورة لكوكبنا من بعد ٤٠٠ ألف كيلومتر.

حين كنا مجرد صيادين جامعين للطعام، وعددنا لا يتجاوز ١٠ ملايين شخص، كانت لنا بصمة خفيفة على الكوكب. لم نستهلك إلا ما كنا نحتاجه، ولم نخلِّف سوى مخلفات عضوية قابلة للتحلل، ولم نتسبب في تسريب سوى قدر ضئيل من الحرارة وثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي؛ اعتمدت حياتنا على قدرتنا على سماع نبضات الكوكب والانتباه إليها.

أما الآن فقد زاد عددنا عن ٦ مليارات شخص، وصرنا مهووسين بالنمو والتكنولوجيا، وكل واحد منا يتسبب في وجود قرابة طن متري من النفايات سنويًّا، يعاد استخدام أقل من ربعه. وفي الولايات المتحدة تشمل النفايات ٥٠ مليون جهاز كمبيوتر و١٠٠ مليون هاتف محمول و٣ مليارات بطارية سنويًّا. هذه المخلفات الإلكترونية المتزايدة في كمياتها سريعًا تحتوي على الرصاص والكادميوم والكروم والزئبق والبولي فينيل كلوريد، التي لها آثار سامة تسبب تلف المخ ومرض الكلى، إضافة إلى التغيرات الأحيائية وأمراض السرطان. ومع أن المخلفات التالية ليست سامة فإنها تشكِّل عبئًا على الكوكب، وهي تتمثل في ثلاثة ملايين وستمائة ألف طن متري من المراسلات البريدية، و٢٢ مليار زجاجة بلاستيكية، و٦٥ مليار عبوة مشروبات غازية يجري التخلص منها سنويًّا. الأمريكيون هم أبطال العالم في الإهدار؛ إذ يبلغ عددهم ٥٪ من سكان الأرض، لكنهم يتسببون في نسبة ٤٠٪ من النفايات.١٢

عندما نتخلص من نفاياتنا فإنها لا تتبدد تمامًا، ففي مدفن النفايات تجد بعض السموم طريقها إلى المياه الجوفية، وفي موقد إحراق القمامة تفر بعض السموم إلى الهواء. ومع أن وكالة حماية البيئة الأمريكية تتابع ١٣٠٠ موقع من أسوأ مواقع تجميع المخلفات السامة، فإن التمويل الضخم المخصص لعمليات التنظيف نفد منذ سنوات على الرغم من أن التشريع الأصلي يقضي بأن يتحمل الملوِّث النفقات. وفي مواقع المخلفات النووية البالغ عددها ١٢٠ موقعًا والممتدة في أنحاء البلاد، تُعد مشكلة احتواء التلوث مشكلة ضخمة؛ فهناك ٢٤٥ مليون طن متري من نفايات المناجم المتخلفة عن استخلاص اليورانيوم، و٤٥ ألف طن متري من الوقود المستهلك عالي الإشعاعية الصادر من المفاعلات القائمة لخدمة أغراض دفاعية وتجارية، وأكثر من ٣٤٠ مليون لتر من النفايات عالية المستوى التي تخلفها معالجة البلوتونيوم. لم يكن جبل يوكا في نيفادا مستعدًّا قط للتعامل مع هذه الكمية من المخلفات.

ديفرا ديفيز عالمة متخصصة في الأوبئة، وقد عملت مستشارة لمنظمة الصحة العالمية ونصحت كل الرؤساء الأمريكيين منذ جيمي كارتر بشأن سياسة الصحة العامة، وقد لاقت نقدًا من ذوي المصالح الشخصية مثلما كان الحال مع راشيل كارسون من قبل، وذلك عندما أوضحت الطرق العديدة التي يتفوق بها دافع الربح على المصلحة العامة متى تعلق الأمر بمخاطر من الممكن تجنبها. كانت طفلة رضيعة حين تسللت سحب الضباب والدخان السام الصادر عن أحد مصانع صهر الزنك المحلية إلى بلدة دونورا في بنسلفانيا، لتسفر عن مقتل ٢٠ شخصًا وإصابة نصف سكان البلدة تقريبًا بالأمراض. حفز هذا الحادث على صدور قانون الهواء النظيف لعام ١٩٧٠.

توضح ديفرا ديفيز أننا نتجاهل عن طيب خاطر أو نستسلم لتطمينات زائفة بشأن الخصائص المسرطنة للمكونات التي تدخل في تصنيع المشروبات الغازية ومستحضرات التجميل والعقاقير التي تُصرف دون وصفة طبية. في الولايات المتحدة يتعرض رجل واحد من بين رجلين وسيدة واحدة من بين ثلاث سيدات للإصابة بالسرطان، وبهذا لا يعد السرطان قاتلًا فرديًّا وإنما قاتلًا جماعيًّا. وسيعتمد طول العمر، خصوصًا في الدول النامية، بصورة متزايدة على التمتع بالذكاء فيما يتعلق بالمخلفات. كل ما عليك هو أن تسأل رائدًا بإحدى مركبات الفضاء أبولو عما يحدث حين تتلوث بذلة الفضاء.

(٢-٢) عناق دافئ

يحتل التغير المناخي صدارة المشكلات التي نواجهها، فعلى مدار العقد الماضي صار جليًّا بما لا يدع مجالًا للشك أن النشاط البشري يتسبب في ارتفاع درجة حرارة الكوكب، والأسباب الرئيسية هي الإفراط في استخدام الوقود الحفري والتنمية الاقتصادية التي تؤدي إلى إزالة الغابات. حاز تقرير اللجنة الدولية المعنية بتغير المناخ الصادر عام ٢٠٠٧ تصديق ٣٠ جمعية من الجمعيات العلمية المرموقة، والقلة القليلة الباقية التي ترفض ذلك تعجز عن الصمود في وجه الأدلة القوية والإجماع العلمي غير المسبوق.

إن كنت تجلس في غرفة معيشتك تقرأ كتابًا ثم دفعت مؤشر الحرارة برفق بمقدار ٠٫٧٥ درجة مئوية (١٫٤ فهرنهايت) — وهو متوسط درجة الاحترار العالمي على مدار القرن الماضي — ربما لن تلاحظ شيئًا. لماذا إذن سيذهب العالم إلى الجحيم بسبب هذا التأثير؟ ليست المشكلة في الاحترار العالمي حتى الآن، إنما في التأثير المتوقع. من الممكن أن يشهد هذا القرن زيادة في درجة الحرارة تتراوح من درجة مئوية أخرى (٢ فهرنهايت) إلى ٥ درجات مئوية (٩ فهرنهايت)، وينتج هذا التباين عن تعقد مسألة ارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية وآليات التبريد (الشكل ٣-٥). إن المناخ أشبه بشاحنة نفط عملاقة؛ لا يمكنها أن تستدير في منعطف ضيق للغاية. وحتى لو عملنا على استقرار انبعاثات الغازات المسببة للاحترار العالمي غدًا، فسيستمر الاحترار العالمي على الأرجح لمدة قرون بسبب السعة الحرارية للمحيطات. ذلك يؤدي إلى التخوف من أن تكون التغيرات المناخية غير قابلة للعلاج وأننا قد تجاوزنا «نقطة اللاعودة».
fig17
شكل ٣-٥: أجرت اللجنة الدولية المعنية بتغير المناخ تقييمًا للاحترار العالمي، الحالي والمتوقع مستقبلًا، وهو يحوي عدة نماذج متنوعة تتنبأ بارتفاع في درجة الحرارة يتراوح من درجة واحدة مئوية (٢ فهرنهايت) إلى ٥ درجات مئوية (٩ فهرنهايت) بحلول عام ٢١٠٠. يرتبط نطاق التوقعات بدرجات تركيز الدخان في الطبقة العلوية من الغلاف الجوي ومدى تأثير ثاني أكسيد الكربون ودرجات تركيز الدخان على الاحتباس الحراري. (GRIDA/UNEP and the Intergovernmental Panel for Climate Change)

قياسًا بحرب نووية، أو حتى الشتاء النووي الناجم عنها، يعد الاحترار العالمي مشكلةً خطيرةً، بيد أنه ليس أزمة حقيقية للأنواع. تسرد مجموعة العمل القائمة على إعداد التقرير الدولي المعني بتغير المناخ قائمة بالتأثيرات: ستزداد المناطق الرطبة رطوبة، وستزداد المناطق الجافة جفافًا، وسيزداد الطقس تطرفًا في كل مكان. سيصير الجفاف والفيضانات أكثر شيوعًا، وستتمدد العديد من النظم البيئية وصولًا إلى نقطة الانفجار. ومن المتوقع أن تسجل عملية إزالة الكربون من قبل النظم الحية أعلى معدلاتها في منتصف القرن ثم تنخفض؛ الأمر الذي سيزيد من التغير المناخي.

مبدئيًّا سيكون هناك فائزون وخاسرون. إن كنت تعيش في مدينة بانجور أو مينسك فلن تشكو حين يزداد الشتاء دفئًا بمقدار درجات قليلة، لكن من بين أوائل الخاسرين جراء الجفاف وفقد المحاصيل التقليدية تلك البلدان الفقيرة في أفريقيا وآسيا التي تعجز عن مجابهة معيقات النمو هذه. وبحلول عام ٢٠٥٠ يُتوقع أن تتعرض كل البلدان تقريبًا للآثار الضارة للاحترار العالمي.

لست أسعى هنا إلى أن أبدو محدود الأفق أو إلى التقليل من شأن تأثيرات الاحترار العالمي، لكن إليك بتأثيره على الأشياء التي ربما تكون قريبة ومحببة إلى قلبك. استعد لأن تفطم نفسك عن تناول سرطان البحر والسلمون؛ إذ ستصبح نادرة في المحيطات الدافئة. لن تشرب النبيذ الفرنسي أو النبيذ الأحمر مع تلك الوجبات؛ إذ ستنتقل ثمار العنب إلى مكان آخر، ستصير مضارب البيسبول التقليدية نادرة الوجود، وسيكون الحال كذلك مع أشجار الكريسماس، ستفقد جداول السمك الطائر ومنتجعات التزلق سبب جذبها للزبائن. المكان الوحيد الذي سترى فيه الدببة القطبية وثعالب القطب الشمالي وحيوانات الكوالا هو حدائق الحيوانات.

على الجانب الآخر سيزيد الاحترار من قوة أشياء قد تضر بنا؛ فالهندباء البرية المزهرة ستدمر مروجك وتتسبب في التهاب شديد بالجلد، وستصاحبها زيادة في حشرات القرادة التي تتسبب في داء لايم وستفسد تنقلك في الغابات، ستغزو قناديل البحر بلسعاتها المؤلمة المزيد من الشواطئ، سيزداد العفن وعشب الرجيد في ظل توافر ذلك الكم الإضافي من ثاني أكسيد الكربون، وبالمثل سيزيد مرض الربو وأنواع الحساسية التي تثيرها البيئة. وقد رأينا بالفعل الكوليرا وهي تداهم أمريكا الجنوبية، والملاريا وهي تهاجم موسكو، وفيروس غرب النيل وهو يودي بحياة أشخاص في كندا. سيتواصل ظهور المرض وانتشاره مع اتساع نطاق حركة البعوض والفئران والقراد والجرذان وغيرها من النواقل.

(٢-٣) حريق في السماء

يتميز وجه تلك الساعة بالبساطة والنمطية، ولست بحاجة للنظر إلا إلى ربعها فقط؛ لأنه خلال الستين عامًا الماضية ظل العقربان أسيري هذه المنطقة. إنها «ساعة يوم القيامة» التي ظهرت في مجلة باسم «نشرة علماء الذرَّة»، وهي الصورة الرمزية للعصر النووي.

حين استنتج أينشتاين منذ قرن مضى معادلته التي تضاهيه شهرة — الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء — أدرك أنها أطلقت العنان لاحتمالات مروعة، وأيضًا لفرص مذهلة، فالأسلحة النووية تطلق الطاقة بقوة تزيد بملايين المرات عن الطاقة الكيميائية المسببة لكل أنواع الانفجارات الأخرى. وفي خضم الحرب الباردة، وبعد تصاعد جهود الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة لتطوير الأسلحة بدءًا من القنبلة الذرية الانشطارية إلى القنبلة الهيدروجينة الاندماجية، تحرك عقرب ساعة يوم القيامة للأمام ليسجل الساعة الثانية عشرة إلا دقيقتين؛ أي قيد شعرة من المحرقة النووية. هدأت أجواء التوتر بتوقيع معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية عام ١٩٦٣، ومعاهدة الحد من الصواريخ الباليستية عام ١٩٧٢، لكن بحلول عام ١٩٨٤ توقف الزمن عند الثانية عشرة إلا ثلاث دقائق، فقد توقف الحوار بين القوتين العظميين وكدست الاثنتان عددًا مذهلًا من الأسلحة النووية بلغ ٧٠ ألف سلاح.

منذ نهاية الحرب الباردة كان تهديد الدمار النووي العالمي بعيدًا عن أذهان الناس. عادت عقارب ساعة يوم القيامة إلى الوراء لتسجل الثانية عشرة إلا ١٧ دقيقة عام ١٩٩١ مع سقوط سور برلين والتقليص الشديد لترسانات الأسلحة الاستراتيجية لكلا الخصمين الأيديولوجيين، لكن عقرب الساعة اقترب أكثر من منتصف الليل في العقد الماضي مجددًا، وفي عام ٢٠٠٧ تحرك عقرب الساعة حتى بات على بعد خمس دقائق من منتصف الليل الرمزي المجازي. لماذا؟

يرجع ذلك في جزء منه إلى تجسيد الساعة لتهديدات أخرى تحيق بالإنسانية؛ كالاحترار العالمي والأسلحة البيولوجية، لكن كانت هناك عوامل أخرى؛ أحدها ازدياد أعضاء النادي النووي إلى ١٠ دول، مع احتمالات الزيادة مستقبلًا إلى ١٥ أو ٢٠ دولة، ومعظمها بلدان غير ديمقراطية. ثمة تخوف بشأن وجود نفايات تصل إلى ١٥٠٠ طن متري من اليورانيوم عالي التخصيب، و٥٠٠ طن متري من البلوتونيوم الموجودة في مواقع مدنية غير محمية، لكن العامل الأهم كان الإدراك بأن محادثات خفض الأسلحة قد توقفت، وأن الترسانة المتواضعة للصين تواصل النمو، وأن الولايات المتحدة وروسيا لا تزالان تملكان ٢٦ ألف سلاح نووي، منها ألفَا سلاح موجه بالفعل نحو أهداف ويمكن تهيئتها للعمل وإطلاقها في دقائق.١٣

تحريك ساعة يوم القيامة لا يحدث بسهولة؛ إذ يتشاور مجلس إدارة مجلة «نشرة علماء الذرَّة» مع مجموعة استشارية تضم مجموعة من صناع السياسات البارزين و١٨ من الفائزين بجائزة نوبل. تحدث ستيفن هوكينج، أحد رعاة مجلس الإدارة، في بيان صحفي نشر عام ٢٠٠٧ قائلًا: «كمواطنين في هذا العالم، علينا واجب تنبيه العامة للمخاطر غير الضرورية التي نعيش معها كل يوم، والأخطار التي نتنبأ بوقوعها إن لم تتخذ الحكومات والمجتمعات الآن التدابير الهادفة للخلاص من الأسلحة النووية.» ومع أن المخزون الاحتياطي الأمريكي قلَّ عن أعلى مستوى تاريخي وصل إليه مقدار عشر مرات، فإنه لا يزال يعادل ١٤٠ ألف قنبلة هيروشيما، أو ١٫٨ تريليون كيلوجرام من مادة التي إن تي.

من الصعب قياس خسائر الأرواح التي ستنجم عن حرب نووية واسعة النطاق، لكنها ستكون عشرات أو ربما مئات الملايين من البشر. قد تستطيع الإنسانية البقاء على قيد الحياة بعد القنابل والإشعاع الذي تخلفه، لكن الفوضى وانعدام الاستقرار الناتجَين عنها قد يدفعان الحضارة إلى النهاية. وحتى لو رأينا أن وقوع حرب نووية واسعة أمر غير محتمل بقوة فقد يكون للعدد المتزايد من الصراعات الإقليمية المحدودة، والمحتمل وقوعها على نحو كبير، آثار مدمرة بسبب الظاهرة المسماة بالشتاء النووي.

يصف الشتاء النووي الآثار المناخية للحرب النووية، حين تتسبب الحرائق التي سببتها الأسلحة في ترسيب كميات هائلة من الدخان والسخام في الطبقة العلوية من الغلاف الجوي، حيث تسبب برودة شديدة طويلة الأمد، وتصيب البعيدين عن المناطق المستهدفة بالمجاعة. هذا المفهوم وجد طريقه إلى الوعي العام في بداية ثمانينيات القرن العشرين بفضل كارل ساجان وتصريحاته العامة فيما يتعلق ببحث شارك في وضعه عن هذا الموضوع. وفي مقابلة أجريت عام ٢٠٠٠، قال ميخائيل جورباتشوف: «لقد أظهرت النماذج التي طورها العلماء الروس والأمريكان أن اندلاع حرب نووية سيؤدي إلى شتاء نووي سيكون مدمرًا للحياة على كوكب الأرض إلى حدٍّ بعيد، ومعرفة هذا كانت حافزًا رائعًا لنا — نحن أهل الشرف والأخلاق — كي نتخذ إجراءً حيال ذلك الوضع.»١٤

كانت الأبحاث الأولى المتعلقة بالشتاء النووي مثيرة للجدل، وفي بعض الجوانب كانت التأثيرات المتوقعة مبالغًا فيها بسبب قصور المحاكاة الحاسوبية في تلك الأيام، أما الأبحاث التي جرت حديثًا فتعيد تمثيل التهديد بطريقة متزنة؛ فقد توصلت إحدى الدراسات التي قُدمت في الاتحاد الجيوفيزيائي الأمريكي عام ٢٠٠٦ إلى أن نزاعًا نوويًّا إقليميًّا صغيرًا يمكن أن يسفر عن عدد من القتلى يساوي ضحايا الحرب العالمية الثانية، وإطلاق قدر من السخام في الغلاف الجوي يكفي لخفض الحرارة بمناطق زراعة الحبوب في العالم بمقدار عدة درجات؛ بما يخلِّف أثرًا «مدمرًا» على الإنتاج الغذائي. وعام ٢٠٠٨ نشرت مجلة «بروسيدنجز أوف ذي ناشيونال أكاديمي أوف ساينسز» دراسةً أخرى قدمت سيناريو مماثلًا، وتوصلت إلى أثر إضافي تمثَّل في فقد نسبة ٥٠٪ من غطاء الأوزون في المناطق الشمالية.

افترضت كلتا الدراستين أن البلدين المتناحرين هما من بلدان الجنوب، ويملك الواحد منهما ٥٠ رأسًا نوويًّا. لم يُشِر إلى البلدين بالاسم، لكن تشير التقديرات إلى امتلاك كل من الهند وباكستان ما يقدَّر بنحو ٧٠ إلى ٨٠ رأسًا نوويًّا، وقد دخلت الدولتان في ثلاثة نزاعات كبرى على مدار الأعوام الستين الماضية. بالنظر إلى الصورة الأكبر يمكننا أن نأمل في أن يخرج الجنس البشري من مرحلة المراهقة المحفوفة بالمشكلات التي قد نندفع فيها إلى تدمير أنفسنا، وأن ندرك المخاطر المحيقة بنا، وتحديدًا الخطر النووي.

(٢-٤) إرهاب بيولوجي

يرجع الإرهاب البيولوجي إلى العصر الروماني، حين كانت الحيوانات الميتة أو المتعفنة تُلقى في الآبار لتسميم إمدادات المياه. وفي العصور الوسطى، وصل الأمر ببعض الجيوش إلى حد استخدام وباء الطاعون الدبلي لمحاصرة المدن، لكن كثيرًا ما كان المعتدون يفقدون السيطرة على أسلحتهم. وقد استُخدم غاز الخردل من الجانبين في الحرب العالمية الأولى، وحفز الغضب من استخدامه صدور بروتوكول جنيف لعام ١٩٢٥. وقع عدد كبير من البلدان وصل إلى ١٨٥ دولة اتفاقية تالية باسم «اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية»، لكن قد يتخوف البعض من البلدان التي لم توقع عليها مثل أنجولا ومصر والعراق وكوريا الشمالية والصومال وسوريا. استخدم الأسلحة البيولوجية عدد هائل من البلدان أثناء الحروب وضد مواطنيها أحيانًا. ويُخزن حوالي ٤٠ ألف طن متري من الأسلحة الكيميائية في مئات المواقع الآمنة، وشبه الآمنة، في العالم.

في نظر العامة، يرتبط الإرهاب البيولوجي بالحادثتين الوحيدتين اللتين مات فيهما مدنيون على أيدي مدنيين. ففي عام ١٩٩٥، أطلقت جماعة إرهابية يطلق عليها اسم أوم شنريكيو غاز السارين السام في محطة قطارات طوكيو للأنفاق؛ مما أدى إلى وفاة ١٢ شخصًا وإصابة أكثر من ٥ آلاف شخص. وفي عام ٢٠٠١، أُرسلت خطابات تحتوي على جراثيم الجمرة الخبيثة إلى أماكن مستهدفة في واشنطن العاصمة لتؤدي إلى مقتل ٥ أشخاص وإصابة ١٧ شخصًا آخر. هذه الخطابات المحتوية على الجمرة الخبيثة كانت مرسلة على ما يبدو من عالم متخصص في الأبحاث الحكومية في مجال الدفاع ضد الأسلحة البيولوجية يدعى بروس إيفنز، الذي انتحر على خلفية هذا الاتهام.

الأسلحة البيولوجية لها ثلاث فئات: غازات الأعصاب، كغاز السارين، وهي تركيبات صناعية تهاجم الجهاز العصبي عن طريق إعاقة آلية تكسير النواقل العصبية التي تسبب استرخاء العضلات. يمكن أن تسبب غازات الأعصاب تلفًا للجهاز العصبي والوفاة، لكنها ليست معدية. تشمل العناصر البيولوجية أشياء متنوعة كالبريونات والفطريات والطفيليات لكن النوعين الشائعين هما الفيروسات؛ كالمسببة للحمى الصفراء وحمى الضنك وحمى إيبولا والجدري، والبكتيريا؛ كالمسببة لمرض الجمرة الخبيثة والطاعون والكوليرا والتسمم الغذائي. ويُحكَم على فعالية السلاح البيولوجي من قوة فتكه وطريقة انتقاله، وتعد العناصر التي يمكن أن تنتشر عن طريق الملامسة أو عن طريق الهواء الأكثر إثارة للقلق؛ خصوصًا إن كان لها فترة كمون تمتد لأيام، وفي هذه الحالة سينتقل المرض لآخرين قبل أن يمكن التعرف عليه.

وسائل الدفاع التي نمتلكها تجاه هذه الكائنات المسببة للمرض قليلة. فمسببات الحمى النزفية الفيروسية كالإيبولا وماربورج مهلكة بنسبة تتراوح من ٣٠ إلى ٨٠٪، وما من علاج فعال لها. هناك لقاحات معدة من أجل الجمرة الخبيثة والتسمم الغذائي والطاعون والعوامل البكتيرية الأخرى، لكنها ليست متاحة للعامة، ولا يمكن إرسالها بكميات كافية للمكان الذي تمت مهاجمته. إن شبح الإرهاب البيولوجي يرتكز على العوامل المعدلة وراثيًّا، التي لا تتوافر لقاحات لعلاجها.

لإدراك حجم المشكلة، دعنا نلقِ نظرة سريعة على برنامج الأسلحة البيولوجية السوفييتي. استخدم السوفييت عاملًا بكتيريًّا يسمى التولارمية أثناء معركة ستالينجراد التي شنوها عام ١٩٤٤ ضد القوات الألمانية؛ مما أسفر عن إصابة أكثر من ١٠٠ ألف شخص. واصل السوفييت تطوير الأسلحة البيولوجية وإنتاجها على نطاق واسع حتى بعد توقيع اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية عام ١٩٧٢. أيضًا تسربت جراثيم الجمرة الخبيثة بالخطأ قرب مدينة سفيردلوفسك عام ١٩٧٩؛ فأسفرت عن مقتل ١٠٠ شخص على الأقل، لكن لا يعلم أحد الحصيلة النهائية الدقيقة للموتى؛ لأن المخابرات السوفييتية دمرت جميع الأدلة والسجلات. وبحلول ثمانينيات القرن العشرين أنشأ السوفييت وكالة «بيوبارات» التي ضمت شبكة واسعة من المختبرات السرية بلغ عددها ٢٠ مختبرًا، ركز كل واحد منها على عامل قتل مختلف؛ يعمل بها ٣٠ ألف موظف من بينهم آلاف العلماء الحاصلين على الدكتوراه. تضاءل الاهتمام مع سقوط الاتحاد السوفييتي، لكنه لا يزال جوهريًّا. والحكومات الغربية ليس لديها أي فكرة عما يدور في تلك المختبرات التي لا تزال سرية.

ما لدينا من معلومات قليلة مقلق بما يكفي، فطيلة ٢٠ عامًا كان سيرجي بوبوف واحدًا من كبار العلماء في إحدى المنشآت البحثية في سيبيريا، التي عملت على الكائنات الممرضة المعدلة جينيًّا. وفي مختبر بروجيكت بونفاير ساعد بوبوف في تخليق بكتيريا طاعونية مقاومِة لعدد من المضادات الحيوية المختلفة بلغ عددها ١٠ مضادات، وعدَّل من خصائص الجمرة الخبيثة لكي تقاوم «جميع» اللقاحات. وفي برنامج هانتر المفزع للغاية جرى جمع الجينومات الكاملة للفيروسات من أجل إنتاج فيروسات مهجنة غير قابلة للعلاج. وحين أُجريت مقابلة مع سيرجي بوبوف في حلقة خاصة من البرنامج التليفزيوني «نوفا» عام ٢٠٠١ قال: «تخيل عاملًا بكتيريًّا يكمن فيروس داخل خلاياه. يبقى الفيروس ساكنًا حتى تُعالج الخلايا البكتيرية. ومن ثم، إن جرى التعرف على المرض البكتيري وعولج بأحد المضادات الحيوية يتحرر الفيروس. عندئذ، وبعد علاج المرض البكتيري الأوَّلي تمامًا، قد يحدث تفشي لمرض فيروسي. قد يكون التهاب المخ والنخاع أو الجدري أو الإيبولا. كانت تلك الفيروسات مدرجة في قائمة العوامل المحتملة.»

ثمة مثال آخر مفزع على نحو مماثل؛ أدخل بوبوف والباحثون العاملون معه الحمض النووي لأحد الثدييات في إحدى الجراثيم المسئولة عن شكل من الالتهاب الرئوي المسبب لعدد منخفض من الوفيات. أنتج الحمض النووي أجزاءً من بروتين يُعرف باسم ميالين، وهو الطبقة الدبقية العازلة كهربائيًّا التي تعمل كغلاف لخلايانا العصبية. في حيوانات الاختبار ظهر مرض الالتهاب الرئوي ثم زال، لكن أجزاء مادة الميالين، التي حملتها البكتيريا المعاد توحيدها، حثت الجهاز المناعي للحيوانات على قراءة مادة الميالين الطبيعية الموجودة بها على أنها كائن ممرض يهاجمه. النتيجة كانت تلف المخ والشلل والوفاة بنسبة ١٠٠٪. أيضًا صنع بوبوف سلاحًا بيولوجيًّا حفز مرض تصلب الأنسجة المتعدد السريع.١٥ ويدَّعي بوبوف أن هذا العامل لم يستخدم كسلاح بكميات كبيرة، لكن المعرفة المطلوبة لتحقيق ذلك متاحة بسهولة.

حتى إن كنا لا نثق في نوايا الروس، تبدو احتمالية أن تكون الإنسانية في خطر مستبعدة، لكن التطورات التي شهدتها الهندسة الوراثية جذابة؛ فما أُنجز في الماضي على يد الروس بجهد كبير وتكلفة هائلة يمكن الآن تحقيقه بواسطة آلة تسلسل جيني تُشترى مستعملة من موقع إيباي مع الاستعانة بمادة بيولوجية غير خاضعة لأي ضوابط تصل في طرد مرسل عبر شركة فيديكس.

في عام ٢٠٠٨ دقت إحدى لجان الكونجرس المشتركة والمعنية بالوقاية من انتشار أسلحة الدمار الشامل والإرهاب ناقوس الخطر مشيرة إلى أن «حد سلامتنا يتضاءل، لا يزداد، وأن التهديد البيولوجي أكبر من التهديد النووي، وأن حيازة كائنات ممرضة مميتة واستخدامها كأسلحة بيولوجية ونشرها في الهواء ينطوي على عقبات فنية أقل من سرقة أو إنتاج يورانيوم أو بلوتونيوم خام ملائم للأسلحة وتجميعه في قنبلة نووية مرتجلة».١٦ لم تعد قدرة إحدى الجماعات الخبيثة على بناء كائن ممرض مثالي وإطلاق العنان له في العالم بالسيناريو الخيالي المفزع. ولحسن الحظ يمكننا استخدام أدوات الهندسة الوراثية نفسها لحماية أنفسنا.

حتى لو وضعنا نهاية للتهديدات التي من صنع الإنسان، فالتطور لا يقف ساكنًا، وقد نتعثر في طريقنا بسبب شيء لا نوليه اهتمامنا. في افتتاحية هذا الفصل قابلنا بروتينًا صغيرًا مشوهًا يظهر بصورة طبيعية ولديه القدرة على إحداث التآكل في نسيج المخ وإقحام الضحية في حالة متدهورة من الارتجاف والجنون. يحقق هذا البروتين ذلك عن طريق حث البروتينات الطبيعية في الكائن المضيف على اتخاذ وضع الخلل الوظيفي. ويجب أن نكون شاكرين لانحصار احتمالات الإصابة بهذا المرض في شخص واحد من بين كل مليون شخص؛ لأن استراتيجية البريون فعالة ونمط انتشارها مهلك، فنحن نقاتل شيئًا لا يتصف حتى بأنه حي طبقًا لتعريف علم الأحياء؛ فجزيئات البريون لن يكون لها وجود لو حدث أن قتلت كل مضيفيها، لكنها ببساطة لا تأبه بهذا.

لقد أوجد الإرهاب البيولوجي والمحرقة النووية أنماطًا فرعية من فكر النهاية المشئومة. وإن كنت تبحث عن تعويض يخفف عليك وطأة ما سبق، فتدبر جميع سيناريوهات «نهاية العالم» التي تملأ وسائل الإعلام الجماهيرية طوال الوقت. أحدث هذه السيناريوهات يلمح إلى أن الأرض ستشوى بفعل الانفجارات الشمسية، أو سيصطدم بها كوكب يدعى نيبيرو عام ٢٠١٢. ما من مصداقية علمية لهذا التهديد، القائم على القراءة الخاطئة لأساطير شعب المايا. وبدءًا من الخوف من عودة مذنب هالي عام ١٩١٠ وحتى تحريف كلمات نوستراداموس في مشكلة عام ٢٠٠٠، اشتركت هذه الادعاءات في شيء واحد: أنها خاطئة تمامًا. لذا، أقدِّم هذا العرض علنًا لأي شخص أو مجموعة تزعم معرفتها بنهاية العالم: إنني أراهن بكل ما أملك مقابل كل ما يملك على أنه مخطئ. إنه رهان مثالي؛ فإن لم تأتِ نهاية العالم سأكون أكثر ثراءً، وإن أتت فلن يهم من الفائز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤