مقدمة

كتبتُ هذه «الرسالة» أو هذه «الأحاديث» متأثِّرًا بعاملين قويين ملَكَا عليَّ مشاعري، واستوليَا على كل كياني: وهما الرحمة والوفاء، وما أحسب أن فكرةً من الفِكَر استأثرت بنفسي واستبَدَّتْ بعقلي مثل هذه الفكرة أو هذه العقيدة التي أذيعها في هذه السطور ممزوجةً بلحمي ودمي، مندمجة في كل سائري وعالمي.

أخذت نفسي بنشدان وجه من وجوه الإصلاح في مصر لأفتتح به حياتي الجامعية، فلم أرَ موضوعًا أجدرَ بالحديث وأولى بالعناية وألصق بذاتيتي من موضوع «الريف المصري».

ولقد خامرَتْني هذه الفكرة منذ سنين، وأخذت في عقلي وقلبي أدوارها التي يأخذها كل الأحياء، حتى إذا شعرت بضغطها ونمائها ويفاعتها، أخرجتها من عالم الباطن إلى عالم الظاهر، أو من عالم النفس إلى عالم الوجود!

فكَّرت في حال الفلاح المصري كثيرًا، وفي لون الحياة التي يحياها في عصر النور والعرفان والحرية والحق والجمال، في عصرٍ لا أظن أن الأدوار التي مرَّت بها الإنسانية كلها بلغ فيها التنازُعُ على البقاء في الحياة، ما بلغه في هذا العصر المتوثب الطامح المسلَّح بكل صنوف الآلات والقوى.

وسط هذا العالم الصاخب المضطرب المتنازِع على الحياة الموفورة السامية، الطامح في نور جديد يرشده إلى عالمٍ أرقى، وإلى حقيقة أسمى وإلى منزلة أقدس …

في هذا العصر الطامح المجاهد، والذي تفتحت فيه العيون التي أغمضها الجهل، فرأت نور الوجود كما أراد الله أن يكون، والذي تحرَّرت فيه العقول — أو كادت تتحرر — من قيود التعصب وأسْر العماية، ومن سلطان البابوات والملوك وأعداء العقل، فأمكنها أن تشع شعاعها على هذا العالم الذي أراد الله أن نعرفه ليمكننا أن نفهمه ونستمتع بما فيه من نور وحق وجمال، ولكن أبَتِ السياسةُ وأبى الدين — أستغفِرُ الله — ولكن أبى الساسة وبعض رجال الدين أن نعرف هذا العالمَ الذي نعيش فيه، وأن نرى هذا النور الذي خُلِق من أجلنا.

في هذا العصر الذي كاد يقضي على كل صنوف الاستبداد وألوان الاعتساف وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، يعيش الفلاح المصري العيشةَ التي كان يعيشها زميلُه الفلاح في حكم الرومان والبطالسة والعرب والمماليك، كأنه لم يَدْرِ بعدُ ماذا حدث في العالم، وماذا طرأ على «الإنسان»!

شعرت بهذه الحال السيئة الأليمة، وبهذه الحياة التي يحياها فلاحنا في القرن العشرين، فحركني باعث الرحمة والرثاء لحاله، وأنا منه وهو مني، وباعث الوفاء لهذا البلد الأمين الذي شقي ببعض أبنائه، والذي نُكِب بتلك الأدوار والعصور السود التي مرَّت على حياته، حتى غدا تاريخه سلسلةً متصلة من الجور والبؤس والظلام، لا تكاد حلقة تنفصم عن حلقة، وباعث الوفاء لهذا الريف الذي حبوتُ على أرضه وعشت تحت سمائه وترعرعت بين حقوله، والذي يعاني من صنوف الإهمال والتغافل ما يعاني، في الوقت الذي نأخذ منه كل شيء ولا نعطيه أي شيء، بل نحرمه كلَّ ما نستمتع به نحن من علم، ومن حرية، ومن رغبات النفس والشعور بالحياة!

يحيا فلاحنا حياةً لا ترضاها نفسٌ أبيَّة كريمة تحركها أبسط صنوف الرحمة والوفاء لهذا الفلاح ولهذا البلد، حياةً لا يقبلها رجل يغار على بلده ويعرف معنى الوفاء له، ويود له النهوض والمكانة التي تليق بسابق مجده وقديم حضارته الأولى، حياةً يتقزَّز منها كلُّ فرد يقدِّر لفظةَ «إنسان»، وتدفعه الشفقة والرثاء لأخيه «الإنسان»!

من الاحتقار ﻟ «الإنسان» أن يعيش الفلاح المصري هذه العيشة النكداء، ومولاه الغني يلبس الحرير ويتوسَّد الدمقس بما يقتطع من لحمه، ويشرب من دمه، ويعيش في ترفِه وعزِّه على كدِّه وبؤسه، ومع ذلك لا يكلِّمه إلا بالنظرات الشزراء، وبالخدود المنتفخة، والوجه المتورم من الصلف والتيه والتعسف، ولا يعامله إلا بالسِّباب والتعذيب، ولا يخاطبه إلا باللطم «والركل»، وحكوماته المتعاقبة المتغيرة عليه، والتي تمتص مواردنا ومرتبات موظفيها من عَرقه ومن دمه، لا تكافئه إلا بتجاهله واحتقاره، وإن سخت في الكرم وجادت بالعطاء تكافئه بمعسول الأماني ومكذوب الأمل بما تلقي من وعود، وبما تحبِّر من كلام، وبما تزوِّق من خطب!

من الاحتقار للوطنية المصرية وللنهضة القومية الكبرى، وللبعث العالمي، و«للروح الإنسانية العامة»، وللدماء التي أُرِيقت، والأرواح التي زُهِقت، والضحايا التي تكدَّست في ظلمات القبور، والأشلاء التي تبعثرت في الأجواء تحت أزيز الرصاص وقذف المدافع، وللنساء التي أُيِّمت والأطفال الذين يُتِّموا، وللبيوت التي خُربت، وللعائلات التي نُكبت في أبنائها وفلذات أكبادها، من الاحتقار لصيحة الحق وقومة العدالة وهبَّة الحرية؛ أن نستمتع ببعض ما بذلنا في سبيله من مهج وأرواح، ثم يبقى الفلاح المصري في حقله وفي أركان داره المتهدمة المظلمة القذرة بين مواشيه وحميره، لا يفرِّق كثيرًا بين الجور والعدل، ولا بين الحق والباطل، بل ولا بين الحرية والعبودية!

مضى الزمن الذي كان فيه الإنسان يصبر على الضيم ويخنع للذل، ويقبِّل مُكرَهًا يد جزاره وذابحه، وبادت تلك الأعصر التي كانت فيها الإنسانية مقسمة إلى قسمين أو صنفين من الخلق؛ إنسان وشبه إنسان، للأول الغُنْم والترف والعز والسلطان، وعلى الثاني الغُرْم والذل والشقاء والهوان!

لم يُرِدْ خالق الإنسان حين خلقه وسوَّاه، إلا أن يكون هذا «الإنسان» مالكَ نفسه وسيد أمره، له مما في هذا العالم من نور ومن حرية ومن علم ومن جمال، نصيبٌ موفور يليق بوجوده السامي وخلقه العالي، فما بال الإنسان نفسه يجعل من نفسه إلهًا أو شيطانًا يعبث بالخلق ويقسِّم الناس إلى رءوس وأذناب، وإلى أسياد وعبيد، في عصرٍ انمحت فيه كلمة «العبد» وعلت كلمة «الإنسان»؟

ولهذا فليست هذه الرسالة إلا صيحة الحق وصرخة العدالة، أضمنها هذه السطور التي تكاد تحترق من لهيب الأسى، والتي لو بُدلت عيونًا لَشفت ولَترجمت عن حرقة الشقاوة وذلة الدموع وجراحات الألم، صيحة من صميم القلب، وصرخة من اللحم والدم، يبعثها شاب أمَضَّه الألم ولاعه الأسى، إشفاقًا على هذا الصنف من الإنسان الذي له اسمه وليس له مسماه، وله لفظه وليس له معناه!

وإني لم أحرص على نشر هذه الرسالة أو هذه الأحاديث إلا لأني أحب أن أؤرِّخ بها حياتي الجامعية، وأن أفتتح هذه الحياة التي أرجو أن تكون مباركة خصبة بنشدان وجه من وجوه الإصلاح والإحياء المصري والبعث القومي، وأن يتوج هذا الافتتاح بأشرف وأنبل ما في الإنسان؛ الرحمة والعدالة!

وأحب أن يلاحظ حضرات القراء الكرام أني حين فكَّرت في كتابة ثم نشر هذه الرسالة الصغيرة، لم أبغِ بها إلا أن أصِلَ الفلاحَ المصري بالبيئة المدنية المصرية لأنها تجهله كل الجهل؛ ولذلك لا تقدِّر بؤسه ولا تفهم لغة آلامه، وملاحظة ثانية أيضًا هي ألا يعطوا هذه السطور صبغة أكثر من أنها «أحاديث»؛ إذ لست أنحل لها صفة «كتاب» ولست أدعي لها صفة «التحقيق العلمي»، وإنما ملاحظات رأيتها، وخواطر لعبت برأسي، وآلام شعرت بها، ونداء باطني هتف بي، فسطرتها على الورق كما هي لتكون صورة من شعوري الأول، وصدًى لنفسي المضطربة الجياشة بكل ألوان الشعور وصنوف الإحساس!

وملاحظة ثالثة: هي أني حين أردت أن أكتب عن الفلاح المصري وعن ريفنا، لم أختَرْ إلا صنفًا واحدًا من الفلاح هو الغالبية العظمى في كائننا القومي، وهو الفلاح الذي لا يملك شيئًا بل يعيش إما مأجورًا أو مستأجرًا، فإن خلت هذه السطور من التعرض لصنوف الفلاح الأخرى، فذلك لأني لم أشأ أن أمسَّها بالتصوير أو أتعرض لها بحديث.

وإني لسعيد جِد سعيدٍ بين أطواء نفسي وأمام محكمة ضميري، كلما فكرت أني بذلك كل جهدي لأكون أمينًا في تصوير ريفنا المصري وحياة فلاحنا، صادقًا في التعبير عن شكواه وآلامه.

ولست أنكر أن هذه الأحاديث قد ينقصها «وحدة الفكرة»، أو تزاوج المعاني واتساقها اتساقًا منطقيًّا منظمًا، وتعليل هذا أني أحببتُ أن أصوِّر مختلف مشاعري، وما يقع عليه بصري، وما تجيش به نفسي، وما يستغرق فيه عقلي وتأملاتي حين شعوري وإحساسي وأنا في ريفنا وبداوته، وبين فلاحنا وسذاجته، دون أن أراعي في ذلك «الوحدة الفكرية» أو «الصبغة الفنية»؛ ولذلك نحلت لهذه السطور المبثوثة في هذه الأوراق صفة «أحاديث»؛ لتدل على نفسي وعلى شعوري وعلى قصدي حين كنت أكتب، وحين كنت أشعر، وحين كنت أفكر.

•••

هذا نصيبي الآن من الإصلاح المصري وواجبي من الإحياء القومي، أقدِّمه خير ما أكون مغتبطًا وراضيًا؛ لأنه مظهر للفكرة «الإنسانية» التي أحبها وأحترمها، وأعمل على هداها ونهجها، وأعيش في سبيل تحقيقها ونجحها، ولأنه جانب من «نفسي»، وعصارة من دمي، وشطر من وجودي، ولأني أشعر بأني أرضيت به ضميري، ووثقت فيه بنفسي، حين قمتُ ببعض واجبي، واضطلعت بجزء من مسئوليتي، ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها!

مصطفى الهلباوي
سبتمبر سنة ١٩٢٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤