قصة من حياتي

هأنذا في الرابعة والعشرين من عمري، وقد تخرجت في مدرسة القضاء الشرعي ولم أتعلم لغة أجنبية، وكل ما حولي يستحثُّني على تعلمها، فأساتذتي في المدرسة كانوا يرجعون فيما يعلموننا من جغرافيا وتاريخ وطبيعة وكيمياء وجبر وهندسة إلى الكتب الإنجليزية، وأصدقائي المتخرجون في مدرسة المعلمين يتحدثون عمَّا طالعوه في الكتب والمجلات والقصص الإنجليزية، من آراء لطيفة، وأفكار طريفة؛ وكلما سمعت شيئًا من ذلك أدركت أن لا قيمة لحياتي ما لم أتعلم لغة أجنبية، وأخيرًا اتفقت مع أستاذي وصديقي المرحوم أحمد أمين بك المستشار أن نطالع خطط علي مبارك باشا فيما يتعلق بمساجد القاهرة وآثارها، ثم نزور المساجد والآثار لنطبق ما نشاهد على ما نقرأ، وكان رحمه الله يدل عليَّ بما يقرأ من كتب إنجليزية في هذا الموضوع تزيد معلوماتها على ما في خطط علي مبارك، فيومًا من الأيام دلني على أثر فخم من الآثار هو بيت شاهبندر التجار في «حوش قدم» بالقاهرة ولم يكن ذكره علي مبارك باشا، فآليت أن أتعلم الإنجليزية بعد عودتنا من زيارة هذا البيت، مهما يصادفني من صعوبة، وطلبت من صديقي أن نمرَّ معًا على مدرسة «برليتز» نتفق على دروس تعطى لي، واستمررت على ذلك سنتين لقيت فيهما من العناء ما لا يوصف، فتعلُّم اللغة في الكبر وفي غير بيئة اللغة أمر عسير، ثم رأيت بعد السنتين أن مدرسة برليتز لم تعد تفيدني فبحثت عن مدرس آخر.

•••

كان من حسن حظي أن دلني صديق لي على «مس بور» Power سيدة إنجليزية في نحو الخمسين من عمرها تجيد الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وتجيد فن الرسم والتصوير، ولها شخصية قوية جبارة، ومثقفة ثقافة واسعة، وتحرر في الجرائد الإنجليزية الكبرى كالتَّيِمْس، وتستأجر بيتًا لطيفًا في ميدان الأزهار، ولم تكن تحترف التعليم ولكني رجوتها أن تعلمني فقبلت، واستمررت أتعلم عليها نحو خمس سنوات، وكانت رغبتها في تعليمي رغبة أم تريد أن تربي ابنها … فكانت تدعو إلى بيتها إنجليزيين وإنجليزيات تعرفني بهم، وتقصد إلى أن أتحدث معهم ويتحدثوا معي؛ لينطلق لساني، وتتمرن آذاني، وكانت تنقد أخلاقي وتطلعني على عيوبي، فإذا حضرت للدرس — مثلًا — وبدأت أفتح الكتاب لأقرأ صرخت في وجهي: «ألم تر هذه الأزهار اليانعة، وألوانها البديعة، وتنسيقها الجميل — وقد أحضرتها اليوم — ألم تلفت نظرك؟ أيصح أن تراها ولا تبدي إعجابك بها؟ أليسك لك عين فنية؟» إلخ، فيكون هذا درسًا من أمتع الدروس وأنفعها.

وأحيانًا كانت تغير وضع نظام حجرة الجلوس، فتنقل الكراسي من مكان إلى مكان، وتخالف بين الأثاث، فإذا دخلت ولم أتكلم في هذا التغيير وأوازن بين الوضع الجديد والوضع القديم، تلقيت منها درسًا قاسيًا أتعلم منه دقة الملاحظة، وتربية الذوق، وأحيانًا تقف بي ساعة بين لوحات من رسمها علقتها في حوائط الحجرة، تشرح لي دلالاتها ونواحيها الفنية وهكذا، وبذلك ألقت علي دروسًا قيمة لم أتعلمها من بيتي ولا مدارسي ولا أساتذتي … فإن كنت الآن أعجب بالأزهار وجمالها، وأهتم بحديقتي وتنسيقها، وما إلى ذلك، فبتربيتها وفضلها.

كنت في آخر سنة من دراستي معها أقرأ عليها جمهورية أفلاطون بالإنجليزية، فإذا فرغت من قراءة فصل أفاضت في شرح نظرية أفلاطون وما طرأ عليها من تغير في المدنية الحديثة، وكيف طبقت في بعض الأمم ونتائج تطبيقها، وهكذا.

وساعدها على ذلك رحلاتها الطويلة إلى ألمانيا وفرنسا وأمريكا، ووقوفها على النظم الاجتماعية فيها.

•••

ما أدري ما الذي جنح بها في أيامها الأخيرة إلى أن تشتغل بالروحانيات، فتقرأ الكتب الكثيرة المتنوعة فيها، وتجرب تأثير نفسها في نفوس الآخرين والإيحاء إليهم بما تريده منهم، سواء أكانوا في حضرتها أم غائبين عنها، ثم تتجه إلى معالجة بعض الأمراض بطريق الإيحاء، وكان هذا يقتضيها أن تمكث ساعتين أو أكثر كل يوم في قاعة مظلمة، تركز فيها ذهنها فيما تريده من علاج أو إيحاء أفكار، فكَلَّ من أجل ذلك عقلُها؛ فإذا هي سيدة مجنونة، تحاول أن ترمي نفسها في النيل من كوبري قصر النيل، فلما علمت ذلك نقلتها إلى مستشفى المجاذيب.

وأعجب ما شاهدت أني زرتها في المستشفى، فكانت تتكلم كما عهدتها بالعقل في حكمة ورزانة، وسألتها عن نوع مرضها فشخصته تشخيصًا دقيقًا؛ إذ قالت: إن مرضها أصاب إرادتها … فلو فتحت لها أبواب المستشفى لعسر عليها معرفة أين تتجه، وإلى أين تذهب، وتمر الأيام وترسلها القنصلية الإنجليزية إلى إنجلترا، ثم يأتيني منها خطاب بأنها شفيت تمام الشفاء، وأنها الآن في إيطاليا تستمتع برؤية الآثار الفنية في روما وتدرسها، ثم تنقطع عني أخبارها ولا أدري ماذا كان مصيرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤