مقدمة

اليوم أقصُّ على بني وطني نبأ جولتي في ربوع أفريقية بعد أن تقدمتْها «جولة في ربوع آسيا»، «جولة في ربوع أوروبا». تلك الجولة التي أيَّدتْ لديَّ ما نعرفه عن «القارة الغامضة» في شعوبها وحيوانها وأحراشها ومفاوزها، وكم كان لبحثي في تلك الأنحاء لذة دونَها ما لقيتُ في أوروبا وآسيا أعوامي السالفة، ففي أوروبا لمسنا مدنية الغرْب التي تقوم على المادة بكامل حسناتها من رقي وعمران وما يستتبعه ذلك من رفَهٍ وانحلال.

وفي آسيا واجهتْنا مدنية الشرق العريقة تلك التي تقوم على أسس معنوية ودعامات روحية لم تفسدها المادة وإن أفسدت منها الرجعية والتمسك بأهداب القديم.

أمَّا أفريقية فقد بدتْ بريَّة لم يُفسِدها الدخيل حيث وضحت الفطرة تتجلى في إنسانها الهمجي وحيوانها البري، مما أذكرني بعصور ما قبل التاريخ يوم كان الإنسان ساذجًا يأتي ما توحي به الفطرة وتدفعه إليه الغريزة، هنا يستطيع المنقب أن يتعقب خطى التطور الآدمي في كل شيء، في بنية الإنسان ولغته وعقائده وعاداته، ولطالما خالَ قُرَّاء الأسفار أن مجاهل أفريقية وهمج أهلها قد خضعتْ جميعًا لوفود المستعمرين، ولكن تلك فكرة جِدُّ خاطئة، فالسواد الأعظم من أهل تلك الأصقاع لا يزال حرًّا لا يعترف بسلطان ولا يفقه للحكم الأجنبي معنًى، وهيهات أن تنال منه مدنيتنا أو تخلِّف فيه أثرًا.

ولشد ما كان أسفي إذْ لم أوت من فسحة الوقت ما يشفي للبحث غلة أو يروي للنفس ظمأً، على أني أرى فيما قصصتُ هنا قبسًا قد ينير السبيل، واللهَ أسألُ أن يوفقنا جميعًا لما فيه خير الوطن المفدَّى وأبنائه الأبرار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤