خطاب إلى المؤلف

بقلم الأستاذ الكبير الدكتور منصور فهمي (أستاذ الفلسفة بكلية الآداب بالجامعة المصرية)

عزيزي مصطفى

ربع قرن مضى — وليس بقليل أن ينقضي من حياة المرء ما ينوف عن خمس وعشرين سنة — إذ كنت تلميذًا في المدرسة الفرنساوية، حين كانت تلك المدرسة في شارع الدواوين، وحين نزحت من ربوع الريف الذي نشأت فيه؛ لأصيب قسطًا أوفى في الدراسة الثانوية، وأذكر أن أستاذ اللغة العربية — وكان المرحوم محمد بك دياب — طلب إلى تلاميذ الفرقة التي كنتُ بها أن يكتبوا موضوعًا إنشائيًّا عن سكنى الأرياف وسكنى المدن، وعند هذا السؤال فاضت نفسي بالحنين إلى القرية التي نشأت فيها، والمروج التي درجت عليها، والعشير الذي رعاني بعطفه، وفاض على قلمي الناشئ أثرٌ من فيض هذا الحنين، فكتبتُ ما شاء الله أن أكتب، واصفًا الشمسَ المشرقة على الحقول، وذاكرًا قومًا تهز ضحكاتهم العالية طلق الهواء، ومتخيلًا الأنعام الآمنة السارحة، ومحدثًا عن الفَرَاش يتفقد الزهر البسام، والنحل يرتشف من كئوس النبت رحيقَه المختوم، وذكرت غير ذلك مما اتصل بنشأتي وكان له أثره في نفسي الفتية، وكنت مخلصًا حين كتبتُ، وكنت شاعرًا حين وصفتُ، وكأن أثرًا من ذلك الإخلاص وشعاعًا من تلك الشاعرية نفذ إلى قلب أستاذي الشيخ، فحنَّ هو الآخَر إلى عهوده بالصبا، وبأيام الريف الذي شبَّ فيه وترعرع، فجاء مبكرًا في ذات يوم إلى المدرسة ودعاني إليه، ولقيني بأطيب الكلمات هاشًّا مستبشرًا، وكأن ما مسستُ به نفسَه من عواطف عن الريف وأحاديث الريف، بعث في شيخوخته الفانية حياة وأملًا ونشاطًا!

وهكذا قد تتشابه الأمور في مجاري الأقدار، فلقد كان فيما كتبت عن شئون الريف مبعثٌ لذكريات حلوة تجدَّد من أثرها ارتياحٌ لنفسي وسرور ما أحوج النفس إليه.

•••

للأيام أحكامها، وللظروف شأنها في أمر الإنسان، فتخلق فيه عادات غير التي نشأ عليها، وتحبِّب إليه ما كان لا يحب، وتبغِّض إليه ما كان لا يبغض، ولعلها حكمة بالغة حين أوصانا السلف الصالح بأن نحب هونًا ما، ونبغض هونًا ما.

قضت الأيام أن تعيش في المدينة كما عاش غيرك من قبلُ، وأن تهيئ لك المدينةُ مقاصدَ أخرى، وتكيِّف عصبك وذوقك وعقلك بكثير من شئونها، وهكذا أصبحتَ ترى في الأرياف رغم حبك لها عيوبًا، وتلمس فيها عوجًا، وترى مواضع للشفقة لا يعزِّيك عنها إلا أن تصيح بإصلاح الناقص، وتقويم المعوج، وتغيير المكروه، ومن الحق أن ترفع الصوت عاليًا لتنشد الخير للريف وأهله؛ وذلك لأن المدينة علَّمتك أن في حياتها من الخير ما يصح أن يتجمل به الريف، وأن الحضارة وسَّعت من الحسنات ما إذا أُضيف منها إلى حياة البداوة لكسبَ الإنسان اللَّذَّتين وباءَ بالحسنيَيْن، وكلنا أو أكثرنا مثلك، طابت له الأرياف في حياتها، وأحس بخير المدينة؛ فأصبح يتمنى أن لو جادت الحضارة بشيء من محاسنها على الريف، وجاد الريف بشيء من محاسنه وطيباته على المدينة!

وما هو إلا أن نشعر جميعًا بما تشعر، وننشد ما تنشد، حتى يتكون من مشاعرنا وأناشيدنا لحنٌ اجتماعي وصوت قاهر يردِّد الإصلاح للريف، ولا يلبث الزمن عند هذا الصوت القاهر إلا أن يلبي الدعوة، ونرى من الريف المعيب جنات، ونرى في القرية المهملة المنبوذة موطنًا تتغذى منه الأنفسُ مبادئَ الجمال!

•••

إذا كان ما كتبت لا يؤثِّر فيمَن كتبت لهم من قرائك الذين تحسبهم مسئولين عن إصلاح الريف، وإذا كان قلمك فيما نمَّقه وأجاد فيه، لا يؤثر في القارئ بحيث يشعر بشعورك في الأمر ويفكر بفكرك، فإن فيما كتبت فضيلةً كبرى من فضائل القروي المثقف؛ إذ يتذكر بالخير مسقط رأسه، ويهيج شوقه إلى ميدان طفولته ونشأته فيقول: «ذهبت أقضي فروضَ الذكرى والوفاء لقريتي التي غذتني رضيعًا، وتعهدتني صبيًّا، وشاهدتني أحبو على أرضها، وأعبث بمائها، وأجري في حقولها، وأتعلم مبادئ القراءة والكتابة فيها.» ثم يردِّد: «إلى الريف! إلى ذلك الحمى الهادئ، وهذا المعبد الساجي الخاشع، إلى مهبط النفوس الثائرة، ومسكن القلوب المُعَنَّاة، ومجمع الآمال الشاردة …» ويقول: «ما أجمل تحية الشمس لأبناء الريف! وما أجلَّها حين تطلع من خِدْرها، وتتلفت من حولها، كالحسناء المفتونة بسحر جمالها، وبسلطان دولتها، تصحو من نومها، وتنهض من سريرها، تتزايل أعضاؤها من فتور النوم، ويتراخى جسمها ويتهدل من كسل الراحة وسكرة اللين، ونعومة الرخاوة تظهر على عيونها الدُّعْج الناعسة الفاترة، والنائمة اليقظة، والمتبلدة النشطة، وعلى جفونها الخامدة الساكرة، وفي نظراتها المتكسرة الحيية.»

•••

وجميل بالفتى المصري الناشئ أن يشعر بمصريته، فيما لبلاده من خصائص ولبيئته من مميزات، وفيما لعشرائه من عادات، ولأيامه من ذكريات، فيذكر الكتاب كما ذكرت، ويذكر الريفيات كما ذكرت، ويذكر الأغاني كما ذكرت، وفي تلك الذكريات المتصلة بمصر الصميمة، وبسني حياتك الماضية، معنًى دقيق للوطنية والقومية، فإذا كنتُ أنا اليومَ أغتبط كل الاغتباط؛ إذ أرى أحد أبنائي النجباء في التلمذة، يعترف بالجميل للقرية؛ أمنا المشتركة، ويريد لها الإصلاح، فإني طالما تألمت حين رأيت فئة من الشبان تناسوا نشأتهم، وعاشوا لأنفسهم لاهين لاعبين، ناعمين بما تقدِّمه لهم الحضارة، متناسين مصر، وريف مصر، وفلاح مصر، الذين نشَّئوهم وانتظروا منهم لأنفسهم المعونة!

•••

لستُ أدري أستظل محتفظًا بكلِّ ما جاء في كتابك من آراء، أو ستغيِّر الأيام فيها ما من شأنه أن يتغير مع الأيام؟ على أنه ليس بهامٍّ في نشأة الفتى خطأ الرأي أو استقامته، ولكنَّ الهامَّ رغبتُه في الخير، واشتعال وجدانه بالواجب، وتفكيره فيما يدعو إلى التفكير، وإنك فيما كتبتَ تشعر وتفكر، وما أسعدنا بشبابنا حين يشعر ويفكر، ولك إذن أخلص دعواتي وإعجابي وحبي الصادق.

ديسمبر سنة ١٩٢٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤