مقدمة المترجم

سمعت أول ما سمعت بمحمد إقبال وأنا في لندن قبل عشرين عامًا. سمعت كلامًا مبهمًا موجزًا عن شاعر صوفي في الهند اسمه إقبال، لم يُعرفني هذا الكلام بإقبال، ولم يشوِّقْني كثيرًا إلى معرفته.

وأذكر أن شابًّا من مسلمي الهند تكلم يومًا عن إقبال في مدرسة الدراسات الشرقية من لندن، ولكن لهجته وعجلته في الكلام، وغموض الموضوع، حالت دون أن نعرف إقبالًا من كلامه.

وأتذكر أن أستاذنا سير دنسن روس قال لي بعد المحاضرة إنه لم يدرك منها شيئًا.

ومرت الأيام مرورها، ولا أدري كم طوت من السنين قبل أن أطلع على شعر إقبال.

وكان محمد عاكف — رحمه الله — الشاعر الكبير، الذي يسمى في تركيا شاعر الإسلام، صديقًا لي وكنا نقيم في مدينة حلوان، فنلتقي بين يوم وآخر، ولا يمر أسبوع دون اللقاء مرة أو أكثر.

وكنا حين نلتقي نتذاكر الأداب العربية والفارسية والتركية، وأقرأ عليه شعره أحيانًا.

وذات يوم أراني ديوانًا اسمه «پيام مشرق» للشاعر محمد إقبال، فقرأنا معًا فكان أول شعر لإقبال قرأت، راقني الشعر وشاقني إلى الاستزادة منه؛ إذ رأيت ضربًا من الشعر عجيبًا، يُذَكِّر بحافظ الشيرازي وشعراء آخرين من الصوفية، ولكن فيه ما لم نعهد في شعر هؤلاء من فلسفة يصورها الشعر نورًا ونارًا في عين القارئ وقلبه.

ورأى شاعر الإسلام شغفي بالكتاب، فأعارني إياه، رحم الله حافظًا الشيرازي يقول:

چو شوقم ديد در شاغر مي أفزود

فكان الكتاب عارية لم تسترد، فلا تزال النسخة عندي ذكرى لأول قراءة في شعر إقبال، وتذكارًا للصديق محمد عاكف، وعلى حواشي الكتاب كلمات لعاكف في مواضع إعجابه من شعر إقبال.

ثم أهداني أحد معارفي من مسلمي الهند المقيمين في القاهرة المنظومتين «أسرار خودي» و«رموز بي خودي»، فقرأتهما قراءة المشوق المترقب والوارد الظمآن، وزدت إكبارًا لإقبال، ومعرفة به، وحبًّا له.

وشرعت أحدِّث الناس عن إقبال في مجالسي وفي مجلة الرسالة وأحاضر في شعره.

وعرف الناس حبي إقبالًا وتشوقي إلى كتبه، فأرسل إليَّ من يعرفني ما عنده من دواوين إقبال، حتى أَهدَى إليَّ صديق في مكة منظومتي إقبال «مسافر» والمنظومة التي عنوانها «ﭘﺲ چه بايد كرد».

ومر إقبال بالقاهرة في طريقه إلى المؤتمر الإسلامي ببيت المقدس، فاحتفلت به جمعية الشبان المسلمين، وحضرت الحفلة، فكلفني أستاذي الشيخ عبد الوهاب النجار — رحمه الله — أن أُعرِّف الحاضرين بالضيف الكريم، فتكلمت وأنشدت أبياتًا من شعر إقبال، أَحْسَبها أول ما سُمع من شعره في بلاد العرب، ومما أنشدت:

أي كه در مدرسه چوئي أدب ودانش وذوق
نه خورد باده كس إز كارگه شيشه گران
خرد أفزود مرا درس حكيمان فرنگ
سينه أفروخت مرا صحبت صاحب نظران
بركش اين نغمه كه سرماﯾﮥ آب وگل تست
أي زخود رفنه تهي شو زنو أي دگران

ومما أذكر من ذكريات إقبال أن الأستاذ توماس أرنولد قدم القاهرة ليحاضر في التاريخ الإسلامي. وكان لي به معرفة قديمة. وكانت بيننا مودة، وقد أقام في حلوان حيث أقيم، فكنت أصحبه كثيرًا في ذهابه إلى جامعة فؤاد وعودته.

وقد ذكرنا إقبالًا ليلة ونحن نسير في حلوان، فقال: هو تلميذي. قلت: إذن هو شاب. قال: أتظنه شابًّا لأنه تلميذي! أنت لا تدري ما سني. فضحكنا ولم أسأله ما سنه.

ولما توفي إقبال دعيت إلى بيت المقدس لأذيع حديثًا عنه، فتحدثت في سيرته وشعره، وقلت: إن شاعر الإسلام العظيم جدير أن ينعى إلى المسلمين جميعًا من بيت المقدس قبلة المسلمين الأولى.

واحتفلنا بتأبينه في جماعة الإخوة الإسلامية في القاهرة، وأنشدت قصيدة ترجمتها من ديوان بانك درا، ومما قلت في هذا الاحتفال:

في اليوم الحادي والعشرين من أبريل (سنة ١٩٣٨) والساعة خمس من الصباح، في مدينة لاهور مات رجل كان على هذه الأرض عالمًا روحيًّا، يحاول أن ينشئ الناس نشأة أخرى، ويسن لهم في الحياة سنة جديدة، وسكن فكر جوال جمع ما شاءت له قدرته من معارف الشرق والغرب، ثم نقدها غير مستأسر لما يؤثر من مذاهب الفلاسفة، ولا مستكين لما يروى من أقوال العظماء، ووقف قلب كبير كان يحاول أن يصوغ الأمة الإسلامية من كل ما وعى التاريخ من مآثر الأبطال وأعمال العظماء، وقرت نفس حرة لا يحدها زمان ولا مكان، ولا يأسرها ماض ولا حاضر، فهي طليقة بين الأزل والأبد، خفاقة في ملكوت الله الذي لا يُحد.

مات محمد إقبال الفيلسوف الشاعر، الذي وهب عقله وقلبه للمسلمين وللبشر جميعًا — الرجل الذي كان يخيل إليَّ وأنا في نشوة شعره أنه أعظم من أن يموت، وأكبر من أن يناله حتى هذا الفناء الجثماني — فاضت روح الرجل الكبير المحبوب في داره بلاهور ورأسه في حجر خادمه القديم «ألهي بخش» وهو يقول: إني لا أرهب الموت، أنا مسلم أستقبل المنية راضيًا مسرورًا.

كنت أقرأ كلام إقبال في الحياة والموت، وأرى استهانته بالحِمام واستهزاءه بالذين يرهبونه. وما كان هذا خدعة الخيال، ولا زخرف الشعر؛ فقد صدق إقبال دعوته في نفسه حين لقي الموت باسمًا راضيًا، جد المرض بإقبال، وكان يقترب إلى الموت وهو متقد الفكر، قوي القلب، يصوغ عقلُه كلمات يوقظ بها النفوس النائمة، وينثر قلبه شرارًا يشعل به القلوب الهامدة. وكان يُعنَى بنظم كتابه «أرمغان حجاز»: هدية الحجاز. وكان قلب الشاعر يهفو إلى الحجاز، وقد تمنى في خاتمة كتابه «رموز بي خودي» أن يموت في الحجاز، ومما نظمه في أشهره الأخيرة:

آية المؤمن أن يلقى الردَى
باسم الثغر سرورًا ورضا

وقد أنشد هذين البيتين قبل الموت بعشر دقائق، وهما مما أنشأه أخيرًا:

نغمات مضين لي، هل تعود
ونسيم من الحجاز سعيد
آذنت عيشتي بوشك رحيل
هل لعلم الأسرار قلب جديد

ولما قدمت الهند سنة ١٩٤٧م، قبل قيام دولة باكستان بأربعة أشهر، سافرت من دهلي إلى لاهور لزيارة ضريح إقبال وداره، ورؤية أولاده، واتفق أن كان ذهابي إلى لاهور قبل ذكرى وفاته بأيام قليلة. وكان احتفال بي وبوفد إيراني رئيسه الصديق علي أصغر حكمت عند ضريح إقبال، وألقيت هناك كلمة عربية تنشر في رحلاتي الثانية، وأنشأت في دهلي أبياتًا عربية نقشت في لوح من الرخام، وحملتها إلى لاهور لتوضع عند قبر إقبال. وقد وعد أوصياء إقبال أن يضعوها في جدار حجرة الضريح حين يتم بناؤها وهذه هي الأبيات:

عربي يهدي لروضك زهرًا
ذا فخار بروضه واعتزاز
كلمات تضمنت كل معنى
من ديار الإسلام في إيجاز
بلسان القرآن خطت ففيها
نفحات التنزيل والإعجاز
فاقبلَنْها على ضآلة قدري
فهْي في الحق «أرمغان الحجاز»

ترجمة شعر إقبال

عنيت بترجمة شعر إقبال نظمًا ونثرًا، وبنشر ما أترجم منه منذ قرأت هذا الشعر، وحرصت على تعريف قراء العربية بهذا الشاعر العظيم والفيلسوف المسلم. ترجمت من «پيام مشرق» و«أسرار خودي» «ورموز بي خودي» «وبانك درا».

ولما قرأت قصته المنظومة «جاويد نامه» بدا لي أن أترجمها كلها فلم أفرغ، لها ولبثت أرتقب فرصة لتحقيق هذه الأمنية.

وبينما أنا في الحجاز وزيرًا لمصر في المملكة العربية السعودية، جاءتني رسالة من الدكتور اشتياق حسين قريشي — أحد وزراء باكستان اليوم — يقترح عليَّ ترجمة أحد دواوين إقبال، وكنت عَرَفَت معالي الوزير في دهلي قبيل قيام باكستان فتزاورنا وائتلفنا، وقد أجبت رسالته بأني على نية أن أترجم جاويد نامه.

ثم قدمت باكستان سفيرًا، فتحدث الناس عني وعن ترجمتي شعر إقبال، وأحاطني وحي إقبال في بلاده، فمضيت في ترجمة جاويد نامه. ثم بدا لي أن هذه القصة المنظومة الطويلة ليست أولى دواوين إقبال بأن تُعرف به قراء العربية. وبدا لي أن أبدأ بديوانه پيام مشرق؛ لأن به ألوانًا من الرباعيات والقصائد والقطع في موضوعات شتى وأساليب مختلفة، وكأنما كان هذا وحيًا، فأخذتُ أترجم الرباعيات، وهي القسم الأول من الديوان، فتيسر لي النظم، فأقبلت عليه فازداد يسرًا، فانشرح صدري وأسرع قلمي فيه، وصارت الترجمة سرورًا وأنسًا لا يصد عنها شغل ولا تعب. وضعت الكتاب في حجرة النوم في متناول اليد من مرقدي، فكنت أترجم قبل النوم وحين أستيقظ صبحًا، وقلَّ أن يمضي يوم دون ترجمة، وكنت إذا انصرفت إلى عمل آخر علق بنفسي البيت والبيتان من شعر إقبال، فلا أستريح حتى أترجم ما علق بنفسي، وكنت أحيانًا يدركني التعب فأصرف نفسي عن الترجمة فلا تنصرف، فأحتال حتى أصرفها عنها لأستريح.

ولما فرغت من الرباعيات، وكنت أحسبها أيسر من غيرها، نظرت في القسم الثاني وهو الافتكار، فاطردت الترجمة وأسلست أكثر مما أسلست في الرباعيات. كنت آخذ البيت الأول من القصيدة فأقلبه على أوزان وقواف حتى يستقيم لي وزن وقافية، فكأنما وجدت سلكًا لنظم در لا يكلفني نظمه إلا أن أسلك واحدة بعد أخرى. والحمد لله الملهم.

وكنت بين الحين والحين أترك پيام مشرق إلى منظومتي اللمعات فأنظم فيها حرصًا على أن أنشرها مع الديوان، فما ختمت پيام مشرق حتى بلغت فيها حدًّا يمهد لختمها. وكان هذا توفيقًا آخر.

وهكذا مضيت في الكتاب مهتديًا بالحديث الكريم «وكان أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.» حتى فرغت منه في أواخر شهر آذار بعد ثلاثة أشهر من بدأ الترجمة.

كتب إقبال

لإقبال تسعة دواوين وكتب أخرى — انظرها مرتبة على تواريخها.

الشعر
أسرار خودي بالفارسية نشر سنة ١٩١٥م
رموز بي خودي بالفارسية نشر سنة ١٩١٨م
پيام مشرق بالفارسية نشر سنة ١٩٢٣م
بانك درا بالأردية نشر سنة ١٩٢٤م
زبور عجم بالفارسية نشر سنة ١٩٢٩م
جاويد نامه بالفارسية نشر سنة ١٩٣٢م
مسافر بالفارسية نشر سنة ١٩٣٤م
بال جبريل بالأردية نشر سنة ١٩٣٥م
پس چه بايد كرد بالفارسية نشر سنة ١٩٣٦م
(نظمها حينما أغارت إيطاليا على الحبشة)
ضرب كليم بالأردية نشر سنة ١٩٣٧م
أرمغان حجاز بالفارسية والأردية نشر بعد وفاته

الكتب الأخرى

  • علم الاقتصاد بالأردية نشر سنة ١٩٠١م.

    The Development of Metaphisies in Persia.
  • تطور ما بعد الطبيعة في بلاد الفرس نشر سنة ١٩٠٨م.

    The Reconstruction of Religious Thought in Islam.
  • إصلاح الأفكار الدينية في الإسلام ١٩٣٤م.

  • رسائل إقبال إلى محمد علي جناح بالأردية نشر سنة ١٩٤٤م.

  • خطب إقبال وبياناته نشر سنة ١٩٤٤م.

  • رسائل إقبال بالأردية.

بعض هذه الدواوين منظومة واحدة ذات فصول في بحر الرمل والقافية المزدوجة، مثل: جاويد نامه، وأسرار خودي، ورموز بي خودي، وبعضها في دواوين جامعة منظومات كثيرة.

ولا تتسع هذه المقدمة لتفصيل الكلام في منظومات إقبال وبيان مزايا كل منها وتطور أفكاره فيها.

پيام مشرق وترجمته

يرى القارئ الديوان مقسمًا خمسة أقسام: شقائق الطور، والأفكار، والخمر الباقية، ونقش الإفرنج، والدقائق.

القسم الأول رباعيات، والثاني أفكار شتى في صور من الوزن والقافية مختلفات، وهو أعظم أقسام الكتاب قيمة. والثالث الخمر الباقية، وهي قصائد من الضرب الذي يسمى في الفارسية غزليات. وقد سار الشاعر فيها على طريقة حافظ الشيرازي وأمثاله في عرض أفكار دقيقة في صور شعرية جميلة يغلب فيها الرمز.

والكتاب كله معان وصور يعرفها من أَلِفَ الشعر الفارسي والأشعار الإسلامية المتصلة به، ويدرك كثيرًا من مراميها ويأنس إلى عباراتها أكثر مما يدرك قارئ العربية،

يقول إقبال في غزل من الخمر الباقية:

غاية الإفصاح رمز وكنى
فلغى الخلوة رمز بعبر

ثم في پيام مشرق معان أخرى وصور يختص بها إقبال متصلة بفلسفته ولا بد من الإلمام بهذه الفلسفة لإدراكها، ثم في بعض الأبيات لا تتضح مقاصد إقبال وضوحًا يسكن إليه القارئ، وكان همي في هذه الأبيات أن أنقل الكلام كما هو لأجعل قارئ العربية يحس ما يحسه قارئ الأصل، ويفكر كما يفكر، ويلقى من الغموض ما يلقى.

•••

وطريقتي في الترجمة أن أحافظ على المعاني الأصلية والصور التي تبرز فيها، بل على أوزان الشعر وأسلوب التقفية جهد الطاقة.

ولا ريب أن بعض العبارات المألوفة في لغة تعد مستغربة بل مضحكة إن نقلت كما هي إلى لغة أخرى. وعلى المترجم أن يتصرف في هذه العبارات. سمعت مرة من الشاعر محمد عاكف — رحمه الله — أن المترجم ينبغي له أن يترجم الجمل بالفرس أحيانًا. والتجارب تصدق هذا.

وخير طريقة في الترجمة، كما هدتني التجربة، أن يقدر المترجم أن المعاني التي يعالجها قد ألهمها هو، ثم ينظر إلى طريقة التعبير التي اتخذها المترجم له وطرائق التعبير في اللغة التي يترجم إليها، فيتخذ الصور التي اختارها المؤلف إلا أن تقتضي لغة الترجمة تغييرًا أو تبديلًا. ولا بأس أن يتصرف كذلك بالإطناب أو الإيجاز استجابة لمقتضى الحال في اللغة التي يترجم إليها والناس الذي يترجم لهم. ومقياس التصرف في هذا أن يتبين المترجم أن تصرفه ليس بعيدًا مما عرف من مذهب المؤلف ومن مقصده في موضع التصرف، وأن المؤلف لو عرض له هذا التصرف حين التأليف أو عرض عليه بعد التأليف لم ينفر منه.

ومن اللطائف في هذا أنني حينما قدمت رسالتي عن الفردوسي والشاهنامه إلى جامعة فؤاد الأول، وجلت للمناقشة فيها، سألني معالي الدكتور طه حسين باشا — وكان عميد كلية الآداب ورئيس لجنة الامتحان — عن هذا البيت مما ترجمته في بكاء أم سهراب على ولدها:

وتذري على الخد دمع الدم
وتكبو وتنهض في المأتم

قال: هل كلمة المأتم في الأصل؟ قلت: لا. قال: دعتك إليها الضرورة، قلت ضاحكًا: لعل الفردوسي حذفها للضرورة! وهذا كلام لا يبعد عند التأمل.

الأوزان والقوافي

أخذ الفرس الأوزان العربية لشعرهم وتصرفوا بها فزادوا في التفعيلات. فالرمل عندهم يكون ثُمانيًّا وهو في العربية لا يزيد على ست تفعيلات، والهزج يكون عندهم سداسيًّا وثمانيًّا، وهو في العربية رباعي حتمًا.

والأوزان القليلة في العربية مثل المجتث والمقتضب لا تزيد في العربية على أربع تفعيلات وتبلغ ثمانيًا في الفارسية، فالشطر في الفارسية يساوي بيتًا في العربية. ومن الأمثلة الواضحة في هذه الشطور العربية التي تأتي في الشعر الفارسي كقول حافظ الشيرازي:

ألا يا أيها الساقي أدر كأسًا وناولها

هذا شطر في الفارسية وهو بيت كامل في العربية.

والأبيات في الفارسية كالأبيات في العربية مبنية على استقلال كل بيت عما بعده. فلا يجمل ترجمة بعض بيت وآخر في بيت واحد. وقد تصرفت في هذه المشكلة بأن ترجمت أحيانًا البيت الثماني في الفارسية بسداسي في العربية. على ما في هذا من عسر، وأحيانًا ترجمت الشطر ببيت مجزوء، فقابلت الشطر الذي فيه أربع تفعيلات في الرمل مثلًا ببيت مجزوء فيه أربع تفعيلات كذلك.

وللتمثيل نظمت قصيدتين وقطعة على الأوزان الفارسية يجدها القارئ في الصفحات، ثم القافية المردوفة كثيرة في الشعر الفارسي وشعر إقبال، وفي الترجمة كررت كلمات الردف في أول البيت لا في آخره بلفظها أو معناها وللتمثيل ردفت القافية فيما ترجمت على الأوزان الفارسية.

فلسفة إقبال

لا يتسع المقام والوقت للكلام في فلسفة إقبال، ولكن لا بد من كلمات قليلة تعين القارئ على إدراك مقاصد الشاعر:
  • (١)

    لإقبال مذهب سماه الذاتية (خودي)، وشرحه في كتابه «أسرار خودي»، وخلاصته أن الذاتية أساس الحياة؛ فالله تعالى ذات، والإنسان ذات، وحياة الإنسان تتجلى في هذه الذاتية، فعلى الإنسان أن ينظر إلى فطرته ويستخرج كل ما فيها، ولا يؤمن إقبال بوحدة الوجود التي تنافي الذاتية.

  • (٢)

    وأن الاستقلال في الفكر والابتكار يبين عن الذاتية والتقليد يضعفها أو يميتها.

  • (٣)

    وأن الشدائد والمحن في هذه الحياة تقوي الذاتية. والآلام واللذات يكمل بعضها بعضًا. انظر أبياته عن شوبنهور ونيتشا ص١١٧، «بل الجنة» ينقص لذتها فقد الألم والهم فيها. انظر ص٧٦ وأن الإنسان حر مختار يتوهم أنه مجبر:

    فقم إن كنت في ريب وأقدم
    تجد للرجْل في الدنيا مجالًا

    وهو في هذا كشيخه جلال الدين الرومي.

  • (٤)

    العقل والقلب والعشق: يجد القارئ هذه الكلمات مكررة في شعر إقبال، وهو كجلال الدين الرومي، وفريد الدين العطار، وكثير من الصوفية؛ لا يعول على العقل كثيرًا، وإنما يعول على القلب أو العشق، وقد ضمن قصيدة له بيت جلال الدين:

    في طريق العشق بالعقل يسار
    بسراج تبتغي شمس النهار

    وانظر قصيدته في أول نقش الإفرنج: والعقل عند الصوفية عاجز جبان لا يدرك الحقائق الكبرى، ولكن يتصرف في الجزئيات والقلب موطن العشق. وقد بينت رأي العطار في العقل والعشق، وهو رأي شائع بين الصوفية في كتابي «التصوف وفريد الدين العطار» فليرجع إليه من يشاء. على أن العطار وغيره يكبرون العقل حين يصحب العشق أو يفنى فيه. يقول إقبال في رسالة بركسون ص١٢٣: وما صورته وهم فأعدد لعقل شب في أدب القلوب. ويقول في صفحة ١١٠.

    حبذا عقل فسيح
    قد أحاط العالمين
    نور أملاك ونار الـ
    أنس فيه دون مين

    وانظر محاورة العلم والعشق ص٣٤.

  • (٥)

    ولإقبال من الحيوان والنبات عرائس شعرية يولع بها لتمثيل فلسفته: الصقر لقوته، وتحليقه، ونفوره من الهبوط إلى الأرض. وعيشه منفردًا معتمدًا على نفسه مثل عال للذاتية، انظر وصية الصقر لفرخِه ص٤٠.

    والشقائق مثال للاحتراق، أوراقها لهيب، والسواد في قلبها وسمة كيٍّ، انظر الشقيققة ص٤٣.

    واليراعة تمثل فلسفته؛ لأنها تضيء لنفسها. انظر ص٤٠ و٥١.

    وقطرة الندى تمثل الروح تأتي من عالم الغيب. انظر قطرة الندى ص٥٤ والعشق ص٧٨.

سيرة إقبال

ولعل القارئ، بعد هذه المقدمة يقول: لم تذكر شيئًا من سيرة الشاعر! وجوابي أن سيرة إقبال أعظم من أن تحويها صفحات قليلة في هذه المقدمة، وقد فُصلت في كتب أخرى.

ولا أحرم القارئ من هذه الحدود في تاريخ إقبال العظيم، وهي من رسالة نشرتها جماعة إقبال:

ولد في سيالكوت سنة ١٨٧٣
ذهب إلى لاهور لإكمال دراسته سنة ١٨٩٠
نال درجة B. A. سنة ١٨٩٧
نال درجة M. A. سنة ١٨٩٩
ذهب للتحصيل في لندن سنة سنة ١٩٠٥
نال درجة دكتور في الفلسفة من جامعة ميونيخ سنة ١٩٠٨
رجع من لندن فعمل محاميًا في لاهور سنة ١٩٠٨
انتخب عضوًا في الجمعية التشريعية في بنجاب سنة ١٩٤٧
انتخب رئيس الرابطة الإسلامية سنة ١٩٣٠
ذهب إلى مؤتمر المائدة المستديرة في لندن سنة ١٩٣١
وإلى المؤتمر الإسلامي في بيت المقدس سنة ١٩٣٢

نشر الكتاب

أشكر لجماعة إقبال ورئيسها معالي الدكتور نذير أحمد تطوعهم لنشر الكتاب وتيسيرهم كل عسير لإخراجه قبل ذكرى إقبال الثالثة عشرة، ولا أنسى الأديب سيد عبد الواحد سكرتير الجماعة ومؤلف كتاب إقبال بالإنكليزية. فقد والى زيارتي أثناء طبع الكتاب، وأدى كل ما كُلف به.

حرصنا على أن ننشر ترجمة پيام مشرق قبل الحادي والعشرين من نيسان، يوم وفاة إقبال، فكان حتمًا علينا الفراغ من الترجمة والطبع في زمن قصير، وكان علينا أن نكمل نقص الزمن بالجد والجهد، وقد لقينا عناء من عمال المطابع؛ فهم لا يعرفون العربية فتكثر أغلاطهم، وكان على الأستاذ عبد المنعم العدوي صاحب مطبعة العرب أن يكتب كل صفحة من الكتاب بخط واضح ييسر للعمال جمع الحروف، وزاد الأمر مشقة أنني حرصت على شكل بعض الحروف ولم تستعمل المطبعة الشكل من قبل.

شق علينا العمل ولكن هونه فرحنا بإخراج كتاب لإقبال في لغة العرب، وكان لعمل الأستاذ عبد المنعم العدوي وجده ودأبه ليل نهار وإخلاصه وتواضعه ما يسر هذا العمل الشاق في هذا الوقت الضيق فاستحق شكري وإعجابي، وثناء جماعة إقبال، والحمد لله ولي التوفيق والتيسير، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

كراچي عشية السبت ثامن رجب ١٣٧٠ﻫ/١٤ نيسان ١٩٥١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤