خلاصة تاريخية عن صاحب الدولة الأمير حسين كامل باشا

بقلم  أحمد زكي باشا

هو ثاني أنجال أبي الفدا وأبي الأشبال الخديو إسماعيل.

كان مولده بالقاهرة في (١٩ صفر سنة ١٢٧٠ للهجرة/٢٠ نوفمبر سنة ١٨٥٣)، فلما بلغ السابعة من عمره شرع في تلقي العلوم واللغات بالمدارس المصرية التي أنشأها بالقاهرة جده الأعلى محمد علي الكبير، ثم قصد الأمير مدينة باريس لإتمام دروسه بها، وفي أثناء وجوده بهذه المدينة كان نازلًا في قصر الإمبراطور نابليون الثالث حيث كان رفيقًا في اللعب والدرس لولي عهد الإمبراطورية الفرنسية، وحينما عاد إلى القطر المصري عينه والده الجليل مفتشًا عامًّا لأقاليم الوجه البحري والوجه القبلي، وكان مركزه الرسمي في مدينة طنطا. فتمكن الأمير وهو قائم بأعباء هذه الوظيفة من درس أخلاق الناس والتمرن على الأعمال، وحينئذ رأى أبوه الأفخم في ٢٢ جمادي الثانية سنة ١٢٨٩ / ٢٦ أغسطس ١٨٧٢ أن مصلحة البلاد تقضي بتقليده منصب نظارة المعارف العمومية والأوقاف.١ ومنصب نظارة الأشغال العمومية.

ومما ينبغي التنبيه إليه في هذا المقام أن النظار في ذلك العهد كانوا مرتبطين بالمعية السنية مباشرة، بل يشخص ولي الأمر دون أن يكون بينهم أي تضامن ما، وأن الخديو كان قائمًا بشؤون الملك والحكم بنفسه في آن واحد. نعم، إنه كان يستعين في بعض الظروف بالمجلس المخصوص أو الخصوصي، فيحضره النظار وبعض كبار الموظفين القائمين بإدارة المصالح الأميرية الكبرى ونفر من ذوي الحيثيات الذين كانوا يحضرون الجلسات بصفة وزراء بلا مساند. أما مجلس النظار بشكله الحالي فلم يتكون إلا منذ سنة ١٨٧٨ ميلادية.

وقد امتاز عهد دولة الأمير حسين كامل باشا في النظارات الثلاث السابق ذكرها بحركة نافعة ونشاط مفيد، ومما يدل على معرفته بأقدار الرجال أنه كلما سنحت الفرصة يذكر بالخير رجلين من أفاضل المصريين كان قد اختارهما لمعاونته بصفة مستشارين له: وهما شيخ المعارف المصرية المرحوم علي مبارك باشا في نظارة المعارف العمومية، وبقية المعمارين الوطنيين المرحوم حسين باشا المعمار في نظارة الأوقاف.

نعم إن دولته لم يمض في نظارة المعارف إلا مدة قصيرة جدًّا (١١ شهرًا و٢٠ يومًا)، ومع ذلك فقد كانت له اليد الطولى في توسيع نطاق التعليم العام في طول البلاد وعرضها. وامتاز عصره بما أوجده بنفسه من وسائل الترغيب والتشويق، فهو الذي أسس الجوائز المدرسية لمكافأة التلاميذ الذين يحرزون قصب السبق على أقرانهم، وقد أدت هذه الوسائل إلى رفع مستوى التعليم إلى درجة محسوسة. ومما يؤسف عليه أن هذه الجوائز قد ألغيت منذ سنة ١٨٨٧ في المدارس الأميرية.

فلما تخلى دولة الأمير في ٢١ جمادى الثانية سنة ١٢٩٠ / ١٤ أغسطس سنة ١٨٧٣ عن نظارتي المعارف والأوقاف، تقلد أمرهما صديقه المرحوم رياض باشا الكبير، وبقي دولة الأمير في نظارة الأشغال العمومية، وأضيفت إليه نظارة الداخلية أيضًا، ولكنه لم يمكث فيها سوى ثلاثة شهور.

وقد أدى دولته أثناء تقلده نظارة الأشغال العمومية أجل الخدم للبلاد وأبدى في ذلك همة مشكورة لا تزال آثارها باقية إلى الآن، وكانت هذه النظارة في ذياك العهد تشتمل على المصالح التابعة لها في أيامنا هذه وعلى مصلحة الليمانات والفنارات أيضًا.

فمن مآثره أثناء وجوده بهذه النظارة إنشاؤه لترعة الإسماعيلية التي تدفقت بالمياه بل بالنضار، ونشرت البركة واليسار على ضفتيها في اليمين وفي اليسار، وبدلت البراري والقفار بجنات يانعة الثمار، وأحيت مدينتين من العدم وهما مدينة الإسماعيلية ومدينة السويس فأصبحتا بفضله ترفلان في حلل الثروة والعمار.

ومن مآثره المأثورة، وأياديه المشكورة، أنه كان في أثناء الفيضان يواصل الليل بالنهار لملافاة كل خطر يحدث من طغيان النيل، بل إنه أقام في قصره مكتبًا خاصًّا للتلغراف ليكون على الدوام محيطًا بكل ما يتجدد من حوادث الفيضان في الليل وفي النهار، ولكي يصدر ما تدعو إليه الحالة من الأوامر والتعليمات إلى رجال الإدارة وإلى القائمين بشؤون الري من المهندسين والعمال.

وهذه مدينة القاهرة له عليها الفضل الأكبر في وقايتها من غوائل الفيضان، فقد طوقها بالجسور التي تحميها إلى الآن من مياه النيل، وقد أمر بإنشائها في تلك السنة المهولة (سنة ١٢٩١ للهجرة/سنة ١٨٧٤م) حيث بلغ فيها مقياس النيل بجزيرة الروضة إلى ٢٦ ذراعًا ونصف ذراع. وقد غمرت المياه أراضي مصر القديمة وأراضي القصر العيني والقصر العالي، ولولا تيقظ دولة الأمير وسهره المستديم لكانت العاصمة بأكملها وجزء عظيم مما يليها من الأراضي الزراعية عبارة عن بطيحة فسيحة الأرجاء مترامية الأطراف.

ولا أذكر سوى كلمتين عن وجود الأمير الجليل على رأس نظارة الحربية التي كانت معروفة في ذلك الحين بنظارة الجهادية، فقد تقلد شؤون هذه النظارة في أواخر ذلك العام مضافة إلى منصبه السامي في نظارة الأشغال.

في ذلك العصر كان السودان المصري وسلطنة دارفور تابعين لنظارة الجهادية المصرية من حيث الإدارة الملكية والعسكرية، وقد كتب الله لشبل أبي الفدا إسماعيل الجليل شرفًا ليس بعده من شرف وسعادة لا تدانيها سعادة، فهو الذي تم في عهده توسيع نطاق الحدود المصرية من الجهة الجنوبية توسيعًا لم يحلم به الفراعنة ولا من أتى بعدهم من الملوك والسلاطين الذين تعاقبوا على وادي النيل، فقد افتتح القائد المصري رؤوف باشا بلاد هرر، بل توغلت جنود مصر حتى وصلت بفتوحاتها إلى رأس الأسير المعروف في كتب الجغرافية الإفرنجية باسم رأس غاردفوي على المحيط الهندي، واستمرت في تقدمها جنوبًا حتى رفعت أعلامنا الوطنية على خط الاستواء، ولم تصل مصر في عصر من الاعصار إلى مثل هذا التوسع في الفتح والاستعمار.

على أن هذه الهمة العالية لم تقف بالأمير الجليل عند هذا الحد البعيد، بل عادت إلى الشمال وتخطت البحار فظهرت آثار الأمير في مساعدة الدولة العثمانية مرتين: أولًا بإرسال نجدة من جنود مصر إلى بلاد البوسنه والهرسك عند حدوث الفتنة فيها سنة ١٨٧٧، وثانيًا بإرسال التجريدة المؤلفة من ٢٥٠٠٠ جندي مصري تحت رئاسة أخيه القائد العام المغفور له الأمير حسن باشا لمساعدة الجيوش التركية في محاربة الروسيا في السنة المذكورة.

هذا وإن شغف الأمير حسين باشا بتعميم التعليم بين جميع طبقات الأمة المصرية قد حدا به على تأسيس مدارس الأطفال العسكرية بالقاهرة والإسكندرية — وقد تلقى كاتب هذه السطور مبادئ العلوم في المعهد الذي كان موجودًا بجهة رأس التين بمدينة الإسكندرية.

وقد أنشأت نظارة الجهادية بناء على أمره تلك السكة الحديدية التي تربط حلوان الحمامات بالعاصمة، وكانت محطتها الأولى في ميدان محمد علي تحت القلعة. وكان افتتاح هذا الخط البالغ طوله ٣٢ كيلو مترًا في (شهر محرم سنة ١٢٩٤/شهر يناير سنة ١٨٧٧) بحضور ناظر الجهادية صاحب الدولة الأمير حسين كامل باشا.

وفي ٢٦ ربيع الأول سنة ١٢٩٢ / ٢ مايو سنة ١٨٧٥ ألقيت إلى دولة الأمير مقاليد نظارة البحرية علاوة على منصبه السامي في كل من نظارتي الجهادية والأشغال العمومية.

فلما كان ٢٤ شوال سنة ١٢٩٣ / ١٠ نوفمبر ١٨٧٦ تولى دولته نظارة المالية بدلًا من إسماعيل صديق باشا الذي غضب عليه أمير البلاد، وقد وافته منيته بعد أيام قليلة، وتخلى الأمير حسين باشا عن نظارة الأشغال العمومية إلى أخيه الأمير إبراهيم باشا، وعن نظارة الجهادية إلى أخيه الأمير حسن باشا. ولكن الأمير حسن باشا لم يمكث في منصبه سوى مدة قليلة؛ فإنه ذهب بعد ذلك على رأس الحملة التي أعدها خديو مصر لإمداد الجيوش التركية في الحرب الروسية. فلذلك عاد الأمير حسين كامل باشا وتقلد نظارة الجهادية في سنة ١٢٩٤/سنة ١٨٧٧ مع بقائه ناظرًا للمالية.

وفي شهر أغسطس من السنة التالية كان تشكيل مجلس النظار على نظامه الحالي، ومن ذلك الوقت لم يدخل أحد من الأمراء في عداد أعضائه.

وفي شهر ذي القعدة سنة ١٢٩٢/ديسمبر سنة ١٨٧٥ أتم الله نعمته على الأمير فرزق ببكر أنجاله وهو دولة الأمير كمال الدين الذي ذهب فيما بعد إلى مدينة ويانة لتلقي المعارف بمدرسة التريزيانوم الشهيرة.

وفي ٧ ربيع الأول سنة ١٣٠٧ / ٣١ أكتوبر سنة ١٨٨٩ وصل إلى الإسماعيلية لزيارة القطر المصري البرنس «دوغال ولي عهد الدولة البريطانية»، وهو الذي جلس فيما بعد على عرشها باسم «إدوارد السابع»، فعهد الخديو توفيق إلى أخيه الأمير حسين باشا بمرافقة الضيف الجليل يصفه مهمندار عال، فقام دولته بهذه المهمة الدقيقة خير قيام. وفي العام التالي حضر إلى مصر ولي عهد الروسيا «وهو الغراندوق نقولا الذي هو الآن القيصر نقولا الثاني إمبراطور الروسيا»، فلم ير الخديو توفيق باشا غير أخيه الأمير حسين ليكون خير رفيق لهذا الزائر الكريم.

هذا وأما اهتمام دولة الأمير حسين بالشؤون الزراعية فحدث عن البحر ولا حرج، كيف لا وقد كان سعيه المتواصل لخير المزارعين سببًا في إطلاق أحب الألقاب إليه، وأعني به ما هو معروف به عند الخاص والعام من أنه «أبو الفلاح»، وبفضل اهتمامه قد استطاعت الجمعية الزراعية الخديوية أن تقوم بالخدم الجليلة التي أدتها للبلاد، ومن يوم تأسيسها في سنة ١٨٩٨ إلى هذه الساعة لا يزال الأمير متوليًا زمامها، وقائمًا بشؤونها بما هو معهود في شخصه المحبوب من الهمة والاقتدار.

ولدولة الأمير الفضل الأكبر بل الوحيد تقريبًا في إنشاء المدرسة الصناعية بمدينة دمنهور، ذلك أن دولته بصفته من أكبر أصحاب الأطيان في مديرية البحيرة رأى من الضروري أن يعمل على إفادة هذه المديرية التي تنتج من الصناعة، فألف في هذه المديرية لجنة تحت رئاسته لجمع الاكتتابات العمومية من أهاليها دون سواهم من أبناء الأقاليم الأخرى، وجرى العمل على هذه القاعدة بدون إخلال سوى الشرف الذي ناله كاتب هذه السطور، فإنه حظي بدفع معونة جزئية لهذا العمل النافع. ولعمري ما قيمة هذه المعونة الطفيفة التي لا تذكر في جانب ما جاد به دولته على ذلك المعهد العامر الذي ينطق لسان الحال بأفصح بيان أنه نفحة من نفحاته، وأنه من ضمن آثار حسناته، ومأثور مبراته.

ولقد تولى دولته من يناير سنة ١٩٠٩ إلى مارس سنة ١٩١٠ رئاسة الجمعية العمومية ومجلس شورى القوانين، فكان لهاتين الهيئتين في عهده من الرونق والبهاء والجلالة والكرامة ما لم يكن لهما به عهد من ذي قبل.

وخاتمة المقال وتاج هذه الفعال أن الأمير الخطير قد وقف حياته على كل أنواع البر وجميع صنوف الخير، فقد تنازل — حفظه الله — وتقبل رئاسة الجمعية الخيرية الإسلامية منذ ٢٨ محرم سنة ١٣٢٤ / ٢٣ مارس سنة ١٩٠٦ إلى هذه الساعة، فلم يقتصر على إمدادها بنفوذه العالي وبسط جناح عنايته عليها بل صرف في ترقية شؤونها كثيرًا من ماله ومن وقته الثمين، فكان لها من غرر أياديه ما جعلها في الحالة التي وصلت إليها مما تقر له العيون وتبتهج به النفوس.

وحينما تضعضعت أحوال جمعية الإسعاف توجهت إليه الأنظار، فتداركها بهمته الفائقة من الأخطار التي كانت محدقة بها ملبيًا داعي الشفقة والحنان، فما لبثت الجمعية إلا قليلًا حتى عاودتها الحياة، ورجعت إليها نضرة الشباب، فانتعشت بفضله بعد الخمول، واستأنفت خدمتها لجميع البؤساء الذين يتحدثون بكرة وأصيلًا بآثار هذه المكارم ويرتلون الدعوات الصالحات ترتيلًا ببقاء رب هذه المراحم.

تحريرًا بالقاهرة في ٢٠ محرم سنة ١٣٣٣ / ٨ ديسمبر سنة ١٩١٤.

هوامش

(١) يحسن بنا أن نذكر هنا أنه من يوم أن قام محمد علي الكبير بتنظيم الإدارة المصرية على الطريقة الفرنسية جرت العادة على الدوام بإسناد نظارتي المعارف العمومية والأوقاف إلى وزير واحد يتولى شؤونها معًا. وقد كان أول عهدها بالانفصال عن بعضها بعضًا في ٧ جمادي الثانية سنة ١٢٩٣ / ٢٩ يونيو سنة ١٨٧٦ حينما عين لكل منهما ناظر خاص. على أنه لم يمض إلا زمن قليل حتى عادت الحال إلى ما كانت عليه وبقيت كذلك لحين إلغاء نظارة الأوقاف وجعلها ديوانًا مستقلًا عن الحكومة وذلك بمقتضى إرادة سنية صدرت من الخديو توفيق في ٦ ربيع الأول سنة ١٣٠١ / ٤ يناير سنة ١٨٨٣ وقد ظل الحال على هذا المنوال إلى أن جاء الأمر العالي الصادر في ٢١ ذي الحجة سنة ١٣٣١ / ٢٠ نوفمبر سنة ١٩١٣ فقضى بتحويل ديوان الأوقاف إلى نظارة يديرها ناظر يدخل في هيئة مجلس النظار وبنفس المسئولية الملقاة على عاتق سائر النظار في نظاراتهم ويبقى لهذه النظارة الجديدة استقلالها الذاتي وتكون ميزانيتها قائمة بنفسها على حدتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤