رأي أوباس

وكان ألفونس يسمع كلام «أوباس» بإصغاء وقد تلذَّذ بسماعه لذَّة عظيمة لِمَا آنسَهُ فيه من الفلسفة والحكمة، مما لم يكن يخطر له على بال من قبل، فلما بلغ إلى خروج المُلْك من يد أبيه لم يلبث أن سأل قائلًا: «كيف استطاع هؤلاء تولية رودريك وأبناء غيطشة أحياء؟»

وقال المطران: «حجتهم في ذلك أن حق المُلْك عندنا انتخابي وليس وراثيًّا؛ إذ لو كان وراثيًّا لكنت أنت أولى الناس بهذا الأمر. على أن كونه انتخابيًّا لا يقضي بحرمانك منه، وكان يجب أن ينتخبوك لأنك ابن الملك، وقد فعلوا ذلك غير مرة. ثم لولا ما ظهر في خلال انتخابهم رودريك هذا من الأغراض القومية التي مرجعها ضياع جنس القوط قاطبةً لما شقَّ ذلك علينا …»

ثم استأنف أوباس الحديث كأنه أفاق من غفلة وقال: «أراني خرجت من دائرة الموضوع الأصلي، وخلاصة ما قدَّمته لك أن الذين تعدُّهم قوطًا وترجو أن ينصروك كي تتغلب على هذا الرجل قد ضاعت منهم جامعتهم الجنسية في الجامعة الدينية واللغوية، فربما كانوا أقرب إلى نصرة أولئك منهم إلينا، فمثل هؤلاء لا يُعتدُّ بأقوالهم ولا يُعتدُّ على أحزابهم.»

فلمَّا سمع ألفونس نتيجة البحث خاب أمله لأنه إنما كان يتوقع شدَّ أزره بأهل عشيرته، فلمَّا تحقَّق من ضياع أمله أحسَّ بضعف عزيمته وظلَّ مطرقًا لا يبدي حراكًا ولسان حاله يقول: «عجزت عن الحيلة.»

فلمَّا رآه أوباس مطرقًا أدرك ضعف عزيمته فأراد أن يسبر غوره، فقال له: «كأنك يئست من النجاح!»

قال: «كيف لا وقد فرغَتْ يدي من الرجال فضلًا عن فراغها من المال، ولم يكتفِ هؤلاء باختلاس المُلْك بل أخرجوني منه صفر اليدين؟ فهل تعلم أين ذهبوا بأموال والدي؟»

فقال المطران: «إن أموال والدك قد أُخِذت بحق؛ لأن الملك «رسيسويت» الذي تولَّى هذا العرش منذ نحو ستين سنة، سنَّ قانونًا يقضي برجوع أموال الملك وكل ما يقتنيه إلى خزينة المملكة، فلا ينبغي لنا أن نبالغ في إلقاء التَّبِعة على عدونا بالباطل. أما كيف نبلغ ما نتمناه، فإنه إذا أعجزتك الحيلة للوقوف عليه فأخبرني لأرى رأيي وأرجو أن يكون سديدًا.»

فاستغرب ألفونس تواضُع عمه، وأشار بيديه وعينيه بما قد يعجز عنه لسانه من تفويض كل الأمر إلى عمِّه، لأنه أكبر عقلًا وأوسع تجربة، فأصلح أوباس مجلسه استعدادًا لحديث طويل، والتفت إلى ما حوله كأنه يحاذر أن يسمعه أحد وإن كان على ثقة من انفرادهما هناك، ثم وجَّه كلامه إلى ألفونس قائلًا: «اعلم يا بني أن الإنسان إذا عزم على أمر لا بد من النظر في عواقبه قبل الإقدام عليه، وإلا كانت العاقبة وخيمة عليه، أنت تعلم أن الناس في إسبانيا طبقات، منها:
  • (١)

    طبقة الأشراف: وهم أرباب الأموال والمناصب، ومنهم حكام الولايات، وحكام المدن، وأصحاب العقارات، وغيرهم.

  • (٢)

    رجال الأكليروس.

  • (٣)

    طبقة المستخدمين: وهم رجال البلاط وموظفو الحكومة.

  • (٤)

    أهل الحِرَف: وهم من أواسط الناس وسكان المدن.

  • (٥)

    الخدم والعبيد: وهم كل ما بقي من أهل المملكة، وهؤلاء هم القسم الأكبر، ومنهم الفلاحون وخَدَمة المنازل ومعظم رجال الحرب.

فإذا شئنا أن ننهض لاسترداد الحكم من هذا الرجل فلا بد لنا من الاستعانة ببعض هذه الطبقات. فلنبحث في أيها أقرب إلينا.

فالأشراف إما رومانيُّو الأصل أو قوطيون، فالرومان طبعًا ضدنا، وقد بيَّنت لك حال القوط، فهم قد أضاعوا قوَّتهم في مذهبهم الجديد. فالأشراف لا فائدة لنا فيهم وكذلك أهل البلاط، أما الأكليروس فأنت تعلم أنهم علَّة هذا التغيير. وأهل الحِرَف بالنظر إلى إقامتهم الطويلة في المدن، قد أضاعوا الحماسة اللازمة للقيام بمثل هذا الانقلاب، وزِدْ على ذلك أن كلًّا منهم منصرف إلى عمله وتجارته ويخاف ضياع أمواله القليلة؛ إذ لا يخفى عليك أن بلاد أوروبا كلها تقريبًا مؤلفة من المدن والحقول، فأهل المدن لا يكادون يهتمون بما هو خارج حدود مدنهم، وكل مدينة تهتم بنفسها، ونحن لا يكفينا الاستعانة بأهل مدينة واحدة؛ لأن رودريك صاحب جنود وأعوان، يستنجد علينا بحكامه في الولايات فتذهب جهودنا عبثًا.

بقي علينا النظر في الطبقة الأخيرة من هذا الشعب، وهي طبقة الخدم والعبيد، فهؤلاء هم الجانب الأكبر ولا تستغني عنهم سائر الطبقات، ومع ذلك فإنهم مستبدون بهم استبدادًا عظيمًا، ولا يخفى عليك أن معظم هؤلاء العبيد إنما دخلوا في الرق على أثر الحروب، وهم رجال أشداء ولا سيما بعد أن تعوَّدوا العمل، وعانَوا الشقاء لاشتغالهم في الحقول، فإن عقارات الأشراف وبيوتهم وأموالهم كلها في قبضة هؤلاء العبيد، ومع ذلك فإنهم مظلومون يقاسون من أسيادهم عذاب الذل، وناهيك بعذاب الرِّقِّ، وأنت تعلم أن هؤلاء الأرقَّاء لا ينقصون عن أسيادهم من حيث المواهب الطبيعية، ولكنهم تعوَّدوا الخضوع لهم والخوف من أصواتهم حتى أصبحوا أطوع لهم من ظلِّهم، فكل ما للعبد فهو لسيده، لا يستطيع أن يعمل عملًا إلا بأمره، حتى الزواج. وكل ما اكتسبه العبد بالقصد أو بالاتفاق أو بالتجارة أو بالحرب — حتى الأولاد الذين يولدون له — فإنها كلها لسيده، وله أن يبيع العبد أو أمتعته أو أولاده بدون معارضة.

على أن أولئك الأسياد قد يُنعِمون على بعض عبيدهم بالحرية مكافأة لهم على عمل عظيم قاموا به، غير أن هذه الحرية قلما تتميز عن الاستعباد، فإن العبد ولو عُتق فإنه يظل تحت أمر سيده، فإن عمل عملًا فلسيده نصف ما يكسبه من ذلك العمل، وإن أراد أن ينتقل من خدمته وجب عليه أن يرد له كل ما معه من الأسلحة أو الأثاث، ولا يعدُّ ذلك العبد من زمرة الأحرار الأصليين إلا في الجيل الرابع من أولاده. والخلاصة فإني لا أطيل عليك الكلام لأنك تعلم كثيرًا من أفعال هؤلاء الأرقَّاء، ولكنك قلَّما فكرت فيما يقاسونه من الغبن والظلم، وربما لم يخطر لك على بال أنهم من جِبلَّة مثل جِبلَّتنا، فقد شببتَ وأنت تراهم على هذا الحال.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤