اللمعات

بدأت هذه المنظومة حينما قرأت منظومَتَيْ إقبال «أسرار خودي» و«رموز بي خودي» ونشرت الأبيات الأولى منها، ثم شغلت عن إتمامها فلبثت أعاود النظم فيها حينًا بعد حين.

فلما أشرفت ترجمة پيام مشرق على النهاية، عزمت على إتمام المنظومة فتمَّت بحمد الله.

وهي مهداة إلى الشاعر العظيم إقبال اعترافًا بفضله.

أيها الليل، إليك المفزع
كم حنت منك علينا أضلُعُ؟
كم خفينا في غيابات الدجى
وملأنا الليل همًّا وشجَا؟
كم ألفت الليل أمًّا حانيَةْ
وكرهت النجم عينًا رانيَةْ؟
كم ألفت الليل وحشًا راقبَا
من شعاع الصبح سهمًا صائبَا
كم بثثت الليل سرًّا كتمَا
فوعاه الليل عني ألمَا؟
كانت الظلماء لوحًا للألَمْ
خطت الآهات فيه كالقلم!
كان لي الليل مدادًا فنفَدْ
وطغى قلبي بمد بعد مد
جاشت الظلماء موجًا بعد موج
وغزالي الوجد فوجًا بعد فوج
فنيت هذي، وهذا زاخر
وانجلت هذي، وهذا غامر
خلتني في الليل جمرًا سعرَا
ونجوم الليل منه شررَا
إرة قد وقدت في أضلعي١
وسحاب هاطل من أدمعي؟

•••

كنت سطرًا لم يفسره أحدْ
خطه في غيبه الله الصمدْ
في ضميري كل معنى منبهم
حرت في الإعراب عنه بالكلم
قد ثوى العالم في قلبي وما
خط شيء فيه إلا الحرف «ما»٢
جل قلبي أن أراه جام جَمّ٣
صور الأقطار فيه تنتظم
إنما الأقطار في قلبي العميد
أحرف أوحت إلى معنى بعيد
رب معنًى في ضمير يكتم
ليس في الناس عليه محرم٤
وقلوب رمسها هذي الصدور
أتراني مُسْمِعًا من في القبور؟٥
أنا في الناس فصيح أعجم
ناطق فيهم، كأني أبكم!
صمَّت الآذان عن هذا البيان
ضاع في ضوضائهم هذا الأذان!
كيف يجدي القوم هذا النغم
وعلى الآذان رانَ الصمم؟
كيف يجدي القدح في هذا الحجر؟
قلبه رخو خليٌّ من شرر
إنَّ خَفْقَ القلب قدح مجهد
بعضه يورى، وبعض يصلد
كيف يجدي النفخ في هذا الرماد
طفئ الجمر ولم تور الزناد!

•••

يخرق الليل شعاع يخفق
ثم يلتف عليه الغسق
كمنار البحر يخفى ويلوح
فيه بين الغيب والومض وضوح
أو يراع الليل يخفى وينير
فهو سطر من غياب وحضور٦
تارة يبدو طريقًا لحبا
قامت الأنجم فيه نصبا
أو بيانًا من بياض وسواد
كبياض الطرس يعلوه المداد
كل لون فيه حرف مفصح
ألِّفت منه سطور وضَّح
ووراه تارة خطًّا أحمّ
وكأن الضوء تفصيل الظُّلَمْ
فهْو سطر من ظلام أرقط
أعجمت معناه تلك النقط
كل لون فيه حرف أعجم
وحوى الأحرف سطر مظلم٧

•••

يا لبيني أوقدي، طال المدى
أوقدي عَلَّ على النار هدى٨
أوقدي يا لُبْنُ قد حار الدليل
أوقدي النار لأبناء السبيل
ارفعي النار وأذكي جمرها
عَلَّ هذا الركب يعشو شطرها
شرِّدي هذا الظلام الجاثما
أرشدي هذا الفراش الهائما
حبَّذا النار بليل توقد
حبَّذا المؤنس هذا الموقد؟
حبَّذا عندك هذا النزل
لو حوانا في سفار منزل
ما لذا المنزل قد سار الفريق
إنما النيران أعلام الطريق
قد ترحَّلنا من الفيح العميق
لا تبالي بقريب أو سحيق
رنَّ في آفاقنا هذا النداء
فأَمَمْنَا البيت يحدونا الرجاء٩
قد غنينا عن مبيت ومقيل
وعن الأمواه والظل الظليل
وعن الرغبة والخوف سوى
خلع النعلان١٠ في وادي طوى
نحن لا نرضى بنار الغسق
نحن لا نرضى بنور الشفق
نحن لا نرضى بنجم الصبح لاح
لا ولا نرضى تباشير الصباح
نحن لا نرضى نجومًا لامعَةْ
إنما نبغي شموسًا طالعَةْ
قد رحلنا بالجوى والحرق
وغنينا عن رسيم الأينُق
أين منَّا طائرات سبَّق
جمع الغرب لها والمشرق
نحن ركب في جواه توضع
لم يسعه في جواه موضع
كل حَرٍّ ضاق عنه الموطن
وانطوى دون مناه الزمن
كل طيار على متن الفكر
وعلى متن هيام لا يقر
طائر منه يغار الملك
طائر من تحته ذا الفلك
بارق في اللوح لا ينطفئ
كل غاياتٍ لديه مبدأ
زَوِّدِينا بهُيام ووجيب
زودي يا لُبن من هذا اللهيب

•••

جال في الظلماء نور من نغَم
مزِّقت منه دياجير الظلم
أشعاع فيه صوت صائح
أم كلام منه نور لائح؟
أذن الركب لهذا المنشد
أطرب الناشد صوت المنشد١١
سال في القلب مسيل المطر
ينبت الروح بسهب مقفر
أو خرير الماء من نبع زلال
بشَّر الغارق في بحر الرمال
رنَّ في نفسي رنين الجرس
صاح في أذني فقيد مبلس
طوت البيداء عنه السابلَةْ
وهداه الصوت شطر القافلَةْ
سبق القلبُ إليه الأذنا
كبلالٍ لصلاةٍ أذَّنَا
دار قلبي شطر هذا المطرب
دورة الإبرة شطر القُطُب
«غنِّنِي يا منيتي لحن النشور
ابركي يا ناقتي تم السرور
عدت يا عيدي إلينا مرحبَا
نعم ما روَّحت يا ريح الصبَا»١٢

•••

حبَّذا الصوت فمن هذا البشير؟
ومَنِ الهاتف بالقلب الكسير؟
ومن المسعد في هذي الهموم؟
ومن البارق في هذي الغيوم؟
ومن الهابط في نور السما
هاديًا في الأرض جيلًا مظلمَا؟
ومن الهادي إلى أرض الحبيب
يعرف النهج وقد حار اللبيب؟
ومن السائق شطر الحرم
وإلى الأصنام سير الأمم؟
ومن القارئ في بيت الصنم
سورة الإخلاص في هذا النغم؟
ومن الحُرُّ الذي قد حطما
من قيود الأسر هذا الأدهما؟
ومن الآبي على كل القيود
ومن القاطع أغلال العبيد؟
ومن الباعث في ميت الأمم
ثورة العزة من هذي الهمم؟
لاح كالغرة في هذا السواد
بَصَّ كالجمرة في هذا الرماد
جرف الناس أتيٌّ مزبد
ضل فيه المقتدي والمرشد
وطغى اللج عليه والتطم
فرسًا كالصخر في هذا الخضم
عارض الموج على أغماره
وطوى اللجَّ على تياره
سبح اللجُّ وبالشط استقر
داعيًا والناس غرقى في النهر
يجرف التيار جسمًا جامدَا
تقذف اللجة قلبًا خامدَا
إنَّ عزم الحر بحر مزبد
جائش في الدهر لا يَتَّئِدُ
هذه الأقدار في تسيارها
همم الأحرار في أسفارها١٣
ومن الشاعر يذكي القافيَةْ
فهي نور وهي نار حاميَةْ؟
تقشعرُّ الأرض من أوزانِهِ
ويهيم النجم من ألحانِهِ
وكأنَّ الدهر صوت كتبَا
قد حكاه الشعر لحنًا مطرِبَا١٤
هو بالأشعار بحر فائض
وهو للأزمان قلب نابض
حدثته الأرض عن أخبارها
وحبته الزهرُ من أسرارها
هو بالأمس خبير بغَدِ
وهو اليوم نجيُّ الأبَدِ
كشف الله عن الغيب له
فلسان الغيب يُملي قوله
عرف الشرق وراد المغربا
فانجلى السر له ما كُذِّبَا
فرأى العلم سبيلًا للردى
إذ رأى القلب خليًّا من هُدَى
صوت «إقبال» على شط المزار
أسمع اليقظان في هذي الديار

•••

أيها الداعي إلى سر «خودي»
ليست انَّا بهداها نهتدي
فطرة الله التي أودعها
كل نفس خاب مَن ضيَّعها
إنها سر الحياة الخالدَةْ
دونها كل حياة هامدَةْ
إنها التيار مثل الكهرباء
إن يعطل لمحة كان الفناء
إنما العيش جهاد لا يقر
وركود الحي موت مستمر
من يضئ ذا السر في أعماقِهِ
ضاقت الأفلاك عن آفاقِهِ
وتعالى عن حدود الأزمنَةْ
وتجافى عن قيود الأمكنَةْ
شُعَلٌ في قوله تضطرم
وطما في القلب بحر خضرم
مطلع في اليأس صبح الأمل
نافخ في الموت روح العمل
أرأيت الغيث في أرضٍ موات
منبتًا فيها أفانين النبات
همم الأحرار تحيي الرمما
نفخة الأبرار تحيي الأمما
لا يصد الحر عمَّا يأمل
أو يحد البر فيما يفعل
هو بالله العلي اتَّصَلَا
جَلَّ ربي عن حدودٍ وعلا
من يضئ في قلبه إيمانَهْ
ويُنِرْ في سبله وجدانَهْ
فهو بالله عليٌّ وقويّ
وهو بالله غنيٌّ ووليّ
جاهد واللهِ في تيسيره
تحسب الأقدار في تقديره
قائم بالحق بين البشَرِ
ما له في باطل من وطَرِ
يمسك الدنيا ولا تمسكُهُ
يملك الأرض ولا تملكُهُ
وترى الدنيا انطوت في كسبِهِ
ليس منها ذرة في قلبِهِ
إنه القانون بالله سرى
عادلًا في حكمه بين الورى
يسع الناس جميعًا همُّهُ
في سبيل الله ماضٍ عزمُهُ
جاهد في الخير لا يَتَّئِدُ
عزمه في صدره يتقد
وفقير وغناه لا يحد
فقره استغناؤه عن كل يد
هو باللهِ وفي اللهِ غني
ضاق عن هذا الغنى كل ثري

صغار الهمم

إن في الناس قلوبًا جامدَةْ
جذوة الإقدام فيها خامدَةْ
همُّها ما يبتغيه الجسدُ
كل ما تهوى طعام وددُ
حددت آرابُها آفاقها
فحكت في ضيقها أخلاقها
لا تبالي حين تبغي أربَا
عمر الكون به أم خربَا
إنما قانونها أهواؤها
سُخِّرَتْ في نفعها آراؤها
وترى أهواءها تغلبها
كل حين في هوى يجذبها
وإلى الأرض تراها مخلدَةْ
لا ترى نحو المعالي مصعدَةْ
إنما آفاقها هذا البدن
إنما مبركها هذا العطن
إنما أحياؤها كالرمم
خامدات العزم موتى الهمم

العالم معبد

إنما العالم طُرًّا معبد
كل من أحسن، فيه يعبد
كل من أدلى بقول طيِّبِ
ينبت الخير كغيث صيِّبِ
كل من أحسن يومًا عملَا
كل من أحيا مواتًا هملَا
كل من في أرضه قد زرعَا
ليُقيت الناس والعجم معَا
كل من يغرس مخضرَّ الشجر
فيه للإنسان ظل وثمر
كل من ينبط بئرًا في السبيل
تنقع الظمآن من حَرِّ الغليل
كل من يبني بناءً حسنَا
كل من في صنعه قد اتقنَا
كل من أحدث علمًا للبشر
ينفع الناس ولم يقصد لشر
كل من أحدث فكرًا محكمَا
يبتغي للناس خيرًا عممَا
كل من جَدَّ وإن لم يجِدِ
لم يضع وقتًا بلهو ودد
كل من أثَّرَ فيها أثرَا
خالدًا للخير ما بين الورَى
كل من في دهره قد أجملَا
فكرة أو قولة أو عملَا
كلهم للهِ نعم العابدُ
كلهم للخير نعم القاصدُ
فاصطنع للخير فكرًا ويدَا
ولسانًا وابغِ في الخير يدَا

لا رهبانية في الإسلام

ليس منا من ثوى في صومَعَةْ
يحبس الأعمال والفكر مَعَهْ
ضاق نفسًا عن مجال وَسِعَا
فثوى في ضيقه قد خنعَا
ليس شيئًا أن تُرى معتزلَا
عابدًا تخشى البرايا وجلَا
إنما العابد من خاض الحياةْ
موضحًا فيه سبيلًا للنجاةْ
آخذًا بالعدل ما عنه حول
ذاكرًا مولاه في كل عمل
إنه بالحق موصولٌ ومَن
يتصل بالحق لا يخشَ الفتن
ثورة مضمرة في حلمِهِ
أن يفكر ظالم في ظلمِهِ
أرأيت الصقر في متن الرياح
يطلب الرزق بعزم وجناح
طائرًا في الجو يسمو عازمَا
لا يرى حول الدنايا حائمَا
يأكل الجوع ولا يرضى الجيف
لو يراه الجوع يومًا ما أسفّ
فإذا الجد رماه في الشَّرَكْ
لم يطق صبرًا عليه فهَلَكْ
ليس يحوي الحر يومًا شبك
فأسار الحر فيه مهلك
يا فتى هذا الجهاد الأكبر
عزمات الحر فيه تخبر
قلَّ في الناس عليه صابِرُ
ليس إلا الحر فيه ظافِرُ
يا أسير الوهم أقدم لا تبل
وامض فيمن صحَّ عزمًا واتكل

معنى التوكل

من يَنَمْ عن سعيه لا يتكل
إنما التكلان سعي متصل
مقدِم في أمره المتكل
واثق بالله فيما يأمل
عازم ماضٍ على خير سنن
لا يبالي بعقاب أو محن١٥
أرأيت الطير في نور الصباح
تطلب الرزق بعزم وجناح
إنها تخرج في كفِّ القدر
مُقْدِمَاتٌ لا تبالي بالخطر
طالبات الرزق في كل رجَا
تملأ الجو وثوقًا ورجَا
يا لها من أمل قد صورَا
طائرًا يطلب رزقًا قدرَا
أرأيت العزم في شكل جناح
خافقًا لا ينثني دون النجاح
لا يصد الطير خوف التهلكَةْ
أو تبالي بطريق مهلكَةْ
ضرب المختار هذا مثلَا
للذي يسعى عظيمًا أملَا١٦
أرأيت الطير في أوكارها
راجيات رزقها في دارها؟
ثاويات تبتغي أرزاقها
ليس تدري من إليها ساقها
من ونى في سعيه لم يتَّكِلْ
إنه للوهم والعجز وُكِلْ
إنما التكلان عزم وعمل
إنه الإقدام في ضوء الأمل
إنه الإعداد والعزم معَا
إنه الحر إلى القصد سعى
إنه التقدير في سعي البشر
هو عند الله من بعض القدر
همم الأحرار في إيمانِها
سنن الخلَّاق في أكوانها
سنة الله التي لا تبدل
ما لها كرَّ الليالي حول

غفلة بعض المسلمين عن معنى التوكل

آه من لي بقلوب واعيَةْ
مُقْدِمَات في المعالي ساعِيَةْ
آه من يفقه هذا الكَلِمَا؟
آه من يدرك هذا النَّغَمَا؟
أيها المسلم ماذا قد عدا؟
كنت في الأرض جهادًا وهدى
آه للنور الذي قد طفئا
آه للقلب الذي قد صدئا
آه للنار التي تشتعل
فيضيء الأرض منها شعل
خمدت فالقلب بَرْدٌ وهمود
خمدت فالنفس عجز وركود
إن هذا القول زندٌ وحجر
ليت شعري هل لديه من شرر
إنني أضرم هذا الألما
علَّهُ في القلب يذكي ضرما
إنني أنفخ في هذا السواد
علَّ جمرًا محرقًا تحت الرماد
علني أذهب هذا الخبثا
علني أمحق هذا العبثا
إنني أبعث فيهم نغمي
علني أبعث ميت الهمم
إنني أمطر في أرض موات
علها تنبت ألوان النبات

الأمل

لا ترانا في جهاد نيأس
ليس من أمتنا من يئسوا
أشعل الإيمان في كل دجى
واقدح العزم إذا الهول دجَا
وارفعن في كل ليلٍ شُعَلَا
وابعثن من كل يأس أَمَلَا
وصِلِ القلب بخلَّاق الرجاء
واخلقن في كل حين ما تشاء
إنما الإنسان فكر وعمل
يصدع الظلماء في نور الأمل
أمل الإنسان في القلب ضياء
وهو في الكَفِّ جهاد ومضاء
إنه النار التي تشتعل
إنَّهُ النجم الذي لا يأفل
إن دجا باليأس ليل غيهب
يصدع الظلمة هذا الكوكب
هو وحْي الله يهدي عبدَهُ
ويريه في الدياجي قصدَهُ
هو نور الله في أفق النجاةْ
هو هدي الله في هذي الحياةْ
إنه القطب إليه ينزع
كل قلب وإليه يفزع
إبرة تهدي إلى قصد السبيل
تقصد القطب وعنه لا تميل
يا دليلًا هاديًا في كل وادْ
أنت سرُّ الله في كل فؤادْ
يقدح القلبُ إذا ما خَفَقَا
شررا منه منيرًا محرِقَا
فهو نور وهو نار يلذع
يوضح النهج وفيه يدفع
فَأْمُلِ الخير وصابِرْ لا تمل
إنما الدنيا رجاءٌ وعمل
وقضاء الله عون الآملين
وهو في عون الأباة العاملين
لا يرد الله قلبًا آملَا
لا يرد الله عبدًا عاملَا
رُبَّ عبدٍ مخلص قد أقسمَا
فأبر اللهُ منه القسمَا١٧
وجهاد العبد أولى أن يبر
إنه الفعل على القول أبر
إن عزم الحر فيه قسم
مضمر يعلمه من يعلم
قد تولَّى الله هذا المقسم
فدعاه في يقين يقسم

الوجدان السليم

ذلك الوجدان إن لم يصدأِ
من غشاوات الهوى أو يطفأ
أو تحجيه رياح عاتيَةْ
صرصر الأهواء فيها سافيَةْ
أو يجلله ظلام الغفلَةِ
أو يحجبه حجاب الشهوَةِ
أيقظ الوجدان يا من غفلا
فمضى يحيا حياة هملا
أيقظ الوجدان واسمع وحيَهُ
أيقظ الوجدان واتبع هديَهُ
إنه المرآة، إما صُقِلَا
تبصر العالم فيه مَثَلَا
اجلُه بالفكر والعلم معَا
واجلُه بالذِّكْرِ حتى يسطِعَا
لا تضع في السوق هذا الجوهرا
لا تطع من باع فيه واشترى
لا تضع في لغوهم هذي الحِكَمْ
لا تغُلْ ضوضاؤهم هذا النَّغَمْ
نحن في الدنيا حوانا مهمه
مجهل أعلامه تشتبه
تقصد المنزل هذي القافلَةْ
في فيافٍ خاف فيها السابلَةْ
فاتبعن خِرِّيتَهَا لا تُبْلِسِ
وأصخ فيها لصوت الجَرَسِ١٨
إنه الوجدان في هذه الفلاةْ
إنه داعٍ ينادي للنجاةْ
أرأيت الفلك تسري ماخرَةْ
في ليالٍ وبحارٍ زاخرَةْ
تهتدي فيها بنور بارق
من منار في الدياجي خافق
تهتدي النهج على لمحاتِهِ
وتوقِّي الصخر من ومضاتِهِ
وهدتها إبر لا تغفل
قاصدات قطبها لا تعدل
إنما الوجدان في بحر الحياةْ
إبرة القطب ومصباح النجاةْ

طغيان العقل على القلب

محنة للناس هذا الزمن
كل إنسان به ممتحن
كل ما تبصر فيه فتن
فتن فيها تحار الفطن
أطلق الإنسان من أغلالِهِ
سُيِّبَ الشيطان من أحبالِهِ
جرد العالم من أستارِهِ
وانبرى يكشف عن أسرارِهِ
وأجال الفكر في طياتِهِ
ومضى يبحث في ذراتِهِ
وأحاط الأرض من أقطارِهَا
ومضى يبحث في أغوارِهَا
فارعًا في ظهرها أجبالَهَا
مخرجًا من بطنها أثقالَهَا
طائرًا في اللوح من فوق السحاب
حيث لا يطمع صقر أو عقاب
طاويًا أقطارها لا يغترب
كلما يسمو إليه يقترب
يسمع الهمس بأقصى المغرب
من بأقصى الشرق فاسمع واعجب
ضاقت الأرض عليه فانتحى
في ذُرَى الأفلاك يبغي مسرَحَا

•••

آه لو أعطي قلبًا خافقَا
مثلما أُعْطِيَ عقلًا بارقَا
آه لو يعمر قلبًا راحمًا
مثلما يعمر عقلًا راجمَا
آه لو أعمر عينا ساجمَةْ
مثلما أعمل كفًّا حاطِمَةْ
آه لو هذبه إيمانُهُ
مثلما مكَّنَهُ عرفانُهُ
آه لو سيطر في أهوائِهِ
مثلما سيطر في أجوائِهِ
آه لو لم يُعْمِهِ طغيانُهُ
فيهدَّمُ فوقه بنيانُهُ
ليته لم تُطْغِهِ أعمالُهُ
ليته لم تُعْمِهِ أموالُهُ
ليته لم تُعْشِهِ أضواؤُهُ
وتوقر سمعه ضوضاؤُهُ
آه لو أن شعاع الكهرباء
في ظلام الصدر منه قد أضاء
ويله من ماردٍ قد دمرَا
ما بناه مخربًا ما عمرَا
ليته حاط الذي قد شيدَا
بوئام وسلامٍ وهدَى
ليته حاط البلاد الزاهرَةْ
ليته صان الجنان الناضرَةْ

•••

إن هذا العصر روض مُزْهِرُ
كل غصن فيه نامٍ مثمرُ
نضرت فيه فنون الزهر
أينعت فيه ضروب الثمر
آه لكن في مهب العاصِفَةْ
كل حين تعتريه جائِفَةْ
صرصر تأتي عليه لا تذَرْ
تحطم الأغصان فيه والشجَرْ
يخرب البستان من قد غَرَسَا
يهدم البنيان من قد أَسَّسَا
كل طاغٍ يدعي البستان لَهْ
يبتغي الأشجار والبنيان لَهْ
لو تآخَوْا ورضُوا بالمعدلَةْ
وجنوا في غير بغي أكُلَهْ
لو تآخَوْا واهتدُوا واستثمرُوا
ثم أنمى عدلهم ما دمروا
لأووا منه إلى ظل ظليل
ورأوا في زهرِهِ كل جميل
وجنوا أثمارَهُ وانتفعوا
ونما بستانُهم فاستمتعوا

•••

فتعالَوْا ننظر الداءَ العَصِيّ
ونرى الأسباب في الداء الدَّوِيّ
إن هذا الشعر لا يحصي العلَلْ
إنه يعيا بذا الأمر الجلَلْ
إنه لمحة عين عابِرَةْ
ليتها كف طبيب ماهِرَةْ
إنه نفثة نفس شاعرَةْ
ليتها كف حكيم قادرَةْ

البيت

معبد لله ما أطهرَهُ
فيه سر الله ما أظهرَهُ
روضة ينبت فيها الخلق
وترى الحق عليها يشرق
تنشأ الخيرات فيه وترب
من رأى الخير له أم وأب!
أنفس فيه كنفس واحدَةْ
ألفتها في حماها الوالدَةْ
بل شكول مثلث للوالد
كالمرايا حول وجه واحد
كلها حب وإيثار فَلَا
حسد فيها ولا حقد وَلَا
فأخٌ يفدِي أخاهُ جاهدَا
وكلا الصنوين يفدي الوالِدَا
وترى الأم عليهم حانيَةْ
تسهر الليل إليهم رانيَةْ
وأبوهم في غُدُوٍّ ورواحْ
يبسط الحب عليهم والجنَاحْ
روضة للحب فيها مثلَا
كل غصن بأخيه اتصلَا
كل خير ها هُنا منبعُهُ
كل بِرٍّ ها هُنا مطلعُهُ
مسجد يعبد فيه الوالدان
وهما الخلاق فيه يعبدان
يعبد الرحمن من قد عبدا
والديه وإلى البر اهتدى
فإلى توحيده من غير بينْ
قرن الرحمن بر الوالدينْ
إن تشاءوا مثلًا لا يدفع
بيِّنًا كالشمس نورًا يطلع١٩
فاقرءوا يا قومنا كي تشهدوا
«وقضى ربك ألا تعبدوا»
«واعبدوا الله» فهيا فاقرءوا
«قل تعالوا أتلُ» فيها النبأ٢٠
أحكموا الأسرة من قرآنها
وارفعوا بالدين من بنيانها
واعمروا البيت ببر ووفاء
وسلام ووئام وإخاء
إن هذا البيت في نظم الأمم
مثل بيت الشعر في نظم النغم
كل بيت ألفت آحادُهُ
آزرت أسبابه أوتادُهُ
ونظام البيت من نظم الكَلِمْ
كل لفظ بأخيه ينتَظِمْ
كل لفظ من حروف ألِّفَا
كل حرف بأخيه ائتلَفَا
ونظامًا واحدًا يبني القصيد
ليس فيه من قصور أو مزيد
في قوافٍ ألفت أبياتها
ورويٍّ ناظم أشتاتها
ومعانٍ بعد هذا غاليَةْ
ترتقي الأنفس فيها عاليَةْ
هل رأيتم قَطُّ من شعر رفيع
كل بيت فيه ذو معنى وضيع
كيف تُبنَى للمعالي أُمَمُ
من بيوت جمعُها لا ينظمُ
من بيوت في خلاف وشقاق
يؤذن البيت أخاه بالفراق
كل بيت فيه لفظ ثائر
كل لفظ فيه حرف نافر
لا تقل فيها زحاف وعِلَلْ
بل شذوذ وسِناد وخَلَلْ

•••

ليت شعري ما أصاب المسجدا
ما أصاب الخير فيه والهدى
لا أرى جمعًا لديه نظمَا
لا ولا صفًّا لديه قوِّمَا
ما أحس اليوم ترتيل القُرَانْ
لا ولا أسمع ترجيع الأَذَانْ
خرس المنبر عن أصواتِهِ
عطل المحراب من آياتِهِ
ذهب العباد عنه قددا
ومَضَوْا في كل أفق بِدَدا
غلب الملهى عليه والطرِيقْ
ومضى في غَيِّهِ كل فرِيقْ

•••

روضة البيت أراها ذاوِيَةْ
كانت الأمس زهورًا زاهِيَةْ
صوَّحَتْ أعشابُها والشجر
وذوت أوراقها والزهر
صدفت عنها عيون واقِيَةْ
وحمتها الماء أيد ساقِيَةْ
غاب بستانِيُّهَا دون إيَابْ
فطغى الشوك عليها والترَابْ
إنها يا قومنا إحدى الكُبَرْ
أنعموا التفكير فيها والنَّظَرْ
هي أصل الداء أو أصل الدواءْ
نعمة الأقوام فيها والشقَاءْ

•••

اعمروا بالخير هذا المسجِدَا
وابتغوا الخيرات فيه أبَدَا٢١
اعمروا البيت وردوا والدَيهْ
واجعلوه حرمًا يؤوى إلَيهْ
نضروا الروضة من إروائها
وابتغوا النعمة في أفيائها
أرجعوا الطير إلى أوكانها
ليشب الولد في أحضانها
ألفوا الأحرف في كلماتها
وانظموا الأمة من أبياتها

تنافر الجماعة

إننا نبصر في كل مكان
حسرة الأنفس في هذا الزمان
من وجوهٍ مات فيها الخفر
وعيون حَارَ فيها النظر
يلعن الوجه أخاه نافرَا
يبغض الطرف أخاه ناظرَا
قطَّعوا من بينهم كل سبب
هجر الناس حياء وأدب
ثورة تبصرها كل طريق
يتجلى الهجر فيها والعقوق
ليست الأم بها أمًّا ترى
لا ولا الوالد فيها عززَا
لا ولا الأخت لها حرمتها
من أخيها وقَدت حسرتها
لا صغير قد رعى حق الكبير
أو كبير راحم ضعف الصغير
فترى في قبحها أفعالها
تسمع الألفاظ أصداء لها
تلك فيض من قلوب في نفور
تقدح النيران منها في الصدور
إنما الناسُ صلاح وفساد
بالتئامٍ أو شقاق وعناد
إنَّنَا نُبصِر آحادًا ولا
نبصر الحب بها متصلَا
إنها الأعداد في غير حساب
لم يؤلفها على النهج احتساب
ومن الأعداد بُغض واختلاف
ومن الأعداد حُبٌّ وائتلاف
ومن الأعداد حقد وشقاق
ومن الأعداد رُحم ووِفَاق
فإذا سارت على غير سنن
فهي بُغْضٌ وشِقَاقٌ وفِتَنْ
وإذا ألَّفتها في قاعدَةْ
فاستقامت في طريق واحدَةْ
فهْيَ نظم وائتلاف واطرادْ
وحساب بالغ كل مرادْ
فانظروا ما النظم في أعدادنا
وانظروا ما الجمع في آحادنا
انظروا هذه القلوب النافرَةْ
واجمعوا هذه الوجوه الثائرَةْ
املأوا الأنفس خيرًا وهدَى
واجمعوا بالحب هذا البددَا
اغسلوا بالحب هذا الدرَنَا
أطفئوا بالود هذا الضغَنَا

•••

ما ينال الحب يومًا بالهوى
إنما الأهواء أسباب النوى
يجمع الحق نفوسَا شارِدَةْ
إن للحق طريقًا واحِدَةْ
ليس إلا الحق في جمع القلوب
ما سوى الحق إليه تستجيب
أرضعوها الحق في ألبانِهَا
أشعروها الحق في أحضانِهَا
واجعلوه قبلة في كل حين
لا تزيغوا عن شمال أو يمين
ومن الحق إلى الخير الطريق
ليس إلا الحق للخير رفيق
ومن الخير إلى الحب المسير
ومن الحب إلى الجمع المصير

•••

لا يُرى للحق إلا مشرق
كل حق من سناه يشرق
ليس للخيرات إلا منبع
كل خير من جداه ينبع
إنما للحب نهر واحِدُ
كل ينبوع إليه عائِدُ
منبع الحق هو الحق المبين
بارئ بالحق كل العالمين
منبع الخير هو البر الرحيم
بره في خلقه فيض عميم
منبع الحب هو الله العلي
هو مولى للبرايا وولي
فأضيئوا النفس من إيمانها
وانظروا الآيات من إحسانها
املأوا الأنفس من نور اليقين
وانظروا إبداعها في كل حين
إنما الإنسان من لحم ودم
فيه قلب كسراج في ظُلَمْ
ذلك اللحم إلى ماء وطين
ذلك النور لرب العالمين
فإذا أطفئ فيه ذا الضياء
فهْوَ وحش هَمُّهُ سفك الدماء
إن هذا الجسم ذو وزن وَحَدّ
وبهذا القلب كون لا يُحَدّ
هالك من عاش في ضيق الجسد
من يَعِشْ في وسعة القلب خلد
أنت في جسمك من طين وماءْ
أو قوام فيه لحم ودماءْ
أنت في الروح حياة وطماح
ورجاء وجهاد وكفاح
أنت في قلبك سِرُّ العالمين
فيه أمر الله للخلق مبين
لا يحد القلب في الآفاق حَدّ
إنه يكبر عن وزن وعَدّ
أيها الغافل عن سر الإلَهْ
انظرن في القلب يوما لتراهْ
ضاق عن أمر الإله العالم
وحواه القلب، هذا الخاتم
كل ما أدركت من معنى جميل
كل ما أبصرت من أمر جليل
كل ما أوعاه تاريخ البشر
من جلال وجمال وعبر
كل ما سجل عن أخيارِهِ
كل ما حدث عن أبرارِهِ
هو نور الله في القلب الصغير
أو تجلِّي اللهِ في الكون الكبير٢٢
هو نبض القلب في الدنيا انتشر
هو خفق القلب يرمي بالشرر
إنما الإيمان بالدنيا يدورْ
فهو نار في دُجَاهَا وهْو نورْ
فاجعلوا منه تباشير المنى
واملأوا الآفاق منه بالسنى
ارفعوا الأنفس فيه صاعدَةْ
ارفعوها عن معانٍ خامدَةْ
عن متاع وطعام وشراب
ومعانٍ كلها نبت التراب
قيمة الإنسان قلب للعُلَى
لا رياش ومتاع للبِلَى
كل ساع قدره بغيته
وزنه بين الورى منيته
أيها القانع دودًا في تراب
حلقن في جوِّها مثل العقاب
أيها السادر في لهو ودد
من لهذا الكون في يوم وغد
أنقذوا الإنسان من هذا الردى
أبصر الإنسان يا قومي هوى

•••

أيها المسلم يا من خُلِقَا
ليكون الحق فيه خُلُقَا
انهضنْ يا صاح بالعبء الثقيل
أنت في الأرض عن الله وكيل
قد قضى الخلاق بالأمر إليك
قسم الأرزاق يومًا بيديك
سيطرن بالحق في هذي البلاد
واحكمن بالعدل ما بين العباد
أنقذِ الإنسان من هذا الشقاء
وأزل من أرضنا هذا العناء
املأ الأرض بحُبٍّ وصفاء
وسلام وودادٍ وإخاء
واحكمنْ بالحق في أرجائها
وانعمنْ بالأمن في أفيائها
واملأ الآفاق حقًّا وسنَا
واملأن بالخير آفاق الدُّنَى
علم الإيمان والحق العلي
علم الإيثار والزهد الغني
زهد من يملك آلاف الألوف
وهي في عينيه لغو وزيوف
قولة في الحق أعلى عنده
فعلة في الخير أغلى عنده
كل ما يمسك منها، درهم
كل ما ينفق منها مغنم
هذه الأموال جمعًا يا بنيّ
لا تساوي ذلة الحُرِّ الأَبِيّ
إنها اللعبة في عين الحكيم
إنها الدرهم في كف الكريم
جوهرًا يحسب من لا يعرف
وهي عند العارفين الصدف
إنما الجوهر قلب قد أضاءْ
وسع الأرض جميعًا والسماءْ
لا يعاف الحُرُّ أكل الطيبات
آخذًا في الأرض كل الثمرات
ربما استولى على أعدادها
ربما أوفى على آمادها
آخذًا أو معطيًا لا يشره
رابحًا أو خاسرًا لا يأبه
عَبَّدَ الدنيا ولا تستعبدُهْ
فاكهًا في نعمة لا تفسدُهْ
حائمًا للرزق صقرًا طائرَا
لا يربغ الرزاق فيها صاغرَا
فإذا شيم هوانًا فزعَا
مثلما يفزع من قد لسعَا
واستمد العز من همتِهِ
واستثار النار من عزمتِهِ
فإذا الماء لهيب ودخانْ
وإذا الحلم ضراب وطعانْ
وإذا سد عليه كل باب
فارق الدنيا إلى غير إياب
إن موت الحر في ذلته
وحياة الحر في عزته

•••

قال لي شيخ وقور ألمعَيّ
من بني ينبع شهم عربِيّ
كنت يومًا في عيون ونخيل
في القرى من ينبع النخل الجميل
ومعي من أهل نَجْدٍ نَفَرُ
اصطياد الطير فيهم وَطَرُ
وإذا صقر علينا حَلَّقَا
سابحًا في جَوِّهِ قد خَفَقَا
أسرع الرفقة في نصب الشَّرَكْ
وسمانى وضعوها في الشَّبَكْ
وهوى فانقض هذا الأجدل
بل هوى هذا القضاء المنزل
فطوى سقطيه هذا المهلك
وثوى في حبله يرتبك
وأتى الصياد للطير الأسير
عينه في اللوح لكن لا يطير
سابح الجو بخيط علقا
ذلك الخفاق فيه أخفقا
ذلك الصياد في جو السماء
صاده بالختل صياد القضاء
قاهر الجو بعزم وجناح
بدل الشُّبَّاك من متن الرياح
ضاقت الأجواء عنه مسرحَا
كيف يرضى في إسار مطرحَا؟
ثم قال الشيخ جئنا ننظر
لنرى الأجدل أنَّى يؤسر
فإذا دمعة عين هاملَةْ
وإذا المهجة فيها سائلَةْ
ذا يسمى «الحر» من بين الصقور
لا يطيق الأسر من بين الطيور٢٣
فكُنِ الصقر الأبيَّ العالِيَا
وكُنِ الحُرَّ الكريم الآبِيَا
واحذرنْ يا حر هذي التهلكَةْ
احذرن من خوض هذي المعركَةْ
إنها معركة للأبطن
ضل في غوغائها ذو الفطن
في وغاها كل حزم ضيعا
غاب عنها العقل والقلب معَا
لا تغرنك مرايا بارقَةْ
وفنون وعلوم خارقَةْ
إنها رأس بلا قلب يسير
إنها هرْج ومرْج وسعير
قد أضلَّ الغي هذي الأُمَمَا
فثوى إبليس فيها حكما
فدعاها في ظلام تصطدمْ
ورماها في ضلال تحتدمْ

الشيوعية

أحدث الدعوات في هذي الأمم
تسلُك الإنسان في سلك الغنم
تَعِدُ الإنسان بالمرعى الخصيب
فيه عشب ورُغاء ونبيب
تَعِدُ الإنسان أعشاب الربيع
ثم عيش مثل ما عاش القطيع
يوعد المرعى ولا شيء له
وعصا الراعي تريه أكله
ليس يرغو سربهم: أين المسير
لا، ولا يثغو إلى أين المصير
ويتم الشِّبه فيه بالغنم
قطعه عن منبع الخير العمم
كفره بالله والخبر وما
فيه إنسان عن العجم سما
وضياع البيت منه والرحِم
وحنان القلب من أخت وأم
كافر بالله لا بالوثن
كافر بالسلم لا بالفتن
يبصر الظلمة عند الصنم
عن ضياء الله والحق عمي
كل ما في البيت من وُد وحُبّ
لا يساوي عنده مكيال حَبّ
كل ما يدعو أناس بالشعور
لا يساوي عنده كف شعير
ذاكم السير وهذا المنتهى
أنعموا التفكير يا أهل النهى

إقبال

بين الِاقبال من سر الحياةْ
وأزال الستر عن نور النجاةْ
بين الِاقبال من سير الزمان
وأفاض النور من هَدْيِ القُرَان
بث في النفس كلامًا من شرر
منه عشق الحق في القلب استعر
فتقت نظراتُه كل حجاب
فرأى الدوحة من تحت التراب
ضاقت الآفاق عن نظراتِهِ
ضجت الأفلاك من أنَّاتِهِ
وصلته نفحة من رَبِّهِ
فتجلى نوره في قَلْبِهِ
قد ثوى في قلبه كل الجهات
واستوى في فكره ماضٍ وآت
سال في ألحانه دمع ودَمْ
والتقى الماء عليها والضرَمْ

•••

يا برود القلب خذ من نارِهِ
فالحياة الحق في أشعارِهِ
يا موات القلب خُذْ من رَجْعِهِ٢٤
يا جمود العين خذ من دَمْعِهِ
يا صغير الهم خذ من همتَهْ
يا كليل العزم خذ من عزمتَهْ
يا أسير اليأس خذ آمالَهُ
في دجى اليأس أَثِرْ أقوالَهُ
أيها المسلم صعِّد في السماءْ
وابلغن في جوها أعلى العلاءْ
وخذ الإقدام منه والطماح
وجناحًا قاهرًا هوج الرياح
ذا جلال الدين من خلف العصور
قد أتى في شعره نار ونور٢٥
إنه الإسلام في عزتِهِ
إنه الإيمان في قوتِهِ
إنه القرآن في أنواره
إنه الفرقان في أسراره

•••

بلِّغي يا ريح في شط النوى
أدمعي قبرًا بلاهور ثوى
وامض يا برق بوجدي وهيامي
أبلغن قبرًا بلاهور سلامي
إن إقبالًا بلاهور أقام
رحمة الله عليه والسلام

دعاء

فالق الإصباح رب المشرقين
باسط الليل ورب المغربين!
أنت في الصبح ضياء في جمال
أنت في الليل ضياء في جلال
ناشر الشمس خضمًّا من ضياء
طاوي الذرَّة شمسًا في خفاء
أنت نور في ظهور وجلاء
أنت نور في حجاب وخفاء
يا جليًّا في دجى أستارِهِ
يا خفيًّا في ضحى أنوارِهِ
يا أنيسًا في قلوب العارفين
وحياة لقلوب الغافلين
يا ضياء العين في النور العممْ
وضياء القلب في داجي الظلمْ
قربك المؤنس في هذي القفار
هديك المنقذ في هذي البحار
ناظم الكون البليغ المبدعَا
محسنا مطلعه والمقطعَا
خلقك الألفاظ فيه وافيَةْ
أمرك الوزن له والقافيَةْ٢٦
كل لفظ فيه نظَّار إليك
كل معنى فيه برهان عليك
منك هذا العقل، هذا الثائر
طالب إياك ساعٍ حائر
جاوز الأفلاك يسعى نحوكا
يكشف الأستار يبغي وجهكا
منك هذا القلب، هذا الخافق
في الدياجي منك نور بارق
ذاكر إياك راجٍ كل حين
خفقُه ذكر وشوق وحنين

•••

اجعلن عقلي ضياءً ثاقبَا
يصدع الباطل حقًّا صائبَا
واشدُدَنْ فكري بصدق وسدَادْ
واحبُني التوفيق في كل مرادْ
واملأن قلبي بحُبٍّ وصفَاءْ
واحفظنْه من شقاق ومراءْ
وارفعنْ في الحق صوتي عالِيَا
وجَناني فيه عضبًا ماضِيَا
اجعلنْ وجهك قصدي لا سواهْ
هوِّنَنْ في عين قلبي ما عداهْ
امنح المسلم قلبًا خافقَا
واحبُه بالعلم عقلًا بارقَا
امنحنْه العقل والقلب السليمْ
واهدِهِ رَبِّ الصراط المستقيمْ
واجعلنْه في البرايا حَكَمَا
قاضيا بالعدل إمَّا حَكَمَا
اجعلنه قائدًا بين البشر
هاديًا للخير لا يسعى لشر

•••

أنقِذِ الإنسان من هذي الغمَمْ
أنجينْ من بغيها هذي الأمَمْ
هدم الإنسان ما قد عمرا
حينما أمَّر عقلًا كفرَا
فاهدِ بالإيمان عقلًا حائرَا
واجعل القلب عليه آمرَا
أدرك الناس بحب ووئامْ
إنك الداعي إلى دار السلام٢٧
السابع من رجب سنة ١٣٧٠ من الهجرة
في مدينة كراچي
ولله الحمد أولًا وآخرًا

•••

سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
١  الإرة: جبل النار.
٢  يعني: لم يكن العالم في قلبه إلا نفيًا.
٣  جام جم أو كاس جمشيد، في خرافات الفرس: كاس كانت ترى فيها الأقاليم السبعة.
٤  المحرم هنا الأمين على السر، كما يؤتمن المحرم من الأقارب على الحرمات.
٥  إشارة إلى الآية: وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ.
٦  هذا من قول إقبال: أي كرمك شبتاب سراپاي تو نوراست پرواز تويك سلسله غيب وحضور ست (يا يراعة الليل كلك نور، وطيرانك سلسلة من الغيبة والحضور).
٧  حاصل المعنى في هذه الأبيات: أن النفس تارة تدرك إداركًا واضحًا، وتارة تغم عليها الحقائق.
٨  إشارة إلى الآية في قصة موسى: لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى.
٩  إشارة إلى الآية: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ.
١٠  النعلان هنا كناية عن الرغبة والخوف، والإشارة إلى الآية في قصة موسى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى.
١١  المنشد في الشطر الأول: منشد الشعر، وفي الثاني: الذي يدل على الضالة، والناشد: من ينشدها.
١٢  جاء هذان البيتان بألفاظهما العربية في مثنوي جلال الدين.
١٣  هذه: مبتدأ، وهمم: خبر.
١٤  يعني أن الدهر أمام الشاعر كعلامات الموسيقى، والشعر قراءة هذه العلامات.
١٥  العقاب: جمع عقبة.
١٦  جاء في الأثر: «لو توكلتم على الله حق التوكل لرُزِقْتُم كما ترزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا.»
١٧  إشارة إلى ما جاء في الأثر: «رُبَّ أشعثَ أغبرَ لو أقسم على الله لأبرَّه.»
١٨  جرس القافلة، وفيه إشارة إلى قول سعدي الشيرازي: ما زمنز مقصود من خبريم، أين قدرهست كه بانگ جرس ميآيد.
١٩  الآية: وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.
٢٠  الآيتان: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.
٢١  المسجد هو الأسرة.
٢٢  الكون الكبير: القلب.
٢٣  الحر نوع من الصقور قل أن يعيش بعد إمساكه.
٢٤  الرجع: المطر، كما جاء في القرآن.
٢٥  مولانا جلال الدين الرومي والشاعر يعترف باقتدائه به.
٢٦  في القرآن الكريم أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
٢٧  في القرآن الكريم وَاللهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤