مقدمة المترجم
الصراع صعودًا إلى القمة كافٍ وحدَه ليملأ قلب الإنسان؛ لذا حريٌّ أن نتصوَّر سيزيف سعيدًا.
من دون ثقافة وما تعنيه ويقترن بها من حريات يغدو المجتمع غابة، حتى إن بدَت صورته كاملة؛ لذلك فالإبداع الأصيل هبة للمستقبل.
أن أكون يعني أن أفعل، ونحن دائمًا نختار كيف نفعل.
الحرية ليسَت في ذاتها مسألة اختيار، إنها لزوم ما يلزم، إنها ما لا يمكِن اجتنابه، وهي جوهر وجود الإنسان.
القرن العشرون قرن الصراع السياسي والفكري في ذروة احتدامه داخل إطار الفكر الغربي الحداثي الذي مثَّله قُطبان: الفكر الليبرالي الديمقراطي، والفكر الراديكالي المتمثِّل في الفكر الماركسي تحت اسم الاشتراكية. واحتدم الصراع نظريًّا بعد الحرب العالمية الثانية، وانتصر «الحلفاء» … ولم يكن الحلفاء سوى حزمة جامعة للقطبَين النقيضَين؛ الليبرالية بزعامتها الجديدة تحت لواء الولايات المتحدة الأمريكية، والماركسية بزعامة موسكو. وأخذ الصراع أشكالًا عدَّة ما بين توسُّع إقليمي لمناطق النفوذ في ضمِّ ولاء الدول، وبين توسُّع لمناطق نفوذ الفكر بالدعاية والترويج لفكرِ أيٍّ من القُطبَين أو الدعاية المضادَّة. وتجسَّد الصراع في صورةِ ما اصطلح على تسميتِه الحرب الباردة بين معسكرَين.
وكان النصف الثاني من القرن العشرين مَلحمةً مُتداخِلة المشاهد للصراع الفكري، وبرَز خلال هذه المَلحمة بطَلان فكريَّان استقطبا جماعات المثقفين في الشرق وفي الغرب، ناقشا قضايا الإنسان والشعوب على خلفية جديدة محورها الحرية أو التحرُّر في إطار جديد غير إطار المحورية الغربية. ولم نكَد نجد مثقفًا أو ناشطًا سياسيًّا إلا ويناقش قضايا الحرية والاشتراكية من مُنطلَق فكر أحد هذَين المُفكِّرَين: ألبير كامي، وجان بول سارتر. كان كلاهما بحقٍّ مِصداقًا لمقولة إن الكاتب/المفكر شاهِد على عصره، بل صانع منسِّق «مايسترو» لفكر العصر الذي يشهده ويشارك في بنائه؛ بحيث نطالع مسرح الحياة على صفحات كتاباته.
ودار الفكر الفلسفي والسياسي التحرُّري في فلكَيهما … والقضية الخلافية دائمًا هي: «الغاية أم الوسيلة؟ … الأنا أم النحن؟ وكيف؟» وكان صراعهما نبوءة وإرهاصًا بانهيار المنظومات الفكرية الحديثة، والفراغ الفكري، وأزمة الإنسانية، والجحيم العصري.
وبدا المثقفون في العالَم الثالث تجسيدًا لهذا الجدل السجالي الساخن الذي نقرأ تاريخه حيًّا بين صفحات هذا الكتاب. وها نحن نجد أنفُسنا من جديد في خِضمِّ مراجَعة فكرية غربية لما كان كخطوة لتصحيح الطريق أو للتحايُل على التاريخ.
كامي وسارتر، القُطبان النقيضان داخل دائرة الحرية والتحرر، اللذان حدَّدا اختيارات جيلهما في العالَم، عشنا معهما أو مع فكرهما الذي رأيناه صرعة أو «موضة» العصر دون نفاذ إلى الأعماق، دون حياة الفكر ذاته منغمسًا في الواقع. ناقَشنا في عالَمنا العربي باسمَيهما وفي ضوء أفكارهما معانيَ جديدة: الالتزام، المسئولية، الأصالة، الثقافة والحياة، الإنسان موقف، الإنسان فِعل واختيار حرٌّ … إلخ. ناقشنا بألسنتنا هذا كلَّه دونَ أن يتحوَّل النص إلى ثقافة اجتماعية راسخة في الأذهان وإطار فكري فاعل للتغيير، ومرجع للتفكير، ودونَ أن نُثري التجرِبة الإنسانية التي جسَّدها تناقض سارتر وكامي بفكر جديد نابع من حياتنا، ولا أقول تجرِبتنا.
ألبير كامي وجان بول سارتر مفكِّران مبدِعان في تنوُّع: في الأدب والفلسفة، في الرواية والمسرح، في السياسة والصحافة، وكذا في المقاوَمة. صاغا إطار الفكر الثقافي الذي دار في فلكِه المثقَّفون في العالَم إبَّان الحرب العالمية وبعدها على مدى الحرب الباردة. اتَّفَقا وتحالَفا، واختلفا وتباعَدا، ودارت بينهما معارك فكرية هي شهادة على ثقافة عصر، وعلى كلِّ ما عاشته ثقافة العالَم من توتُّر وأمل وإحباط. وظلت قصة الصداقة والإعجاب المتبادَل ثم الخصومة والقطيعة والصراع قصة غير معروفة بالكامل. إنها قصة الصراع السياسي والفكري على الصعيد العالمي، وقصة الصراع بين السياسة والأخلاق، بين متغيِّرات السياسة وثوابت الأخلاق. تقاسَما معًا مواقف مثقَّفي العالم: سارتر أم كامي … مع السياسة والوسيلة أم الأخلاق والمبادئ … مع العنف طريقًا للحرية، أم مع الحرية وسيلةً وغاية للبناء والتقدُّم … أم هناك موقف ثالث؟ المثقَّف المُلتزم ومعنى الالتزام: للمبادئ أم للأخلاق … للغاية أم الوسيلة أيضًا … التمرد أم الثورة؟ … وأين تقع مسئولية المثقف في خِضمِّ هذا الصراع: مسئوليته عن الحرية، عن التمرُّد، عن المبادئ، عن الأهداف والوسائل، عن العنف والقسر من أجل الهدف، وإن أدَّى إلى التضحية بالحرية، عن الإنسان بعيدًا عن قيود العصبية والتعصُّب … إلخ؟
ولا نزال نعيش هذه التوترات؛ إذ لا تزال هذه هي قضايا ثقافة العصر، على الرغم من أنَّ الحرب الباردة باتت من ذكريات الماضي، ولا تزال الحرب قائمة؛ إذن هناك دلالات وأسباب أعمق. رحل كامي وسارتر، وبقيَت القضية معلَّقة.
وها هنا قصتهما في التحالف وفي الصراع في ضوء الوثائق والسيرة الذاتية وشهادات كتَّاب ومفكِّرين، وشهادة كُتبِهما.
الكتاب دراما واقعية، دراما الإنسان الملتزم المتعدِّد الأبعاد في توتر بين الغاية والوسيلة. والكتاب مراجعة واقعية لتاريخ الثقافة والسياسة على مدى عقود لا تزال أصداؤها ممتدَّة في إلحاح. والكتاب سؤال أو استجواب إلى كل مثقَّف: أين كنت وأين أنت الآن? ولمن الموقف والفعالية والالتزام؟ الكتاب ساحة للمراجعة وللمشاركة في المراجعة؛ إنه قصتنا أيضًا.
•••
وإذ نقدِّم الترجمة العربية لكتاب «كامي وسارتر»، إنما نقدِّم دعوة مُلحَّة وصادقة لغائب أبدًا في حياتنا الثقافية والفكرية والسياسية؛ أعني المراجَعة النقدية للذات من منطلق اجتماعي في إطار أفق اجتماعي يتعالى على الأفق الذاتي المحدود؛ مراجَعة لرصيدنا الثقافي ودوره الفاعل إيجابًا وسلبًا؛ مراجَعة للفعل الاجتماعي، للإنسان، لانحيازاتنا الفكرية.
تمضي الحياة، حياتنا، اطِّرادًا عشوائيًّا والتماسًا لمَصالح أنانية أو محورية ذاتية من دون أن نتأمَّلها صادقين بحثًا عن المعنى والدور وتحقيق الذات. وتمضي الحياة دون مراجَعة للذات فردًا ومجتمعًا، وهل تُساوي المعاناة، أم نراها بعيون العاجزين القاصِرين ابتلاءً من دون أن نسأل كيف ولماذا؟ تَمضي الحياة وكأنها شأن سطحي، وإشباع غريزيٌّ فرديٌّ لأفراد تقطَّعت أواصر الصلة والتضامُن والتكافل بينهم. غابت الفعالية المُجتمعية، وغاب معها الفكر الإبداعي النقدي، ويَضيق مع هذه الحياة الأفق، ويظلُّ كل امرئ محصورًا داخل ذاته جيلًا بعد جيل، وعَودًا على بدء.
ولذلك نجد مجتمع اليوم وهمومه هو عين مجتمع الأمس وهمومه، ولا معنى في الأذهان لكلمات: التطور، التغيير، الارتقاء، التقدم، المسئولية، الالتزام، التمرُّد على الواقع المعيش تطلُّعًا إلى أفق جديد يدحَر هموم الحاضر وصولًا إلى واقع جديد وهموم أو مسئولية حراكية جديدة دافعة إلى إبداع مستقبل غير مسبوق.
نعيش حياةً غاب عنها الاختيار؛ حياةً مفروضة هي حياة القسر والطاعة في خضوع؛ خضوع لسلطة خارج الذات، وليسَت حياة الاختيار والالتزام النابعَين من داخلِ ذاتٍ حرَّة مُستنيرة، ومن تفاعل الذات مجتمعيًّا نحو هدف هو مَعلَم التضامُن ووحدة المسار … وغابت عنَّا في ثقافتنا وفكرنا قيمة إبداع الحياة حين تكون اختيارًا مسئولًا قرين التزام بفعل داخل إطار جمعي.
ما هي دراما أو تراجيديا حياتنا في الواقع، في التاريخ، في المستقبل؟ هل من إجابة؟ هل من سبيل للمراجَعة والاعتراف والنقد وعقد العزم على التصحيح؟ نظرة نقدية إلى النفس وإلى الحياة، إلى الواقع، إلى رصيدنا الثقافي الفاعل، هذا كله لكي يتحقَّق يحتاج إلى جرأة؛ جرأة الانتصار على النفس، جهاد النفس، جرأة ومعاناة سيزيف الذي يرى أن النضال صعودًا إلى القمم هو جوهر معنى الحياة والانتصار على عبثيَّتها … هل نفتقدها؟ هل نشعر بالذَّنب دون الأسى لأنَّنا كذلك؟ الشعور بالذنب شعور بالخطأ والمسئولية مع عزم وإرادة للتصحيح، والأسى حالةٌ تعتري نفس العاجز مؤقتًا وتمضي.
نحن قنَعنا بأنَّنا نعيش حياة مفروضة قسرًا علينا. إذن كيف نعيش؟ كيف نراجع وننقد؟ أنَّى لنا الادِّعاء بأننا صنَّاع حياة باختيارنا؟ وهل نجد بين «مفكِّرينا» وكتَّابنا مَن فِكرُه وكتاباته شهادة على العصر؟ وهل نجد مِن بينهم مَن تُواتِيه جرأة المراجَعة والنقد لنعيد قراءة الذات؛ الفعل والفكر، ونكشف مواضع القصور والخلل أو التزييف والكذب، أو نكشف منطق الفِكر والتاريخ في حياتنا؟
•••
الآن أحداث القرن العشرين مبسوطة أمامنا بكل أصدائها وتفاعُلاتها المحلية والعالَمية، فهل تُواتينا، نحن المثقَّفين، جرأة المراجَعة النقدية الصادقة لثقافتنا ومواقفنا وانحيازاتنا لنستكشف حقيقة الأسباب التي قادَتنا إلى ما نحن فيه؟ مثل هذه المراجَعة النقدية إبداع فكري، والإبداعُ الأصل — كما يقول كامي — هبةٌ الإنسان/المجتمع للمُستقبل. إنني أومِن بأن المثقفين بقدْرِ ما هم منارة التنوير والتقدُّم، بقدْرِ ما هم المسئولون أولًا وأساسًا عما يُصيب المجتمع ويَعُوق مسيرته إذا ما غيَّبوا الحقيقة وهم يعلمونها، وتذرَّعوا بافتقاد الحرية.
والمراجَعة النَّقدية سبيلنا إلى الحقيقة، والحقيقة هي الطريق والمُنطلق إلى الحرية. والتزييف هو الطريق إلى العبودية أو الاستعباد والضلال. وغنيٌّ عن البيان أن المعاناة الحقَّة والآثار الجنائية تقع على كاهل مَن سلَبناهم الحقيقة وزيَّفْنا تاريخهم، فهؤلاء دائمًا في التاريخ هم الضحية.
القاهرة، ٢٠٠٦م