الفصل السابع

الواجب

الواجب لغة من الوجوب؛ أي اللزوم والثبوت، وهو في الاصطلاح ما يتحتم عملُهُ بأي إلزام، أو هو ما ينبغي أن يُفعل فواجباتُنا إذن تشمل كل ما يتعين علينا أن نفعله، فهي لذلك كل أشكال السلوك الصالح.

على أننا نطلق لفظ «الواجب» على تلك الأفعال التي يقتضي فعلَها باعثٌ أدبي، والتي يحتمل ترددنا في فعلها لو لم يكن لها جزاء أدبي متصل بها.

(١) تقسيم الواجبات

تقسَّم الواجبات إلى:
  • (١)

    واجبات تتعلق بالفرد، أو الواجبات الذاتية، كالجد والطهر وتنشئة النفس وكبح جماحها.

  • (٢)

    واجبات تتعلق بالجماعة. أو الواجبات الاجتماعية كالإحسان والأمانة والعدل والصدق.

  • (٣)

    واجبات قبل الذات الإلهية كالمحبة والطاعة والتقديس. على أَنَّ هذا التقسيمَ غيرُ قطعي، فقد يلتقي قسم بقسم في شيء وقد يمتد نطاق واحد إلى الثاني؛ وذلك لأن كل واجب قد يدخل تحت الأقسام الثلاثة المذكورة تبعًا للوجهة التي ننظر منها إلى هذا الواجب.

وقد قسمت أنواعُ الواجبات باعتبار جزاءاتها إلى قسمين:
  • (١)

    الواجبات الحقيقية. أو الواجبات المحدودة. أو الواجبات الإلزامية التامة. وتلك ملزمة دائمًا، ويجب أداؤها بطريقةٍ معينة وفي زمان معين، وهي بحيث يمكن أو يجب أن تنفذها الجزاءات القانونية، كالأمانة والصدق وهلم جرًّا وتلك واجبات تتطلبها الفضيلةُ الأدبية والقانون المدني على حد سواء.

  • (٢)

    الواجبات المحدودة. أو الواجبات الإلزامية غير التامة، وهذه ملزمةٌ دائمًا، ويجب أداؤُها ولكن الظرف والزمان متروكٌ أمرُهُما لرأي الفرد، مثال ذلك الشكر والكرم وهلم جرًّا. هذه الواجباتُ لا يوجبُها القانونُ المدني ولا ينفذها، ولكن الفضيلة الأدبية توجبها.

فالواجبات الحقيقية إذن هي تلك التي يقضى علينا بحق أن نفعلها؛ رعيًا لمصلحة الجماعة، فإذا ترك أداؤها كان الترك نقضًا للعهد وقضاء على آمال الغير فطريِّها وشرعيها.

من ثم قيل إن كل واجب غيرُ محدودٍ هو أرقى من الواجب الحقيقيِّ وأربى عليه كما يفضل الإحسان العدل.

على أَنَّ الفضيلةَ النفسية تشمل نوعي الواجبات كليهما ولا تفرق بين نوعَي الإلزام القاضي بأدائها.

ويُستعمل لفظُ «حق» أحيانًا مقابلًا للفظة «الواجب» فكُلُّ ما علينا للغير هو واجباتٌ، فإذا نحن أَدَّيْنَا هذه الواجبات؛ فإننا نؤدي لهم حقوقهم وعلى ذلك فواجباتُنا حقوق للغير علينا، وحقوقنا واجبات على الغير لنا.

وقد تقسم الحقوق إلى ما يأتي:
  • (١)

    حقوقٌ طبيعية: مثل حقوق الحياة والحرية، وأمثال ذلك.

  • (٢)

    حقوق مكتسبة: مثل حقوق الملك والوراثة، وأمثال ذلك.

(٢) الفضيلة النفسية

الفضيلة النفسية هي الصفة الخلقية التي تجعل الإنسان أهلًا لأداء واجبه على أتم ما يكون. وقد تطلق على الرجولة، وتشمل في معناها كل ما كان فاضلًا في تركيب الإنسان البدني والأدبي، كالقوة والشجاعة والفضل والكمال، وهكذا.

أما الفضائلُ النفسيةُ الآن فهي تلك الصفات والميول الخلقية التي يجعلها الاستمرار على صالح الأعمال مألوفةً معتادةً حتى تبدو مظاهرُها في حُسن السلوك؛ أي بالائتمار بالقانون الأدبي والانتهاء به ولزيادة الإيضاح نقول إن الرجل الفاضل هو من كان خلقُهُ قد نما وارتقى بحيث يختار العمل على مقتضى القانون الأدبي؛ أي أن يعمل صالحًا بطريق الاعتياد والألفة كأنما ليس له إلا هذا السبيل.

يقول «لوق» إن أمتن أساس للفضيلة هو أن يُنكر الإنسان على نفسه رغائبها ويتخطى ميوله الذاتية ويتبع ما يوحي الضمير إليه بخيريته ولو مالت الشهوة إلى غير جانب الضمير.

فالفضائل إذن هي عادات اختيار صحيح، وهي قائمةٌ على الإرادة.

فمِن هُنا يتضح أَنَّ الممارسة هي سبيلُ الكمال في الحياتين الأدبية والعقلية على حد سواء. وما دامت الفضيلة لا تُكتسب إلا بالاعتياد فلا غرو إن سميت عادة. وقد جرى العُرف بإطلاق لفظ «فضيلة» بصيغة المفرد على كُلِّ فعلٍ يتعدَّى حد الواجب؛ أي على ما كان فائقًا ساميًا يستوجب الثناء الخاص. وبإطلاق لفظ «فضائل» بصيغة الجمع على الأفعال التي تنطبق على القانون الأدبي وعلى ذلك فهي تشمل الأفعال التي نُسميها نحن واجبات.

فيُستنتج مما تقدم أَنَّ الفضيلة لا توجد إلا إذا وجد فعل؛ لأنها منسوبةٌ إليه ومؤسسةٌ عليه.

كان سقراط يرى الفضيلة اسمًا آخر للعلم، وأن الرذيلة والشر أمران غيرُ اختياريَّيْن بما أنهما إنما ينشآن عن قلة العلم، وهذا القولُ صحيحٌ من وجهٍ؛ إذ يستحيل على المرء أن يعمل صالحًا — أي أن يكون فاضلًا — حتى يدرك ويتبين الفرق بين الصالح والطالح والحق والباطل.

ولكن العلم وحده غيرُ كاف؛ إذ ليس المقصود مجرد معرفة الإنسان وتبينه حد الحق من الباطل والصالح من الطالح فيكتفي بذلك، بل تملك الإنسان قوة الإرادة الضرورية لكي يفعله.

عرف أرسطو «الفضيلة» فقال هي عادة اختيار الحد الوسط بين طرفين؛ إذ إن طيب الفعل لا يوجد في الغالب إلا بين شيئين أحدهما زائد والثاني ناقص مثال ذلك الشجاعة؛ فهي وسط بين الجُبن والتهور، والإحسان وسطٌ بين الشح والإسراف، وهكذا، ولكن هذه القاعدة لا تستقيم دائمًا:
  • أولًا: لأن الفضيلة — في نظرنا — هي أرقى ما يُمكنُ أن يصل إليه جهدُ جاهدٍ؛ فهي طرف في ذاتها لا وسط، فالقول بأن الفضيلة توفيقٌ بين رذيلتين يكاد يكون من الأحاجي.
  • ثانيًا: لا يكون الوسط من الطرفين على مسافة واحدة في كل حال، مثال ذلك الشجاعة؛ فإنها عن الجبن أبعدُ منها عن التهوُّر كما أنه ليس من السهل معرفةُ ماهية النقص أو الزيادة؛ أي ماهية الطرفين.
  • ثالثًا: ليس بين أيدينا دستورٌ نعرف به الوسط، زد على ذلك أن أرسطو يتخذ من الرجل ذي الذكاء العادي دستورًا، وهذا الاعتبار غير سليم.

يرى الأنانيون أن الحزم هو مصدرُ الفضيلة، ويرى النفعيُّون أن الإحسان أساسُ كل فضيلة، وقسم بعضهم الفضيلةَ أقسامًا، وفاقًا لِمَا لكل منها من القيمة النسبية، ولكن هذا التقسيم لا يعول عليه؛ لأن قيمةَ كل فضيلة غيرُ ثابتة لتغيُّرها بتغيُّر البلاد والأزمنة والأشخاص.

ولكن لا بأس بالتقسيم التالي؛ لأنه يشملُ أَظْهَرَ الفضائل وأشملها لِما لم يذكر، وهي على هذا الترتيب: الإحسان، الشجاعة، العدالة، التعفُّف، كبح جماح النفس، الصدق.

وإليك شرحُ كُلٍّ من هذه الفضائل، على وجه الاختصار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤