الشيخ حسن البدري الحجازي

المتوفي سنة ١١٣١هـ

شخصية غريبة من شخصيات أواخر عصر المماليك في مصر، من أصل حجازي، وكان من علماء الأزهر، يدرِّس فيه عند الدكة القديمة، يألف العزلة، ويرضى بالقليل من وسائل العيش، ويقرأ كثيرًا في التصوف، ويضع فيه أرجوزة تبلغ نحو ألف وخمسمائة بيت، ومثله الأعلى في الحياة رجل تقي ورع يبعد عن الناس ويقرب من الله، تجرد من الأطماع ورضي بالقليل؛ وفي ذلك يقول:

وخير عباد الله من لازم التقى
شكور العطايا صابرًا للمصائب
عَرِيًّا عن الأطماع قَنْعًا قد اكتسى
رقيبًا على الأنفاس خوف المراقب
فذاك لعمري أربح الناس صفقة
إذا سقطت في الخسر صفقة ناكب
وإن رمت أن تحيا عَرِيًّا عن الردى
وتظفر في الأخرى بأسنى المكاسب
مكانك فالزم واعتزل سائر الورى
وسَدِّدْ، وعنهم سُدَّ كل المسارب

وقد غلب عليه التشاؤم، فكان سيئ الظن بالناس، قل أن يرضى عن أحد، وهذا ما دعاه للعزلة.

وقد امتاز في هذا العصر بكثرة شعره، وعلى الأصح بكثرة نظمه، فكان النظم طيعًا في لسانه، ينظم في التصوف وفي المنطق وفي الفلسفة وفي النحو وفي الحديث؛ ولكن أهم من ذلك كله نظمه في نقد الناس وفي أحداث التاريخ المعاصرة، وهو بهذا يرينا صورًا متعددة من صور الناس في ذلك العصر، وعيوبهم الاجتماعية والأخلاقية، فإذا نظم في الأحداث التاريخية شرح الحادثة، وأبانها في وضوح وجلاء، ووصف الممثلين على مسرحها وأدلى برأيه في كل ذلك، وقد روى لنا الجبرتي بعض نماذج من شعره في هذه الأحداث، فكان إذا ذكر حادثة روى ما قاله (الحجازي) فيها.

وخلف لنا ديوانًا كبيرًا مرتبًا على حروف المعجم يعد بحق مصدرًا من المصادر التي تشرح الحياة الاجتماعية، كما أنه يقدم لنا صورة من صور الأدب في ذلك العصر، فشعره ليس بالجيد في أسلوبه، ولا بالغني في خيالاته، ولا بالمحكم في نسجه، ولكنه على كل حال صورة من أرقى ما أنتجه عصره، وربما كانت قيمته التاريخية والاجتماعية أكبر من قيمته الأدبية؛ وهو مع ذلك يمتاز بعدم التكلف والبساطة وصدق الوصف، كما أن أسلوبه في النقد لاذع حاد صريح، وهي ميزات في الأدب لها شأنها، فينقد مثلًا علماء عصره في التفافهم حول الغني وتمجيده واللياذ به والخضوع له، فيقول:

ليتنا لم نَعِشْ إلى أن رأينا
كل ذي جَنَّةٍ لدى الناس قطبا
علمًا هم به يلوذون بل قد
تخذوه من دون ذي العرش ربّا
إذ نسوا الله قائلين: فلان
عن جميع الأنام يُفْرِجُ كربا
وإذا مات يجعلوه مزارًا
وله يهرعون؛ عجمًا وعربا
بعضُهم قبَّل الضريح وبعض
عَتَبَ الباب قبَّلوه وتربا
هكذا المشركون تفعل معْ أصـ
ـنامهم تبتغي بذلك قربا

•••

كل ذا من عمى البصيرة والو
يلُ لشخص أعمى له الله قلبا

•••

جعل العلم فخ صيد لدنيا
ه فساوى في صنعه السوءِ كلبا
لا، بل الكلب منه خيرٌ؛ إذ الكلـ
ـب عديم العقاب في يوم عقبى

ويقول في المرائين من العلماء أيضًا:

احذر أولي التسبيح والسبحهْ
والصوف والعُكاز والشملهْ
حَوَت أباليس بتعداد ما
حوت شعورًا بل بلا عدَّه
والمكرُ فات الحصر كالبحر بل
يعدّ فيه البحر كالقطره
فصار إبليس لهم تابعًا
يقول: يا للعون والنجده
مما حويتم علموني فما
لي عنكم في المكر من غنيه

•••

فتية سوء فُقها نسبة
انتهبوا الأموال بالفُتيه
عمائمًا والكمّ قد كبروا
فاستكبروا عن شِرعة الشرعه
في هيئة يمشون مع هينة
تخشُّعًا من غير ما خشيه
لجمع الأموال وكيما يقا
ل أهل الهدى والدين والتَّقْوه
في الظالمين انجحروا مثلما
تنجحر الحية في الجُحره

… إلخ.

وينقد الحارات البلدية وقذارتها وضوضاءها وسوء حالها؛ فيقول:

حارات أولاد العربْ
سبعًا حوَت من الكرب
بولًا وغائطًا كذا
ترب غبار، سو أدب
وضجة وأهلها
شبه عفاريت التُّرَب

ويصوِّر لنا في شعره لوحة طريفة من الأقارب وسوء علاقاتهم، واحترامهم للغنيِّ منهم لغناه، واحتقارهم للفقير منهم لفقره، وتطلعهم لموت الغني؛ لينتهبوا ميراثه … إلخ.

ويصف ما جرى لمصر في حادث من حوادث نزاع المماليك، وما أصاب الشعب من خصومتهم وقتال بعضهم بعضًا؛ فيقول:

قد فعلوا مناكرًا شنيعةً
بأهلها تفَتُّ منها الأكبُد
ضرب مدافع ودورٌ حُرقت
وسادة قد قتِّلت وأعبُد
وفي الرعايا النهب والقتل فشا
والجوع والظما وما لا يُعهد
وجملة القول عن الذي جرى
لا تسألن فشرحه لا ينفد

•••

نعوذ بالله من أهل ذا الزمن
فإنهم في الظلم شخص أوحد
أعدلهم مَنْ عن صوابٍ عادل
ومن على العدل لديهم أحْيد

وفي موضع آخر يقول:

قد نصَّبوا فوقنا المدافع
ترمي بأعلى البروج جمرا
فأحرقونا وأحصبونا
وأعطشونا بالمنع قسرا
عن نيلنا ثم قد شربنا
ملحًا فزاد الكبود حرّا

وعلى الجملة فشعره يصور لنا عصره في كثير من نواحي الحياة الاجتماعية، كما يصور الأدب في ذلك العصر من حيث أسلوبه وموضوعه.

ولعل المؤرخين لو عنوا بديوان هذا الشاعر وأمثاله من الشعراء، وبالتراجم من مثل من ترجمهم الجبرتي في تاريخه، وعلي باشا مبارك في خططه، كما عنوا بكتب الفتاوى الفقهية التي كان الشعب يستفتي فيها فقهاء عصره في المسائل التي تحدث، من مثل (الفتاوى المهدية)؛ لكان لهم من ذلك مادة صالحة لتأريخ الحياة الاجتماعية، ولما وقع أكثرهم في الخطأ من اقتصارهم على مصادر الأحداث السياسية والحربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤