عبرة١

جَلَسْتُ ليلة أمس إلى بعض أصدقائي وجعلنا نسمر، فقَصَّ واحد منهم علينا القصة الآتية، قال:

كان لي صديق، وكان رحمه الله عذب الروح، سَلِسَ النفس، قَوِيَّ العاطفة، مُتَسَعِّر الذكاء، حُلْوَ الحديث، حاضر الفكاهة، وكأنه قطعة ناضرة من الغبطة وحلاوة الأمل.

ولقد أَحَبَّ الحياة وغلا في حبها، وأَبْغَضَ الموت وأَسْرَفَ في بغضه، وسبيلُ الموت في العادة هو المرض، فكان إذا ذُكِر المرض طار قلبه فَرَقًا من ذِكْر الموت!

وكيف يتقي المرض ويتحامى أسبابه؟ لقد جاء بطبيب والتزمه بياض نهاره وسواد ليله، فلا يَهُبُّ من فراشه إلا إذا أمره بالهبوب، ولا يطمئن إلى مَضْجَعِه إلا إذا أَذِنَه بالاطمئنان، ولا يخرج من داره لطلبة أو لفرجة إلا إذا أشار عليه بالخروج، ولا يُبَدِّل ثوبه أو يَحُفَّ لحيته أو يَتَرَوَّى بجرعة الماء إلا إذا أوحى إليه الطبيب، فإذا استويا إلى المائدة وقُرِّبَتْ ألوان الطعام تَحَرَّم أو يقول له الطبيب أَصِبْ من هذا اللون وأَقْلِلْ، ونَلْ من هذا وأكْثِرْ، وبقي عليك لتسيغ هذه اللقمة سِتُّ مضغات، وبقي عليك لتزلق هذه المزعة٢ إحدى عشرة!
وجاء بكتب الحكمة، وطَلَبَ المجلات الطبية ما يَخْرج منها في العربية وما يَخْرج في الفرنسية، وجعل يديم النَّظَر فيها والإكباب على تَفَهُّمِ مباحثها، وما قاله العلماء في اتقاء الأمراض وعلاجها، وما لوح به المستكشفون من إمكان التوصل إلى مدافعة الموت وإطالة الحياة، ولكنه لقد يُصَافِحُ إنسانًا وقد يَمَسُّ آنيةً أو يَلْمَسُ ثوبًا، فسرعان ما يفزع إلى ألوان المُطَهِّرات: هذا يغسل به يديه، وهذا يُضَمِّخُ٣ به ثَوْبَه، وهذا للمضمضة، وهذا للاستنشاق!
ولكنه يَتَنَفَّسُ ولا غَناء له عن أن يتنفس، وقد يَجُرُّ نَفَسُهُ نسمة مؤذية بما تحمل من «المكروبات»، فهو دائب على تجرع الأدوية: هذا لتطهير الحلق، وهذا لتنقية الرئتين، وهذا لتنظيف المصران٤ الدقاق، وهذا لترويق الكبد والكليتين!
ولكن قلبه يَضْرِب، ومن آية الحياة أن يَضْرِبَ القلب، أَفَأَمِنَ بيْنَ ساعة وأختها أن تختل ضربات قلبه فتكون نَفْسُهُ٥ في إحدى جَمحاته؟ فتراه طوال يومه مُكِبًّا على كُرسوع يسراه ببنان يمناه، و«ساعته» في حجره لِيَعُدَّ ما تدور عليه كل «دقيقة» من ضربات قلبه: لقد استوت سبعين فالحمد لله! لقد ازدادت إلى تسعين فوا حَرَّ قلباه! لقد تدلت إلى ستين، وذلك فتور وانخذال، لقد هبطت إلى سبع وخمسين، وذلك من نُذُر التلاشي والانحلال! الأطباء! الأطباء! علَيَّ «بكنصلتو» ينتظم فلانًا وفلانًا وفلانًا من كبار الأطباء! …

ويدور البحث والفحص والتقليب، والتسمع والجس والتحليل، فيَخْرُج من هذا كله أن الأمر لا يعدو فتورًا في أعضاء الجسم يذهب بفنجان قهوة أو بجرعة شاي!

وسرعان ما ينبعث في صاحبي نشاطُه، وتعود إليه نضارته وفتاء قوته، وقد يستقبل حديثَ المرض هنيهة فيأخذ في حديث الناس، ويتبسط إلى الصحاب بالنادرة اللطيفة، ويحاضرهم بالملحة الطريفة، وما يزال هذا شأنه حتى يرميه بابُه بزائر، فإذا سقط لسانُه بأن فلانًا قد مات، تَرَبَّد وجهه، وتتعتع لسانه، وتَزَايَلَ هَيْكَلُهُ في مجلسه، وتاهت حدقتاه في محاجرهما، وشدَّ نَفْسَه شدًّا ثم تَهَافَتَ بها على الزائر يسأله: وهل مَرِضَ فلان هذا وهل شكا؟ وماذا كانت عِلَّتُهُ؟ ومتى ابتدأت شكاته؟ وما الذي كان يظهر عليه من أعراض الداء؟ وهل كان يحس وجعًا؟ وفي أي موضع كان يستشعر الألم؟ وما صفة الدواء الذي كان يتناوله؟ ومن الطبيب الذي كان يعالجه؟ وهل فَحَصَ عن قلبه؟ وهل كان يَعُدُّ ضرباته؟ إلخ! …

ثم إنك لتشعر أنْ قد نَشِبَتْ في نفس المسكين معركة هائلة بين الرجاء في الحياة وتوقع الموت كما مات فلان هذا فيكون الفوز في صدر هذه المعركة للأول، إذ تراه قد شد مَتْنَهُ، وأَقْبَلَ يُحَدِّثُكَ في قوة وحماسة عن صحة قلبه وسلامة سائر جوارحه، وأن جمهرة الأطباء قد أكدوا له ذلك وأقاموا عليه أبْلَغَ البراهين وأدْمَغَ الحُجَج؛ حتى لقد صَحَّ لهم أن قلبه من السلامة بحيث لا يقع مِثْلُهُ إلا في كل ثلاثة آلاف قلب لا يَسْلَم واحد على علة.

ثم تكون له فترة يُقْبِل فيها على جَسِّ نَبْضِه، ثم تراه قد دَخَلَ في الغَشْيَة ولَحِقَه الذهول، فزاغت عيناه، وتَقَلَّصَتْ شفتاه، وأُرْعِشَتْ يداه، وجعل يَطْفو ويَرْسُب في كرسيه؛ وأومأ فتطاير الخدم يطلبون الأطباء من كل مكان!

وكذلك قضى العمرَ إلى غايته مشغولًا عن مُتَع الحياة ومَطَالِبِ الحياة بشدة الحرص على الحياة!

وقد مَرِضَ حقًّا وأَلَحَّتْ عليه العلة وأَيِسَ منه أساته، وجاءني أنه لا يعد يومين، فأَسْرَعْتُ إلى عيادته وأنا أرجو ألَّا يكون قد اطَّلَع على حقيقة علته، فيموت قبل أن يموت!

وجلَسْتُ إليه فإذا هو يَفْطِنُ إلى خَطْبِه، وهو يشعر بأنه لن يَطْوِي على ظهر الأرض يومًا حتى يَطْوِيَه بَطْنُهَا طَيًّا، أفرأيته من الموت كان مذعورًا مُنْخَلِع القلب مُسْتَطَار اللُّب؟

كلا والله! فإني لقد رأيتُهُ وهو يستقبل الموت هادئَ السعي، وادِعَ النفس، يَتَجَمَّع ليتحدث في هذه الأسباب الدائرة بين الناس، حتى يَخْذُلَه لسانه، وتتخلف عنه قُوَاه، فيُرْخِي جَفْنَيه ويَدْخُل في مثل السِّنة؛ ثم يَنْتَبِه وعلى شفته ابتسامةٌ عَذْبَة أَعْرِفُها له وهو في صَدْر الشباب، وقد يُحَاوِلُ أن يَدُورَ بلسانه في مُلْحَة أو نادرة مُسْتَطْرَفَة فَيُعْيِى عليه الكلامُ، فيحاول أن يتعلق إلى شأنه بشيء بينَ الضحك والابتسام، ثم يعود إلى إغفاءته في غبطة ودعة وارتياح.

وظل هذا شأنه حتى دَخَلَ في الحشرجة، وفارق هذه الدنيا ورحمه الله!

قال مُحَدِّثُنَا: أفرأيتم كيف كان رِفْقُ الطبيعة بالإنسان؟

ليس من سبيلٍ إلى تَوَقِّي غِيَرِ الدهر والعصمة من كوارثه؛ والناس — ما عاشوا في هذه الدنيا — أهدافٌ للمصائب، وأعراضٌ للنوائب، وهم أبدًا مهتمون بها دائمو الجزع منها، وإنما يكون إشفاقُهُم من رزايا الدهر، وجَزَعُهُمْ على قدر قُرْبِهِمْ منها أو بُعْدهم عنها، كذلك يتفاوت ما يتداخل نُفُوسَهم من الوجد والفَرَق بتفاوتهم في قوة القلب، ومتانة الأعصاب، وثبات الإيمان.

وعلى كل حال، فإنه ما من مصيبة في الأرض إلا كان مَوْقِعُها أَهْوَنَ وأَخَفَّ من تَوَقُّعِها، وهذا — كما قُلْتُ — مِنْ رِفْقِ الطبيعة بالإنسان، وإنَّ في حديث صاحبي الذي قَصَصْتُهُ عليكم لَعِبْرَةً.

فقال بعض الحضور: وعلى هذا صحَّ المثلُ العامِّيُّ القائل: «الوقع في البلاء ولا انتظاره!»

فبادره آخر بالمثل العربي: «الناس مِنْ خَوْف الذُّل في الذُّل».

وتَمَثَّلَ ثَالِثٌ بقول كُثَيِّر:

فقُلْتُ لها يا عَزُّ كُلُّ مصيبة
إذا وُطِّنَتْ يومًا لها النفس ذَلَّتِ

وجَعَلَ رَابِعٌ يُرَدِّد قول الشاعر:

لا أستقيل زماني عَثْرة أبدًا
ما شاء فَلْيَأْتِ إن الشهْدَ كالصَّابِ٦

وتفرق عند هذا مجلس الإخوان، فَعَزَمْتُ لَأُسَامِرَنَّ به قُرَّاء «ليالي رمضان».

١  نُشِرَتْ في السياسة ضمن «ليالي رمضان» سنة ١٩٢٥.
٢  المزعة من اللحم: القطعة.
٣  ضَمَّخَهُ بالعطر: نضحه.
٤  المصران جمع مصير، أما المصارين فجمع الجمع.
٥  تكون نفسه، أي يكون موته.
٦  الصاب: شجر مر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤