قطوف من «التأمُّلات»١

تَذكَّرْ أن ملَكَة الرأي هي كلُّ شيء، وأن رأيك بيدِك. امحُ رأيك إذا شِئتَ، وستجد السكينة. ستكون كالبَحَّار الذي يدور حول رأس الأرض، فيجد ماءً هادئًا، وخليجًا ساجيًا بلا أمواج.

***

أعلى مَراتبِ الحرية والقوة هي ألَّا يفعل الإنسانُ إلا ما يُرضي الله، وأن يتقبل كل ما يَقسِمه الله له.

***

يقول الفيثاغوريون: «تأمَّلوا السماء في الفَجر.» كي نُذكِّر أنفسنا بثبات تلك الأجرام السماوية، التي تؤدي الشيءَ نفسَه على الدوام وبالطريقة نفسها، ونُذكِّر أنفسنا بنقائها وتجرُّدها؛ فليس على نَجمٍ حجاب.

***

يحتقر بعضهم بعضًا، وينافقه رغم ذلك. يريدون العُلَو والترقِّي، وينبطِحون رغم ذلك.

***

تذكَّرْ في نوبات غضبك أن الغضب ليس من الرجولة في شيء، وأن الرحمة واللين أكثرُ إنسانيةً وبالتالي أكثر رجولة؛ فالرُّحماء هم ذوو القوة والبأس والشجاعة وليس القُساة ولا الساخطون؛ فكلما تَحكَّمتَ في انفعالاتِك كنت أقربَ إلى القوة؛ فالغضب دليل ضعفٍ شأنه شأن الجَزَع؛ فالغاضب والجَزِع كلاهما أُصيب وكلاهما استَسلَم.

***

حين تَتكدَّر في أي ظرفٍ فقد نسِيتَ عِدَّة أشياء؛ نسِيتَ أن كل ما يجري فبإرادةِ طبيعة «الكل»، وأن الإثمَ لا يَضِير إلا مُرتكبَه، ونسِيتَ أن كل شيءٍ يحدث فقد كان يحدث هكذا فيما مضى، وسيظل يحدث هكذا في المستقبل، وما يَنفَكُّ يحدث الآن في كل مكان. وأن الكائن الإنساني وثيق القَرابة بالجنس البشري كله، لا قرابة دمٍ أو بَذرة؛ بل مجتمع عقلي. ونَسيتَ أيضًا أن عقل كلِّ إنسان إلهٌ ودفقةٌ من الألوهية. وأنْ لا شيء ملكٌ لنا، بل حتى طِفلُنا وجسَدنا نفسُه إنما جاء من ذلك المصدر. وأن كل شيءٍ هو كما أراده التفكير أن يكون، وأن كلًّا منا لا يعيش إلا اللحظة الحاضرة، ولا يَفقِد إلا إيَّاها.

***

ما من نشاطٍ يَضِيره أن يتوقف ما دام قد توقَّف في الوقت المناسب، ولا فاعله يَضِيره شيئًا أن هذا النشاط المُعيَّن قد توقف؛ وعلى ذلك فإذا بَلغَت جملة أفعاله، التي تُشكِّل حياتَه، نهايتَها في الوقت المناسب فلا ضَيرَ عليها من مجرَّد التوقف، ولا ضير على من خَتَم هذه السلسلةَ من الأفعال في الوقت المناسب. أمَّا الوقت والأجل فتُحدِّدهما الطبيعة؛ طبيعة الإنسان أحيانًا كما في الشيخوخة، وطبيعة العالم في كل الأحيان، والتي من خلال التغيير الدائم لأجزائها المُكوِّنة تُبقي العالم كله صبيًّا وعفيًّا. وكل ما ينفع العالم فهو حسنٌ وفي إبَّانه؛ لذا فلا بأسَ على الإطلاق بأن تنتهي حياة كلٍّ منا؛ فلا النهاية عيبٌ ولا اختيارٌ ولا هي ضد الصالح العام، بل هي خيرٌ؛ إذ تقع في التوقيت الملائم ﻟ «الكل»، وتصُبُّ في صالحه، وتنسجم معه؛ فكذلك أيضًا يمشي المرء بعون الرب إذا مضى باختياره ووجهته على طريق الرب.

***

تأمل إذن ما يجري في مثل هذا الأمر الخفي، وانظر «القوة» وهي تفعل فِعلَها، تمامًا مثلما نرى «القوة» وهي تحمل الأشياء إلى أسفل وإلى أعلى. انظر «القوة» لا بِالعَين، وإن لم تكن أقلَّ وضوحًا.

***

إذا نَفضتَ عن عقلك ما يَرينُ عليه من انطباعات الحس ومن هموم الآتي والماضي، جاعلًا نفسك مثل كرة أمبدوقليس: «تامة الاستدارة تتقلَّب في نَعيم وَحدتِها.» لا تبتغي إلا أن تعيش ما هو حياتُك الحقَّة — أي الحاضر — سيكون بِوُسعِك أن تقضي ما تبقَّى لك من العمر في هدوءٍ وسكينةٍ وسلامٍ مع رُوحِكَ الحارس.

***

أوراق،٢
البعض تُبعثِره الريح على الأرض،
هكذا هي أجيالُ البشر.

أطفالك أيضًا مجرد «أوراق». أوراقٌ أيضًا تلك الأصوات التي تهتف بمَدح الملِك، وتلك اللعناتُ من مُناوئيك، وهذا المَلامُ الصامت أو السخرية المكتومة … مجرد أوراقٍ مماثلة أيضًا أولئك الذين سيَتلقَّون وينقلون مَجدَك المستقبلي للأزمنة الآتية؛ فكل هذه الأشياء «تنتج في فصل الربيع» … ولكن لا تلبث الريح أن تَذْرُوها …

***

الأرض تُحب المطر، والسماء الجليلة تحب أن تُمطِر. العالم كله يُحب أن يخلق المستقبل. أقول للعالم إذن: «إنني أُبادِلك الحب.»

***

أمَّا أن تظل الإنسانَ نفسَه الذي كنتَه حتى الآن، أن تَتمزَّق وتتشَوَّه في هذه الحياة التي تحياها؛ فهو مجرَّد حرصٍ بليدٍ على الحياة، أشبه بحال المجالِدين gladiators الذين أَكلَت الوحوش نصف أبدانهم وهَرسَتهم وسَربلَتهم بالدم، ولا يزالون يتوسلون للإبقاء على حياتهم إلى اليوم التالي رغم أنهم في اليوم التالي سيتعرَّضون في نفس الحالة إلى نفس المَخالبِ والأنياب. إذا أحسستَ أنك تسقط وتفقد توازُنك فالجأ بنفس راضيةٍ إلى ركنٍ ما حيث تستعيد اتزانَك. وإلَّا فاجعل لك مخرجًا عاجلًا من الحياة، لا بانفعالٍ بل ببساطةٍ وحريةٍ وتواضُع، جاعلًا هذا الرحيل إنجازًا واحدًا مُشرِّفًا في حياتك على أقلِّ تقدير.

***

أيُّما شيءٍ يحدث لك فقد كان يُعَدُّ لك منذ الأزل، وكان مُقتضَى الأسباب يَغزِل لك منذ الأزل خَيطَ وجودِك وخيطَ هذا الحَدثِ المُحدَّد.

***

تَشاغُبُ أطفالٍ ولُعَبهم، أرواحٌ ضئيلةٌ تحمل جُثثًا، هكذا شأن كل شيء؛ إن العالم السفلي في «الأوديسة» لَيبدُو لِلعَين أكثرَ واقعية!

***

عليك أن تترك خطأَ غيرِك حيثُ ارتُكِب.

اليومَ هَرَبتُ من كل المُنغِّصات، أو بالأحرى ألقيتُ بها جانبًا. لم تكن هذه شيئًا خارجيًّا، بل كانت بداخلي؛ إنها أحكامي ليس إلَّا!

***

الأشياء واقفةٌ خارجنا، قائمة بذاتها، لا تَعرِف شيئًا عن نفسها ولا تُدلي بشيء. ما الذي يدلي إذن؟ عقلُنا المُوجِّه.

***

قد يُرتكَب الظلمُ بالإحجام عن الفعل، مثلما يُرتكَب بإتيانِه.

***

لا تكن مُتثاقلًا في فعلك، ولا مُشوَّشًا في مُحادَثتِك، ولا غامضًا في تفكيرك. ولا تترك عقلك نَهبًا للانقباض ولا للتِّيه. واجعل في وقتك ساعةً للفراغ والترويح.

– «إنهم يقتلونني، يُمزِّقونني، يلعنونني.»

– وكيف يمكن لكل ذلك أن يَحُول بين عقلك وبين الصفاء والحكمة والرَّصانة والعدل؟ هَبْ واحدًا أتى إلى نبعٍ من الماء النمير وأخذ يَلْعنه، فهل سيمنع النبعَ من أن يظل يَتدفَّق بالماء الزُّلال؟ وهَبْه ألقى فيه بشيءٍ من الطين والرَّوث … فلن يَلبَث النبعُ أن يُفتِّته ويُزيحه ويعود إلى نقائه. كيف إذن تُؤمِّن لِنفسِك نبعًا دائمًا لا مجرَّد صهريج؟ بأن تُوطِّن نفسك طُولَ الوَقتِ على الحرية، وتَظلَّ قانعًا، بسيطًا، متواضعًا.

***

العقل الخالي من الانفعالات هو قلعة؛ ليس ثَمَّةَ ملاذٌ للناس أقوى منه، ومَن يأوِي إليه فهو في حصنٍ حصين؛ فما أَجهلَه من لا يرى هذه القلعة! وما أَتعسَه من لا يلوذ بهذا الحصن!

***

تَذكَّرْ أن تغييرَك لِرأيك أو قَبولَك لتصويبٍ يأتي من غيرك هو شيءٌ يتسق مع حريتك قَدْر اتساق عنادك وإصرارك على خطئك؛ فالفِعل فِعلك، تَحثُّه رغبتُك أنت وحُكمُك، وفَهمُك في حقيقة الأمر.

***

نقِّب في ذاتك. ها هنا بالداخل ينبوعُ خيرٍ جاهزٌ لأن يتدفَّق في أي لحظةٍ إذا ما بَقِيتَ تُنقِّب.

***

تخيل أنك الآن ميتٌ، وأن حياتك انتهَت في هذه اللحظة، ثُمَّ عش ما تبقى لك من العمر في وِفاقٍ مع الطبيعة.

***

كمال الخلق في هذا؛ أن تعيش كلَّ يوم كما لو كان آخرَ أيامك، بغير سُعارٍ وبغير بلادةٍ وبغير رياء.

***

تَستخدِم الطبيعة مادة العالم مثلما يُستخدم الشمع؛ فتارةً تخلق منه كهيئة حصان، ثم تصهره وتستخدم مادته لِخَلقِ شجرة، ثم إنسان، ثم شيءٍ آخر. كل شيءٍ من هذه الأشياء لا يدوم إلا قليلًا. ليس صعبًا على الوعاء أن يَنحطِم، مثلما لم يكن صعبًا عليه أن يستوي من قبلُ وِعاءً.

***

الأُبَّهةُ الفارغة للمَواكب والاحتفالات، عروض المسرح، القطعان والأسراب، عروض المقارعة بالسيف؛ عَظْمةٌ ملقاةٌ للجِراء، فُتاتٌ ملقًى لِسمك البِركة، نملٌ يكدَح وينوءُ بأحماله، عَدْو فئرانٍ مذعورة، دُمًى تُرقِّصها خيوطها. هكذا أشياءُ العالم.

***

الموت انعتاقٌ من الاستجابة للحواس، ومن خيوط دُمى الرغبة، ومن العقل التحليلي، ومن خِدمة اللحم.

***

من العار أن تخذُلكَ الروح في هذه الحياة قبل أن يخذُلك جِسمُك.

***

كَمْ رِفَاقٍ أَتَيْتُ مَعْهُمْ إِلَى الْعَا
لَمِ يَوْمًا أَرَاهُمُ الْآنَ غُيَّبْ

***

سرعان ما ستصير رمادًا أو عظامًا، مجرد اسمٍ أو حتى لا اسم. والاسم ماذا يكون غير صوتٍ وصدى؟ وكل ما نُعليه ونُغليه في الحياة هو شيءٌ فارغٌ وعفِنٌ وتافه؛ جِراءٌ يعَضُّ بعضها بعضًا، وأطفالٌ تَتشاجر، تضحك، وما تلبث أن تبكي. أمَّا الإخلاصُ والشرفُ والعدل والصِّدق فتفرُّ إلى أوليمبوس من كلِّ أرجاء الأرض المُترامية.

***

انظر مَليًّا كيف يُزاح كل ما هو قائمٌ وكل ما هو قادمٌ ويصير ماضيًا ويزولُ زوالًا. الوجود مثل نهرٍ في تدفُّقٍ دائم، وأفعاله تعاقُبٌ ثابتٌ للتغيُّر! وأسبابُه لا تُحصَى في تَنوُّعها. لا شيءَ يَبقَى ثابتًا حتى ما هو حاضرٌ عَتِيد. تأمَّل أيضًا الهُوَّة الفاغرةَ للماضي والمستقبل التي تَبتلِعُ كل شيء. أليس بأَحمقَ من يعيش وسطَ هذا كلِّه ثم تُحدِّثه نفسُه بأن يَلِجَّ في الأمل أو يَهلِكَ في الكِفاح أو يسخطَ على نصيبِه؟! وكأن أيَّ شيءٍ من هذا دائمٌ له أو مُقدَّرٌ أن يُؤرِّقه طويلًا.

***

ثراءٌ طائلٌ لا يتركُ محلًّا لقضاء الحاجة! … ذلك حالُ الثروةِ وامتيازاتُ الفخامةِ والشهرة.

***

سأبقى سائرًا في طريقِ الطبيعةِ حتى أسقطَ وأخلدَ إلى الراحة، فأَلفِظ أنفاسي الأخيرةَ في هذا الهواء ذاتِه الذي تَنفَّسْتُه عَبرَ أيام عمري، وأسقُط على ذات الأرض التي مَنحَت أبي بَذرتَه ومَنحَت أُمي دمَها ومُرضعتي لبنَها، الأرض التي أطعمَتني يومًا بعد يومٍ وسقتني سنواتٍ طِوالًا، الأرض التي احتَملَت وطْأتي عليها واحتَملَت منِّي كلَّ ضروب الإساءة.

***

اسلُك دائمًا الطريقَ القصير. وطريقُ الطبيعةِ قصير. وابتغِ ما هو أَقْومُ وأسلمُ في كل ما تقول وتعمل؛ فمثل هذا العزمِ كفيلٌ بأن يُحرِّر المرءَ من العناء والجَهدِ والاضطرار إلى التحايُل والرِّياء.

***

عليك أن تقضي هذه الكِسرةَ الضئيلةَ من الزمان٣ في انسجامٍ مع الطبيعة. وغادرها راضيًا، مثلما تسقطُ زيتونةٌ حين تبلغ النُّضجَ، مُبارِكةً الأرض التي حَملَتها، وشاكرةً للشجرةِ التي مَنحَتها النَّماء.

***

الناس في خصامٍ مع أَلصقِ رفيق؛ العقل!

***

إذا كان غريبًا في العالم من لا يعرف مُكوِّناتِه، فليس أقلَّ غُربةً من لا يعرف ماجَرياتِه. إنه آبقٌ إذا تملَّص من المبدأ الاجتماعي، أعمى إذا غَضَّ عينَ عقله، شحَّاذٌ إذا اعتمد على الآخرِين ولم يذخرْ في نفسه كل ما يحتاج إليه في الحياة، ورمٌ في الكون إذا انسحبَ وفصلَ نفسَه عن مبدأ طبيعتنا المشتركة بتبرُّمه بنصيبه … مُنشقٌ خارجٌ على المجتمع إذا سلَّ روحه من روح الكائنات العاقلة جميعًا، والتي هي وَحدة.

***

كم هي ضَيِّقةٌ تلك المساحة التي يجول فيها مَجدُك.

***

ليس في العالم مَوضعٌ أكثر هدوءًا ولا أبعد عن الاضطراب مما يجد المَرءُ حين يخلو إلى نفسه، وبخاصةٍ إذا كانت نفسه ثريةً بالخواطر التي إذا أَظلَّته غَمرَته بالسكينة التامة والفوريَّة.

***

ما أَشقَى ذلك الإنسانَ الذي يظل دومًا لائبًا مُحوِّمًا حول كل شيء، مُنقبًا في أحشاء الأرض، مُتحرقًا إلى استشفاف ما يدور ببال جيرانه. وما يدري أن بِحسبِه أن ينصرف إلى الأُلوهة التي بداخله ويكون خادمًا حقيقيًّا لها.

***

وعليك بعد ذلك أن تَحذَر ضربًا آخر من التخبط؛ إنه لَضربٌ آخر من الكسَل والموات ما يأتيه أولئك الذين يَكدَحون بلا هدفٍ ويَضرِبون في الأرض بلا وجهة، لا وجهة في الفعل، ولا وجهة، بالأحرى، في القول والتفكير.

***

انظر إلى أي شيءٍ موجود ولَاحظْ أنه منذ الآن في عملية فَناءٍ وتغيُّر، يتجدد، بمعنًى ما، من خلال الفساد أو التبدُّد. وبعبارةٍ أخرى: انظر إلى أي ضربٍ من «الموت» يُولَد كل شيء!

١  لتجنُّب التَّكرار راعيتُ في انتقاء هذه القطوف أن تكون مما لم ينَل قِسطَه من التنويه أثناء الشرح والتقديم والدراسة، لا أن تكون أَجودَ الشُّذور بالضرورة.
٢  أي أوراق شجر.
٣  أيْ عُمرَك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤