العِلم والمال

سألتُ أحد الأثرياء ممن يملكون آلاف الفدادين، ماذا تصنع بمالك؟ قال سبحان الله، أنا حر، أفعل به ما أشاء. وأنا أبعد الناس عن أتشكك، أو أشكك في الحرية عامة، وفي حرية التصرف في المال خاصة، فالمالك حر في مُلكه، وصاحب المال حر في ماله، وهذه الحرية لا يتعرض لها أحد، ولا يناقش فيها أحد، ولا شك فيها، ولا أدعو للشك فيها، ولكن من باب العلم بالشيء، ومن الناحية الموضوعية البحتة في الواقع، ونفس الأمر دون النظر إلى الأشخاص … ماذا يفعل صاحبنا بماله؟ أو على الأصح لكي نكون بعيدين عن الشخصيات، ماذا يفعل الأثرياء أمثال صاحبنا بأموالهم؟

إن الأثرياء كغيرهم من عباد الله يحتاجون إلى المال في سد حاجات معيشتهم من مأكل ومشرب وملبس ومسكن … وغير ذلك، مما تقتضيه الحياة، وهم ينتقلون، ويربون أولادهم، ويُروِّحون عن أنفسهم، وينفقون على أهلهم وذويهم … شأنهم في ذلك شأن غيرهم، فهذا النوع من صرف المال مشترك بين الناس، وإنما يكون التفاوت بينهم في المقدار لا في النوع، كلٌّ على قدر طاقته، وبقدر ما يراه مناسبًا لحاله، ومتفِقًا مع ميوله ورغائبه، ومهما يكن من أمر فإن هذا المال يُصرف ويخرج من يد صاحبه بِنِسَبٍ ودرجات، بعضها فيه تقتير، وبعضها فيه بسط وإسراف، والبعض بين هذا وذاك.

ثمّ إن الأثرياء ربما يدّخرون شيئًا من المال، كما يفعل غيرهم ممن تسمح لهم ظروفهم بالادخار؛ فيستعينون بهذا المال على ما يحل بهم من عاديات الدهر، وطوارئ الحوادث؛ كالمرض الذي يقعدهم عن العمل، ويطلب النفقات، وكذلك الإصابات والأخطار … فهم يوفرون المال للشدائد، ويغتنمون ساعة الميسرة قبل ساعة المعسرة، وهذا النوع من الاقتصاد، وإن لم يكن في طاقة كل إنسان إلا أنه على أي حال نوع يشترك فيه الأثرياء مع كثيرين من غيرهم أصحاب الدخل المحدود، كالموظفين والعمال، ومن هم على شاكلتهم، والدليل على ذلك أن عدد المودعين في صناديق التوفير المصرية وصل في سنة ١٩٤٠ إلى أكثر من ٤٤٠ ألف شخص، وهو الآن ربما جاوز نصف المليون.

فالأثرياء إذن يصرفون مَالهم في شؤون العيش، كما يفعل غيرهم، ويدخرونه ليوم الشدّة، كما يفعل الكثيرون ممن عداهم، ولكن هل يقف الأمر عند هذا الحد؟ كلا، ولو أن الأمر اقتصر على هذين الوجهين من أوجه الصرف لما سألت صاحبي ماذا يفعل بماله؟ فالثراء يتعدى حدود المعيشة، وحدود الادخار على شيء آخر، إلى معنى جديد من المعاني هو أقرب ما يكون إلى معنى السلطان، وهو أيضًا ينطوي على معنى المسؤولية، كما يرتبط ارتباطًا متينًا بتطور المدينة البشرية، وتقدم العمران.

فالثري الذي يملك آلاف الفدادين يملك جزءًا من الأراضي المصرية، يهيمن عليه، ويقوم على شؤونه، وهو في أرضه صاحب سلطان له الرأي الأخير، والكلمة المسموعة، وما من شك في أنه مسؤول عن زراعة أرضه، وحُسن استغلالها، ثم إنه يستخدم العمال والفلاحين، وغيرهم من الموظفين، وهؤلاء منزلتهم منه منزلة الرعية، ومنزلته منهم بمنزلة الراعي، وكل راع مسؤول عن رعيته، وهنا تظهر أهمية العلم، فصاحب الأرض إذا كان متعلمًا عرف واجبه، وشعر بمسؤوليته … فأحسن إدارة أرضه، وحافظ عليها، ولم يُسئ التصرف في أموره. والإدارة المالية لها أصول وقواعد مَن اتَّبعها نَمَت ثروته، وَمَن خالفها اختلت ميزانيته، وحلَّت به الأزمات، فوقع فريسة للربا، وتراكمت حوله الديون. وفي مصر ما يقرب من ٤٠٠ ألف فدان مرهون للبنك العقاري المصري، عدا المرهون للبنوك والهيئات الأخرى، مما يدل على أن نسبة كبيرة من أراضينا يديرها أصحابها إدارة سيئة، منشؤها — ولا شك — الجهلُ، ومخالفة القواعد العلمية. ولا يخفى ما لهذا من أثر في الدخل القومي، وفي الثروة القومية؛ فهو عامل من عوامل انحطاط مستوى المعيشة في الريف المصري خاصة، وفي مصر عامة.

قارن بين هذه الحال، وبين ما يكون عليه الحال لو أن هذه المساحات الواسعة، وغيرها من الأراضي المزروعة أُديرت إدارة حسنة، فاستُخدمت الطرق العلمية الحديثة في الإدارة المالية، كما استخدمت الآلات الحديثة في الحرث والري، وانتقاء البذور، واستخدام السماد، وتخزين المحصول، ونقله إلى الأسواق.

إن كبار المّلاك في مصر إذا كانت أراضيهم غير مرهونة، فإنهم في مركز يسمح لهم بتطبيق الوسائل العلمية الحديثة في زراعة أراضيهم، بما يعود عليهم وعلى الأمة بأسرها بالخير العميم، وقد جُرِّبت هذه الوسائل عند غيرنا من الأمم، كما جُربت في مصر نفسها؛ فأثبتت بالدليل القاطع أنها كفيلة بزيادة الإنتاج، ووفرة المحصول، ومضاعفة الربح، ومن الأمثلة على ذلك: ما حدث في إنجلترا منذ ١٩٤٢، أي في ظرف السنوات الثلاث الأخيرة، فمن المعلوم أن إنجلترا لم تكن تنتج من الحاصلات الزراعية إلا أقل من نصف حاجتها، ولذلك عمدوا إلى تطبيق الطرق العلمية في زراعة أراضيها، وإنجلترا ليست بلدًا زراعية — كما تعلم — ومع ذلك فقد كانت نتيجة تطبيق العلم أن زاد الإنتاج الزراعي في ظرف سنتين اثنتين بنحو ٦٥٪ من قيمته الأصلية، وهو ولا شك قد زاد على ذلك كثيرًّا في السنة الأخيرة.

ذكرتُ أن منزلة المالك من عماله وموظفيه بمنزلة الراعي، وأن منزلتهم منه منزلة الرعية، وأن كل راع مسؤول عن رعيته، وهنا يهدينا العلم إلى الطريق العملي لتحقيق هذا التعاون، وتنمية هذه الصلة، فالعلم يُنبئنا بأن العامل إذا اعتنى بصحته، ونظافة معيشته، وتعليمه، ورفع مستواه الخلقي، فإن إنتاجه يزداد أضعافًا مضاعفة، والفلاح المصري مُصاب بأمراض طفيلية تمتص حيويته، وتقلل من عزيمته، فالبلهارسيا والإنكلستوما منتشرتان في الريف بنسبة تربى على ٨٠٪ إذا استثنينا بعض مناطق الوجه القبلي، ومن أكبر الأخطاء الشائعة أن يُقال إن الفلاح يتمتع بصحة جيدة، إذ الأمر بعكس ذلك على خط مستقيم، وقد قُدِّر أن عدد الأمراض التي تحل بجسم الفلاح هي في المتوسط ستة أمراض مختلفة عند كل شخص واحد، والعِلم الذي يزيد في غلة الأرض هو الذي يعلمنا أن نعتني بصحة الفلاح وبتعليمه، وبنظافته، وبذلك يزداد الإنتاج، وتنمو الثروة، ويحيا الناس حياة تتفق مع الكرامة البشرية.

عندما بدأتُ حديثي تكلمت عن ثري يملك آلاف الفدادين، ولو أنني تخيرت ثريًّا ممن يهيمنون على الأعمال الصناعية، أو البيوت التجارية، أو غيرها من الشؤون المالية لما تغير الموقف كثيرًا من نواحيه الأساسية، فالعلم أساس التقدم في كل ميدان من هذه الميادين، وهو حجر الزاوية في تنظيمها، وحسن إدارتها، بل إن العلم ليخلق المال خلقًا، وينشئه إنشاءً، ولعل بعض حضرات القراء يملك أسهمًا في شركة النور أو شركة الترام، ولعل هذه الأسهم تساوي ألف جنيه أو عشرة آلاف، أو أكثر من ذلك أو أقل … ألا فخبروني، هل كانت للثروة توجد لولا العلم، ولولا اكتشاف الكهرباء، ولولا اختراع المولدات والمحركات الكهربائية؟ وما معنى شركة النور، أو أسهم شركة النور بدون المولدات التي تبعث النور، أو شركة الترام بدون المحركات التي تحرك الترام؟ ألا ترون أن هذه الأسهم وما تمثله من أموال إنما هي أثر من آثار العلم، ونفحة من نفحاته؟

وإذا كان العلم هو صاحب الفضل الأول، فما أجدره بأن يكون المشرف والمُعين والناصح الأمين، وما أخلق الأثرياء الذين يقومون على هذه الأعمال بأن يُطبقوا الطرق العلمية، والبحوث العلمية والعقلية في رعاية هذه الأموال وتنميتها، وتسخيرها لخدمة الإنسان، وليذكروا أن العلماء الذين أعطوا البشر هذه الأموال من بنات أفكارهم، وثمرات عقولهم إنما جادوا بها جودًا وفضلًا، لم يبتغوا بها وجه المنفعة المادية لأنفسهم، بل إن أكثرهم قد عاش ومات فقيرًا، وإنما ابتغوا بها وجه الله راغبين في خير البشر وسعادتهم ورفاهيتهم، وإذا ذكر الأثرياء ورجال المال ذلك فليكن لهم في هؤلاء العلماء أسوة حسنة، فالمال وديعة في أيديهم؛ فليكونوا أمناء على الوديعة، والمال قوة وسلطان فليستخدموه فيما يعود على الناس بالخير، وليضعوا المصلحة العامة فوق المنفعة الخاصة، والمال إلى هذا كله، وفوق هذا كله وسيلة من وسائل العمران، وأداة من أدوات التقدم البشري … فليجمعوا هذه الغاية نصب أعينهم، فلا يقفوا حجر عثرة في سبيل ارتقاء الأمم، أو نشر التعليم، أو محاربة الفقر والمرض والجهالة، ومن يفعل ذلك يلق أثامًا، أعود إلى السؤال الذي بدأت به، ماذا يفعل الثري بماله؟

أو بالأحرى، ماذا يجب أن يفعل الثري بماله؟ إنه حُر ولا شك في أن يفعل به ما يشاء، ولكن هذه الحرية يجب أن تخضع لما تخضع له الحريات جميعًا؛ من شعور بالمسؤولية، وتقدير للواجب، ولا يظن ظان أن ذلك يعيب الحرية، أو يحط من قيمتها، بل بالعكس هو يرفع من شأنها، ويعلي قدرها، فالمال إذا اقترن بالعلم سما بصاحبه إلى سماء الواجب، وأحاط بقدسية الضمير، وتحولت حريته في استخدامه من حرية الجاهل إلى حرية العالم، وشتان بين جاهل وعالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤