الطفل الشريد١

وجْهٌ مُغْبَرٌّ شائِهٌ كأنه مَعْفُور بتراب قبر، وصُدْغان غائران كأنهما من أَثَر خَسْف، ووجنتان ناتئتان حتى أمستا كَرُكْبَتَيْ بعير، وقد لَصِقَ جِلْدُهُ بعظمه، حتى لا يَقْوَى قبْرُه على قَشْرِه، إلى يوم نَشْره، وهاتان عينان دائمتا التحيُّر والاضطراب، تتناهبان النظرَ من كل ناحية، ولو استطاعتا أن تنظرا إلى الأقطار الستة معًا في آنٍ، لَفَعَلَتَا على طول الزمان!

هذه رِجْل حافية، وهذه أَسْمَالٌ٢ بالية، تَفَرَّقَتْ فُتُوقًا وخُرُوقًا، وتَفَصَّلَتْ مزوقًا وشقوقًا، تَكْشِف من البدن أَكْثَر مما تُدَارِي، وتَفْضَحُ من السوأة أَعْظَم مما تواري، على أن القذر قد أضفى عليه رداءً مُحْكَمَ النسج مُتَلَاحم الأجزاء، وناهيك برداء القَذَر من رداء!

ليت شعري، أهذا شَبَح من أشباح الظلام، أم هو طيفٌ من أطياف الأحلام؛ تُنْكِرها الأيدي وإن تراءت للعيون، وتُرِيك ما لا تظن أن يكون كيف يكون!

ها هو ذا يَثِبُ من ها هنا، ويقفز من ها هنا، لا يَقِرُّ له على الأرض قرار، كأنما هو كُرَة تَتَقَاذَفُهَا الأقدار، سوادَ الليل وبياضَ النهار!

ها هو ذا دائم الاختلاج عن يمينك وعن شمالك، حتى يُشَتِّت شَمْل طَرْفك، ثم إذا هو قد امَّحَى كيف تَمَّحِي الأشباح، إذا أَشْرَقَتْ شمس الصباح.

ها هو ذا يرتصد للكِسرة بين يديك إن كُنْتَ آكلًا، ولعقب «السيجارة» تُلْقِيه إن كُنْتَ مُدَخِّنًا، وقد يأخذ عينه لَقَى٣ من فضالة الطعام خسيس، قد يَعَافُه الغراب، وتَعِفُّ عنه الكلاب، فإذا هو قد ارْتَجَّ ارتجاجًا، وكان يسيل اضطرابًا واختلاجًا، وجعل بصره يدور في كل ناحية، مترقِّبًا سطوة القدر بكل داهية، ثم انقض على فريسته انقِضَاضَ العُقاب، وطار بها حتى اختفى في السحاب!

هو دائم الخوف، مُتَّصِلُ الفزَع، يخاف من كلِّ شيء، ويفْزَع حتى من لا شيء، يَتَوَقَّع الأذى من كلِّ إنسان، ويَتَرَقَّب البطشَ به أنَّى كان، كلُّ ما في هذه الدنيا ساهرٌ على إيذائه، جاهدٌ في كَيْدِه وبلائه، فكيف له في هذه الدنيا بالقرار، وهل أمسى له من الأذى مَعَاذٌ إلا بطول الفِرار؟ حقًّا لقد باتت حالُه شرًّا من حال من عَنَى الشاعر:

وضاقَت الأرض حتى إنَّ هَارِبَهُمْ
إذا رأى غيْرَ شيء ظَنَّهُ رَجُلَا

ولكن أين المفر، وهو لا يُفْلِتُ مِنْ تَرَقُّبِ شَرٍّ، إلا إلى تَوَقُّع ضَرٍّ؟!

ثم إن طول جهد النهار لَيَسْأَله المضجع في بعض الليل، وقد يكون الليلةُ زمهريرًا، فيجري ثم يجري وهو خائف يترقب، حتى يلوح لعينه مَرْقَد في كَنَف جدار على ضاحية٤ الطريق، فإذا أمن رِقْبَة العيون المُذْكَاة٥ عليه من كل جانب، تَسَلَّلَ فأوى، ويا بئس المأوى، وترى هل يواتيه بعد هذا الجهد نوم إذا لَمْ يُزْعِجه عنه العَسَس،٦ أزعجه خَوْفُ العسس؟ ثم انتفض في السُّحْرَة ما أحس قرارًا، ولا نام إلا غرارًا!٧
لا «يذوق» النوم إلا غرارًا
مِثْل حَسْو الطير ماءَ الثِّمادِ

لقد حُرِمَ المسكينُ عَطْف الأب وحنان الأم، كما حُرِمَ رِفْدَ الخال وعَوْن العم، ولم يَجِدْ ما يُعَوِّضْه عن شيء من ذلك ولو بمزقة من رحمة الرحماء؛ بل ما أصاب من الناس إلا بلاءً وتَوَقُّعَ بلاء، فهل تظن أنَّ مِثْل هذا يَجِد لإنسان رحمة أو يُحِسُّ لشيء رِقَّةً وحنانًا؟ اللهم إنها لَكَبِدٌ قد تَحَجَّرَتْ فما تَطْرُقُها رحمة، وإنه لقلب يغلي غَلَيَان القِدْر من حقد ومن اضطغان، ولو قد صانعه القدر فاستطاع أن يَنْفُث ما في صدره، لاستحالت هذه الأرضُ فَحْمَةً سوداء!

ثم إنه لا يميز حلالًا من حرام، ولا يَفْرِق بين طريق الخير وطريق الإجرام، كل شيء مباح، لا يَصُدُّ عنه إلا بَطْشُ الظَّلَمة السُّلَطاء!

ولقد يَصُكُّه على أم رأسه من لِدَاتِهِ٨ أو مِنْ غَيْرِهم مَنْ هو أشد منه قوة، وقد يَرْكُلُه في بطنه، وقد يناله من هذا أو من هذا أذًى كبير لعله يبلغ في بعض الحين حدَّ التلف، فلا يشكو ولا يَسْتَعْدِي، لأن هذا حق الأقوياء على الضعفاء!

•••

ها هو ذا يَسْعَلُ سُعالًا رفيقًا مَسْمَعُه، لَيِّنًا مَوْقِعُه، لو أَرْهَفْتَ له الأذنَ لخرج لك منه نغم حزين يخُزُّ الحشا، ويخُدُّ الكبد خدًّا.

الله أكبر! لقد أقْبَلَ وشيكًا مقوض الرئات، وسفير الممات!

فيا معشر القادرين الأقوياء، ارحموا من في الأرض يرحمْكم من في السماء!

١  كُتِبَتْ هذه القطعة إجابة لطلب جمعية «رعاية الطفولة المشردة».
٢  يُقَال: ثَوْب أَسْمَال، أي قِطَع وخِرَق.
٣  اللَّقَى (بفَتْح اللام): الشيء المُلْقَى المَطْرُوح.
٤  ضاحية الطريق: جانبه المُنْعَزِل.
٥  المذكاة، المبثوثة.
٦  العسس: شُرْطَة الليل.
٧  الغرار: القليل من النوم.
٨  لِدَاتُهُ بكسر اللام: أقرانه في السن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤