الفصل الثالث

(نفس الغرفة — في اليوم التالي قبيل المساء.)

المشهد الأول

كمال – جلال – مريم

(يرتفع الستار عن كمال وهو جالس أمام المنضدة مستغرقًا في الكتابة وبيده لفافة تبغ.)

مريم (تستقبل جلال بك من باب اليمين) : تفضل يا سيدي البك (تخرج مريم).
كمال (دون أن يرفع رأسه أو يلتفت نحوه) : جئت يا جلال، لقد أخفقت أيضًا في تنفيذ الفكرة الأخيرة أليس كذلك؟ (يأتي جلال بحركة يأس ويأخذ كمال في إغلاق ظرف كبير في يده، ويستمر في الحديث وظهره إلى جلال) لقد كنت مقدرًا هذا الإخفاق من قبل، ولكن الواجب كان يقضي علينا أن نطرق كل باب من أبواب الأمل.
جلال (بفتور) : قد ناضلت وكافحت كثيرًا يا كمال، وساعدني كل أصدقائي ولكن ذهبت مساعينا أدراج الرياح.
كمال : نعم، كان علينا ألا نفكر في مسألة الفرار بتاتًا.
جلال : أجل، فإن النجاح لم يكن مضمونًا، أرأيت يا عزيزي كيف أنك لم تكن موفقًا عندما قلت لي بالأمس: إن المال كفيل بحل كل مشكلة، هناك مسائل لا يذللها المال.
كمال (بصوت متقطع كمن يفكر في أمر) : نعم، طبعًا، لا يبعد أن يكون الأمر كما تقول.
جلال : ظننت أنني سأراكَ في حالة عصيبة وما قدرت أن ألاقيك على هذا الحال من السكون تقابل نبأ الإخفاق بمثل هذا الهدوء، والحقيقة …
كمال (يلتفت إليه) : الحقيقة يا عزيزي أن اليأس إحدى الراحتين، لا يبلغ اليأس من الإنسان ما يبلغه ارتباك الفكر واضطراب العزيمة، وعدم الاستقرار على أمرٍ باتٍّ، إن الاقتناع بقَبول الأمر الواقع على ما فيه من ألمٍ مدعاة إلى السكون، وليس ما يدعو إلى تعريفك بنفسيتي وأنت أعلم الناس بها؛ إذ لو كان الأمر يتعلق بي وحدي، أي لو أنني كنت أنا الوحيد أمام العاصفة، لما اضطربت كل هذا الاضطراب.
جلال : لا ريب في ذلك.
كمال : وما كنت بالطفل الذي يتمسك بأهداب الحياة لولا …
جلال : هذا صحيح، لو لم تكن هناك امرأة محبوبة يجب إنقاذها.
كمال (يخفض رأسه يائسًا مستسلمًا) : نعم، هي التي جعلتني ذليل النفس، هي التي دفعتني إلى النضال والجهاد منذ ليلة أمس، هي التي صيرتني أتنازل إلى البحث عن أمثال تلك الوسائل الذليلة … (برهة يسود فيها السكوت.)
جلال (بتردد) : حدثني عن عزيمة تريد تنفيذها، أهو عزم صائب؟
كمال : لا أعلم بعد أهو عزم صائب أم سخيف، ولكنني أرى أنه واجب التنفيذ، لأنه الوسيلة التي أوحى بها القلب واهتدى إليها العقل، والآن أصغِ إليَّ جيدًا يا جلال (يتلاعب بطرف من ثياب صديقه دون أن ينظر إلى وجهه) أريد منك الخدمة الأخيرة.
جلال (متلعثمًا) : الأخيرة؟ ما معنى ذلك؟ لماذا تكون الأخيرة؟
كمال : ستفهم السبب، ها قد وصل القطار، فلا يلبث شريف بك أن يحضر، أريد مقابلته وجهًا لوجه.
جلال : كيف يكون ذلك؟ هل في الإمكان أن أدعكما تتقابلان مع علمي بالموقف، لا أستطيع ذلك بتاتًا، وفضلًا عن ذلك فقد كنت على غير قصد مني سببًا في أكبر جرم ارتكبته إلى اليوم، فدعني أتلافى ما ارتكبته من الخطأ، سأقابله بالنيابة عنك يا كمال فأحاول إقناعه بأن نزيلتك ليست هي سنية هانم المطلوبة.
كمال : دعك من هذه الأفكار الصبيانية.
جلال : وإذا فشلت في إقناعه ألجأ بطبيعة الحال إلى إفهامه حقيقة الأمر، فمن المحتمل أن يكتفي بطلاق زوجته، وإذا أصر على مقابلتك فسوف أحول دون بغيته بكل الوسائل الممكنة.
كمال (بإشارة قاطعة) : الأمر يتعلق بنا نحن الاثنين، فليس من حقك التدخل.
جلال : ولكن يا كمال أنتَ تجازف بحياتك متعمدًا، لأنك ستعطيه الحق القانوني عليك.
كمال : ليس شريف ذلك الرجل الذي يحاول الاستفادة من مثل هذا الحق، اسمع يا جلال، لقد فكرت طويلًا في هذا الأمر، وقلبت جميع وجوهه، فلم أرَ سوى طريقة واحدة تجعلني في حِل من مقابلته وجهًا لوجه، وهي تسليم نزيلتي إلى رجال البوليس قبل حضوره، ولكنني لا أقوى على ارتكاب مثل تلك الدناءة حتى ولو كانت أخرى ليست لها تلك المنزلة السامية من نفسي، أتراني منحطًّا سافلًا إلى هذا الحد؟ وهل من الشهامة للرجل الشريف أن يتسفل لارتكاب هذه الدناءة؟ فها أنت يا جلال ترى أنه لا مناص لي من مواجهته بنفسي، سأخبره أن نزيلتي ليست سنية فإن لم يقتنع وهذا ما أنا على ثقة به؛ لأن الأدلة متوفرة ضدي إلى حد بعيد، مما سيدفعه إلى المغامرة في القيام بنفسه أو بواسطة رجاله إلى استعمال القوة، وهنا سأقاوم نعم، سأقاوم بالسلاح (يأتي جلال بحركة استنكار) سأقاوم يا جلال لا لغرض الفتك أو رغبة في قتل أحد، وإنما في الهواء ستكون الطلقات لأتوصل بذلك إلى قتل نفسي، ولكي لا أرى المأساة التي ستمثل هنا بعد موتي، هل فهمت؟
جلال (باضطراب) : ولكن هي؟ إنك تزجها في أحرج موقف عندما تدفع بنفسك إلى الموت.
كمال (بسكون) : نعم، الأمر كما تقول، ولكن … (مشيرًا بيده إلى دماغه) بعد أن يتهشم هذا لا يبقى في داخل القلب ما ينهشه (يضحك بعصبية)، ومع ذلك ألا يكفي الدم للتكفير عن الذنوب الماضية والمستقبلة؟
جلال : هذا فظيع، إنه لجنون محض، لا أطيق أن أحتمل ذلك.
كمال (مبتسمًا في حسرة ومداعبًا صديقه) : لا تكن طفلًا يا جلال ولا تسترسل في الإحساس كل الاسترسال، أنت تعرفني تمامًا، لن أحيد عن هذه الخطة مهما كانت العاقبة، وما أريده منك أن تقوم غدًا في قطار الصباح إلى القاهرة لتكون عند أهلي قبل وصول أخبار الحادثة، فتجمع أختي وأمي وتُنبِّئهما أولًا بأنني جريح طريح الفراش، هكذا أوصلوا إلينا نعي والدي الباشا منذ أعوام، وبعد … (بتعب) وبعد … أترك لك التصرف في الباقي حسبما يتراءى لك، لقد جمعت كل أعمالي الرسمية والخصوصية وجميعها داخل هذا المظروف، وغدًا (يبتسم ابتسامة مرة) سوف لا تحضر حفلة عرسي بطبيعة الحال، إنما أرجوك أن توصي أهلي بنقل رفاتي إلى تلك المقبرة النائية التي بُنيت حديثًا في مدفن العائلة، نعم، هناك في ركن هادئ من أركان المقبرة (لا يتمالك جلال نفسه فيترامى على صديقه باكيًا معانقًا ويأخذ كمال في مداعبة شعره) ما زلت طفلًا يا جلال … أمر آخر أحذرك منه تمام التحذير، إياك أن تُحدثك نفسك بأن تقوم بإحباط مشروعي قصد إنقاذي، إنك بذلك إنما تُلجئني إلى تنفيذ القرار بيدي، هيا الآن نتعانق (يتعانقان ويخرج جلال والمنديل على وجهه).

المشهد الثاني

كمال – مريم
كمال (يلمح مريم تبكي بصوت خفيف عند الباب الذي خرج منه جلال) : لماذا تبكين يا مريم؟ هل كنت هناك؟
مريم : رأيت جلال بك يبكي أثناء خروجه فلم أتمالك نفسي فبكيت أنا أيضًا، آه يا سيدي البك، ماذا يكون حالنا؟
كمال : لا يكون إلا الخير إن شاء الله.
مريم (بصوت متقطع) : إن شاء الله، إن شاء الله.
كمال : هل تفقدت زينب هانم؟ كيف حالها؟
مريم : زينب هانم كما هي منذ الأمس، ساكتة لا تتكلم ولا تنطق بحرف واحد … حاولت كثيرًا في إقناعها بأن تتناول قليلًا من الطعام فأبت، حتى اللبن رفضت أن تشرب منه شيئًا … وكاد اسمك يجري على لساني فرأيتها تجزع في خوف.

المشهد الثالث

كمال – زينب

(تدخل زينب باهتة اللون هزيلة وتقترب ببطء فتنسحب مريم.)

كمال (بصوت مرتعش) : ما هذا النحول يا زينب؟ أفي ليلة واحدة يعتريك هذا الاصفرار؟

(تجلس زينب على مقعد بشيء من الإعياء، ولا يجرؤ كمال على الاقتراب منها.)

زينب : لقد سمعت صفير القطار، فأصبح على وشك القدوم، أليس كذلك؟
كمال (يخفض رأسه ويتكلم بصوت خافت كأنه مجرم يعترف بذنبه) : لقد بذلت كل ما في وسعي يا زينب … ناضلت طول ليلتي، وضعت حياتي ومستقبلي وشرفي في سبيل النجاة … بذلت كل ما يستطيع أن يبذله الإنسان.
زينب : وقد أخفقت مساعيك، أليس كذلك؟ كنت أقدر ذلك.
كمال : ومع ذلك فما زال أمامنا بريق من الأمل، هو آخر جهد، قليل من الصبر يا زينب.
زينب (تبتسم ابتسامة حزينة وتعتمد برأسها على يديها) : لا أمل حتى الصبر، لقد خارت قواي حتى أصبحت لا أحتمل الكلام، نزلت هنا لأنتظره بنفسي يا كمال، عليك أن تنسحب أنت، وأن تُفسح الطريق أمامي لاستقباله، يجب أن أكون هنا أول من يقع عليه نظره، ستكون الصدمة عنيفة بلا شك، والضربة قاسية بلا ريب، ستكون آلامي شديدة عندما أتجلد لأتلقى نظرة الحيرة والدهشة التي سيصوبها إليَّ سهامًا قاتلة، ولكنها بالرغم من ذلك سحابة صيف سوف تمر.
كمال : كيف … أتجرئين على ذلك يا زينب؟
زينب : لقد كان ذلك أمس من الصعوبة، بل من الاستحالة بمكان، أما اليوم فقد تبدلتُ كثيرًا، تغيرتْ نفسي هذه الليلة … نعم، سأخرج إليه، سأطرح رأسي عند قدميه ليسحقها بنعليه.
كمال (متأثرًا) : أتكونين كالضحية التي تنتظر السكين معصبة العينين؟
زينب : هذا ما لا بد منه، إنه نصيبي من الحياة، ما دمت المرأة التي تحاول أن تخون عهد الزوجية.
كمال : ما زلتِ تفكرين كالأطفال، أتحسبين أنه من الممكن أن يمسَّك إنسان بسوء وأنا حي بعد؟
زينب (بتسفيه) : أنت؟ ربما، ولكن من تكون لي؟
كمال : لا تكوني قاسية إلى هذا الحد يا زينب، أرجوك أن تصبري نصف ساعة فقط، لو تمهلت قليلًا لغيرت فكرك، والآن بربك اصعدي مكانك.
زينب : كلا، سأمكث هنا لأنتظر قدومه.
كمال : إذن سأخرج أنا إلى الشارع لانتظاره خارج المنزل لتأدية الحساب.
زينب : بالله انتظر يا كمال، لقد قاسيت كل هذه المتاعب من أجلك فلا تكن معي قاسيًا إلى هذا الحد، أريد أن أكون أول من يقابل زوجي.

(صوت عربة تقف — الجرس يدق بشدة.)

زينب (تركض إلى النافذة ثم تتراجع مذعورة كالأطفال) : آه … هو، هو، حضر، حضر. لا تتركني يا كمال، أوصد الأبواب، مُر الجنود أن لا يدعوه يدخل، سيقتلني … آه سيقتلني … (يغمى عليها وذراعاها على كتفَي كمال.)
كمال (يرفعها بين ذراعيه ويدخل بها الغرفة التي على اليسار) : لقد أُغمي عليها، يا لحسن الحظ!

المشهد الرابع

مريم – شكري أفندي – شريف بك – وبعد كمال
شكري (لمريم) : أخبري كمال بك بقدومنا (تخرج مريم من اليسار) أرجوك يا سعادة البك أن تجد حلًّا لهذه المشكلة، فإنكما على كل حال أقرباء، وربما استطعت أن تحمله على الإقلاع عن عناده.
شريف : اتركنا معًا على انفراد.

(وبينما يخرج شكري من اليمين، يدخل كمال من الشمال فيؤديان التحية من بعيد.)

شريف : آسف جدًّا لحضوري إليكم في مأمورية مؤلمة، ولكنكم من الرجال الذين يقدرون موقفي حق قدره، وصلتني أمس برقية من أحد أصدقائكم مع أنني كنت عازمًا على الحضور بنفسي قبل استلامي تلك البرقية.
كمال (متجلدًا وفي شيء من الغرور) : لقد أرسل ذلك الصديق تلك الرسالة على غير علم مني … فإن لي من عزة النفس ما يَحُول دون استغلال القرابة في مثل هذه الظروف.
شريف : هذا ما أعتقده فيكم (ببرود وبسرعة) إن السيدة سنية هانم المتهمة في الاشتراك بجريمة المؤامرة … والتي تحققنا من التجائها إليكم، موقوفة بقرار وزير الداخلية، أما أنتم فقد تقررت محاكمتكم دون إيقافكم بتهمة تشجيعكم على تسهيل الفرار لها …
كمال : ما زلتُ مصرًّا في ادعائي بأن السيدة التي هي في منزلي الآن غير سنية التي تبحثون عنها.
شريف : إنني كإنسانٍ عادي أستطيع أن أُقدِّر عملكم هذا، ولكنني كموظفٍ مسئول عن أداء واجبه أجدني معذورًا إذا أنا لم أفهم وجهة نظركم هذه.
كمال : أقسم لك يا شريف بك بكل عزيز مقدس لديَّ بأن السيدة نزيلتي ليست سنية (يكمد شريف وجهه بعلامة تدل على عدم الاقتناع) إنكم لا تريدون أن تقتنعوا، ومن العبث أن أحاول إقناعكم، إنني يا سيدي أمتنع عن تسليمكم السيدة التي في منزلي.
شريف : لا تفعلوا ذلك يا كمال بك؛ لأنكم تُلجئونني إلى القيام بواجبي قسرًا.
كمال : كما تريد، كما تشاء (يسرع بإقفال باب اليسار) سأقاوم بالسلاح.
شريف (بعصبية وبصوت أجش) : ما هذا يا كمال بك؟ عملكم هذا عصيان في وجه القانون، فكِّروا فيما تقولونه، إن عائلتكم وشخصكم وشرفكم كل ذلك له مكانة عندي من الاحترام والتقديس؛ ولذلك سأتجاهل تلك الأقوال، سأُنكر سماعها، سأنسى هذه النغمة التي تشفُّ عن الإجرام.
كمال (بتهور) : لم يبقَ عندي ما أقوله. سأدافع عن هذا الباب بالسلاح.
يمكنكم أن تُدمِّروا مسكني بالقنابل، يمكنكم أن تُشعلوا فيه النار، ولكنكم لا تستطيعون اجتياز هذا الباب وأنا حي.
شريف : قد يكون الأمر كما تقول، ولكن ليس في عملك هذا ما يُشرف قدرك، إنه لغرور أجوف، فكِّر يا كمال بك أنكم تُشهِرون السلاح في وجه جنودنا؛ أي أنكم تعلنون الخصومة في وجه الحكومة والشعب.
كمال : هذا صراع لا مفر منه كصراع هابيل مع أخيه قابيل، صراع لا بد منه.
شريف : كلا، ليس هذا القياس صحيحًا، وليس التشبيه مطابقًا للواقع؛ أنتم اليوم تقفون في وجه القانون، أما هما فقد كانت بينهما حزازات قلبية، كانا في خلاف على حبٍّ مشترك، ولو كان موقفنا الآن مثل موقفهما لاغتفرتُ لك سلوكك هذا، لو أننا رقيبان نتنازع في سبيل امرأةٍ واحدة، لو أننا غريمان نتناحر من أجل امرأةٍ مشتركة، لكان الدم المسفوك بيننا حلالًا، لكنني اليوم أمثل القانون، وأنتم فرد ككل الأفراد الخاضعين لهذا القانون الذي أمثله، وليس الدافع لكم إلى العصيان سوى الغرور، إن سلوككم هذا لا يمكن التعبير عنه إلا بأنه جُرْم خطير.
كمال (يُخرج المسدس) : سوف لا أتكلم بلساني بعد.
شريف : أنتَ مجنون! سوف آمُر بالقبض عليك (ينادي من البلكون) يا أونباشي.
(يتراجع في الحال) ما هذا؟ سيدة تريد الدخول عنوة.
صوت علية : دعوني أدخل، اتركوني أدخل.
كمال (يسرع نحو النافذة) : صوت علية! أختي! أختي!
شريف : نعم، هي بعينها … ما أغرب ذلك (يصيح من النافذة) دعوا السيدة تدخل (يحاول كمال أن يسرع لمقابلتها، ولكنها هي (علية) تصل الغرفة بسرعة).

المشهد الخامس

علية – شريف – كمال
علية (تصيح) : أخي! أخي! (تترامى في أحضان كمال) ماذا جرى؟ ماذا حدث؟ أرجو أن …
كمال (بصوت متقطع) : ولكن من أين هبطتِ إلينا هكذا؟ كيف ولمَ حضرتِ؟
شريف : جئتِ في الوقت المناسب يا علية، فإن كمال يتمرد على القانون.
علية : القانون لا يُطالبه بشيء، ليس للقانون ثأر عند أخي.
شريف : هنا مجرمة يدافع عنها.
علية : المجرمة ليست في بيته، وقد جئتُ لأسلمها إليكم.
شريف : ما هذه الأقوال يا علية؟
علية : نعم، جئت لأسلمكم المجرمة، أنا هي المجرمة يا شريف بك، نعم أنا هي.
شريف : قد بلغ بك التأثير حد الاضطراب في الكلام (ناظرًا إلى كمال الذي يُجيل نظرًا حائرًا فيما حوله) ألا تأخذك الشفقة على هذه المسكينة يا كمال بك؟ انظر كيف صيَّرها التأثير.
علية : كلا يا شريف بك أنا المجرمة (تقذف إليه بحقيبة صغيرة في يدها) الأدلة والوثائق التي تبرهن لكم حقيقة ادعائي … لم يكن أخي مذنبًا؛ لأن سنية لم تلتجئ إليه؟ وإنما التجأت عندي أنا.
شريف : ما أغرب هذه الدعوى (يفحص الأوراق التي في الحقيبة) نعم، هذا صحيح، ولكن أين هي الآن؟
علية : لقد أقلعت اليوم على ظهر باخرة إيطالية، وأنا التي قمت بتدبير سفرها وإخراج جوازها، وبالإجمال أنا التي سعيت في تسهيل فرارها، وفي الأوراق التي بيدكم جميع الأدلة التي تثبت إدانتي.
شريف (يعيد النظر في الأوراق) : ما هذه الجرأة يا علية؟ أفي هذه السن تتدخلين في مثل هذه المسائل الخطيرة؟ إنه لعمل خطير، هذه مجازفة مشينة، ولقد ارتبكتُ الآن وصرتُ في أحرج المواقف.
علية : لا أعلم أهو أمر خطير أم تافه! ولا أدري أهو عمل قبيح أم جميل! بل غاية ما أعلم أن امرأة بائسة ساقها القدر إليَّ … التجأت إلى منزلي في منتصف الليل حيث كان يطاردها رجالٌ مسلحون كما تطارد الوحوش في الأدغال، استنجدت بي وقالت إنها لم تجد في القاهرة على اتساعها من تلجأ إليه سواي، نعم سواي أنا الفتاة التي تحمل قلبًا فتيًّا نقيًّا وافر الإشفاق والعطف … فضلًا عن ذلك فقد كانت لسنية، رغم عيوبها ومساوئها، مكانة في قلبي مشمولة بالمحبة والاحترام؛ لهذا لم أجد مفرًّا من الإذعان لنداء القلب، ووحي العاطفة، ففعلت ما فعلت.
شريف : نداء القلب، وحي العاطفة، هذه هي النغمة التي ترددها الإنسانية العاجزة على الدوام، وها أنتِ اليوم أصبحتِ في أسوأ مركز أتصوره؛ لأنكِ مسئولة عن سنية، ولكن (بعد تردُّد قصير كأنما هو في نزاعٍ داخلي يتكلم بصوتٍ خافت) ولكنني سأحتفظ بهذه الأوراق، وسأتخذ إجراءاتٍ أخرى في اقتفاء أثر تلك المجرمة الفارَّة، وسأسدل الستار على جريمتك يا علية. (مبتسمًا) وها أنا ذا أناقض نفسي لأول مرة في حياتي، ولكن يجب أن لا يفوتك يا علية أنني إنما أحيد عن مبدئي للمرة الأولى والأخيرة، وفقط من أجلك.
علية : هذا ما كنت أنتظره منكم نحوي يا شريف بك.
شريف : وأما أنتم يا كمال بك، فإنني آسف لما حدث وأرجوك المعذرة، فقد كنت مضطرًّا إلى اتباع هذه الخطة التي سلكتها بحكم الوظيفة، وأظنك توافقني في التماس العذر.
كمال (بنفس الحيرة التي لم تفارقه) : نعم، بلا ريب.
شريف : لا يسعني الآن إلا الاعتراف بشهامتكم غير أنني آخذ عليكم أمرًا واحدًا ما كنت أرجو أن تتورطوا فيه، أو تندفعوا إليه، وهو إشهاركم السلاح ضد جنودنا.
كمال (بشيء من الملل) : ما كنت أنوي إيذاء أحد أو المساس به، وإنما كنت أريد الموت من طريق الإرهاب بالمقاومة.
شريف (يصافح كمال رغم إحجامه) : لماذا لم تندمجوا في السلك العسكري يا كمال بك؟ والآن اسمحوا لي بالرحيل.
علية : لا يمكن أن نتركك، يجب أن تبقى هذه الليلة في ضيافتنا.
شريف : كفى، كفى، سأحضر غدًا لزيارتكم قبل السفر.
علية : لا لا، إن كمال يلح في ضرورة بقائكم الليلة، أليس كذلك يا كمال؟
كمال (مترددًا) : طبعًا، طبعًا.
شريف : إنني أرجو مهلة قصيرة، ساعة واحدة فقط ريثما أقابل الحكمدار وأتدبر في رفع الأمر إلى القاهرة ببرقية مفصلة، آه يا علية، ستكلفينني مجهودًا كبيرًا (يخرج).
علية (وهي تُشيِّعه) : إننا في انتظارك على أي حال.

المشهد السادس

كمال – علية
كمال : لماذا تصرين على ضيافته؟
علية : لأمر ستعلمه فيما بعد؛ فقد كان ذلك واجبًا لا مفر منه.
كمال (بتردد وتفكير) : هل لكِ أن تنتظريني هنا بضع دقائق يا علية؟
علية (بحياء كأنها تفشي سرًّا) : ولكن أين هي زينب هانم؟ أهي بخير؟
كمال : أكنتِ تعلمين؟
علية : نعم، كنت عليمة بكل شيء (يستحي كمال) ولكن لا تبتئس يا أخي، يكفيني تعزية أنني وجدتكما بخير …
(تذهب إلى الباب وتنادي) زينب هانم، آبلا، آبلا زينب.

(تدخل زينب بخجل خائرة القوى، ويخيم السكوت على الجميع.)

المشهد السابع

كمال – علية – زينب
علية (بتنهد) : لا تجزعي يا آبلا، هي الحياة وظروفها القاسية تدفع الإنسان إلى موارد التهلكة، اطلعت على ما بينكما من سر على غير قصدٍ مني أثناء عودتي من الغرفة التي أخفيت فيها سنية، ولا أخفي عنكما أنني استنكرت ما بينكما ودفعني الاستنكار إلى السخط عليكما، ولكنني ما كدت أسمع بأنكما في خطرٍ داهم، ما كدت أتصور في ذهني هول الموقف، حتى امَّحى عامل السخط من نفسي، واتجهت أفكاري إلى إنقاذكما، اشتد قلقي عليكما إلى حد الجنون، وقضيت ساعاتٍ قطعت فيها كل أمل في نجاتكما، أقول إنني كنت حاقدة عليكما في أول الأمر لجهلي بالعوامل الخفية التي دفعتكما إلى هذه المجازفة.
كمال : ولكن كيف علمتِ بموقفنا؟ وكيف تسنَّى لك الوصول إلينا؟
علية : يطول بي الشرح إذا أنا سردت تفاصيل الحوادث التي تمت في اليومين الماضيين، يا لهول تلك الحوادث، لقد مرت سراعًا كما تمر الحوادث على لوحة السينما، كانت سنية مختبئة في منزلنا، وأخذت أنا وفؤاد نسعى في سبيل إعداد جواز السفر من أجلها، وبعد جهود عظيمة ومشقات جسيمة فزنا ببغيتنا وتمكنا من تسهيل فرارها على ظهر باخرة إيطالية أقلعت صباح اليوم، ولقد ارتاح بالنا وهدأت أنفسنا عقب هذا العمل، غير أننا بعد قيام الباخرة بنصف ساعة اتصل بنا أن سنية التجأت إلى منزل مفتش المالية، وأنه يقاوم في تسليمها للحكومة، فاستفسر فؤاد بالتليفون من أحد أصدقائه الضباط فعلم بأنها في منزل أخي كمال بك، وأن شريف بك مساعد الحكمدار ببوليس مصر انتُدب من قبل الوزارة لإلقاء القبض عليها، فانقضَّت هذه الأخبار عليَّ انقضاض الصواعق، لا سيما وكنت قد سمعت أثناء حواركما أن آبلا زينب ستذهب في ضيافة أخي بالإسكندرية، فأيقنت أن المقاومة إنما هي من أجل آبلا زينب، وهالني الموقف وأفزعني، ففكرت في الذهاب إلى الحكمدارية لأفضي إليها بهرب سنية، ولكنني خشيت أن يضيع الوقت في استجوابي، وأخيرًا عولت على اللحاق بشريف بك.
كمال : آه يا أختي العزيزة! ما أسمى عواطفك!
علية : إن الجهود العظيمة التي بُذلت كان لفؤاد اليد الطولى فيها.
كمال : وهل فؤاد معك هنا؟
علية : نعم، إنه هنا ينتظر خارج المنزل.
مريم (من الباب) : هنا ضابط يسأل عنك يا علية هانم، ويقول بأن السيارة على أهبة الاستعداد.
علية : هيا آبلا زينب، ارتدي مُلاءتك فقد خيم الظلام، فإن فؤاد سينقلك بالسيارة إلى طنطا في طريقه إلى القاهرة، ومن طنطا تركبين القطار إلى دمياط.
زينب (تغطي وجهها بيدها) : يا للعار! لم يبقَ إنسان لا يعلم بسوأتي.
علية : لا أحد غريب يعرف عنك شيئًا، فؤاد خطيبي بعد اليوم فنحن إذن شخص واحد.

المشهد الثامن

كمال – علية
كمال : دعيني أقابل فؤاد.
علية : لا داعي لذلك الآن.
كمال : ولكن هل يسافر بها في مثل هذا الوقت؟
علية : لا تجزع؛ فالطريق أمين، إنك تستطيع أن تعتمد على فؤاد في مثل هذه الأمور؛ لأنني جربته فألفيته مثال النشاط والشهامة.
كمال : ولكن كيف تتحمل المسكينة مشقة الطريق بعد هذا الاضطراب؟ لا سيما وأنها تشكو من ضعف القلب.
علية : ما كانت لتستطيع أن تتحمل كل هذه المفاجآت المريعة لو أنها ضعيفة القلب إلى الحد الذي تتصوره.

(تدخل زينب مكشوفة القناع استعدادًا للرحيل.)

المشهد التاسع

كمال – علية – زينب
علية (بعد أن تطل من البلكون) : لقد خيم الظلام وأصبح الشارع مقفرًا، فلم يبقَ وجه للخطر، وها أنا سائرة أمامكِ يا آبلا فاتبعيني، لا ريب في أنه لم يَحِنِ الوقت بعدُ لعودة شريف بك ولكنه يحسن الاحتياط (فتومئ زينب برأسها علامة الإيجاب وتسير بخطوات متثاقلة نحو الباب).
كمال : أذاهبة أنتِ يا زينب؟ (تقف زينب وتُطرِق برأسها دون إجابة) أتذهبين على هذه الصورة دون كلمة وداع؟ (تُطرِق زينب برأسها أكثر من قبل.)
علية : سأنتظرك يا آبلا عند الباب، لكن عليكما الإسراع في الوداع.
كمال (بلهجة قاطعة) : كلا يا علية، ما أنتِ فضولية بيننا، كلمتي الأخيرة هي من النزاهة بمكان بحيث تستطيع أذناك النزيهتان أن تسمعاها، (بعد توقُّف قصير) قد أردنا أن نحقق حلمًا من أحلام الطفولة، ولم نكن ندري أننا بهذا العمل إنما نجفف بيدينا منهلًا عذبًا يروي نفوسنا فيُحييها، لم ندرِ أننا نعمد إلى سد السبل في وجه نسيم الربيع الذي يُنعِش أفئدتنا فيملؤها سرورًا، قضينا على ذلك الحلم البديع ذي الذكريات الجميلة بحلم مريع، وإنه لمن المؤلم أن يكون ذلك الحلم الذي سما بزينب يكاد يكون سببًا في سقوطها، ولكنها اليد التي رفعت بزينب إلى مكانة القديسات أبت رغم ما أحاط بها من نكباتٍ وخطوبٍ إلا أن تَحُول دون سقوطها، لم تسقط إذَن زينب التي عاشت نقية زاهرة كالزنبقة؛ لأن الطبيعة الجميلة، الطبيعة القاهرة، لها قوة تُسخرها في بعض الأحايين لصيانة الأشياء الجميلة، علمتني هذه الحقيقة تلك الحصاة الصغيرة التي أدمت شفتيها اللتين لم تدنسهما بعدُ قبلة أجنبية، لقد تمردت الطبيعة، تلك الطبيعة الصامتة الخرساء وقت شروعكِ في السقوط يا زينب، ويا لهول الطبيعة إذا تمردت بعد هدوء، فسخَّرت جنودها وزأرت زوابعها وثارت عواصفها لتزود عنك رجس السقوط، وها قد هدأت العاصفة الآن وظلت الزنبقة محتفظةً بنقاوتها وأريجها، فاذهبي الآن بسلام يا زينب ما دمتِ دفعتِ الثمن غاليًا لا للجريمة بذاتها، ولكن لخيال الجريمة، اذهبي الآن إلى زوجكِ بروحكِ النقية الطاهرة التي لم تَشُبها شائبة السوأة، اذهبي لتختمي حياتكِ بالطهارة كما بدأتِها بالنقاوة، ستكون بلا ريبٍ حياة قاسية مريرة، ولكنها ستتغذَّى دوامًا بروح النقاوة من حلمنا الطاهر الذي كدنا نلوثه، ونقضي عليه اليوم بجهلنا، أما أنا (تسمع زينب هذه الكلمات وهي تبكي بصوتٍ خافت ومنديلها على وجهها)، فدعيني يا زينب قبل دفن هذا الحلم إلى الأبد، وقبل أن أُهيل عليه التراب، دعيني أقبلك بين عينيكِ للمرة الأولى والأخيرة، تلك القبلة البريئة لتكون:
آية الذكرى!

(يُقبِّلها في جبينها ويُسدل نقابها، ويكون نزول الستار مع إسدال النقاب.)

(تمت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤