الفصل الحادي عشر

نظام المدرسة

غرضُهُ وموضوعُهُ: المكافآت والعقوبات

المقصود من كل نظام مدرسي والغرض الذي يرمى به إليه؛ إبطال العادات والميول السيئة واستئصالها، وغرس خيارها مكانها، وجعل السلوك مستقلًّا بذاته؛ أي لا اعتماد لصاحبه معه على غيره. قال «لوق» لا بد للإنسان من يوم يتعهد فيه أمر نفسه وأن يكون مستقلًّا بسلوكه عن إرشاد الغير؛ إذ لا يكون الإنسان فاضلًا صالحا قادرًا إلا بقوة نفسه.

وللوصول إلى هذا الغرض يجب الاستفادةُ من أمر المكافآت والعقوبات: الغرض من الإثابة التشجيع على تمثل العادات الطيبة والغرض من العقاب القمع عن سيئاتها ولكن يجدر بالمعلم أن يكون مقتصدًا في الحالين؛ لأن كثرة الإثابة تحدو الطفل على النظر إلى قيمة الجزاء وغض طرفه عن صواب الفعل في ذاته، هذا ولما كان الطفل في حداثته ينطوي على إحساسات سفلى أو حيوانية؛ فإنه لا يصح غض الطرف عنها مرة واحدة؛ ولذلك فإن مكافأة الأطفال باعتدال تؤدي إلى خير النتائج، أما فيما بعد ذلك من سني الدراسة فيجب أن يقلل من استعمال المكافآت ويقتصد فيها اقتصادًا، وعلى المعلم أن يناجي مشاعرهم العُليا ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

(١) تنبيهات

يجب مراعاة التنبيهات الآتية فيما يتعلق بالمكافآت:
  • (١)

    لا يصح منحها إلا جزاءً على الجدارة أو على عمل صالح، ولا يجوز — بأي حال من الأحوال — أن تُمنح جزاء على الذكاء والفطانة وحدهما؛ فإنهما تبع لقواه الفكرية لا نتيجة جهد مبذول فيستحق عليه مكافأة.

  • (٢)

    لا يصح أن يعمد إلى المكافآت بكثرة وإلا فإن الأطفال يجعلون مجرد الرغبة فيما يفرحهم داعيَهم الوحيد إلى تأدية واجبهم، وفي هذه الحالة تكون المكافآتُ أدعى إلى إفساد أخلاقهم من العقاب.

  • (٣)

    لا يصحُّ أن تكون المكافآتُ بمثابة رشًى على تأدية واجبهم، فلا يصح وعد الأطفال مطلقًا بالمكافأة ليقولوا الصدق؛ فإن لمعاقبتهم على عدم قول الصدق أثرًا أدبيًّا أعظم.

  • (٤)

    يجب أن تكون المكافآت معادلة لما يستحقه الفعل.

  • (٥)

    لا يصح التشجيع على التباري في سبيل نيل المكافآت بل يجب تجنُّبها ما أمكن ذلك؛ إذ لا مشاحة أن التباري يؤدي إلى الغيرة والحسد، وكلاهما قاضٍ على ما يكون بين التلاميذ من العطف. هذا وإن كثرة استعمال العقاب مضرة؛ وذلك لأنه إذا كان الطفل لا يحكمه شيءٌ غير الخوف كان ذلك قاضيًا على إرادته ومضعفا لروحه، فيفقد الطفل على التوالي والتدريج كل ثقته بنفسه، وعلى ذلك لا يتم الغرضُ من النظام الذي هو كما ذكرنا في أول الفصل جَعْل سُلُوك الإنسان وسيرته ومنهاجه في الحياة مستقلًّا عن الغير قائمًا بذاته.

(٢) التأديب بالعواقب

موضوع العقاب والغرض منه

يرى بعضُهُم — ومنهم روسو وهربرت سبنسر — أنه لا ينبغي للوالدين أو المعلمين أن يعاقبوا الأطفال مباشرة على الخطأ في الفعل بل يجب أن يتركوهم للعواقب الطبيعية المترتبة على الخطأ، كأن يترك الطفل يجرح نفسه من لعبه بسكين أو بأن يحرق أصابعه من لعبه بالنار، وغير ذلك.

على أن هذا ليس في حقيقته عقابا؛ إذ العقاب في معناه الحقيقي هو الإيلامُ المراد أو الإيذاء المقصود الذي يوقعُهُ شخصٌ له سلطةٌ، على اعتبار أنه الأمر المترتب على معصية، ويمكن أن يُقال إن له غرضين:
  • (١)

    نفع الفرد المجرم.

  • (٢)

    نفع الغير.

فأما من وجهة التربية والإصلاح؛ أي مِن حيث نفع المجرم ذاته؛ فأنه يجب أن يكون:
  • (١)

    مصلحًا؛ بقمعه العادات السيئة والميول الخبيثة وإبطالها واستئصالها.

  • (٢)

    مرشدًا؛ بأن يدعو إلى حُبِّ الحق والفضيلة، ونماء هذا الحب.

  • (٣)

    منشئًا؛ بأن يدعو إلى تربية العادات الصالحة.

  • (٤)

    أما من حيث نَفْع الغير فيجب أن يكون رادعًا عن المجارم مانعًا لتكرارها.

(٣) خصائص العقاب النافع

ولكي يمكن إصابة الأغراض المذكورة يجب أن يكون في العقاب الخصائص الآتية:
  • أولًا: يجب أن يكون طبيعيًّا وعادلًا يتبين الأطفال أنفسهم عدالتَه.
  • ثانيًا: مطردًا؛ أي لا استثناء فيه، فحصول الذنب يستدعي حصولَ العقاب لا محالة.
  • ثالثًا: يجب أن يكون توقيعُهُ على عجل؛ لأن تأخيرَه يذهب بكثيرٍ مِن أثره.
  • رابعًا: يجب أن يكون موثوقًا به؛ أي لا يصح أن يكون غير محقق أو يكون منشأه حنق الوالد أو المعلم.
  • خامسًا: يجب أن يزيد على كل فائدة يحتمل اكتسابها من الأخطاء، وإلا أدى الأمر بالأطفال إلى الموازنة بين السرور الذي ينالونه من الأخطاء وبين الألم الذي يصيبُهُم من العقاب، فحكموا في مصلحة الراجح.
  • سادسًا: أن يكون على قدر الذنب؛ فقد تكون نظرةُ التأنيب في كثيرٍ من الأحوال أَوْقَعَ من الضرب بالعصا.
  • سابعًا: يجب أن تزداد العقوبة إذا عمل المذنب على إخفائها.
  • ثامنًا: يجب أن يكون نادرًا؛ وإلا فإنه إذا تكرر أدى بالأطفال إلى اعتباره أمرًا عاديًّا، فيفقد العقاب بذلك كثيرًا من قوة الردع.

(٤) تنبيهات على استعمال العقوبات

يجب عند قصد العقاب أن لا ينسى التنبيهات الآتية:
  • أولًا: يجب ألا توقع في ثورة غضب؛ وإلا حسبها أثرًا من آثار الجموح، ولم يتقبلْها بوصفِ أنها نتيجة الشذوذ عن القانون.
  • ثانيًا: لا يصحُّ توقيعُها إلا إذا تبين أن الطفل كان قد تَعَمَّدَ الأخطاء، فلا يجوز مثلًا معاقبة الأطفال على الزَّلَّات التي يقترفونها عن إهمال صبياني.
  • ثالثًا: لا يصحُّ توقيعُها على العجز عن القيام بشيء إذا كان الطفل تحت تأثير انفعالٍ شديدٍ فالطفل الذي يملكه الخوف أو الذي يغشاه الحزن لا يصح معاقبته على عدم استطاعته على الفور دفع خوفه أو وقف زفراته أو أمثال ذلك.
  • رابعًا: لا يصحُّ استعمالُ العقوبات البدنية (وإن كانت ضرورية في بعض الأحوال ومفيدة أحيانًا) إلا إذا نَفِدَت كل وسائل الإصلاح الأخرى.

(٥) تنبيهات

يجب مراعاة المسائل الآتية في توقيع العقاب:
  • أولًا: إن العقوبات جميعا تؤلم وتؤذي، سواء كان ألمها جسمانيًّا أو عقليًّا، وعلى ذلك فهي لا تتفق مع دواعي التربية اللطيفة المرقية.
  • ثانيًا: إنها لا تدعو إلى نشوء التعاطف بين المعلم والتلميذ — وهو أمر ضروري.
  • ثالثًا: بما أن أثرها متوقف على مقدار الخوف الغريزي من الألم؛ فأن مفعولها محدود بذلك.

هذا ومِن أشكالِ العقاب ما قد يؤدي إلى فساد أخلاق الأطفال بما يَصحبها من المذلة والهوان. فليتنبه المعلم إلى ذلك وليعمل على ما من شأنه أن يرفع نفس الطفل إلى ما يشاء لها من الرفعة والجَلال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤