أم خفيف

لا تخدعي عنه يا سيدتي أنك ترينه مكينًا ركينًا، ورزينًا رصينًا يسعى هادئًا إذا سعى، ويمشي مطمئنًا إذا مشى، ولكنك لم تريه حين يأخذه المرح، ويستخفه النشاط إذا خرج للرياضة في الصحراء مصبحًا أو ممسيًا، ولو قد رأيته إذ ذاك لعلمت أنه يحسن الجري، ويجيد العدو، ويتقن الوثوب في الهواء، والتلوي في الفضاء. ولخيل إليك أن جسمه الضخم العريض القوي المتين لم يركب كما ركبت أجسام الناس، وإنما وصلت أجزاؤه بلوالب تمتد إن أراد لها امتدادًا، أو تنقبض إن أراد لها انقباضًا، وأنك ترينه معتدل الحركة مقتصدًا فيها، إن حرك رأسه كأنما شد عنقه من بين كتفيه بأمراس الكتان إلى صم الجندل كما يقول الشاعر القديم؛ بل هو أقدر على أكثر من ذلك فهو مالك لأجزاء وجهه، يحرك منها ما يشاء حين يشاء، ويسكن منها ما يشاء حين يشاء، ويحركها كلها أحيانًا، إذا أراد أن يسحر ويبهر أو أن يرهب ويخيف، ولو رأيته حين يستخفه الطرب ويستهويه نعيم الحياة لرأيت رجلًا لا يملك من أمر نفسه شيئًا، وإنما هو حركة متصلة مضطربة، لا حظ لها من وقار، ولا نصيب لها من اعتدال، كأنما فقدت هذه القوة الإرادية التي تحرك الأجسام بمقدار، وتسكنها بمقدار، وتلائم بين عواطف القلب، وحركات الجسم ملاءمة الذين لا تتسلط عليهم الغرائز، وإنما تدبر أمرهم العقول.

وإنك تسمعينه يتحدث فإذا صوت هادئ متزن، ولفظ مطمئن متئد، وحكم يظهر فيه القصد، وتشيع فيه الاستقامة، ويأخذه الاعتدال من جميع أقطاره، ولو قد سمعته حين يثيره الغضب، أو حين يزدهيه الخوف، أو حين يغلبه الرضى على أمره، لعرفت كيف يرتفع الصوت حتى يصم الآذان، وكيف يضطرب اللفظ حتى لا يستقيم تأليفه على نحو من أنحاء الكلام المألوف، وكيف يختلط الحكم حتى لا تدركه العقول، ولا تسيغه القلوب، وإنك ترين عليه زينة تأخذ الأبصار، وشارة تستهوي العقول.

ولو رأيته حين يتخفف ولا يتكلف، لرأيت الإهمال الذي تقتحمه العيون، والابتذال الذي تزور عنه النفوس، وإنما هي حياة الناس يا سيدتي تقوم على التكلف أكثر مما تقوم على الإسماح، وتجري على الرياء أكثر مما تجري على الإخلاص، وتمضي على الكذب أكثر مما تمضي على الصدق، وتعطي من الناس صورًا ليس بينها وبين حقائقهم سبب، وتردد من أصوات الناس أصداء ليس بينها وبين حقائقهم سبب، وتردد من أصوات أصداء ليس بينها وبين نفوسهم صلة، قد جرى فيها الخداع كما يجري الماء في الغصن الرطب، وسرى فيها النفاق كما تسري النار في الحطب الجزل، إنك ترينه يا سيدتي يذهب ويجيء فترضين؛ لأنه إنما يذهب ويجيء في ثوبين خلع أحدهما على نفسه، وخلع الآخر منهما على جسمه، وهو كغيره من الناس يلبس هذين الثوبين حين يريد أن يفارق نفسه للقاء نظرائه، ويخلع هذين الثوبين حين يريد أن يفارق نظراءه ليخلو لنفسه، وصدقيني يا سيدتي إني لم أخطئ حين شبهته منذ حين بالأوزة التي تعبث في مجتمع من الماء، إنك ترينها من بعيد فيعجبك منظرها تطفو على الماء وقد بسطت جناحيها في الماء مقبلة مدبرة، وخافية ظاهرة، وارتفاعها في الجو طائرة مقاربة في الطيران تخفق بجناحيها خفقًا لا يخلو من ظرف، وتبعث صيحات تؤذي الأذن، ولكنها لا تخلو من فرح ومرح، وقد يروقك شكلها حين تطفو على الماء، وقد بسطت جناحيها، ورفعت عنقها الطويل برأسها الخفيف، وعرضت للضوء والهواء صدرها الجميل. كل هذا يعجبك ويخلبك، وقد يروعك ويروقك فتسعين إلى مجتمع الماء هادئةً مطمئنةً، تودين لو استطعت أن تبلغي الشاطئ، وتقفي من الأوزة غير بعيد، وتديري بينك وبينها بعض الحديث، ولكنك لا تلبثين أن تذكري أن حماقة الأوز قد ضربت بها الأمثال منذ العصور القديمة في غير أمة من الأمم، وفي غير لغة من اللغات، وإذا أنت تلقين على الأوزة الجميلة نظرة طويلة فيها كثير من حزن، وفيها كثير من إشفاق، وفيها كثير من ازدراء؛ لأن طبيعتنا تنبو عن هذا التناقض بين الظواهر التي تخيل أشياء كثيرة والدخائل التي لا تحقق شيئًا، وليس على صاحبنا بأس من أن يشبه الأوزة في شكله وعقله؛ لأنه لم يخلق نفسه، ولم يلائم بين هذا الجسم الثقيل، والعقل الخفيف، وإنما هي حكمة الله التي نفهم أيسرها أحيانًا، ونعجز عن فهم أعظمها في أكثر الأحيان.

وقد عرفت صاحبنا معرفة دقيقة متصلة منذ أيام الطفولة والصبى، وفي أيام الشباب والكهولة، واستطعت أن أقطع بأن كل شيء من حوله كان يهيئه ليكون أوزة ناطقة؛ فقد نشأ في أسرة موسرة من أسر الريف، وكان عطف أبويه عليه شديدًا، فقد كانا يرفقان به مصبحًا وممسيًا، ويتعهدانه بالعطف واللطف آناء النهار، وزلفًا من الليل، وكانت أمه ترأمه، وتعطف عليه عطفًا خاصًّا كما تعرف الأم الجاهلة الغافلة كيف ترأم ابنها وتعطف عليه.

وكان أخص مظاهر حبها له وبرها به عنايتها بطعامه؛ فقد كانت تصبحه بخير ما يصبح به أبناء الموسرين في القرى من هذه الألوان التي تلذ الأفواه، وتملأ البطلون، وتشيع في الأجسام ضخامةً وغلظًا، ثم كان لا يعود إليها من لعبه أو من كتابه أو من مدرسته إلا وجد عندها طعامًا تلقيه في فمه أو تدسه في جيبه أو تضعه في يده، فنشأ شرها متهالكًا على الطعام، وأنفق صباه وشبابه يعلف في أسرته كما يعلف الأوز في تلك البيئات التي تتخذ تنمية الأوز تجارةً ومكسبًا.

وبمقدار ما كانت أسرته تعني بجسمه فتسرف عليه في المطعم، وتتأنق له في الملبس كانت هذه الأسرة ترفق به أشد الرفق فيما يتصل بالدرس من قريب أو بعيد فلم تكن تشق عليه في الملاحظة إذا عاد من المدرسة، ولعلها كانت تضطره إلى الإعراض عن القراءة والمذاكرة؛ فقد كانت تخاف عليه من أيسر الجهد، وتكره له الانحناء على الكتاب، وتشفق على عينيه من ضوء المصباح، وكثيرًا ما تقدم أبوه إلى معلمه في الكتاب وإلى أساتذته في المدرسة في ألا يكلفوه من الدرس شططًا؛ فهو لا يهيأ ليتخذ من العلم صناعة، ولا من المدرسة وسيلة إلى كسب الحياة، وإنما هو يذهب إلى المدرسة كما يذهب إليها أترابه من أبناء الأسر؛ ليتعلم فيها ما يرتفع به عن الجهل، وما يميزه من أهل القرية التي يعيش فيها، ولكن الصبي كان يحب أن يتعلم لا رغبةً في العلم أو حرصًا عليه، ولكن عنادًا لأبويه هذين اللذين كانا يقتران عليه في الدرس، ويسرفان عليه في الطعام والشراب؛ فقد سار الصبي في درسه سيرًا قصيرًا فلم يكن متفوقًا، ولم يكن شديد الغباء، وإنما كان شيئًا بين ذلك حتى إذا أتم دراسته الثانوية رأى الحكومة تختار المتفوقين من أترابه فترسلهم إلى أوروبا ليتموا الدرس، ويعودوا بعد ذلك ليشغلوا مناصب الدولة، ويختلفوا إلى المكاتب في الدواوين، ورأى بعض الأسر الغنية ترسل المقصرين من أبنائها عن نيل الشهادات المصرية إلى أوروبا؛ لينالوا الشهادات الأوروبية، ونظر فإذا أترابه الذين كانوا يتفوقون عليه، والذين كانوا لا يبلغون منزلته يسافرون إلى أوروبا. فلم لا يسافر كما يسافرون، ولم لا يعبر البحر كما يعبرونه؟ وليسوا أكثر منه مالًا، ولا أبرع منه جمالًا، ولا أحسن منه شارةً، ولا أجمل منه زيًّا، ولا أرقى منه ذوقًا في اختيار أدوات الزينة التي يتجمل بها الشبان المترفون، ثم هو يلوي لسانه بالرطانة الأجنبية كما يلوون بها ألسنتهم، ثم هو يحسن التصرف في أشياء لا يحسنون التصرف فيها، وإذن فلم يتاح لهم السفر ويقضى عليه أن يكون من المتخلفين؟

ولم يجد مشقة في أن يظفر من أسرته بالإذن له في هذا السفر الطويل. فقد مانعت الأم وبكت وشكت، ولكن الأب أجاب ابنه إلى ما أراد راضيًا عنه، مغتبطًا به، فقد كان يحب ابنه أشد الحب، ويعجب به أشد الإعجاب، ويرى في سفره إلى بلاد الإنجليز فخرًا أي فخر وامتيازًا أي امتياز، وقد ذهب الفتى إلى بلاد الإنجليز، وأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، وعاد منها لم يتعلم شيئًا إلا التأنق والتحذق والبراعة في لي اللسان حين يتكلم الإنجليزية والعربية جميعًا، والافتنان في ارتضاع البيبة كما يرتضع الطفل ثدي أمه.

عاد من بلاد الإنجليز لم يتعلم غير هذا شيئًا، وهو واثق مع ذلك أنه قد تعلم كل شيء، وقد أتيح له من ظروف الحياة المصرية، ومن جاه أبيه ما وصل أسبابه بأسباب الحكومة. فعمل في ديوانه مترفًا أشد الترف، فارغًا أشد الفراغ، مشغولًا بصغائر الأمور مصروفًا عن عظائمها.

ثم كانت الحركة الوطنية، واضطراب السياسة، واختصام الأحزاب، وانقسام الناس بين هذه الأحزاب مؤيدين ومعارضين ومنتفعين من المعارضة والتأييد، ومنذ ذلك الوقت تولت الظروف الارتقاء بصاحبنا من منصب إلى منصب، ومن منزلة إلى منزلة، حتى هيئ له من المكانة ما تعلمين، وأغرب شيء فيه ما ترين من اجترائه على التحدث في كل شيء والعجز عن أن يقول شيئًا، ومن براعته في النزول بعظائم الأمور وجسام الشئون إلى حيث تصبح ضئيلةً يسيرةً مبتذلةً، يرتفع عن الحديث فيها من أتاح الله له حظًّا من معرفة أو نصيبًا من امتياز، وهو على ذلك منتفخ منتفش، يرى نفسه عظيمًا، ويراه كثير من الناس عظيمًا، فإذا حققناه لم نجد وراء هذه العظمة شيئًا؛ لأنها عظمة منحولة مدخولة لا تعتمد على شيء من شخص صاحبها بقدر ما تعتمد على الباطل والغرور، وقد تسألين كيف ارتقت به هذه العظمة الكاذبة من درجة إلى درجة، ومن مكانة إلى مكانة، ولكني أرجو أن تكوني أقل سذاجة من هذا يا سيدتي، فليس ينبغي أن تسألي عن الضعفاء والعاجزين كيف يرتفعون، فذلك ملائم لطبيعة الأشياء، وإنما ينبغي أن تسألي عن الأكفاء كيف يثبتون في مواضعهم، وكيف يتاح لبعضهم أن يرقى إلى شيء من امتياز المنصب وارتفاع المكانة، فذلك هو المخالف لطبيعة الأشياء، المباين لمنطق الدنيا، كما يقول كاتب أديب من أصدقائنا.

والشيء المحقق هو أني لم أر صاحبنا قط مقدمًا على شيء أو محجبًا عن شيء، أو مجادلًا لخصم أو مناظرًا لصديق إلا هممت أن أقول له ما قال ابن شهيد لأوزته تلك الأندلسية في تلك القصة الظريفة التي جرت بينه وبين حمير الجن وبغالها:

يا أم خفيف، بالذي جعل غذاءك ماءً، وحشا رأسك هواءً، ألا أيما أفضل: الأدب أم العقل؟ قالت: بل العقل، قال ابن شهيد: هل تعرفين في الخلائق أحمق من أوزة، ودعيني من مثلهم في الحبارى؟ قالت: لا، قال ابن شهيد: فتطلبي عقل التجربة؛ إذ لا سبيل لك إلى عقل الطبيعة، فإذا أحرزت منه نصيبًا، وبؤت منه بحظ، فحينئذ ناظري في الأدب.

قالت السيدة متضاحكةً: ليكن صاحبنا أوزة أو دجاجة أو ما شئت من ذوات الأجنحة والريش، ولكن حدثني عن هذا البدع الذي أخذت فيه منذ حين، فقد جعلت لا أسألك عن أحد إلا ضربت له من الحيوان مثلًا. قلت: وأي بدع في ذلك يا سيدتي؟ إنما هو فن قديم من فنون الأدب، أليس العرب قد شبهوا الإنسان بالحيوان منذ أول الدهر! أليس الله — عز وجل — قد شبه بعض الناس بالكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث؟ أليس الله — عز وجل — قد ضرب الحمار الذي تحمل عليه الأسفار مثلًا للذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها؟ أولست قد حدثتك آنفًا بقصة ابن شهيد مع أوزته تلك الأندلسية حين حاورها في روضة من رياض الجن بمحضر من زهير بن نمير، وبمشهد من الحمير والبغال التي كانت تنشده أشعارها؟ فما تنكرين من ذلك، والله لم يخلق الأشياء عبثًا، وإنما جعل فيها لنا منافع، ودعانا إلى أن نعتبر بكل ما خلق من الحي والميت، وأن نلتمس فيه الموعظة التي تبصر القلوب، والحكمة التي تهدي العقول.

قالت السيدة، وقد ثابت إلى الجد، وكانت أدبية أريبة تحفظ الحديث، وتقرأ القرآن: هذا حق، واقرأ إن شئت قول الله — عز وجل — في سورة النحل: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤