مقدمة

ظلت ظاهرة الضمير — المتغيرة والراسخة في آن واحد — حاضرة على امتداد عصور وإمبراطوريات ومعتقدات وعقائد، وأثرت في السلوك البشري منذ ألفي عام وأكثر. وقد عرفها الرومان (وأطلقوا عليها اسم «كونشينتيا»)، ثم استأثر بها المسيحيون الأوائل. وتساوى الإصلاحيون البروتستانت والكاثوليك المخلصون في اعتمادهم على نصائح الضمير وتحذيراته. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، أعاد الضمير اجتياز الحد الفاصل بين التدين والعلمانية، مبدلًا موضع الاهتمام من الكمال الديني إلى التحسين الأخلاقي والاجتماعي. واليوم يؤمن به المتدينون وغير المتدينين على حدٍّ سواء. فهو يحظى بمكانة متميزة في علم اللاهوت والعبادات، ولا تقل مكانته عن ذلك في الفلسفة والفنون. ويدَّعي السياسيون التصرف وفق تعاليمه، وهم يفعلون أحيانًا. ومن اللافت للنظر بالقدر ذاته اتساع نطاق الاحتكام إليه بين كل أطياف الناس وفئاتهم؛ فهو مبحث أكاديمي عظيم القيمة يستخدمه أيضًا عوام الناس، ويستشهد به الناس في كل مناحي الحياة بثقة بوصفه أساسًا لأفعالهم.

قد يبدو أن هذا الرسوخ المذهل الذي يتمتع به الضمير يشير إلى أنه كيان ثابت ووجهة نظر أحادية لا تتغير بمرور الزمن. والحق أن الضمير يحيا في الزمن، ومن أشد خصائصه جاذبية قدرته على التعديل الذاتي والتكيف مع الظروف الجديدة على نحو ثابت، وكذلك إدراكه اللامتناهي لشروط الملاءمة الجديدة والملحَّة. وفي هذه «المقدمة القصيرة جدًّا»، لن أعتبر الضمير ثابتًا لا يتغير، بل سأعدُّه منقبة من صنع البشر تحمل تاريخًا مميزًا وزاخرًا بالأحداث.

يرفض الضمير أي محتوًى ثابت أو غير متغير؛ فبإمكانه أن يبرر التضحية الكريمة بالذات وفي الوقت نفسه يبرر حب الذات الذي ينطوي على أنانية، وبوسعه أن يحض على عمل للخير أو على عمل إرهابي. وقد تكون إملاءات الضمير مسيحية أو وثنية، تستند إلى الدين أو شديدة العلمانية، قومية أنانية أو دولية سخية. بل إن جنس الضمير يظل مجهولًا: فقد يكون مذكرًا أو مؤنثًا، وقد يكون صوتًا روحانيًّا بلا جسد أو صوتًا أبويًّا، بل إنه قد يتحدث بصوت جمعي كالرأي العام. ولما كان الضمير متغيرًا بالقدر نفسه فيما يتعلق بمصدره وموضعه، فإنه قد يُصغَى إليه بوصفه صوتًا محفزًا من الداخل أو صوتًا آمرًا من الخارج، وغالبًا ما يكون كليهما في آن واحد: كائن خارق للطبيعة يعلم عنا كل شيء لكنه يدين بولاء خارجي؛ سواءٌ لإله أو للصالح العام. فقد فُعلت أشياء رائعة وأخرى نكراء باسمه، كالإصلاح الاجتماعي الخاضع للعقل والاستثنائية الجنونية العارضة.

قد يكون الضمير بطبيعته مزعجًا، فعادة ما يشعر المرء الذي يحضره الضمير — على الأقل في البداية — بأنه كان أفضل حالًا دونه. وبالإضافة إلى ذلك، إذا كان الضمير متغيرًا من حيث موضعه أو مضمونه، تظل بعض العناصر مما يمكن أن يوصف بأنه «شخصيته» ثابتة على نحو مؤسف. وأينما ووقتما قابلناه، نجد أن عادته المميزة هي النخز والوخز والتملق والاستنكار والمضايقة عوضًا عن التهدئة أو الطمأنة. ورغم شيوعه فإنه يظل أقل الظواهر المعروفة بعثًا للسرور في النفس. والسؤال هنا إذن: لماذا نحتاج في حياتنا إلى ذلك المفهوم المتقلب والقاسي وشديد الصرامة؟ والإجابة التي أقدمها أن أحوالنا في وجود الضمير أفضل كثيرًا منها في غيابه.

لكنني توصلت إلى تلك الإجابة بعد مزيد من التفكير المتواصل في مصدر الضمير، وفيمن سانده، وفيما عناه بالنسبة للأجيال المتعاقبة. فالضمير له جذور تاريخية عميقة، وهو يتجدد ويكمل نفسه من تلك الجذور، وتكمن أقصى آماله للاستمرار في المستقبل في تقدير قيمة هذه «المنظومة الجذرية» — التي تتكون من كل الأشياء التي عناها الضمير ومثلها من قبل — كأساس لقابلية تطبيقه المستمرة والملحة على العالم اليوم.

الجغرافيا الثقافية للضمير

أثر الضمير في أشخاص عظيمي الشأن في جميع أنحاء العالم، بداية من مؤسسي الجمهورية الأمريكية ومرورًا بغاندي ومانديلا وآخرين، لكن أصوله أوروبية أو مستمدة من الأوروبيين (كما أنهم لا يزالون حتى الآن رعاته، إلى حدٍّ ما).

لا يحتكر الغرب الرقابة الذاتية الأخلاقية أو الرفض الداخلي المستند إلى المبادئ للسلوك المستهجن أخلاقيًّا. وبالطبع فإن اللغات والمجتمعات كافة تملك مفاهيمها الخاصة والمميزة للواجب أو المسئولية أو الخجل من الإخفاق في الوفاء بمعايير المجتمع أو الذات. وعلى الرغم من أن العبرية القديمة لم يكن بها كلمة مرادفة تمامًا للضمير، فإن علم اللاهوت العبري قد تعامل جيدًا مع مفاهيم الإرادة والنية والواجب الأخلاقي والمسئولية أمام إله يغرس الوصايا والتعاليم في قلب المؤمن (سفر التثنية ٣٠ : ١٤، إرميا ٣١ : ٣٣). وعلى الرغم من أن المفاهيم العبرية لها أصول منفصلة عن أصول الضمير، فإن تلك المفاهيم مثل الوصية الإلهية بالرقابة الذاتية الأخلاقية وتوطين قوة أخلاقية في الجسد كانت جزءًا لا يتجزأ من تشكيل الضمير المسيحي، فضلًا عن أنها خدمت هذا الضمير كتأثير محسِّن وقضية غائبة. (ومما يضيف مزيدًا من الثراء لذلك التبادل، أن اللغة العبرية المعاصرة تضم في الوقت الحالي كلمة matzpun التي تقترب من كلمة «الضمير» من خلال علاقتها الاشتقاقية بالكلمة الإنجليزية التي تعني «داخلية» وأيضًا بالكلمة العبرية التي تعني «بوصلة».) وللكلمة اليونانية syneidesis «سينيديسيس» التي تعني «سمة داخلية وأصيلة من سمات البصيرة الأخلاقية» خصائص مشتركة مع الضمير المسيحي، ويمكنها بالفعل أن تتشارك مع الضمير في معنًى انعكاسي يتمثل في معرفة الذات، أو معرفة الذات عن طريق الذات. أما المرادفات البوذية والهندوسية فتقترب مما تطلِق عليه اللغة الإنجليزية المعاصرة «الوعي» أكثر مما تقترب من «الضمير»، لكن المفهومين كانا غير منفصلين في اللغة الإنجليزية حتى القرن السابع عشر وأحيانًا بعد ذلك. وتعني كلمة الضمير في اللغة الروسية sovest «سوفيست»، وهي كلمة مقتبسة من اللغة اليونانية عبر «اللغة السلافية الكنسية القديمة»، وتشترك مع «الضمير» في معنى المعرفة المشتركة، وكلاهما يرمز للوعي ذاتي الانعكاس بالمعرفة، ومن الناحية الاشتقاقية، يمكننا المقارنة بين con (مشترك) + scientia (معرفة) وso- (مع) + vest (معرفة). والمفهومان الكونفوشيوسيان «ليانجشن» (وتعني المشاعر الودية للقلب/للعقل) و«ليانج شي» (وتعني الفكر الأخلاقي السليم أو حسن التمييز) يتشابهان تشابهًا مثيرًا للاهتمام مع الضمير في تأكيدهما على وضع ضوابط ذاتية، وقد أثريا المناقشات الدائرة حول الضمير في القرن العشرين. وتضم اللغة العربية مفهوم «الزاجر» أو «المقيد» الذي يعرف كالتالي: «واعظ الله في قلب المؤمن، النور الملقى فيه والذي يعيده إلى الحق»، وهو تعريف مشابه للضمير في تأكيده على تحريم ارتكاب الآثام.

يقول المثل الذي يعود للقرون الوسطى «كل الطرق تؤدي إلى كومبوستيلا»، وتذكرنا تلك النظم الأخلاقية المتنوعة بأن هدف الرقابة الذاتية الأخلاقية يوجد خارج تقليد الضمير كما يوجد داخله. وعلى الرغم من أن تلك النظم البديلة تعمل على نحو مشابه للضمير، فإنها ليست مطابقة له، فكلٌّ منها يحتوي على فروق دقيقة وتقليدية تجعل دراسة كلٍّ منها على حدة دراسة مجزية. وقد افترضت الليبرالية الغربية في بواكيرها أن النظم الأخلاقية العالمية من الممكن أن تنطبق على الضمير بسهولة تامة، وأنه لا توجد بينهما فروق مهمة يجب الاعتراف بها. لكن اتضح أن هذا الأمر ليس دقيقًا، وخاصة في سياق الإعلانات المقترحة للضمير الدولي أو المبادرات المقترحة بين الثقافات والمفترض تنفيذها باسم الضمير. فالاحترام المتبادل بين الثقافات لا يستفيد من التأكيدات العادية للتشابه مثلما يستفيد من الاهتمام التقديري بالخصائص المميزة لكل نظام.

ومما لا شك فيه أن مبدأ المقارنة الدولية يقع خارج نطاق هذه الدراسة وخارج حدود معرفة المؤلف. وسوف تركز هذه الدراسة على تعاليم الضمير الخاصة أثناء تطورها على مدى ألفي عام في الغرب. إن الضمير — في أفضل أحواله وأفضل أحوالنا — يستحق السمعة التي اكتسبها بوصفه أحد الإسهامات الغربية الباعثة على الفخر في مجال الكرامة الإنسانية. فهو، كما علق عالم اللاهوت هنري تشادويك ذات مرة، يقف حصنًا «في مواجهة انتقاص قدر الإنسان». وطبقًا لما تتضمنه وثائق مثل «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» الذي أعلنته الأمم المتحدة وتقوم به بعض المنظمات مثل «منظمة العفو الدولية» ومنظمة «رصد حقوق الإنسان»، فإن الضمير لديه الكثير كي يقدمه للمناقشات الدائرة حول حقوق الإنسان في أنحاء العالم. لكن في حالة التفكير في نشره للغات والثقافات الأخرى، فإن إدراك تطوره التاريخي — بما في ذلك حالات إساءة استخدامه والموضوعات التي يعمى عنها وما به من تناقضات — سوف يشجع على الوصول لدرجة التواضع المناسبة التي يمكننا بها تقديم هذا المفهوم للآخرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤