الأمثال في الأدب العربي

أما وقد قلنا كلمة في الحكمة، فلنقل كلمة في الأمثال، وبينهما علاقة وثيقة، ولكن ليس كل مثل حكمة، ولا كل حكمة مثلًا؛ فقولهم: «لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل» حكمة لا مثل؛ وقولهم: «هو لا في العير ولا في النفير» مثل لا حكمة؛ وقولهم: «رأى الشيخ خير من مشهد الغلام» مثل وحكمة.

ذلك أنه يلحظ في المثل — عادة — الإيجاز، والمغزى، والطعم اللاذع أو الروح الساخر، والذيوع أو الشعبية، وبعض هذه مما يشترط في الحكمة، وبعضها مما لا يشترط، كالطعم اللاذع، فإنه شرط في المثل لا في الحكمة، وهو العنصر الفكاهي فيه الذي ينقد الحياة ويسخر من جانب من جوانبها، وهو الذي يجعل للمثل قوة التأثير وسهولة التعلق بالذاكرة، ويمهد له سبيل الذيوع، وشرط الشعبية لا بد منه في المثل لا الحكمة، فلا بد أن يدمغ بدمغة الشعبية ليكون مثلًا.

ثم إن صحة المعنى ومطابقته للحقيقة يلحظ في الحكمة أكثر مما يلحظ في المثل، فالمثل قد يدل على وجهة نظر قائليه، أكثر مما يدل على صحة معناه، ولذلك تجد المعنى الواحد قد عبر عنه بمثلين متناقضين، مثل: «اصرف ما في الجيب يأتِك ما في الغيب»، و«القرش الأبيض ينفعك في اليوم الأسود» وهكذا.

والأمثال أكثر تأثيرًا في الشعب من الحكمة؛ لأن الأمثال نبعت منه، ووعيت في ذاكرته، واحتضنها في قلبه، وكثيرًا ما تصرفه في سلوكه، سواء في ذلك الخاصة والعامة؛ فالخاصة كثيرًا ما تسمعهم يقولون: «في المثل كذا»، والعامة يقولون: «على رأي المثل كذا»؛ تبريرًا لسلوكهم، أو برهانًا على صحة كلامهم، أما الحكمة — إذا لم تكن مثلًا — فأثرها والاستشهاد بها من شأن الخاصة وحدهم.

•••

وإذ كانت الأمثال نتاج الشعب كله، وملك يديه جميعه، كان من الطبيعي أن يختلف مصدرها؛ فأحيانًا ينبع المثل من الطبقة الجاهلة غير المثقفة، وأحيانًا ينبع من الطبقة الراقية المثقفة، شأنها في ذلك شأن جميع أنواع الأدب الشعبي، كالأزجال، والمواويل، والأغاني، والقصص الشعبي، ولذلك تجدها أحيانًا وضيعة المعنى، وضيعة الأسلوب؛ مثل: «إذا دخلت على ناس يعبدون العجل حشّ وادِّي لُه» وأحيانًا تكون رفيعة المعنى عالية الأسلوب مثل «نفاق المرء من ذُلِّه»، «حسبه صيدًا فكان قيدًا» … إلخ.

ونبع المثل من الشعب أضفى عليه حلة جميلة؛ وهي اختفاء القائل وظهور المقول، كأنه الجندي المجهول،؛ فتراك تقول: قال فلان؛ وتنسب إليه شعرًا، وقال فلان؛ وتنسب إليه حكمة، ولكن قلَّ أن تقول: قال فلان؛ وتنسب إليه مثلًا، كأن الشعب يريد أن يحتفظ في المثل بملكيته العامة.

وأحيانًا ينبع المثل إثر حادث تاريخي؛ كأمثال العرب التي قيلت يوم «داحس والغبراء»، والأمثال التي نسبت لقصير بن سعد اللخمي مع جَذِيمة والزباء؛ مثل: «خطب يسير في خطب كبير»، وقول جَذيمة: «دعوا دمًا ضيعه أهله» … إلخ، وكثير من الأحداث الإسلامية التاريخية كانت مثار أمثال، وأحيانًا ينبع المثل إثر حادث جزئي؛ مثل قولهم: «ارقب البيت من راقبه» قيل بمناسبة أن رجلًا خلَّف عبده في بيته يحرسه، فرجع وقد ذهب العبد بجميع أمتعته، وأحيانًا يكون أصل المثل لغزًا أو رمزًا لشيء، ثم نسي الأصل وبقي المثل، أو رمزًا لقصة أو نحو ذلك.

•••

وصياغة المثل كثيرًا ما تحلى ببعض أنواع المحسنات، فأحيانًا تكون حليته السجع مثل: «يستف التراب، ولا يخضع لأحد على باب»، «موت في عز، أصلح من حياة في حجز»، وأحيانًا يتخذ شكل الحوار القصير مثل: «قيل للشحم: أين تذهب؟ قال: أقوم المعوج»، «قيل للشقي: هلم إلى السعادة، قال: حسبي ما أنا فيه»، وأحيانًا جماله في فكاهته مثل: «ثقيل واسمه صخر بن جبل»، «رأوا شيخًا يتهجى قالوا: يختم على الصراط»، «طفيلي ويجلس في الصدر» وأحيانًا في وزنه الشعري مثل: «كالكبش يحمل شفرة وزنادًا»، «ما الحب إلا للحبيب الأول» إلخ … إلخ … وهذا كله يحتاج إلى درس مستقل.

•••

وتلحظ في الأمثال ما لحظنا في الحكمة من أنها في الشرق أغزر منها في الغرب، وأن العرب من أكثر أمم الشرق أمثالًا، وأنها ظلت نحو ألف وخمسمائة عام تزيد في ثروتها المثلية، وكتاب ككتاب مجمع الأمثال للميداني على وفرته وغزارته وعظيم قدره، لا يمثل إلا جزءًا قليلًا من أمثال العرب؛ فقد كانت اللغة العربية لغة أمم مختلفة؛ من فرس، وهند، ومصريين، وسوريين، وعرب خلص، ولكل من هذه الأمم أمثال طبعت بطابعها، ونشأت في حالات اجتماعية مختلفة؛ من ذل، وعز، وكبرياء، وخضوع، واستبداد، واستعباد، وغنى، وفقر، وكانت هذه الشعوب تنفس عن نفسها بأمثالها، وقد صيغت الأمثال العربية أحيانًا باللغة الفصحى، ورويت كذلك في مثل كتاب الميداني، وأحيانًا رويت باللغة العامية؛ كما في الفصل الذي عقده الأبشيهي في كتابه (المستطرف في كل فن مستظرف)؛ فقد نقل فيه صورة طريفة من الأمثال التي تجري على ألسنة الناس في عصره وفي بيئته، بجانب ما رواه من الأمثال باللغة الفصحى.

•••

وأهمية الأمثال تأتي من ناحية أنه لو عرفت أمثال كل أمة في عصر من العصور؛ أمكن الاستدلال بها على كثير من شئونها الاجتماعية، والدينية، والاقتصادية، والسياسية، والخلقية، فهناك أمثال تمثل حياة البدو، وأمثال تمثل حياة الحضر، وهناك أمثال تمثل حياة أمة في حالة العز والمجد، وأخرى في حالة التعفن، وهكذا.

كما يمكن درس الأمثال من حيث تأثيرها في سلوك الشعب، واستجابته لها، وخضوعه لتعاليمها، فالأمم الإسلامية تأثرت تأثرًا كبيرًا بأمثال القرآن؛ مثل: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ، وكُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ … إلخ، وبالأمثال الواردة في الحديث مثل: «اليد العليا خير من اليد السفلى»، «يد الله مع الجماعة» … إلخ، وبالأمثال الدائرة على الألسنة من أمثال العرب أو المولدين أو العامة، وكانت كلها دروسًا أخلاقية تلقن للشعوب في جميع الأجيال، ثم هي موضع خصب لدراسة أدبية من ناحية أسلوبها، وفنها، وطابعها، وخصائصها التي تمتاز بها عن موضوعات الأدب الأخرى.

وقد يكون مما يستحق النظر أني ألحظ قلة أثر الأمثال ودورانها على الألسنة، والاستشهاد بها في السلوك عما كانت عليه منذ جيل؛ فقد كنت أسمع جدتي ووالدتي وأهل حارتي يكثرون من استعمال الأمثال والاستشهاد بها، فقلَّ ذلك في عصرنا الحاضر، وهي على ألسنة المثقفين اليوم أقل منها على ألسنة العامة، فهل هذا أثر من طغيان المدنية الحديثة التي لا تقوِّم الأمثال كثيرًا؛ وقد نحا أدباء العربية منحى أدباء الغرب وتذوقوا بذوقهم، فقللوا مثلهم من الاعتماد على أمثالهم، وحذا المثقفون حذوهم، أم أن الاعتماد على الأمثال وكثرة اقتباسها ضرب من ضروب البدع (المودة) نستخدمها في حال، ونهجرها في حال، وكل يوم هي في شأن؟!

كل هذا وأمثاله مجال للنظر العميق والدرس الدقيق.

ويكفيني الآن أن أوجه النظر وأثير التفكير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤