التمتمة

ففهم أوباس أنه يعرِّض بضياع المُلْك من أيديهم تحقيرًا له، فلم يصبر على ذلك، فقال وقد ارتفع صوته ولكنه ظل هادئًا: «دعنا من ذكر الأموات فلهم من يحاسبهم، وإنما نحن نحاسب الأحياء. على أني ما أظن غيطشة إذا كان حيًّا يفعل مثل فعلتك، بل أنا أجِلُّه عن الإقدام على مثل هذا المنكر.»

فوقف رودريك من شدة الغضب وقال: «دع عنك ذلك كله فما هو من شأنك؛ لأني أعلم الناس بواجبي.» قال ذلك وتحوَّل عنه إشارة إلى رغبته في إنهاء الحديث.

فظل أوباس جالسًا وقال: «لو كنتَ تعرف واجبك ما أردت السوء بفتاة طاهرة وأنت زوج، وبدلًا من أن تستغفر عن هذه الخطيئة أراك تدافع عنها.»

ثم وقف وأتمَّ كلامه قائلًا: «واعلم يا رودريك أن انشغالك بهذه الأمور وإهمالك كلمة الله ووصاياه من أول الأدلة على قرب انقضاء هذه الدولة.»

فلمَّا سمع رودريك تهديده بقرب انقضاء دولته التفت إليه وهو يقول: «أراك تهددني بخروج المُلْك من يدي، إنكم لن تستطيعوا ذلك ولو ملأتم الدنيا مؤامرات، واستعنتم بقوات السماء والأرض.»

قال أوباس: «إذا كان لنا مطمع في هذا المُلْك، فإن قوات السماء تقدر على نزعه من يدك.»

ولم يتم أوباس كلامه حتى رأى باب الحجرة قد انفتح ودخل الأب مرتين بغتةً وهو يهرول ويتمتم كأنه يريد الكلام ويمنعه التلجلج من شدة التأثُّر، ثم نطق فخرج كلامه مقطَّعًا موصَّلًا مختلطًا يشبه قوله: «ﺗ …؟ ﺗ …؟ ﺗ …؟ تهدد جلالة الملك ﺑ … بإخراج المُلْك من يده؟ يا للوقاحة وﻗ … ﻗ … قلة الأدب!» ولم يتمَّ الأب هذه الجملة حتى امتلأت لحيته باللعاب المتطاير من فمه. فلمَّا فرغ من الكلام تشاغل بمسح لحيته وجعل يذرع أرض الغرفة بسرعةٍ وهو مطرق ولا يزال يتمتم.

فأدرك أوباس أنه يتهمه زورًا ليوقع الشبهة عليه فسكت استخفافًا.

وأمَّا رودريك فإنه سُرَّ لهذه التهمة وتظاهر بالغضب والانتصار وقال: «لا بأس، يكفي الآن ما سمعناه من خير وشر.» قال ذلك وتحوَّل من الغرفة فتبعه الأب مرتين، فنهض أوباس وهو لا يبالي بما رآه، وإنما كان كل همه إنقاذ فلورندا من بين يديه.

وكان السبب في مجيء أوباس إلى القصر، وكيف دخل، هو أنه لما دنت الساعة المعينة جاء أجيلا وشنتيلا إلى منزل أوباس فأمرهما بإعداد قارب للنزول به في النهر، فنزلوا به فتساقطت الأمطار وعصفت الرياح واضطرب الجو فهاج النهر، ولكنهم لم يبالوا بذلك بل عدُّوه — بادئ الرأي — مساعدًا لهم على إخفاء خطواتهم، فوصلوا تحت القصر وفلورندا في الغرفة مع رودريك وخادمتها في الحجرة تصلي، وقد أغلقت النافذة، فصعد الشابان ومعهما أوباس لا يبالون بالأمطار والزوابع حتى وقفوا تحت حجرة فلورندا عند تلك الشجرة الجرداء، ولم ينتبه لهم أحدٌ من الحراس ولا الحاشية. فأشار أوباس إلى شنتيلا أن يتسلق الشجرة ويقرع النافذة، فتسلق حتى وقف على الغصن المقابل للنافذة فقرعها بطرف حسامه قرعًا خفيفًا ثم اشتد القرع ولكنَّ أحدًا لم يُجِبْه؛ لأن العجوز كانت قد خرجت بكأس الماء لترش فلورندا. فنزل شنتيلا وأخبر أوباس بأنه لم يسمع جوابًا.

فوقف أوباس برهة يتأمل، وقال في نفسه: «لو كانت فلورندا مطلقة السراح لم يكن ليشغلها عن هذه النافذة شاغل، فلا بد من أن تكون في ضيق ولا بأس عليها إلا من رودريك.» فتخيَّل أنها في أشد الخطر وأنه إن تأخر عنها قد يقضي عليها، فأمر الرجلين أن يربطا القارب بجانب القصر، ويمكثا تحت القصر وحين يسمعان فتح النافذة يصعدان على الشجرة ويحملان فلورندا وما معها.

قال لهما ذلك وتحوَّل إلى باب القصر العمومي، وسأل الحراس عن الملك فقالوا إنه في القصر، فدخل ولم يعترض طريقه أحد لأن الأساقفة كثيرًا ما يدخلون على الملوك لمهام خاصة ولا سيما ملك طُلَيْطلة، لأن الأكليروس كانوا أكثر تدخلًا في شئون إسبانيا مما في سائر ممالك أوروبا تقريبًا، وعلى الأخص على عهد رودريك لأنه إنما تولَّى المُلْك بمعونتهم.

نعم، إن أوباس لم يكن من الذين انتخبوه ولكن الحرَّاس الواقفين بالباب لا يهمهم التمييز بين أسقف وآخر، إذ يكفيهم النظر إلى الثوب الأكليريكي والزي بوجه عام. على أن هيبة أوباس تكفي وحدها لاحترامه وإطاعة أوامره وبخاصة في تلك الساعة وقد زاده الاهتمام جلالًا ووقارًا.

دخل أوباس من أبواب القصر الواحد بعد الآخر لا يعترضه أحد حتى وصل إلى غرفة الملك، وكان يعرفها جيدًا لأنها كانت لغيطشة من عهد غير بعيد، فسأل الحراسَ عنه فقالوا: «إنه دخل غرفته ولا يدخل عليه أحد فيها.»

فلم يبالِ بأقوالهم، وكان قد نسيها مفتوحة فدخلها فلم يرَ فيها أحدًا، ورأى باب الدهليز المؤدي إلى قصر فلورندا مفتوحًا، فدخل ولم يكن في الدار أحدٌ من الخدم، فمشى مشية من لا يهاب مَلكًا وجعل يبحث بنظره، فرأى تلك الغرفة مضيئة وسمع لغطًا فطرق الباب ثم دخل. وهو إنما طرق الباب قبل دخوله مخافة أن يكون رودريك وفلورندا في حالة يقشعر لها بدنه فلا يستطيع إمساك غضبه. والحُرُّ أبيُّ النفس يأنف من التجسس ومباغتة الناس في مخادعهم، ولو كان في استطلاع ذلك مصلحة له.

فلمَّا دخل الغرفة أدرك من مجرد النظر إلى وجه فلورندا أنها مصونة سالمة، فلم يبقَ إلا أن يبعد رودريك عنها ريثما تستطيع الذهاب إلى حجرتها وتنجو من هناك، فطلب الخلوة بالملك على ما تقدم لغرضين؛ الأول: إطلاق سراح فلورندا. والثاني: توبيخه على ذلك الأمر العظيم، وهو لا يبالي أأغضبه ذلك أم أرضاه. ففعل وكان ما كان من غضب رودريك، وخروجه على تلك الصورة، وهو ينوي الانتقام وبخاصة بعد أن عاد إلى قصر فلورندا ولم يجد لها ولا للعجوز أثرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤