الفصل السادس

الشام منذ القرن السابع للهجرة

من العسير جدًّا على المؤرخ أن يفرق في هذه الفترة بين تاريخ الشام وتاريخ مصر؛ فإن القطرين كانا في الحقيقة يكوِّنان وحدة سياسية، كما سنفصله في المباحث المتعلقة بمصر، ولكن هناك حوادث ذات بال، وذات طابع مخصوص جرت في الشام، فلا بد لنا من الإشارة إليها والوقوف عندها طويلًا، وبخاصة فيما يتعلق بحملات الصليبيين.

أطلَّ القرن السابع للهجرة وبعض بلاد الشام خاضعة للسلطان الأيوبي وبعضها الآخر خاضع للنفوذ الصليبي وبخاصة السواحل الشامية، وكانت الحرب تكون دومًا سجالًا بين الملك العادل وبين الصليبيين، ومن أعظم المعارك التي جرت في سنة ٦٠٣ﻫ هجوم الملك العادل على عكا وقبول حاكمها وأهلها بمصالحته، وإطلاق من في أيديهم من أسرى المسلمين، وفي سنة ٦٠٤ﻫ كثرت غارات الصليبيين من طرابلس، وحصن الأكراد على المدن الداخلية الشامية، وبخاصة مدينة حمص وما إليها، وقد حصل في سنة ٦٠٧ﻫ حادث اضطربت له بلاد الشام جميعًا، وخلاصته أن نساء دمشق قصص شعورهن وضفرن منها حبالًا تُستعمل في حبال المنجنيق وعِدد الجهاد ضد الصليبيين، وكنَّ قد بعثن بهذه الحبال إلى علَّامة الشام ومصلحها وواعظها في ذلك الحين سبط ابن الجوزي،١ فلما رآها هاجت دموعه وبكى، ولما صعد على المنبر يوم الجمعة ليخطب ويعظ الناس في جامع بني أمية أمر بإحضار تلك الشعور المجزوزة فحملت على الأعناق، وكانت ثلاثمائة شِكال — وهو الحبل الغليظ الذي تشد به قوائم الدابة — فلما رآها الناس تصايحوا، وضجوا ضجة عظيمة، وتقاسموا أن يقاتلوا الصليبيين صفًّا واحدًا أو يَهلكوا عن آخرهم، ثم أخذت الجيوش تستعد للقتال بقيادة الأمراء الأيوبيين وتتعاهد على الجهاد وقطع دابر الصليبيين الذين يعيثون في الديار الإسلامية فسادًا، وبخاصة في فلسطين المقدسة، وسارت جموعهم من دمشق إلى نابلس حيث كان يقيم الملك المعظم، والتقى الجمعان، وكتب الله النصر للمسلمين، فخربوا ديار الفرنجة، وأسروا جماعات من ملوكهم وأمرائهم وقادتهم حتى اضطروهم إلى الاحتماء بحصون عكا، والكتابة إلى الملك العادل يرجونه أن يعقد معهم كتاب صلح ويهادنهم ففعل، وأمَّنهم إلى حين.
وأخذ الصليبيون في الخفاء يعدون أنفسهم للقاء المسلمين في دمشق، ويهيئون للقيام بحملة شديدة إلى أن كانت سنة ٦١٤ﻫ فهاجم الصليبيون سورية بحملة قاسية، وهي الحملة الخامسة من حملاتهم، وتم لهم النصر وتوغلوا في البلاد إفسادًا ونهبًا وقتلًا حتى وصلوا بلاد بيسان ونابلس، وكادوا يستولون على دمشق، ومما قوَّى عزائمهم في ذلك وفاة الملك العادل في سنة ٦١٥ﻫ، وبوفاته تضعضعت أركان البيت الأيوبي، فقد كان رحمه الله حازمًا متيقظًا غزير الفهم حسن السياسة، وكاد الصليبيون أن يسيطروا على سائر مدن الشام لولا أن اتفق أولاد الملك العادل وتراصُّوا «فلا جرم زاد ملكهم ورأوا من نفاذ الأمر والحكم ما لم يره أبوهم، ولعمري أنهم نِعم الملوك، وفيهم الحلم والجهاد، والذبُّ عن الإسلام.»٢ وفي سنة ٦٢٦ﻫ/١٢٢٨م حمل الصليبيون حملتهم السادسة على الشام بزعامة الأنيرور فريدريك الثاني ملك صقلية، وكان سياسيًّا داهية، استطاع بمكره أن يقنع الملك الكامل الأيوبي بالتفاوض مهه، وتسليم بيت المقدس وبيت لحم والناصرة لمدة عشر سنوات، على أن لا يتعرض هو وسائر ملوك الصليبيين لقبة الصخرة والمسجد الأقصى بأي أذى، فقبِل الملك الكامل منه ذلك، واضطربت بلاد الإسلام لهذه النكبة العظمى، وكانت هذه القصة سببًا في إيغار صدور أهل دمشق على الملك الكامل ومن معه، وخصوصًا حين ازدادت قوة الصليبيين، وحاربوا دمشق وحاصروها، وكادوا أن يدخلوها لولا وقفة أهل دمشق الجبارة، وردهم عنها أشنع ردٍّ، ثم زاد الأمر اضطرابًا وقوع الوحشة بين الملك الكامل وبين إخوته وسائر أمراء البيت الأيوبي، ولقيت البلاد من هذه الوحشة عنتًا كبيرًا، وبلاء عظيمًا إلى أن هلك الكامل في سنة ٦٣٥ﻫ.

وقد ازدادت أمور الفوضى بين أمراء البيت الأيوبي فانقسموا على أنفسهم وتحاربوا وتجالدوا وقسموا البلاد بينهم، وخربت الدور والقصور والمعاهد والمدارس والمساجد بسبب ذلك في أكثر مدن الشام العزيز، وانتهز الملوك والقادة الصليبيون هذا الانقسام فأغاروا على المدن وشتتوا أهلها، وخصوصًا حين التجأ بعض الملوك والأمراء الأيوبيين إلى الصليبيين يستعينون بهم على إخوتهم أو أبناء عمومتهم، وتفصيل ذلك أن الملك الجواد بن مورود بن الملك العادل الأيوبي ذهب إلى مدينة عكا لاجئًا إلى صاحبها الصليبي، وحافزًا إياه على قتال ابن عمه الملك الصالح أيوب صاحب مصر وقتال الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق، وقد وعد الملكُ الجوادُ صاحبَ عكا بأن يُقره على جميع ما في يده من البلاد إن هو نصره على صاحبي مصر ودمشق، ولكن الملك الصالح صاحب دمشق كان أكثر دهاء من الملك الجواد فإنه بعث رسولًا من قبله إلى صاحب عكا الصليبي ومعه هدايا وتحف ثمينة وكتاب يطلب فيه تسليم الملك الجواد، فما كان من الصليبي إلا أن أخذ الهدايا، وسلم الملك الجواد إلى رسل الملك الصالح إسماعيل، فلما وصل إلى دمشق اعتقله، ثم خنقه في سجنه في سنة ٦٣٨ﻫ، ولما تخلص الملك الصالح إسماعيل من الملك الجواد، أراد التخلص من ابن أخيه الملك الصالح أيوب صاحب مصر، فاتفق هو وصاحب عكا الصليبي على أن يسلمه صفد والشقيف إذا هو أعانه على قتال الملك الصالح أيوب صاحب مصر.

واضطربت دمشق لهذا العمل الإجرامي الذي قام به الملك الصالح إسماعيل كما اضطربت له سائر المدن الشامية والمصرية، وقام القاضيان الشافعي والمالكي في دمشق — وهذان أكبر رجال الدين في البلد منصبًا — يلعنان مَن أقدم على هذا الأمر، ويعلنان سخطهما على هذا العمل الحاطِّ من شرف العروبة والإسلام، فما كان من الملك الصالح إسماعيل إلا أن عزلهما وسجنهما في قلعة دمشق، فسكنت المدينة على مضض، وتم الاتفاق بين إسماعيل والصليبيين على تنفيذ ما وعدهم به، وسلم إليهم بيت المقدس وعسقلان وطبرية، ثم التقت جيوش الملك الصالح أيوب بجيوش الملك الصالح إسماعيل ومن معه من الصليبيين، ولكن الله كتب للجيش المصري نصره، وتأييده وانخذل الملك الصالح إسماعيل ومن معه من الفرنجة حتى قال ابن أبي أسامة: «وكُسرت الفرنج ومن انضم إليهم من منافقي المسلمين، وقُتل منهم مقتلة عظيمة، واستولى الملك الصالح أيوب صاحب مصر على غزة والسواحل والقدس، ثم أرسل باقي عسكر مصر مع معين الدين بن الشيخ، واجتمع إليه مَن بالشام من عسكر مصر والخوارزمية وساروا إلى دمشق وحاصروها وبها صاحبها الملك الصالح إسماعيل وإبراهيم بن شيركوه صاحب حمص، ولما ضاق صاحب دمشق ذرعًا بحصار صاحب مصر له سيَّر الملك الصالح إسماعيل وزيره أمين الدولة على العراق مستشفعًا بالخليفة ليصلح بينه وبين ابن أخيه فلم يجب الخليفة إلى ذلك، وتسلم عسكر الملك الصالح أيوب دمشق من الصالح إسماعيل على أن يستقر بيد الصالح إسماعيل بعلبك وبصرى والسواد، وتستقر حمص وما هو مضاف إليها بيد صاحبها، ثم إن الخوارزمية خرجوا عن طاعة الصالح أيوب، فإنهم كانوا يعتقدون أنهم إذا كسروا الصالح إسماعيل وفتحوا دمشق يحصل لهم من البلاد والإقطاعات ما يرضي خواطرهم، فلما لم يحصل لهم ذلك خرجوا عن طاعة الملك أيوب، وصاروا مع الملك الصالح إسماعيل وانضم إليهم الناصر داود صاحب الكرك، وساروا إلى دمشق وحاصروها فقاسى أهلها شدة عظيمة»،٣ والحق أن دمشق لقيت من هذه الفئة عناء كبيرًا، كما لقيت من هذا الحصار بلاء عظيمًا، وقد احترقت محلات العقيبة وقصر حجاج والشاغور وحكر السماق، وهي من أعظم محلات دمشق، وأكثرها آثارًا وقصورًا، وقد دام الحصار نصف سنة حتى هلك فيه الناس جوعًا، وأكلوا الموتى والأطفال ولم ينكشف البلاء عنهم ولم ينجوا من بلاء الخوارزمية والملك الصالح إسماعيل إلا بعد أن استنجدوا بالحلبيين، فقدموا إليهم، وأعانوهم على طرد الخوارزمية عن دمشق، وشتتوا شملهم في سنة ٦٤٤ﻫ.

وفي سنة ٦٤٧ﻫ مات الملك الصالح أيوب صاحب بلاد مصر وأكثر بلاد الشام، وكان قد استكثر في حياته من المماليك الترك والصقالبة لحراسته، وتقوية نفوذه، فلما مات قوي أمرهم واشتد سلطانهم حتى تملكوا البلاد من بعده على ما سنفصله، والحق أن هؤلاء المماليك قد استغلوا سلطانهم أيام الملك الصالح أيوب، ولما هلك ولم يكن له ولد تولت الأمر بعده زوجته شجرة الدر، وأعانها على ذلك نفر من المماليك، وكتبوا بذلك إلى أهل الشام، فأبى هؤلاء أن يخضعوا لامرأة، وولوا عليهم الملك الناصر يوسف بن أيوب صاحب، وتمت له السيطرة على سورية من حلب إلى دمشق إلى بعلبك فعجلون.

ولما اتفق المماليك في مصر على خلع شجرة الدر وتولية أحدهم وهو المملوك أيبك الجاشنكير، كتبوا بذلك إلى أهل الشام، فرفض هؤلاء ذلك إلا أن يولوا أحد الأمراء الأيوبيين، ثم جمعوا جموعهم، وتوجهوا إلى مصر لقتال هؤلاء المماليك، والتقى الجيشان الشامي والمصري عند مدينة العباسة، وبعد قتال مرير بينهما تم الاتفاق على عقد صلح بين الملك الناصر يوسف بن أيوب صاحب دمشق وبين المماليك البحرية على أن يكون للمماليك ما وراء حدود نهر الأردن وللناصر ما بعد ذلك، ولكن هذا الصلح لم يدم طويلًا؛ فإن بعض المماليك انشقوا عن إخوانهم في مصر وجاءوا إلى الملك الناصر في دمشق يطمعونه في السيطرة على مصر، فسار معهم بجيوشه حتى إذا وصل إلى غور الأردن وقعت فتنة بينه وبين المماليك اضطر الناصر بعدها أن يرجع إلى دمشق، ولم يكد يستقر فيها حتى جاءته الأخبار بأن جيوش هولاكو تزحف نحو الشام.

ولما بلغته أخبار زحف هولاكو اضطرب لها، ولكنه أخذ يهيئ نفسه، وفي سنة ٦٥٧ﻫ قدم هولاكو إلى مشارف الفرات واستولى على الجزيرة الفراتية، ثم توجه إلى حلب وفتك بالقرى المجاورة لها فتكًا عظيمًا، ولما بلغت أخباره إلى دمشق جمع الملك الناصر جموعه في مطلع عام ٦٥٨ﻫ للتوجه إلى حلب، ولكن جماعة من مماليكه أرادوا اغتياله فاشتعلت نار الفتنة، واضطربت البلاد، ودخل هولاكو مدينة حلب وذبح من أهلها مذبحة عظيمة حتى قيل: إن عدد من قُتل بها من الناس كان أكثر ممن قتلوا في بغداد،٤ وقال ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة»: «وإن هولاكو حاصر حلب ستة أيام، ثم أوقع بها خمسة أيام حتى لم يَبق بها أحد، ووصل إلى هولاكو على حلب الملك الأشرف صاحب حمص فأكرمه هولاكو، وأعاد إليه حمص، ثم رحل هولاكو إلى حارم، فقتل أهلها عن آخرهم، وسبى النساء، وأمر بخراب أسوار قلعة حلب وأسوار المدينة فخربت عن آخرها، وأمر الأشرف موسى صاحب حمص بإخراب سور قلعة حماه فخربت وأحرقت زردخانتها … وأما دمشق فإن نائب هولاكو قدم إلى أهلها بالفرمان والأمان فتلقاه كبراء المدينة وأنفذت مفاتيح دمشق إلى هولاكو.»٥ وعلى الرغم من ذلك هدم التتار أسوار مدينة دمشق والقلعة، وخربوا ما فيها من مصانع السلاح والزردخانات، ثم توجهوا إلى فلسطين ففتحوا قلاعها في نابلس وعجلون والصلت وصلخد وبصرى وسائر بلاد حوران وجنوبي فلسطين حتى بلغوا غزة هاشم، وقد كانوا يودون الزحف على مصر، ولكنهم انشغلوا بالملك الناصر يوسف الذي حاول تفريق جمعهم فتغلبوا عليه، وقتلوه، وفرقوا جنده، ولقد لقيت الديار الشامية من التتار بلاء عظيمًا وفرَّ بقايا الأيوبيين ومماليكهم إلى مصر يستنجدون بأهلها وبأمرائها، فجمع المصريون جموعهم لنصرتهم وقدموا إلى الشام بقيادة الملك المظفر قطز، والتقوا بالتتار عند غور الأردن، وجرت معركة كبيرة عند عين الجالوت، وهزم الله التتار على الوجه الذي سنبينه في الفصل الخاص بمصر.

ولما رجع الملك المظفر قطز إلى مصر لم تستقم له الأمور بل فوجئ بثورة عنيفة قام بها عليه المماليك، وقتلوه وولوا على سلطنة مصر محله الملك الظاهر بيبرس البندقداري، ولما بلغ هذا الخبر إلى نائب السلطنة المصرية في الشام الأمير سنجر جمع الناس، وطلب إليهم أن يبايعوه بالسلطنة على الشام، فأجابوه إلى ما أراد، وهكذا استقلت الديار الشامية عن الإدارة المصرية، ولم يخرج عن طاعة الأمير سنجر من ولاة الشام ونوابه إلا الملك المنصور صاحب حماه، وبينما كان سنجر يهيئ نفسه للذهاب إليه وإخضاعه علم أن جيوش التتار زاحفة من جديد نحو الشام، وقد علم بذلك الملك الظاهر بيبرس فاهتبل هذه الفرصة وبعث جيشًا من مصر في سنة ٦٥٩ﻫ لقتال سنجر، فقهره وأعاد سلطانه على الشام ووحَّد القطرين، وعبأ البلاد للقاء التتار، ولما علم التتار بذلك توقف زحفهم، ولكن خطرًا آخر داهم البلاد وهو خطر الصليبيين المقيمين في السواحل الشامية وأنطاكية، فإنهم نقضوا العهود، وحاولوا الإغارة على دمشق وما إليها، فهبَّ للقائهم، وتم له النصر عليهم، وفتح الله على المسلمين كثيرًا من المدن والقرى، ولكنهم لم يستطيعوا الوصول إلى أنطاكية فرجعوا إلى حلب وهم ينوون الزحف مجددًا على أنطاكية، وفي هذه الفترة بعث الملك الظاهر جيشًا قويًّا أغار على الصليبيين في مدينة الناصرة وما إليها، ثم سار هو بنفسه في سنة ٦٦٣ﻫ فأغار على عكا، ثم نازل قيسارية وفتحها، وأمر بهدم أسوارها وأسواقها، ثم سار في سنة ٦٦٤ﻫ إلى صفد فاستردها من الصليبيين، ثم أغار في سنة ٦٦٦ﻫ على يافا ففتحها وهدم قلعتها، وسار نحو طرابلس فهدم كثيرًا من القرى الصليبية، وطهر الديار منهم، ثم جمع جموعه واتجه نحو أنطاكية فأيده الله بفتحها، وفتك بالصليبيين وملوكهم شر فتكة، وأخذ يطهر كافة الديار الشامية من بقاياهم، وكان هذا أعظم فتح بعد الفتح الأيوبي.

ولما أتم الله له هذا النصر عزم على الجهاد، فجهز جيشًا كبيرًا في سنة ٦٧٣ﻫ توجه به إلى بلاد الأرمن، وتوغل في ديارهم، وغنم المسلمون مغانم كثيرة، ثم رجع إلى دمشق، ووطد الأمن في هذه الديار وفي الديار المصرية حتى وافاه أجله في سنة ٦٧٦ﻫ بعد أن فتك بالصليبيين، وطهر الأرض من أوضارهم، وقضى على آمال التتار في الاستيلاء على الشام ومصر.

ولما مات تولى الأمر بعده السلطان قلاوون، ولكنه فوجئ بثورة تقوم في الشام بقيادة أميرها سنقر الأشقر الذي أعلن انفصاله، فبعث إليه قلاوون من قهر جنده واضطره إلى الفرار ومكاتبة التتار يغريهم في الحضور إلى الشام، فلبى التتار دعوته وزحفوا على حلب في مطلع عام ٦٧٩ﻫ فعاثوا فيها فسادًا، وأحرقوا الجوامع والمدارس والدور، ثم رأى السلطان أن يصالح سنقر الأشقر لعله يفلُّ من عضد التتار، وتم الاتفاق بينه وبين سنقر الأشقر على أن يستقر سنقر في بلاد الشفر من أرض حلب، وتخلى عن معاونة التتار، وانضم بجنده إلى السلطان قلاوون، ثم وقعت الواقعة بين العرب والتتار في ظاهر حمص، ونُكب التتار نكبة شديدة، وتفرقت جموعهم، فهربوا من البلاد، واستراح الناس من جرائمهم.

وفي سنة ٦٨٤ﻫ علم الشاميون بأن التتار يريدون الاستيلاء على بلادهم وأنهم قادمون إليهم بجيوش كثيرة فاستعدوا لهم، والتقى الجمعان في وادي التيم، وأظهر العرب بطولة نادرة تمكنوا بها من طرد التتار، وكانت هذه الأعمال هي أجلُّ الأعمال العسكرية التي قام بها الملك قلاوون منذ توليه السلطنة إلى أن مات.

ولما تولى الأمر من بعده ابنه السطان الأشرف خليل سار على خطى أبيه في الحزم والضرب على أيدي التتار والصليبيين، وأول أعمال قام بها في الديار الشامية توجهه بنفسه في سنة ٦٨٩ﻫ على رأس حملة لفتح مدينة عكا بعد أن حاصرها بشدة ففتحت أبوابها المنيعة أمام إرادته وأعمل في الصليبيين قتلًا وفتكًا، ولما فُتحت عكا اضطرب الصليبيون وأخلوا مدينة صيدا فاستولى عليها، ثم سار نحو بيروت، فهدم أسوارها، وكانت جد منيعة، وبالسيطرة عليها تمت له السيطرة على الساحل الشامي كله من الإسكندرونة حتى الإسكندرية بعد أن بقي حقبًا طويلة تحت يد الصليبيين، ولم يرَ الصليبيون حملة شديدة بعد حملة صلاح الدين — رحمه الله — إلا حملة الظاهر بيبرس، وحملة الأشرف خليل.

ولما رأى الصليبيون في أوروبة سوء حالة إخوانهم في ديار الشام جهزوا حملة جديدة لنصرتهم وهي الحملة الصليبية السابعة والأخيرة، وقد كانت بقيادة القديس لويس ملك فرنسة، وانتهت بأسرِه وتشتيت شمل حملته على الشكل الذي سنبينه فيما بعد، أما الصليبيون فقد ذهب قسم منهم بحرًا إلى حيث أتوا، وبقي قسم منهم في بلاد الشام لاجئين إلى الجبال في سورية ولبنان، وكان هذا القسم سببًا في قيام عدة حملات على أهل السهول والمدن المجاورة، فكانوا يقومون بأعمالهم الإجرامية ويهربون إلى قمم الجبال، ولو لم يقم المماليك وعلى رأسهم الملك الأشرف خليل بتأديبهم للقيت جميع ديار الشام منهم شرًّا عظيمًا.

وفي سنة ٦٩٣ﻫ قُتل الملك الأشرف واضطربت بلاد الشام لاختلاف المماليك فيمن يولونه، وكان من مصائب الشام العظيمة في هذه الفترة هجوم التتار بقيادة غازان، ودخولهم إلى دمشق في سنة ٦٩٦ﻫ، وفتكهم الذريع بأهل البلد حتى إنهم كانوا يريدون القضاء على السكان جميعهم لولا أنهم افتدوا أنفسهم بأموالهم، وقد ظل التتار القساة يعيثون في الشام فسادًا إلى أن كانت سنة ٦٩٩ﻫ، فرجع غازان عن دمشق ودخل حماه وحلب، وفعل بأهلهما ما فعله بدمشق، وقد احترقت في هذه الفتنة مساجد وجوامع ومدارس ودور عبادة كثيرة كدار الحديث الأشرفية، والمدرسة العادلية الصغرى، والمدرسة العادلية الكبرى، ودار السعادة وغيرها من معاهد دمشق العلمية، ولما علم السطان بخروج غازان، وجماعته من دمشق، وأنه قصد الشمال بعث بجيش كبير إلى الشام، ولكن جيوش غازان فتكت به، ودخلت حلب في سنة ٧٠٠ﻫ، واضطر نائب السطان فيها أن ينجو بنفسه، وعاث المغول فسادًا كبيرًا، وانتهز الفرنج الصليبيون المقيمون في أعالي جبال لبنان ومنطقة الكسروان هذه الفرصة، فأخذوا يغيرون على المدن الداخلية ويفتكون بأهلها، وبخاصة أهل صيدا وصور وبيروت، الذين استغاثوا بصاحب دمشق الأمير آقوش الأفرم، فبعث إليهم من أعانهم عليهم وجرت بين الطرفين معركة تاريخية عند مدينة جبيل، ولكنهم استطاعوا التغلب على الجيش الشامي واغتنموا كافة أسلحته وأمتعته، قال المؤرخ صالح بن يحيى صاحب «تاريخ بيروت»: «وإن السبب في قتالهم أن الهاربين من وجه التتار من العسكر تفرقوا سنة ٦٩٩ﻫ، فحصل لهم أذية من المفسدين، وخصوصًا من أهل كسروان وجزين للهاربين، أما أهل كسروان فإنهم بلغوا أن أمسكوا بعضًا منهم وباعوهم للفرنج، وأما السلب والقتل فكان كثيرًا.»٦ ولما بلغت الأعمال الفظيعة التي قام بها الفرنجة والكسروانيون إلى مسامع السطان الناصر جهز جيشًا قويًّا في سنة ٧٠٣ﻫ لقتالهم والفتك بهم، وقد أعانه عليهم الأمراء التنوخيون أصحاب غربي لبنان، وفي سنة ٧٠٤ﻫ رأى الأمير آقوش الأفرم صاحب دمشق أن يبعث إلى الكسروانيين وأهل الجبال جماعة تدعوهم إلى الصلح والاستسلام، وعلى رأسهم الشريف زين الدين عدنان، ثم بعث إليهم الإمام المصلح الشيخ ابن تيمية ولكنهم أبوا إلا الاستمرار في إعلان العصيان، فجهز عليهم حملة عنيفة، انتهى أمرها بفتح بلاد كسروان، وخضد شوكة الفرنجة، وهدأت البلاد حتى كانت سنة ٧٠٨ﻫ، ففيها خلع السلطان الناصر ابن قلاوون نفسه من السلطنة؛ لما رأى من قيام بيبرس الجاشنيكر، وثورته عليه، فأحب أن لا تسفك الدماء بسببه وأوى إلى مدينة الكرك، ولكن أهل الشام وكثيرًا من أهل مصر ثاروا على السلطان الجديد بيبرس الجاشنيكر، وطلبوا إلى السلطان الناصر أن يعود وألحُّوا عليه بذلك، فقبِل وتوجه إلى دمشق، وجمع جموعه وسار بهم إلى غزة، ولم يصلها حتى قدمت عليه جيوش مصر خاضعة مبايعة، وعادت السكينة من جديد إلى البلاد، وهدأ الناس فترة طويلة إلى أن وقعت حادثة اضطربت لها البلاد جميعها، وهي الفتنة بين اليمنيين والقيسيين سنة ٧٠٩ﻫ في حوران التي قتل فيها قرابة ألف رجل، وكادت هذه الحرب الأهلية الجاهلية تعصف بالبلاد لولا تدخل أهل الحكمة والدين، فعادت السكينة إلى البلاد وعمَّ الخير، وبخاصة في منطقة حماه وما إليها، وهي التي كان عليها السلطان العالم الصالح الملك المؤيد أبو الفداء إسماعيل، وقد دام ملكه نحوًا من ربع قرن، استكان له الناس لعدله ورحمته وعلمه، وحب نشر الفضيلة بين الناس إلى أن مات سنة ٦٣٢ﻫ.

ومن الأعمال الجليلة الجديرة بالذكر في هذه الفترة قيام الجيوش الشامية والمصرية لفتح بلاد الأرمن في آسية الصغرى، والاستيلاء على عدة مدن وقلاع كالمصيصة والهارونية وباناس والنقير وآذنة وطرسوس، وقد عادت الجيوش العربية من رحلاتها هذه ظافرة موفقة، وفرح الناس بنشوة النصر، وعمَّ الخبر، وارتفع شأن الحكام الصالحين، وانتشر الأمن، لولا الأزمات التي سببها اضطراب حبل السلطنة في مصر، وعصيان بعض المماليك في بعض الجهات على سلطان مصر كعصيان نواب حلب وحماه وطرابلس وصفد، مما سبب اضطراب الأمن اضطرابًا لم يهدأ إلا بقدوم سلطان مصر الملك الصالح صلاح الدين ومعه الخليفة وبعض الأمراء والقضاة الأربعة.

وفي سنة ٧٧٠ﻫ تولى نيابة السلطنة المصرية في الشام الأمير سيف الدين منجك، وكان رجلًا حازمًا شديدًا على إقامة الأحكام الشرعية، وقطع دابر المفسدين، وعمارة البلاد، وإزالة أماكن اللهو والمنكرات، قال ابن طولون: «فعل الخيرات وبنى المحطات في الدروب، وبنى زاوية بالكسوة، وعمل لها سماطًا، وعزل الطرقات، وعدل في الرعايا.»٧ واستقامت أحوال البلاد في أيامه، وكان محبًّا للعلم وأهله، فأحيا كثيرًا من دارس المدارس، وعمل على الإكثار من حلقات التدريس في جامع بني أمية.

وفي سنة ٧٧٩ﻫ تولى نيابة الشام بيدمر الخوارزمي وكان ظالمًا كثير الاستبداد والأطماع حاول فصل الشام عن مصر، حتى تم له ما أراد في سنة ٧٨٠ﻫ فخرج عن طاعة السلطان، ولكن هذا بعث إليه فرقة من الجيش المصري ردته عن غرضه، وحاول الهرب إلى بلاد التركمان فلم يستطع وألقي القبض عليه، فأرسل إلى مصر، ثم أعلن توبته، فأعيد إلى منصبه، وانتهز الفرنجة هذه الفرصة فأغاروا على الشام وبخاصة جهات ساحل طرابلس، ولكنهم ردوا عنها خائبين، فعادوا إليها ثانية في سنة ٧٨٤ﻫ وهاجموا ساحل بيروت في عشرين مركبًا حربيًّا، وتقاعس نائب السلطنة في دمشق عن قتالهم فقام بعض الغزاة في سبيل الله وعلى رأسهم الأمير الصالح إينال اليوسفي وتوجه لرد الفرنجة فشتت جموعهم، واحتجز ستة عشر مركبًا وفرح الناس بذلك، ولكن هذا الفرح لم يدم طويلًا حتى ظهرت بوادر الانشاق في صفوف أمراء الشام من جديد، وأخذ بعضهم يعلنون استقلالهم عن مصر، واستمرت هذه الفوضى إلى أن تبدلت الدولة، وحلت دولة المماليك الشراكسة محل دولة المماليك البحرية، على ما سنفصله في الفصل الخاص بتاريخ مصر.

١  هو العلامة الأشهر، والمصلح الكبير سبط ابن الجوزي ١١٨٦–١٢٥٧م، ولد في بغداد وتوفي في دمشق، وله مع الصليبيين أخبار، وفي حروبهم بلاء عظيم، وكان على جانب كبير من الخلق الرفيع، والسخاء، والدهاء، والجهاد، وله آثار علمية أجلُّها: «مرآة الزمان في تاريخ الأعيان» في ٤٠ مجلدًا، طبع منها المجلد الثامن في نيويورك.
٢  «تاريخ ابن الأثير»، حوادث سنة ٦١٥ﻫ.
٣  راجع كتاب «الروضتين في أخبار الدولتين»، حوادث سنة ٦٤٢ﻫ.
٤  خطط الشام للمرحوم كرد علي، ٢: ١١٣.
٥  راجع «النجوم الزاهرة» لابن تغري بردي، حوادث سنة ٦٥٨ﻫ.
٦  راجع «تاريخ بيروت» لصالح بن يحيى، حوادث سنة ٦٩٩ﻫ، طبع اليسوعية ببيروت.
٧  تاريخ ولاة دمشق لابن طولون الدمشقي الصالحي، مخطوط في المجمع العلمي العربي بدمشق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤