الفصل الثَالث

(١) تَفَرُّقُ الأُسْرَةِ

فقالَ «قُنْزُعَةُ»: «أَلَيْسَ لَكِ — يابْنَةَ عَمَّ — أَخٌ، أوْ أُخْتٌ، أَوْ أُسْرَةٌ تُعاوِنكِ (تُساعِدُكِ)، في هذا الْوَقْتِ الْعَصِيبِ (الشَّدِيدِ)؟ فَقَدْ طالما سَمِعْتُ أَنَّ الْفَأْرَ مُتَعاوِنَةٌ، يُسَاعِدُ بَعْضُها بعضًا، ولا يَخْذُل قَرِيبٌ قَرِيبَه!»

فقالتْ «أُمُّ رَاشِدٍ»: «لَيْسَ في هذا شَكٌّ، يابْنَ عَمَّ، وَلكِنَّنِي لا أعْرِفُ أَيْنَ تَسْكُنُ أُسْرَتِي وَأَهْلِي؟ وَمَبْلَغُ عِلْمي أَنَّهم أسْرَعُوا إِلى بُيُوتِ النَّاسِ ليَقْطُنوها؛ وَهَجَرُوا الْغَابَةَ في آخِرِ فَصْلِ الْخَرِيفِ، عِنْدَما اصْفارَّتْ أوْراقُ الأشْجارِ.

(٢) في بُيوتِ النَّاسِ

وَقَدْ اعْتزَمُوا أن يَقْضُوا فَصْلَ الشِّتاء في تِلْكَ الْمَساكِن الآهِلَةِ (الْمَسْكُوْنَةِ) بالنَّاسِ، كما هِيَ عادَتُنا، مَعْشَرَ الْفأْرِ. وَلَقَدْ حاوَلَ أبي وأُمِّي أنْ يَصْطَحِبانِي في تلْكَ الْهجْرَةِ، وَلكِنَّ خالَتي زَهَّدَتْني في الطَّيِّبات واللَّذائذِ، الَّتي تأكُلُها الفَأرُ في تِلْكَ الْبُيُوت؛ لِما قَصَّتْهُ عَلَيَّ مِنْ مكايِدِ النَّاسِ، وَحِيَلِهِمُ الْعَجِيبَةِ الَّتي يَتَحَوَّلُونَها لِاصْطِيادِنا، مَعْشَرَ الْفَأر.»

فَصاحَ «اللامِعُ»: «مَنْ هذهِ المَخْلُوقاتُ الَّتي تعْنِينَ (تَقْصُدِينَ)؟»

فقالَتْ «أُمُّ رَاشِدٍ»: «أَلا تَعْرِفُ النَّاسَ، يا عَزيزِيَ «اللامِعَ»؟

إِنَّهُمْ فِئَةٌ منَ العَمالِقةِ (الطِّوالِ) يَسِيرُونَ عَلَى رِجْلَيْن كما تَمْشِي الطُّيُورُ، لا عَلَى أَرْبَعٍ كما نَمْشِي، مَعْشَرَ الْفَأرِ. وَكلُّ واحِدٍ مِنهُمْ يَرْتَدِي (يَلْبَسُ) ثَوْبًا أَشْبَهَ شَيْءٍ بِغِرارَةٍ (زَكِيبَةٍ)، أوْ كِيسٍ.»

فَضَحكَ «اللَّامِعُ» وَإِخْوَتُهُ منْ هذا التَّشْبِيهِ الظَّرِيفِ. وقال «اللَّامِعُ»: «لَعَلَّني أَذْكرُ أَنَّني رَأيْتُ واحِدًا تَنْطَبِقُ عَلِيْهِ هذهِ الصِّفاتُ، وَقَدْ أَدْهَشَنِي مَنْظَرُهُ. فَظَلِلْتُ أَرْقُبُهُ — مِنْ خِلالِ الأغْصانِ — حَتَّى اسْتَخْفَى عَنْ ناظِرَيَّ (غابَ عَنْ عَيْنَيَّ)، فَقَضَيْتُ الْعَجَبَ مِمَّا رَأيتُ.»

(٣) «أبو غَزْوانَ»

فقالَتْ «أُمُّ رَاشِدٍ»: «لقدْ سَمِعْتُ أَنَّ في بُيُوتِ هؤلاءِ الأَناسِيِّ (النَّاسِ) حيوانًا شِرِّيرًا، اسْمُهُ القِطُّ، وكُنْيَتُهُ «أبو غَزْوانَ». وهُوَ يَأكلُ الفَأرَ فَلا تَنْجُو مِن مِخْلَبَيْهِ فَأرَةٌ يَراها، بالِغَةً ما بَلَغتْ مِنَ المَهارَةِ والقُوَّة.

وَلَقَدْ حَدَّثُونِي عَنْهُ — فيما حَدَّثُونِي — أَنَّ لَهُ شَارِبَيْنِ طَوِيلَيْنِ، يُذْعِرانِ (يُخَوِّفانِ) مَنْ يَراهُما، ويَمْلآنِ قَلْبَهُ رَهْبَةً وهَلَعًا (خَوْفًا وفَزَعًا).

ولَقَدْ رَفَضْتُ أن أصْحَبَ أبَويَّ في هِجْرَتِهما، خَشْيَةَ هذَا الحَيَوان الضَّارِي (الفتَّاك) الْجَريءِ الباطِشِ الْمُفْتَرسِ.»

(٤) الحَياةُ الحُرَّةُ

فقال «قُنْزُعَةُ»: «لقَدْ عَرَفْتُ مَنْزِعَكِ (طَبِيعَةَ نَفْسكِ) يا «أُمَّ رَاشِدٍ»؛ فَأَنْتَ تُؤْثِرِينَ (تَخْتارِينَ) — مِثْلَنا — سُكْنَى الغابات، حَيْثُ الحَياةُ حُرَّةٌ والْهَواءُ طَلْقٌ. وَلَقَدْ طالَما قالتْ لي جَدَّتِي: إِنَّ الكَفافَ (العَيْشَ عَلَى قَدْرِ الحاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ) مَعَ الحُرِّيَّةِ خَيْرٌ مِنَ الرَّغَدِ (السَّعَةِ والتَّنعُّمِ) مَعَ الْعُبُودِيَّةِ!

وَخِيْرٌ لَنا أن نَعِيشَ في بُيُوتِنا فُقَرَاءَ، فذلِكَ أشْرَفُ من أنْ نَعِيِشَ في بُيُوتِ غَيْرنا أغْنِياءَ. فَلْيَقْتَرِبْ بَعْضُكُمْ منْ بَعْضٍ أَيُّها الأَبْناء البَرَرَةُ (الطَّيِّبُونَ) لِتُخْلُوا مكانًا لِصَدِيقَتِنَا «أُمِّ رَاشِدٍ»!»

(٥) أُسْرة الْقَرَّاضِين

فقالَتْ «أُمُّ رَاشِدٍ»: «طِبتَ نَفْسًا، وشَرُفْتَ أصْلًا، يابْنَ عَمَّ. فَخَبِّرْنِي أيُّها الْكَرِيمُ: كَيْفَ أشْكُرُ نِعْمَتَك عَلَيَّ؟»

فقال «أبُو السَّناجيبِ»: «شَدَّ ما تُضْحِكِينَني يابْنَةَ عَمَّ! لِماذا تَشكُرِينَ؟

أُقْسِمُ — بِقُصَّتي — إنَّني لا أُراني (أظُنُّني) فَعَلْتُ إلَّا بَعْضِ ما يَجِبُ عَلَيَّ نَحْوَكِ! لَقَدْ نَزَلَتْ بكِ الْأحْداثُ (مَصائبُ الدَّهْرِ)، ولَيْسَ من الْمُروءَةِ أنْ أتخلَّى عَنْكِ في مِحْنَتِكِ. أنَسِيتِ — يا عزيزتي — أنَّنا منْ أُسْرَةٍ واحِدَةٍ؟!»

فَأجابَتْه «أُمُّ رَاشِدٍ»: «كَيْفَ أَنْسَى ذلِكَ، يا «أبا السَّناجيبِ»؟

أَلَسْنا منْ أَبْناءِ تِلْكَ الْأُسْرَةِ الْعَظِيْمَةِ الْمَاجِدَة: أُسْرَةِ الْقَرَّاضينَ (الْقَطَّاعِينَ)، التي تَقْطُنُ جَمِيعَ أرْجاءِ الْمَعْمُورَةِ (تَسْكُنُ كُلَّ أَنْحاءِ الدُّنْيا)، وَتَحْتَلُّ الْأرْضَ من أَقْصاها إلَى أَقْصَاهَا؟»

(٦) بَناتُ العَمِّ

فَوَقَفَ «اللَّامعُ «أمامَ أنْفِ «أُمِّ رَاشِدٍ»، وظَلَّ يُنْعِمُ النظَرَ فِيها مَلِيًّا (وَقتًا طَويلًا)، ثُمَّ قالَ لِـ «قُنْزُعَةُ» مَدْهُوشًا: «كَيْفَ تُقِرُّ «أُمَّ رَاشِدٍ» عَلَى أنَّنا منْ أُسْرَةٍ واحِدَةٍ؟ لَقَدْ كُنْتُ أَحْسَبُكَ تُداعِبُها (ظنَنْتُكَ تُمازِحُها)، حينَ تَدْعُوها بِابْنَةِ عَمِّك، وَلكنِّي أَلْمحُ (أرَى) الْجِدَّ في حَدِيثِكُما، ولا أرَى — فيما تقُولانِ — شَيْئًا من الدُّعابة (الفُكاهَةِ والْهَزْلِ). ومَا أدْرِي: كيْفَ تَكُونُ هذِهِ المَخْلُوقَةُ الصَّغِيرةُ الْجِرْمِ (الْحَجْم)، الضَّئِيلَةُ الجِسْمِ، منْ بَنَاتِ عَمِّنَا؟ هذا ما لا أفْهَمُهُ!»

(٧) أسْنانُ الدَّوابِّ

فَصاحَ «قُنْزُعَةُ»: «ألا تَكُفُّ عَنْ هَذَرِك (عَبَثِكَ ومُزَاحِكَ) أيُّها الغَبِيُّ؟ ما بالُكَ تُغْلِظُ الْقَوْلَ لِهذِهِ الضَّيْفِ الْعَزِيزةِ؟ ألا تَدْرِي: بأيِّ مِيزَةٍ تَتَعَرّفُ فَصائلَ الْحَيَوان (أنْوَاعَهُ)؟ أَلَمْ أَشْرَحْ لَكُمْ هذا من قَبْلُ؟»

فَقَالَ «السَّاطعُ»: «صَدَقْتَ — يا أبتِي — فَقَدْ حَدَّثْتَنا: أَنَّ الدَّوَابَّ تُعْرَفُ بِأسْنانِها.»

فَقالَ «قُنْزُعَةُ»: «مَرْحَى، مَرْحَى (أَحْسَنْتَ … أَحْسَنْتَ) أيُّها الذَّكِيُّ الصَّغِيرُ! تَعالَ إلَى جانِبِي، وافْتحْ فاكَ، عَلى مَدَى اتساعِهِ.

وتَعالَ، يا «لامعُ» فانْظُرْ: كَمْ سِنًّا أماميَّةً في فَمِ أَخيكَ الصَّغيرِ؟»

فحَدَّقَ «اللَّامعُ» بَصَرَهُ — كما أَمَرَهُ أَبُوهُ — ثمَّ قالَ لَهُ: «أَرَى ثِنْتَيْنِ في الْفَكِّ الأعْلَى من الْحَنَكِ، وثِنْتَيْنِ فِي الْفَكِّ الأسْفَلِ، وَمَجْمُوعُهُما أرْبَعُ أسْنانٍ.»

(٨) الْقواطِعُ

فَقالَ «قُنْزُعَةُ»: «صَدَقْتَ يا «لامِعُ». فَهلْ تَعْرِفُ اسْمَ هذِهِ الْأسْنانِ الْمُسْتَعْرِضَةِ؟ إنَّها تُسَمَّى: الْقواطِعَ. أفَهِمتَ يا «لامعُ»؟»

فقالَ لَهُ «لامِعٌ»، وَقَدْ تَطَلَّقَ مُحَيَّاهُ (انْبَسَطَ وَجْهُهُ) بِشْرًا وَحُبُورًا: «نَعَمْ — يا أبتاهُ — فَهيَ تُسَمَّى: الْقَواطعَ.»

فاستأنف «قُنْزُعَةُ» قائلًا: «واعْلموا أنَّ لكلِّ فَرْدٍ من أفراد هذِهِ الْأسْرَةِ القرَّاضَةِ الْمُتَسَلِّقَةِ التي تَشْتَمِلُ علينا، مَعْشرَ السَّناجِيبِ — وَعَلَى بَناتِ أعْمامِنا الجِرذانِ والفيران — أرْبَعَ أسْنانٍ قاطعة، نَسْتَعملُها للقَرْض (القطع).»

ثم التفت إلى «أُمِّ رَاشِدٍ»، قائلًا: «أَتأذَنين — متفضِّلةً — يابنةَ عمَّ — أن تفتحي فاكِ، ليَرى هذا الطَّائشُ مِصداقَ (بُرْهانَ) ما أقولُ؟»

فقالت له «أُمُّ رَاشِدٍ»: «ليس أحبَّ إلى نفسي من تلبية أمرِك، يابنَ عَمَّ.»

(٩) أسْنانُ «أمِّ رَاشِدٍ»

ثم انتصَبتْ واقِفةً على رِجْلَيْها الْخَلْفِيتيْنِ. وفتحتْ فاها — على مدَى اتِّساعه — فكان شكلُها غايةً في البَشاعة (الفظاعة). ولم يَتَمَالَكِ «اللَّامعُ» أن يَضْحَكَ من رُؤْيتها. وأراد «السَّاطع» و«البرَّاق» أن يُتابعا أخاهُما في ضَحِكهِ، وَيَحْذُوَا حَذْوَهُ، ولكنَّ «قُنْزُعَةَ» — وهو يُبْغِضُ الْمِزاحَ في مواطن الجِدِّ — قَطبَ حاجِبَيْهِ (جمع لَحْمَهما كما يفعل الإنسان، إذا عَبَسَ وغَضِبَ)، فلم يستطعْ أَحَدٌ منهم أن يُواصلَ ضَحِكَهُ.

وأنشأَ «الساطع» يَعُدُّ أسنان «أُمِّ رَاشِدٍ«، بِصَوْتٍ مرتفع: «واحدةٌ … ثِنْتان … ثلاثٌ … أربعٌ …»

وثَمَّةَ (وهُناكَ) أدْرَكَ «السَّاطعُ» خطأَهُ وَجهْلَهُ؛ فَطأطأ رَأسَهُ مُجَمْجِمًا (مُتَكلِّمًا بِكلامٍ غَيْرِ وَاضِحٍ): «إنَّ لها أرْبَعَ أسْنانٍ قاطِعةً أيْضًا!»

(١٠) اعْتِذارُ النَّادِمِ

فقالَ «قُنْزُعَةُ»: «فهلْ أيْقَنْتَ (تَثَبَّتَّ) الآنَ — يا «ساطعُ» — أنَّ الْفأرَ والسَّنَاجِيبَ مِنْ أُسْرَةٍ واحِدَةٍ، وأصْلٍ واحدٍ؟

وَهَلْ أدْركْتَ — أَيُّها الْمَغْرورُ — أنَّك أَمْعَنْتَ في الإساءَةِ (بالَغْتَ فِيها) إلى هذِهِ الضَّيْفِ الْعَزِيزةِ؟

فَهَلُمَّ أَقْبِلْ — يا «ساطِعُ» — فاعْتَذِرْ لابْنَةِ عَمِّكَ مِمَّا أسْلَفتَ مِنْ إسَاءَةٍ وَعُقُوقٍ..»

•••

فَتَوَجَّهَ «ساطِعُ» إِلَى بِنْتِ عَمِّهِ «أُمِّ رَاشِدٍ» مُعْتَذِرًا نادِمًا.

وَما كانَ أسْرَعَ صَفْحَهَا وغُفْرانَها (سُرْعانَ ما سامَحَتْهُ وتَجاوزَت عَنْ ذنْبِهِ وِغَفَرَتْ لَهُ إِساءتَهُ)! فَلَقَدْ أقْبَلتْ عَلَيْهِ «أُمُّ رَاشِدٍ» تُدَاعِبُهُ، وَتَتَوَدَّدُ إِلَيْهِ (تُمازِحُهُ وَتَتَحَبَّبُ إلَيهِ)، وتَلْحَسُهُ بِلِسانِها اللَّطِيفِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤