استهلال
«كان لا بدَّ لرواية القصة أن تنتظر ليس فقط من أجل تجميع المادة؛ إذ حِيل بيننا وبين رؤيةِ ما حدث بينهما لأسباب أخرى أكثر جوهريةً؛ الحرب الباردة ذاتها.»
إلى رئيس تحرير مجلة «الأزمنة الحديثة» …
«عزيزي كامي، لم تكن صداقتنا سهلة يسيرة، بَيْد أنني سأفقدها. إذا أنهيتَها أنت اليوم، فذلك يعني دون شك أنْ كان ضروريًّا أن تنتهي. أمور كثيرة جذبت كلًّا منا للآخَر، وقليل منها فرَّق بيننا، ولكن هذا القليل على قِلَّته كان ولا يزال كثيرًا جدًّا …»
«إلى رئيس التحرير»: بيْدَ أنَّ الكل كان يعرف أن هذا صديق طيب يتحدَّث إلى الآخر. «إذا أنهيتها»: فيلسوف الحرية الأشهر يضع المسئولية على عاتق صديقِه دافعًا به إلى مسارٍ ينطوي على إساءة عنيفة أنهَت بالفعل الصداقة.
هذه الكلمات التي لا سبيل إلى نسيانها كلمات شخصية جدًّا، لكنها عامة للغاية، أصيلة جدًّا، لكنها مُشبعة للغاية بسوء الطويَّة، تُشير في آنٍ واحدٍ إلى نقطتَي تحوُّل؛ إحداهما علاقة شخصية، والثانية حِقبة تاريخية. بلغَت الصداقة بين ألبير كامي وجان بول سارتر ذُروتها فور تحرير فرنسا. وكان كِلا الرجلَين وصداقتهما تجلِّيًا لرُوح التفاؤل اللانهائية التي سادت مع نهاية الحرب. وحملَت صداقتهما على مدى سنوات عديدة — وعلى الرغم من الاختلافات المتنامية — مناخَ حملات التطهير التي أعقبت الحرب والحروب الاستعمارية التي خاضتها فرنسا، والعودة المحلية الأليفة إلى السياسة المعتادة، وقبل هذا وذاك التأثير المُتعاظم للحرب الباردة وضغوطها لكي يلتزم كلٌّ منهما جانبًا محددًا واضحًا. لكن مع تفاقُم الصراع السوفييتي الأمريكي الذي أفضى إلى حرب كوريا، تلاشَت الساحة الوسطى التي تجمَع بين الرجلَين. وافترق في النهاية كامي وسارتر، ليس فقط لأنهما اتخذا موقفَين مُتضادَّين، بل لأنَّ كلًّا منهما أصبح الرائد الأخلاقي والفكري للموقف الذي التزم به.
وفي إطار حُجة فلسفية انفعالية وموجِعة شخصيًّا، نجد الصوتَين الرئيسيَّين المعبِّرَين عن الحياة الفكرية الفرنسية فيما بعد الحرب وقد دمَّرا بالكامل تقريبًا صداقةً عمرُها عشر سنوات. أجهَزا عليها في البداية في وجَلٍ وتردُّد ثم باندفاع بدا أن لا سبيل إلى التحكُّم فيه. ودمَّر سارتر وكامي أيضًا الوسط السياسي لكلٍّ منهما، كما أطاحا بكلِّ أثر دالٍّ على أنه كان لهما يومًا ما مشروعهما المشترك لخلق يسار مُستقل.
ودارت أحداث دراما تاريخية كبرى فوق ساحة غير متوقَّعة: بِضع مقالات شديدة التركيز منشورة في صحيفة باريس التي تُوزَّع أكثر قليلًا من عشرة آلاف. ونلحظ أن قضية أغسطس ١٩٥٢م، التي نشرتها مجلة «الأزمنة الحديثة»، بِيعَت ونفِدت فورًا، وأُعِيد طبعها ونفِدت للمرة الثانية. وأُعِيد، في هذه الأثناء، عرضُ تبادُل الآراء في ضميمةٍ من صفحتَين داخل صحيفة «كومبا» اليومية التي كان كامي يرأس تحريرها، وعرَضت الصحيفة السابقة على «لانوفيل أوبزرفاتور» مُقتطفات مطوَّلة من خطاباتهما، وأضحَت القطيعة حديثَ باريس تُناقِشها مقالات عديدة فيما لا يقلُّ عن عشر صحفٍ أو مجلات، وتضمَّنت العناوين الرئيسية عناوين مثل: «القطيعة بين سارتر وكامي هي الشغل الشاغل» في صحيفة «ساميدي سوار»، وأيضًا: «سارتر ضد كامي» في صحيفة «فرانس ألستراسيون». واتَّفقَت آراء الأنصار والمُشايِعين على أن النزاع يُوجِز ما سمَّاه فرنسيس جينسون في عرضه لكتاب كامي «المتمرِّد»: «قضايا عصرنا الملتهِبة». ونجد، كما قال ريمون آرون صديق المدرسة القديم لسارتر، أن الاختلافات التي تضمَّنتها هذه المقالات: «تحمل على نحوٍ مباشِر طابعَ النزاع القومي»، وردَّ كامي على جينسون بالهجوم عليه وعلى سارتر. وعقِب هذا وجَّه سارتر وجينسون ردودًا عنيفة إلى كامي، وبعدها كانت القطيعة، ولم يتحدَّث سارتر أو كامي أبدًا إلى الآخَر.
بدأت علاقة سارتر-كامي من جانب كامي في العام ١٩٣٨م، ومن جانب سارتر في العام ١٩٤٢م، مع اكتشافهما الحماسي لكتُب كلٍّ منهما الصادرة في باكر حياتهما الفكرية، وأفضى الاكتشاف إلى صداقة مُباشِرة في العام ١٩٤٣م مع أول لقاء جمَع بين الاثنين. وتحادَثا معًا، وهما المُتماثِلان في الرأي فلسفيًّا وسياسيًّا، عن مجالات تعاون مُشتركة ومُتباينة، كما جمعت بينهما طموحات وتطلُّعات مشتركة. وغالبًا ما كانا شريكَين معًا في التحرير، وأصبحا أشهر كتَّاب فرنسا على الإطلاق، مع تحوُّل الوجودية عقِبَ الحرب إلى حالة من الهوَس الثقافي. وجاهَدَ كامي ليتحاشى الظهورَ في صورة مساعِد لسارتر، لهذا أنكر كامي هذا التصور مرةً بعد الأخرى، بينما اتَّخذه صديقه نموذجًا للالتزام بنظريته الجديدة. وكان الاثنان مثقَّفَين نشيطَين، مُلتزمَين دربَين مُتوازيَين؛ كان كامي رئيسًا لتحرير مجلة «كومبا»، صحيفة المُقاوَمة التي أصبحت إحدى يوميات باريس، وسارتر مؤسِّس ومدير مجلة «الأزمنة الحديثة» التي سرعان ما أصبحَت أهم صحيفة سياسية وثقافية في فرنسا.
وواصَلا السير على الدرب والشهرة الاجتماعية، واقترن موقفهما اليساري غير الشيوعي ببدايات الاستقطاب بين الشرق والغرب، وتحدَّدت معالم هذا التقسيم في ضوء خطاب تشرشل «الستار الحديدي» في مطلع العام ١٩٤٦م. وأصبح هذا التقسيم موضوعًا مطروحًا داخل دائرتهما مع وصول آرثر كويستلر إلى باريس في خريف هذا العام، وهو المُناهِض بشراسةٍ للشيوعية، وحدث هذا عقِبَ صدور الطبعة الفرنسية لكتابه «ظلمة في الظهيرة»، وكتاب «اليوغي» [الممارِس لليوغا]، و«المسئول الشيوعي». وفرضت شخصية كويستلر وأفكاره على الاثنَين ضرورة الاختيار بين اثنتَين؛ مع أو ضد الشيوعية.
وتفاقمت هذه الضغوط بسبب الأحداث التي شهدتها الأعوام القليلة التالية، وصبغت بطابعها كتابات سارتر وكامي، علاوةً على تطوُّر مواقفهما السياسية. وكان بالإمكان، كما هي الحال سابقًا، تمييز حوار يجري بين سارتر وكامي عبر كتاباتهما من دون أن يذكر أحدهما الآخَر بالاسم، بل يصوغ كلٌّ أفكارَه في ضوء علاقته بالآخَر. وعلى الرغم من أنَّ كلًّا منهما بات مشدودًا إلى اتجاه مقابل، فإنهما ظلَّا صديقَين يواصلان العمل من أجل بناء «قوة ثالثة» مستقلة لأطول فترة مُمكنة — وهو ما يُمكِن قوله — إلى أن أصبحت الحرب الباردة ساخنة وفي موازاة مع تطوُّر فكرِ كلٍّ منهما، حتى أصبح لزامًا على كلٍّ منهما قسرًا أن يختار إمَّا مع أو ضد الشيوعية. واستمرَّت صداقتهما إلى لحظة الانفجار ذاتها. وإذ تباعدا واصَلا المحاجة فيما بينهما إلى أن وافَت كامي المَنيَّة.
ويا لها من قصة مُثيرة للاهتمام! تُرى ما الذي حجَبها فلم يَروِها أحدٌ كاملةً قبل الآن؟ ثَمَّة سبب أو سببان موجَزان كتَبهما حفنة من الكتَّاب ممَّن اكتشفوا القضايا المثارة بين كامي وسارتر، بيْدَ أنه لا أحدَ عمد إلى رواية تفاصيل قصة العلاقة ونهايتها. تُرى هل كتاب كهذا لا يزال ضروريًّا حتى بعد مُضيِّ قرابة خمسين سنة على الأحداث التي يصفها؟
أحد الأسباب أنه لم يكُن مُمكنًا إلا حديثًا جدًّا. أضحت مادته الآن ميسورة (السير الذاتية، طبعات لنصوص في صورة دراسات وبحوث، قراءات تأمُّلية للعديد من الكتابات، بحوث تفصيلية لعشرات المسائل والكتابات الخاصة بالسِّيَر الذاتية). وسمح لنا هذا كله بأن نفهم أكثر الأمور التي جرَت بين الاثنين. وهكذا أصبح ممكِنًا الالتفات إلى هذه المسألة، إلى علاقتهما، وتأمُّلها في ضوء تاريخها ومن ثَمَّ نستكشف ما وراء الستار الذي أخفيا به أحداثًا ودلالات هما وكتَّاب تاريخ حياتَيهما. وسوف نرى كيف انجذب كلٌّ منهما إلى الآخَر، وكيف كانت الطريق الأصلية لكلٍّ منهما وثيقةَ الصلة بالآخر، وتُفضي إلى إثراء طريق كلٍّ منهما، وسنرى كيف تفاعَلا معًا على صفحات الصحف والكتب، بما في ذلك التعليقات المباشرة وغير المباشرة من جانب أحدهما على الآخر، وكيف عالجت كتاباتهما مسائل عامة مشتركة، وكيف تداخلت مشروعاتهما السياسية والأدبية والفكرية، ثم كيف بدأ الكاتبان معارَضة كلٍّ منهما الآخَر صراحة. وأكثر من هذا في الحقيقة كيف استطاع الاثنان بعد القطيعة أن يُواصِلا صراعَهما مع بعضهما، وأن يستجيب أحدهما إلى الآخَر وأن ينقضه ويتحدَّاه.
ولكن كان لا بدَّ لرواية القصة أن تَنتظِر، ليس فقط من أجل تجميع المادة؛ إذ حِيل بيننا وبين رؤيةِ ما حدث بينهما لأسباب أخرى أكثر جوهرية: الحرب الباردة ذاتها. إذ فرضت على كل امرئ أن يلتزم جانبًا في صراع مستقطب من أجل الخير ضد الشر؛ صراع سقط ضحيته سارتر وكامي، ولكنْ كلٌّ بطريقته الخاصة المميَّزة. وحوَّل هذا الوضع القسري نزاعهما إلى مجرَّد مسرحية أخلاقية. إذا كان أحدهما على صواب، فإنَّ الآخَر مخطئ بالضرورة، وتمخَّضت عن هذا قصة تعوزها فوارق ضئيلة؛ ومن ثَم لا عجب أنْ لم يشعر أحدٌ بضرورة روايتها كاملة.
ونظرًا إلى أن علاقة سارتر-كامي تمثِّل جزءًا مُتكاملًا مع تاريخ الحرب الباردة، فإنَّ هذا يقتضي النظر إليها من خلال عيون أخرى مُشايعة. وهكذا، فإن كتابات سيمون دي بوفوار، رفيقة حياة سارتر بعد القطيعة، نراها لا تكاد تذكُر كامي من دون أن تُصدِر حكمًا عليه: «طاغية صغير» في مجلة «كومبا»، هذا رجل استسلم لثورات غضب نظرية و«نزعة أخلاقية». ونظرًا لعجزه عن التوفيق «أصبح بطلًا يزداد تشددًا للدفاع عن قيم البُرْجوازية». وأصبح كامي أسيرَ هوسِ مُعاداة الشيوعية، مُتعصِّبًا ﻟ «مبادئ عظمى»، مشكوك فيها. وإذا كانت اختيارات سارتر صوابًا واختيارات كامي خطأ، كما تقول رواية سيمون دي بوفوار، فإنَّ جانب الخير قد انتصر بينما مُنِي الشر بالهزيمة. وسادت هذه الرؤية طوال حياة سارتر وبوفوار. وثَمَّة رؤية أخرى برزت على السطح مع تحوُّل الفكر إلى نقيضه عقب الحرب الباردة؛ إذ يقول أحد أنصار كامي: «سارتر … أعلن تحالُفه مع الستالينيِّين من دون اعتبار لأيِّ شيء، بينما رفض كامي الالتحاق بالحشد الأنيق المليء بالقَتَلة. وإنه لهذا سخر منه وأذلَّه السارتريون، وقد كان الجميع تقريبًا آنذاك أشياعًا لسارتر.» ونحن إذ نعيد الآن قراءة سقوط الشيوعية، فإن هذه القراءة تسمَح لنا بأن نقلب حكم التاريخ إلى عكسه، ونُصحِّح وضع الأمور بالنسبة إلى كامي الذي تستحق رؤيته السياسية درجة ٢٠ على ۲۰.
والمشكلة أن مُعايَشة التاريخ ومشاهَدته على أنه مسرحية أخلاقية تنفيان مُعايَشة ومشاهَدة ما فيه من مظاهر غموض ولبس ومآسٍ. وتُفيدنا كلمة مأساة (تراجيديا) معنى الخسارة الجسيمة، وسوف نرى أن قصة كامي وسارتر انتهَت نهاية سيئة على المستويَين الشخصي والتاريخي. وليس معنى هذا إنكار أن سارتر بدا غير قلق ولا مُكترِث بالصداقة التي تحطَّمت آنذاك، أو أنه بعد ذلك استهان بالعلاقة وبالقطيعة. وها نحن نقرأ في لقاء مُعبِّر للغاية أجراه سارتر في فترة متأخِّرة، ويقول فيه عن كامي: «كان آخِر أصدقائي الفضلاء.» ولا غرابة في هذا إذا عرفنا مدى التقارُب الشديد بين بعض منطلقات كلٍّ منهما، وكيف توازت رسالتاهما ما بعد الحرب، وكيف بدا يسيرًا ذاتَ يوم التباحُث فيما بينهما في شأن الاختلافات الحادَّة من حيث الخلفية الطبقية والطبيعة المزاجية لكلٍّ منهما، فضلًا عن الأوقات الجميلة التي أمضياها معًا. ومع هذا، فنظرًا إلى أننا نَفتقِد أي شهادة مباشِرة أخرى على لسان سارتر، لم يَبقَ أمامنا سوى أن نَستنتج على سبيل التخمين ما تكلفه بسبب هذا النزاع. ولكن الذي لا شكَّ فيه أنه أثَّر بقوة في كامي؛ إذ ألزمه الصمت، كأن سحابة غشيته خلال سنواته الأخيرة. وكشف عن شعور بالألم وإحساس بالخيانة، بل وبالخجل، إزاء ما عاناه من إذلالٍ عامٍّ علني. وعاوَده الشعور مرارًا، فيما وصفه سارتر في تأبينه بعد مقتل كامي نتيجةَ حادث سيارة دهمته العام ١٩٦٠م؛ إذ قال سارتر: «ربما أجمل كتب كامي وأقلها قابليةً للفهم لدى الناس، كتابه «السقوط».»
وإنني إذ أستخدم كلمة مأساة (تراجيديا)، إنما أقصد إلى تجاوز موقف المشايعة للحرب الباردة الذي صَبغ بألوانه، علاوةً على أشياء أخرى كثيرة، صورةَ النزاع بين سارتر وكامي. وأعتزم وصفَ كلٍّ من الخصمَين بأوصاف الفهم والتعاطف، وكذا بأوصاف نقدية. معنى هذا تقييم المشروعية الأساسية لكلٍّ من الجانبَين المتصارعَين. إن سارتر وكامي لم يتباعَدا قسرًا بسبب خصومة مزاجية لكلٍّ منهما، وإنما انفصَلا وتباعَدا لأنهما — كما قال سارتر بعد ذلك بنَص عبارته — جسَّدا الصراع التاريخي العالَمي الدائر بين خصمَين هما الخصمان الأيديولوجيان الرئيسيان في العالم على مدى قرنَين. وعلى الرغم من أن كامي لم يكُن قَطُّ من أنصار الرأسمالية، ولم يكُن سارتر قَطُّ شيوعيًّا، انتهى الأمر بهذَين الخصمَين إلى أن أصبحا يمثِّلان قوًى أكبر منهما. وصارَع كلٌّ منهما على مدى سنوات عديدة ضد الانفصال الوشيك، وواصَلا في الوقت نفسه تطويرَ الأحداث والاستجابة لها بوسائل جعلت هذا الانفصال أكثر رجحانًا. وثمَّة منطق تاريخي أحيا الخلاف بينهما. إن سارتر وكامي تحاشيا الأوصاف الشائعة في الشيوعية والرأسمالية بكلِّ ما تَنطوي عليه من سوء قصد عقيم وأناني، لكنهما وجدا أنفسهما مدفوعَين إلى الكشف عن الأسباب العقلية التي تجعل رجال الفكر والمثقَّفين المُلتزِمين بأوسع نطاق من الحرية والعدالة الاجتماعية يعمدون إلى مسانَدة أو مناهَضة الشيوعية.
وكان مُتوقَّعًا بعد الانفصال أن تغشى اليسارَ روح الكآبة؛ إذ مُساندة الحركات والحكومات اليسارية تعني إقرار أسلوب القسوة على الحرية؛ والدفاع عن الحرية يعني معارَضة المشروع الوحيد الذي يتحدَّى الرأسمالية. وإذا شئنا بيان الدلالة العميقة، فإننا نتحدَّث عن هزيمة اليسار في القرن العشرين وقد تبدَّد أمله؛ إذ مُنِيَت بالإحباط آمال اليسار في أن يمثِّل جيلًا يعبِّر عن الطليعة المتقدمة على الطريق إلى الاشتراكية والحرية. ووجَد الناس أنفُسهم قسرًا مُكرَهين على خيارٍ مُستحيل: بين واقعيةِ سارتر الجدلية المُثيرة للكآبة (الشيوعية الطريق الأوحد للتغيُّر الكيفي، والوجه القبيح لمثل هذا التغيير)، ورفْضِ كامي اليساري المبدئي للشيوعية (الذي خلفه عاجزًا عن التوحُّد مع أي قوة ذات قيمة تُناضِل من أجل التغيير). وكان كلٌّ من سارتر وكامي يعبِّر عن نصف الحقائق ونصف الأخطاء، أو نصف الصدق ونصف الكذب، كما أصبح يمثِّل فيما بعد مأساة اليسار — ليس فقط في فرنسا، بل وفي العالم أجمع — على مدى الجيل التالي على أقل تقدير.
وأخذ كلٌّ من كامي وسارتر يؤكد وجود بديلَين فقط، هما المتمرِّد عند كامي، والثوري عند سارتر، اللذان عبَّرا عنهما في مسرحيتَيهما «القتَلة العدول» و«الشيطان والرب الرحيم». وحقيقة الأمر أنهما باختيارهما إما الحرية الرأسمالية أو الاشتراكية الشيوعية، إنما عمد كلٌّ منهما في واقع الأمر إلى أن يتَّخذ اختيارًا ليس فقط ضد الآخَر، بل ضد أنفسهما. وإذ حدَّد سارتر وكامي اختيارَيهما، حتى وإن أكَّدا ذاتَيهما، وأيًّا كانت حُججهما في اتساق مع جيلهما، فإنهما أيضًا خانا أنفسهما، وأسمى القِيَم التي يُؤمنان بها.
•••
وبعد أن افترقا ظلَّ كلٌّ منهما حتى نهاية حياتَيهما يرى الآخَر ضمن أسذج حدود الدور الأخلاقي الذي اختاره: الخداع الذي لم يرَ سواه صديقه القديم. رأى كامي أن الانفجار أكَّد أن سارتر لم يكُن أبدًا صديقه، وأن سارتر — سياسيًّا — هو ومَن حوله لديهم ميل إلى العبودية. ورأى سارتر أنَّ كامي توقَّف عن النضج وخان الرابطة الحيوية التي تربطه بعالمه التاريخي التي جعلته شديد الجاذبية في أثناء الحرب وبعدها. وبعد القطيعة المُثيرة، على نحو ما يَحدُث أحيانًا في حالات الطلاق القاسي، بدا كلٌّ منهما وكأنه حريص على محو الآخَر من حياته. وتعاوَن كامي حتى وفاته في العام ١٩٦٠م، وسارتر حتى وفاته في العام ١٩٨٠م، وكأنهما مُشتركان في مؤامَرةٍ لمحو آثار صداقتهما.
ولقد كان كتَّاب السِّيَر الذاتية والباحثون المَعنيَّون بحياة وفكر سارتر وكامي شركاءَهما في الجريمة. صوَّر البعض علاقتهما وكأنها قصيرة وغير ذات قيمة، وتطلَّعوا إليها وكأنهم يستبقون بادئ ذي بدء نهايتها. ألم تكُن أولًا وأخيرًا فلسفتاهما، ومزاجاهما، وأسلوباهما، وأصولهما الاجتماعية، تُؤكِّد جميعها أن القطيعة هي الجوهر، وأن الصداقة هي العرَض؟ ويبدو أن هذا الموقف يتوافق مع قانون «التحليل بعد وقوع الحدث» الذي وصفه دوريس ليسنغ؛ إذ نظرًا إلى أن الحدث أسفر عن قطيعة، فإننا نَنزع إلى التركيز منذ البداية على «قوانين التحلُّل» للعلاقة. ونحن، كما هي الحال في انفصام علاقة زواج، نُثبِّت أنظارنا على منطق الانفصال وكأنَّ الاثنين كان مصيرهما حتمًا التباعُد، وأن هذا هو كلُّ ما في الأمر. وأكثر من هذا أنَّ كلًّا من سارتر وكامي أفرغ كلَّ وجوده في الاختيار الذي باعَد بينهما، وأن اتجاه كلٍّ من الرجلَين إلى وضع كل رصيده في رهان ليؤكِّد صوابه، كان من شأنه أن غذَّى عجزه عن أن يرى في علاقتهما أي شيء آخَر غير بذور الانفصال. وتَفاقَم هذا الوضع بسبب الأحكام الصارخة بالصواب والخطأ التي أطلقَتها على الفور الحرب الباردة، ثمَّ استعداد الكتَّاب الذين رصدوا جهدَهم للوقوف إلى جانب هذا الرجل أو ذاك. وهكذا، نجد آخَرين من كتَّاب السِّيَر الذاتية والباحثين قد عجزوا عن النظر إلى علاقة سارتر-كامي دون أن يرَوا أنه إمَّا سارتر أو كامي كان على خطأ منذ البداية. وقيل إنَّ مذاكراتهما النقدية في باكر علاقتهما عن أنفسهما، أو سبيل كلٍّ منهما إلى الالتزام السياسي، أو كتابتَيهما المهمَّة الأولى، تشير جميعها إلى الوجه الحقيقي لكلٍّ منهما.
تُرى هل كان قدرهما أن يَنفصِلا؟ أيًّا كانت رؤية كلٍّ من سارتر وكامي إلى صداقتهما بعد ذلك، إلا أنهما على أحسن الفروض كانا سيرفضان فكرةَ أنَّ أي علاقة يتحدَّد مصيرها لحظةَ ميلادها. وحقيقة الأمر أن سارتر طوَّر وأفاض في المحاجَّة ضد مثل هذه النزعة القدرية وسمَّاها سوء نية. ويبدو واضحًا أن كتابات كِلا الرجلَين، وكذا حياتاهما، تُطالبنا بأن نقرأ قصتهما كما كان يتعيَّن أن يعيشها كلٌّ منهما — مع عقل مُنفتح تجاهَ كل ما يمكِن أن يحدث. ونحن لكي نضع تقييمًا للعلاقة في اتِّساق مع مزاجَيهما، يتعيَّن علينا تناولها انطلاقًا من فهمنا المشترك لعدم قابلية التنبؤ والاختيار والحرية والعبث.
وأي نهج غير هذا يعني إغفال الدراما الكاملة الغنية للعلاقة، وسوف نجد أنفُسنا بدلًا من هذا إزاء قصة قصيرة محرَّفة للغاية تُفيد بأن كامي وسارتر استمتعا بأوقاتٍ طيبة معًا لفترة قصيرة من دون أن يَنعما بصداقة كبيرة لزمن طويل، وأن أيهما لم يؤثِّر في الآخَر، فضلًا عن القول بأن الرابطة بينهما كانت ظاهرية سطحية ولم تَدُم طويلًا؛ ومن ثَم كانت القطيعة حتمية. وكم هو غريب أن سيمون دي بوفوار نفسها في روايتها، وهي وثيقة الصلة حسبما نرى بقصة «رسمية» — ولو من جانب واحد على الأقل — تتوافَق مع هذا النمط، بل هي التي صاغته، ولكن البحث والتنقيب ومحاولة تجميع شذرات مُتناثرة للقصة الحقيقية لاستبيان تفاصيلها المؤلمة والمُثيرة تعني أن تكون العلاقة هي المحور. ونحن ما إن نفعل هذا كما يجب حتى تتكشَّف لنا جملة من المعاني الجديدة والمختلفة. نعم انجذب سارتر وكامي كلاهما إلى الآخر بقوة، وأثَّر كلٌّ منهما بعُمقٍ في الآخَر، وتورَّطا في نزاعات مُتبادلة بشأن الحياة الحميمة لكلٍّ منهما مع الآخر، وظلَّا مترابطَين لفترة طويلة بعد القطيعة، ولم يكُن من قبيل الخطابة الإنشائية فقط ما قاله سارتر في تأبينه لصديقه الغائب عنه: «التباعد أسلوب آخر للوجود معًا.»
•••
ولكن على الرغم من أن كل هذه المواد لازمة ولا غنًى عنها، فإنها لا تهيئ لنا مفتاح القصة. إنَّ تأكيدي على أهمية كِلا الرجلَين للآخَر ليس مصدره ما قاله كامي وسارتر عن علاقتهما في هذه المجالات المُختلفة، أو فيما قالته سيمون دي بوفوار، بل من مصدر أساسي قليلًا ما ينتبه اليه أحد، وهو مصدر بريء من أيِّ انحياز مبني على ضوء استعادة لأحداث الماضي: وأعني به الكتابات المنشورة بقلمَي سارتر وكامي أنفسهما. ولستُ أعني هنا فقط ذكر كلٍّ منهما لاسم الآخَر عشرين مرةً أو ما يقرب من ذلك، بل وأيضًا المواضيع الكثيرة التي جمعت بينهما دون أن يذكر أيٌّ منهما الآخَر بالاسم، حيث نُوقِشت قضايا أساسية تتعلَّق بما نحن بصدده.
عاش سارتر وكامي في كتاباتهما؛ ومن ثَمَّ تُعتبر كتاباتهما المصدرَ الرئيسي لقصة علاقتهما. لقد اعتادا من العام ١٩٣٨م وحتى ١٩٦٠م أن يكتب كلٌّ منهما للآخر، عن كلٍّ منهما إلى الآخَر، وفي استجابة مُتبادلة. وتؤلِّف تفاعلاتهما المسطورة بعضًا من اللحظات الرئيسية في تطوُّر كلٍّ من الرجلَين. وغالبًا ما كان كلٌّ منهما يشير إلى الآخَر إشارات مباشِرة: قدَّم كامي أولَ الأمر عرضًا نقديًّا لمسرحية سارتر «الغثيان»، ثم «الجدار»، بعد ذلك قدَّم سارتر تحليلًا لرواية كامي «الغريب»، ثم كُتَيب «أسطورة سيزيف»، وتحدَّث الاثنان أحيانًا كلٌّ منهما عن الآخر رمزًا، خاصة بعد الانفصال. وكثيرًا ما أشار أحدهما إلى الآخر بطرق غامضة تستلزم منَّا أن نستنطق مواقف بعينها. وجدير بالإشارة أن كامي كثيرًا ما ساق حججًا مناقضة للمثقفين اليساريِّين أنصار الشيوعية، التي رأى البعض بعد العام ١٩٥٢م أنها إشارة إلى سارتر. وساق سارتر بعد العام ١٩٥٢م حججًا مناهضة للمؤمنين بعدم العنف، واعتُبِر كامي المتحدِّث باسمهم. وواضح أن القراءة الجيدة لعشرين عامًا من هذه التفاعُلات المتبادلة، أولًا في ظلِّ الصداقة ثم في إطار العداوة، تحكي لنا الكثير والكثير عن العلاقة بين الاثنين. وعلى الرغم من أن مصادر أخرى كثيرة تُساعدنا على رواية سيرة كامي-سارتر، فإن كتابات الاثنين هي التي تُفصِح لنا عن قصة اثنين من أعظم مُفكِّري القرن العشرين، ولقد حان الوقت لكي نستمِع إليها.