الرد اليسير على توراة عسير١

«كمال الصليبي»، أصبح اسمًا مطروحًا في المنتديات الثقافية، ومتواترًا في هوامش البحوث التي تتناول تاريخَ القبائل الإسرائيلية، أو ما تعلق بها من أبحاثٍ في المجتمع أو الدين أو الاقتصاد أو السياسة، وعلى مستوى الانتشارِ أخذ اسمَ «الصليبي» موقعَه من غرابة النظرية التي يطرحها في مؤلفاته، وعلى مستوى البحوث العلمية أخذ مكانَه من باب تثمين مضطر للنظرية، سواء بالاتفاق أو الاختلاف، لما قدَّمه الرجل من جهد وقرائن على نظريته، الأمر الذي يجعل من فساد الرأي التغاضي عنها، عند بحثِ شأن من شئون الجماعة الإسرائيلية.

ونظرية «الصليبي» تذهب — عمومًا وبإيجاز — إلى احتساب القبائل الإسرائيلية، قبائل عربية قحَّة، سبق أن عاشتْ في جزيرة العرب في الأزمنة التوراتية القديمة وبالتحديد في منطقة عسير غربِيَّ الجزيرة، وأن جميعَ الأحداث التي قدمتْها التوراةُ كمادة تاريخية وثائقية عن بني إسرائيل من فجر تاريخهم، إنما حدثتْ جميعًا في بلاد عسير العربية، وكانت أهمَّ براهين الباحث وقرائنه، ومكمن قوة نظريته قد جمعت تقريبًا وحشدت في كتابه الأول The Bible Come From Arabia، المترجم عن الأصل الألماني Die Bible Kam aus dem Lande ASIR، وقد تُرجمت النسخةُ الإنجليزية إلى العربية تحت عنوان: «التوراة جاءت من جزيرة العرب».

وقد أتبعَ الباحثُ ذلك الكتابَ بكتابَين آخرَين وإن كانا أقلَّ تماسكًا وأدنى في الدرجة وفي قُدرة الإقناع عن كتابه الأول، قدَّمها للتخديم على نظريته الأساس التي ضمَّنها كتابَه الأول، ومن ثَم جاءا على قدْرٍ واضح من الهُزال والضعف والتعسُّف، أولُهما بعنوان «خفايا التوراة»، والثاني بعنوان «حروب داود»؛ لذلك سيكون مناطُ حديثِنا هنا مادتُه الأساس وملاطُه الخرساني من كتابه الأول «التوراة جاءت من جزيرة العرب».

والدكتور «كمال الصليبي» يعمل رئيسًا لدائرة التاريخ بالجامعة اللبنانية، فهو أستاذٌ دَرَّس مادة التاريخ — فيما علمنا — لأكثر من ثلاثة عقود متصلة، ويبدو لنا أنه قد ركَن إلى قناعةٍ تنضحُ بها سطورُ العهد القديم من الكتاب المقدس، عند حديثها عن الربِّ التوراتي «يهوه»، وهي القناعةُ التي لا تهتزُّ أمام الصفات التوراتية ليهوه، بأنه لم يكن أكثرَ من بركان، أو على الأقل أن البركانَ كان أبرزَ رمزٍ تجلَّى فيه، وهو البركان الذي توجَّه إليه الخارجون من مصر بقيادة موسى النبي، في جبلٍ باسم «حوريب»، ويُذكر مراتٍ باسم جبل «سيناء». فإنَّ المتوقعَ تمامًا أمام التفاصيل التي تحدَّثتْ عن صفات «يهوه»، أن نجدَ ذلك الجبلَ البركانيَّ في شِبه جزيرة سيناء، لكن المشكلة التي واجهت الجميعَ، هي تأكيداتٌ جاءت تُؤكِّدُ أن سيناءَ لم تعرفِ البراكينَ إطلاقًا طوالَ تاريخِها.

وربما كان من الأوفق الرجوعُ إلى بعض نماذجِ صفات الرب «يهوه» في التوراة، والتي كوَّنتِ القناعةَ بالربِّ البركاني لدي «صليبي» — دون أن يذكرَها — ولدى كثيرٍ من الباحثين، ولدى كاتبِ هذه السطور، ومن تلك النماذج:
  • وكان الربُّ يسيرُ أمامهم نهارًا في عمود سحاب، وليلًا في عمود نار (خروج، ١٣: ٢١).

  • وحدث في اليوم الثالث لمَّا كان الصباح، أنه صارتْ رعودٌ وبروق وسحاب ثقيل على الجبل، وأخرَج موسى الشعبَ لملاقاة الله، وكان جبلُ سيناء كلُّه يدخِّن من أجل أن الربَّ قد نزل عليه بالنار، وصَعِد دخانُه كدخان الآتون، وارتجف كلُّ الجبل جدًّا، ونزل الربُّ على جبل سيناء إلى رأس الجبل (خروج، ١٩: ١٦–٢٠).

  • الربُّ إلهُك هو نارٌ آكلة (تثنية، ٤: ٢٤).

  • على الأرض أراكَ نارَه العظيمة، وسمعتَ كلامَه من وسط النار (تثنية، ٤: ٣٦).

  • يمطر على الأشرار فخاخًا، نارًا وكبريتًا وريحَ السموم (مزمور، ١١: ٦).

  • فارتجَّت الأرضُ وارتعشتْ أسسُ الجبال، ارتعدتْ؛ لأنه غَضِب، صَعِد دخانٌ من أنفه ونارٌ من فمه (مزمور، ١٨: ٦–١٢).

  • صوتُ الربِّ يقدَحُ لهبَ نار، صوتُ الربِّ يزلزلُ البريَّةَ (مزمور، ٢٩: ٧).

  • وكان منظرُ مجد الربِّ كنارٍ آكلة على رأس الجبل، أمام عيون بني إسرائيل (خروج، ٢٤: ١٧).

وهنا، لن يجدَ أيُّ مهتمٍّ بدراسة التاريخ الإسرائيلي سوى التسليمِ ببركانية الإله، ثم التسليمِ أيضًا بالمأزق الشديد المحيِّر، إزاء ما أفادَنا به الباحثون أن شِبهَ جزيرة سيناء لم تعرفِ البراكينَ طوالَ تاريخِها. ويبدو أن المأزقَ ظلَّ علامةَ استفهام مؤرِّقة لصليبي، حتى تصادفَ وطالع كُتبًا تفصيلية لجغرافية شبهِ جزيرة العرب، أشعلتْ لديه فكرةً جديدة تمامًا، يمكن أن يكون فيها الخروجُ من المأزق الذهني الملحاح، وأسئلتِه الحائرة المؤرقة، حيث وجَد تطابقًا مدهشًا بين مواضعِ أسماءٍ كثيرة بجبال عسير — وهي جبال بركانية عمومًا — وبين الأسماء التي وردت في التوراة للمواضع الجغرافية القديمة في تاريخ إسرائيل التوراتي. وعندما قام بعملية تدقيق لإحداثيات تلك المواضع، انتهى إلى يقينه الذي وضعه في شكل كشفٍ خطير بحقٍّ، يؤكِّد أن كلَّ الأحداثِ التوراتية إنما جرتْ في جبال عسير، وأن الإسرائيليين عربٌ أقحاح، وأنهم لم يدخلوا إطلاقًا مصرَ الفرعونية، ولم يخرجوا منها قطُّ، وأن هناك مغالطةً تاريخية هائلة، أدَّتْ إلى هذا الخطأِ التاريخي العظيم في معارفنا، وأنه مما يدعمُ وجودَ تلك المغالطة، هو غيابُ أيِّ دليل وثائقي مباشر في مدونات مصر القديمة، يشير إلى دخول الإسرائيليين إليها أو خروجِهم منها، أو إقامتهم فيها. ومن هنا شمَّر الدكتورُ الصليبي عن همَّتِه بإعادة النظر في الجغرافيا التوراتية محاولًا إثباتَ أن جميع الأحداث التي جرتْ والمواقع التي حدثتْ بها تلك الأحداث، لم تقعْ لا في مصر، ولا في فلسطين، ولا فيما بينهما «سيناء»، بل وقعتْ جميعًا بلا استثناء في مرتفعات عسير بجزيرة العرب، معتمدًا على تحليلٍ لغويٍّ مقارن، طابقَ فيه بين المواضع الجغرافية التي أوردتْها التوراةُ، وبين مقابلها في غربِيَّ جزيرة العرب.

أساسُ الكتاب

وكان أهمُّ تبريرٍ قدَّمه «صليبي» لمذهبه ونظريته، هو ما جاء في قوله: «ففي حين أن تاريخية عددٍ من الروايات التوراتية بقيَتْ عرضةً للنقاش الحادِّ، فإن جغرافية هذه الروايات استمرَّتْ معتبرة من المسلمات، والحقيقة الساطعة هي أن الأراضي الشمالية للشرق الأدنى قد مُسحت وحُفرت من قِبل أجيال متوالية من علماء الآثار، ومن أقصاها إلى أقصاها، وأن بقايا العديد من الحضارات المنسيَّة قد نُبشت من تحت الأرض ودُرست وأُرخت، في حين أنه لم يُعثرْ في أيِّ مكان كان على أثرٍ يتعلَّق مباشرةً إلى أي حدٍّ بالتاريخ التوراتي. وأكثر من ذلك، فإن التوراةَ العبرية تذكر الآلافَ من أسماء الأمكنة من قلَّةٍ قليلة تماثلتْ لغويًّا مع أسماء أمكنةٍ في فلسطين، وحتى في الحالات القليلة التي تحمل فيها مواقعُ فلسطينية أسماءً توراتية، فإن الإحداثياتِ المُعطاة في النصوص التوراتية للأماكن التي تحمل هذه الأسماءَ في إطار الموقع أو المسافة المطلقة أو النسبية، لا تنطبق على المواقع الفلسطينية. وسجلات مصر والعراق القديم قد قُرئت على ضوء النصوص التوراتية، والتي أجبرت على إعطاء مؤشرات جغرافية أو تاريخية تتوافق مع الأحكام المسبقة لدي الباحثين التوراتيين»٢
ومن هنا أسَّس الباحثُ عملَه بالركون إلى تلك السلبيات التي طرحها حولَ التاريخ التوراتي وتاريخ المنطقة المدوَّن، مُيمِّمًا شطرَ عسير، بادئًا بتحديد منهجه وموادِّ عملِه في مقدمة كتابه بقوله: «وأساس هذا الكتاب هو المقابلة اللغوية بين أسماء الأماكن المضبوطة في التوراة بالحرف العبري، وأسماء أماكن تاريخية أو حالية في جنوب الحجاز وفي بلاد عسير.» ثم يُحدِّثُنا عن الصدفة التي جعلتْه يعثرُ على عالم التوراة القديم «المفقود» في جزيرة العرب بقوله: «لقد كان الأمرُ عبارةً عن اكتشاف تمَّ بالصدفة، كنتُ أبحث عن أسماء الأمكنة ذات الأصول غير العربية في غرب شبه الجزيرة العربية، عندما فُوجئتُ بوجود أرض التوراة كلِّها هناك، وذلك في منطقة بطولٍ يصل إلى ٦٠٠كم، وبعرضٍ يبلغ حوالَي ٢٠٠كم، تشمل ما يسمَّى اليوم «عسير» والجزء الجنوبي من الحجاز، وكان أول ما تنبَّهتُ إليه أن في هذه المنطقة أسماءَ أمكنةٍ كثيرة تُشبه أسماءَ الأمكنةِ المذكورة في التوراة، وسرعان ما تبيَّن لي أن جميع أسماء الأمكنة التوراتية العالقة في ذهني، أو جلَّها ما زال موجودًا فيها، وقد تبيَّن لي أيضًا أن الخريطة التي تُستخلص من نصوص التوراة في أصلها العبري، سواء من ناحية أسماء الأماكن، أو من ناحية القرائن أو الإحداثيات، تتطابقُ تمامًا مع خريطة هذه الأرض الموصوفة في التوراة، مع خريطة الأرض بين النيل والفرات التي اعتُبرت حتى اليوم أنها كانت بلادَ التوراة، وهنا قدَّم الاستنتاجُ المذهل نفسَه بنفسه، فاليهودية لم تُولَدْ في فلسطين بل في غرب شبه الجزيرة العربية وليس في أي مكان آخر، ويجب البحثُ عن الأصول الحقيقية لليهودية، في ثنايا الاتجاه في منحَى التوحيد في عسير القديمة.»٣

مشكلةُ اللغة

وهنا كان على «الصليبي» أن يبدأَ — بالطبع — من مشكلة اللغة، ليجدَ ما يُشير إلى أن اللغةَ العبرية القديمة (وهي أيضًا اللغة الكنعانية بإقرار الكتاب المقدس)، وكذلك اللغة الآرامية، وكلتاهما: العبرية والآرامية، كانتا لغةَ إبرام (إبراهيم). فاللغة الأصلية لآلِه وأسلافه هي اللغة الآرامية، واللغةُ التي اكتسبها بهبوط «كنعان»، أو أرض التوراة القديمة هي العبرية/الكنعانية. لقد وجد صليبي — فيما يزعم — كلتا اللغتَين، وبالطبع وبالتبعية كلا الشعبَين، الآرامي والعبري «وبالضرورة الكنعاني»، في بلادِ عسير العربية، ولأنه قرَّر أن يعملَ على أساس المقابلة اللغوية لأسماء الأماكن، فقد جاء اكتشافُه لوجود تلك الشعوب ولغاتها فيما جاء بسفر التكوين، ٣١: ٤٧–٤٩ عن الميثاق الذي تمَّ بين يعقوب (العبري)، وخالِه لابان (الآرامي)، وهو الميثاق الذي أُقيم بموجبه شاهدٌ تمثَّل في كومٍ من الأحجار، أطلَق عليه لابان بلسانه الآرامي «يجر سهدوثا»، وأطلق عليه يعقوبُ بلسانه العبراني «جلعيد والمصفاة». وقد وجد صليبي أن تلك الأسماء ما زالت تُطلَقُ حتى اليوم على ثلاث قرى صغيرة متجاورة، في منحدراتِ عسير البحرية، في منطقة «رجال ألمع» غربِيَّ أبها، وهي: قرية الهضبة، وهي في الآرامية «يجر»، وقرية «الجعد»، وهي عند الصليبي المقابل لاسم «جلعيد»، ثم قرية «المضاف» التي هي بقلب الصاد «المصفاة».٤
وعليه يذهب إلى نتيجة يؤكِّدها، وهي أن المملكة الإسرائيلية، قد تأسَّستْ في غرب شِبه جزيرة العرب، بين أواخر القرن الحادي عشر، وبين مطلع القرن العاشر الميلادي، قياسًا على تاريخ هجرات الفلسطينيين والكنعانيين من عسير إلى فلسطين، بضغط افتراضه قد حدث من قبل الإسرائيليين عليهم في عسير، وهناك أطلق المهاجرون إلى فلسطين أسماءَ مواطنهم القديمة في عسير على مقارِّ استيطانهم الجديدة بفلسطين، وهو ما يفسِّر لنا التشابهَ بين أسماء المواضع الجغرافية الفلسطينية، وبين أسماء المواضع التوراتية، وهي الظاهرة المرتبطة بالهجرة في كل زمنٍ وفي كل أنحاء العالم؛ فالمهاجرون يحنُّون دومًا إلى الوطن الأصلي، فيُطلقون على مواضع مهجرهم الجديد أسماءَ البلدان والأقاليم والجبال والأنهار التي تركوها في مواطنهم الأولى.٥

وإعمالًا لنظريته، يرى الدكتور صليبي أن جميع الهجرات المصرية التي تمَّ تجريدُها على فلسطين، كانت في حقيقتها موجهةً ضد بلاد عسير غربِيَّ جزيرة العرب، وبخاصة حملة «شيشانق الأول» الفرعون المصري ضدَّ مملكة يهوذا في أواخر القرن العاشر قبل الميلاد. كذلك الحملة الثانية التي قد قادها الفرعون «نخاو الثاني» في أواخر القرن السابع قبل الميلاد، حيث كان البابليون قد حاولوا السيطرةَ على عسير، مما أدَّى إلى صِدام حتميٍّ بين المصريين والبابليِّين في عسير، ومن ثَم فإنَّ وقعة «كركميش» التي وردتْ في العهد القديم (أخبار الأيام الثاني، ٣٥: ٢٠؛ إشعيا، ١٠: ٩؛ إرميا، ٤٦: ٢)، لم تَجرِ في داخل الأراضي التركية، وأن موقع «كركميش» ليس «جرابلس» الحالية كما ذهب المؤرخون، إنما وقعت المعركةُ بين جيوش الإمبراطوريتَين: المصرية والبابلية قربَ مدينة «الطائف» جنوبِيَّ الحجاز، حيث الدليلُ عند الصليبي يقوم في قريتَين: الأولى تحمل اسمَ «القمر»، والثانية تحمل اسمَ «قماشة»، وبجمعهما يُصبحان «قرقميش».

بل ويذهب السيدُ الدكتور إلى أن الحملاتِ المصرية الأبكر، التي تعود بتاريخها إلى الألف الثانية قبل الميلاد، والمفترض علميًّا أنها كانتْ موجهةً لاحتلال مواضعَ بعينها في فلسطين وبلاد الشام، إنما كانت في حقيقتها موجهةً ضد «عسير»،٦ والدليل الدامغ على ذلك، هو أنه لو كان داود وسليمان وقتَذاك هما السيدان الفعليان لدولة كبرى في فلسطين، تُسيطر على الإقليم الاستراتيجي الذي يفصلُ مصرَ عن العراق، كما هو الافتراض الشائع، لأشارتْ إليهما السجلاتُ المصرية والآشورية المتعاصرة، بينما لا نجد في تلك السجلات، أيًّا كانت سياسية أو عسكرية، أيَّةَ إشارةٍ لهذين الاسمين، بخاصة في أخبار غزوات مصر وآشور على فلسطين.
ثم يُقدِّم لنا تفسيرَه لوجود الإسرائيليين والديانةِ اليهودية في فلسطين، بأنه أمرٌ حدَث متأخِّرًا عن الأحداث الكبرى في التاريخ التوراتي القديم، وأن الأمرَ كان ناتجًا عن التدخلات المصرية المستمرة والدائبة في بلاد عسير، مما أدَّى إلى انقسام مملكة سليمان الكبرى في غربِيَّ جزيرة العرب، ونشوب الحرب بين شقَّيها المنفصلين: يهوذا وإسرائيل. وما تَبِع ذلك من غزوات الآشوريين والبابليين، التي انتهتْ بتصفية «سرجون الثاني» الآشوري لمملكة إسرائيل عام ٧٧١ق.م حيث احتلَّ عاصمتَها «السامرة» التي هي عند صليبي قريةُ «شمران» الحالية بعسير، ثم تَبِعه «نبوخذ نصر» الكلداني البابلي ليقضيَ على مملكة يهوذا سنه ٥٨٦ق.م، حيث ساق الآلافَ منها إلى بابل أسرى، وعندما قامت مملكةُ فارس الإخمينية أفرج «قورش» عن الأسرَى، فعادوا مع عائلاتهم إلى عسير، ولكن ليجدوا أنَّ كلَّ شيء هناك قد أصبح خرابًا، فعاد أغلبُهم إلى فارس والعراق، وتوجَّه التيارُ الرئيسي نحو فلسطين ليُقيمَ هناك بينما دخلتْ — في زحمة الأحداث — الأصولُ العربية لبني إسرائيل في غَيابَات النسيان، وساعد على ذلك الغيابِ التحوُّلُ الذي طرأ على اللغة بحلول القرن السادس قبل الميلاد، حيث ماتتِ اللغةُ العبرية/الكنعانية، وحلَّتْ محلَّها اللغةُ الآرامية في كل مكان، وظهرت اللغةُ العربية كمنافس للآرامية، فتغلَّبتْ في النهاية بحلول القرون الأولى من العصر المسيحي،٧ هذا بينما كان يهود الجزيرة العربية يتحوَّلون نهائيًّا إلى اللغة العربية، وهي التحوُّلات التي توافقتْ مع نسيانٍ كامل للأصول العبرية القديمة في عسير العربية.٨

نماذج لغوية مقارنة

بطول كتابه لا يَني الدكتورُ صليبي ولا تفترُ همَّتُه عن دعم ما ذهب إليه بنماذج لأسماء الأماكن التوراتية، وما عثَر عليه مقابلًا لها في خريطة عسير العربية وفقَ تلك النماذج التي وضعها جميعًا غربِيَّ الجزيرة، وحسب تخريجاتِه اللغوية المقارنة، يمكن تقديمُ النماذج الأساس الآتية:
  • أرض جاسان التي سكنها بنو إسرائيل بمصر، هي قرية «غثن» بعسير.

  • مدينة رعمسيس هي «مصاص».

  • فيتوم هي «آل فطيمة».٩
  • سكوت هي «سيكة» بالطائف.١٠
  • مصر ليست مصرَ الفرعونية، إنما هي «مصر» في وادي بيشة، أو «المضروم» في مرتفعات غامد، أو هي «آل مصري» في منطقة الطائف. ولو احتججنا بأن مصر التوراتية كان يحكمها فرعون، فإنه يُرَدُّ بأن كلمةَ فرعون تلك مأخوذةٌ من اسم قبلية «فرعا» الموجودةِ الآن في وادي بيشه١١ «وبالطبع منذ أكثر من ثلاثين قرنًا دون أن تتحركَ رغم أنها قبيلةٌ بدوية مرتحلة دومًا». ونهر مصر الوارد في التوراة مصحوبًا بأحداث عظيمة حول شأنه، ليس سوى وادٍ جافٍّ، اسمُه «وادي لية»، وأن التوراة لم تسمِّه وادي مصر، إلا لأن هناك تقع قريةٌ في حوضه باسم «المصرمة»،١٢ ثم لم يكن خروجُ بني إسرائيل من مصر، وعبورهم البحرَ المعروف في التوراة باسم «بحر سوف»، بالعصا المعجزة ثم عبورهم الأردن بالدوران حول دول آدوم وموآب وعمون، لفتح فلسطين، كلُّ هذا لم يكن سوى عبور جبال السراة بمنطقة الطائف إلى الليث.١٣
  • الدول الكبرى التي وردتْ في المدونات المصرية كما وردتْ في التوراة تقعُ بدورها في جبال عسير، فمعلوم أن مملكة «دمشق» الآرامية كانت الحدَّ الشمالي لدولة إسرائيل الفلسطينية، ومن هنا وجب نقلُها بدورها إلى عسير، لتُصبحَ قريةَ «مسقو» في ناحية العارضة شرقِيَّ «أبو عريش»،١٤ و«مجدو» الفلسطينية، أعظم فتوحات تحتمس الثالث الفرعون المظفر، إنما هي قرية «قصوى» في منطقة القنفذة،١٥ أما بلادُ لبنان بمدنها وقُراها وجبالها وأرزها، لم تكن في الحقيقة سوى «لبينان» شمال اليمن بجوار نجران.١٦
  • ودولة «ميتاني» بجيوشها وملوكها وحضارتها وتاريخها، والتي حدَّثَنا جدولُ الفرعون «شيشانق» عن هزيمتها وإخضاعها لسلطان مصر، فهي لا تقع في أقصى شمال الفرات، إنما هي «وادي مثان» بالطائف، وأن كلَّ ما فعله «شيشانق»، هو أنه استولى هناك على مجموعة قرى متناثرة بذلك الوادي. ولما كانت النصوص المصرية تُشير إلى «ميتاني» باسمٍ ثانٍ هو «نهارين»، لوقوعها بين نهرَي دجلة والفرات في أقصى اتساعِهما داخل الأراضي التركية، فقد رأي الدكتور صليبي أن ذلك خطأٌ فادح، حيث وجَد في وادي «مثان» بالطائف قريةً باسم «النهارين»، بل إن حديثَ الفرعون «شيشانق» عن هزيمته لجيوش دولة آشور تفسيرٌ خاطئ من المؤرخين؛ لأنه إنما هزم جيوشَ قرية «يسير» الحالية! بمنطقة رابغ في تهامة الحجاز.١٧ أما الإشارات التوراتية لنهر «الفرات» فإنها كانت تعني واديًا باسم «أضم»، حيث توجد بجواره قريةٌ باسم «الفرات»،١٨ أو ربما كان واديًا آخر باسم «خارف» بجوار تنوقة شمال أبها،١٩ وللقارئ أن يختارَ ما يحلو له.
  • وللقارئ أيضًا أن يختار أو (يحتار) بين اثنَي عشر اسمًا لاثنَي عشر موقعًا لقُرى تُقابل اسمَ (إسرائيل) الدولة، منها على سبيل المثال: السراة، آل يسير، يسير، أبو سرية … إلخ.٢٠
  • كذلك المدن الواردة بالتوراة باعتبارها مدنًا فلسطينية، إنما تقع بكاملها في جبال عسير؛ فبئرُ سبعٍ لا تقع جنوبَي فلسطين؛ لأنها هي قرية «الشباعة» قربَ خميس مشيط،٢١ وكذلك «جرار» لا تقع على الساحل في أقصى جنوب فلسطين؛ لأنها هي قرية «القرارة»،٢٢ وقادش هي «الكدس»، و«شور» المفترض أن تقعَ على حدود مصر الشرقية هي «آل أبوتور» في وادي بيشه،٢٣ وميناء «يافا» ليس على ساحل المتوسط؛ لأنه هو «الوافية» قربَ خميس مشيط، والزرقا ليست شرقَ الأردن، لأنها هي «الزرقة» في جيزان٢٤ أما حصن صهيون بأورشليم، فليس سوى قرية «قعوة الصيان» في مرتفعات رجال ألمع غربِيَّ أبها.٢٥ كذلك بقيةُ المدن الفلسطينية المشهورة، التي يتمُّ نقلُها جميعًا إلى عسير، فتصبح «بيت إيل» هي «البطيلة» في سراة زهران٢٦ وبيت لحم تُصبح «أم لحم» في منطقة الليث،٢٧ وحبرون المصطلح على أنها الخليلُ الحالية جنوبِيَّ فلسطين، يتم وضعُها في قرية «الخربان» في منطقة المجاردة.٢٨
  • والمدن الفلسطينية الخمس على الساحل المشار إليها في التوراة بالأقطاب الخمسة، تُصبح عنده كالتالي:
    • غزة = «عزة» في وادي أضم،٢٩ وفي موضوع بعيد في كتابه تُصبح «آل عزة» في بلحمر جنوبِيَّ النماص،٣٠ ثم في صفحات أخرى أكثر بُعدًا نجدُها منسوبةً إلى قبيلة «خزاعة».٣١
    • أشدود = السدود في رجال المع.

    • عسقلان أو أشقلون = شقلة بجوار القنفذة.

    • جت = الغاط في جيزان.

    • عقرون = عرقين في وادي عتود بين رجال ألمع وجيزان.٣٢
  • وسكان فلسطين القديمة، ومنهم العبرانيون، إنما كانوا في الحقيقة سكَّانَ قرية «آل غبراني» في ظهران الجنوب،٣٣ والكنعانيون كانوا سكانَ قرية «القنعة» القديمة، لكن ربما كانوا من قرية أخرى هي «قناع»،٣٤ وصيدا ليستْ على الساحل اللبناني؛ لأنها هي قرية «آل زيدان» في مرتفعات شهدان في أراضي جيزان الداخلية،٣٥ وجبل حوريب المقدس بسيناء، يقع في الحقيقة قربَ قرية «خارب» في وادي بقرة.٣٦
  • وأسماءُ أسباطِ بني إسرائيل جميعًا تقع بدورها في جبال عسير، كالتالي:

    – رءوبين نسبةً لقرية «أعربيان» في سراة زهران مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها.

    – شمعون نسبة لقرية «الشعنون» جنوب جيزان مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها.

    – يهوذا نسبة لقرية «الوهدة» في رجال ألمع مع مواقع محتملة نختار من بينها.

    – دان نسبة لقرية «الدنانة» مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها.

    – نفتالي نسبةً لقرية «آل مفتله» مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها.

    – جاد نسبة لقرية «الجادية» في سراة غامد مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها.

    – أشير نسبة لقرية «وشر» في جيزان مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها.

    – يساكر نسبة لقبيلة «يشكر» الحالية مع قبائل أخرى محتملة نختار من بينها.

    – زبولون نسبةً لقبيلة «الزبالة» مع قبائل أخرى محتملة نختار من بينها.

    – يوسف نسبة لقرية «آل يوسف» في بلسمر مع قرى أخرى محتملة نختار من بينها.

    – بنيامين وهو الاسم الذي أطلقه الشعرُ الجاهلي على أهل اليمن.٣٧

    (وربما كانت القرى والقبائل المذكورة — بالعكس — نسبةً للأسباط).

المنهجُ والنظرية

هذه بإيجاز نظرةٌ سريعة على أُطروحة «كمال الصليبي»، لا تُغني، بالقطع عن قراءة الكتاب، كما لا تُعبِّر، باليقين، عن الجهد المبذول بإخلاص في هذا العمل الثري، والذي أبهر مثقَّفينا إلى الحدِّ الذي لم يلتفتوا فيه إلى مجرد إعادةِ التصنيف. ونموذجًا له ما قدمناه، وكان كفيلًا وحدَه بهذا الترتيب وبالقراءة والدراسة المقارنة، أن يُبدلَ أسبابَ الدهشة، بل وطبيعةَ الدهشة.

وقد اختار الرجلُ مع براعته، منهجَه المخلص بتواضع جمٍّ، رغم ما وضح من ممكناته العظيمة في مجال اللغة تحديدًا، وإن ذهب في مواضعَ أخرى إلى الاعتداد الشديد، إلا أن المشكلةَ الحقيقية التي تُواجه عملَه بالكامل، وباعترافه هو نفسه في مقدمة كتابه، هي أنه لم يأخذْ علمَ الآثار باعتباره على الإطلاق، وحين تناول بعضَ المدونات التاريخية القديمة، كان ينزعُها من سياقات عدَّة ترتبط بها، ليدعمَ بها رؤيتَه في شموليتها، محتجًّا بأن المسح الآثاري لمناطق غربِيَّ الجزيرة لم يتمَّ بعدُ بشكل تامٍّ، كما لو كانت نظريتُه قد ثبتت وانتهى القولُ بشأنها فعلًا، ولم يبقَ سوى التنقيبِ وراءه، لنجدَ هناك تحت الرمال عالمَ التوراة القديم برمَّتِه، وهو التصريح الذي أكَّده دومًا في أكثر من حديث صحفي. وفي المقابل أهمَل الرجلُ تمامًا أثريات‎ المنطقة في مصر والرافدين والشام، ومدوناتها. وهو ما يمكن أن ينطقَ بالكثير كما سنرى؛ لذلك كانت خطورةُ عملة القاصمة لأساسه، هو أحاديثَه التي أهملت تمامًا جميعَ النظريات الأخرى حول التاريخ التوراتي، مع إهداره المطلق للجانب التاريخي الوثائقي، حتى داخل الكتاب المقدس ذاتِه باعتباره وثيقةً تاريخية، وبخاصة المرتبط منه بمصر وفلسطين.

وكان اعتمادُه على المقارنات اللغوية وحدَها، وفي حدود أسماءِ الأشخاص والمواضع ثم حذفه للحركات والضوابط، التي دخلت على المأثور التوراتي في القرن السادس الميلادي من قبل أهله، كناتج ملاحظته لبعض الأخطاء في التصويت والإعراب، وهو ما حوَّر بعضَ المعاني، ونحن نثق في قدرته المتبحرة في هذا الجانب، لكنَّ المأخذَ هنا أنه أعاد النصَّ التوراتي الهائل برُمته إلى أصله غير المتحرك؛ لأنه اقتنص خطأً هنا وفلتةً هناك، في بضع كلمات أدَّى تصويتُها إلى تبديل معناها — على ذمته — ضمن حوالَي نصف مليون كلمة تُشكِّل ذلك المأثورَ، لكنه استمرَّ على دربه غيرَ هياب، فقام بتسكين كلِّ الأحرف، ليُعيدَ هو تحريكَها بما يُوافق حركتَه بين المواضع التي رآها أهلًا للتطابق معها في بلاد عسير.

ولو ألقينا نظرةً سريعة فيما عرضناه هنا، سنجد «الدكتور الصليبي» يحلُّ كلَّ المشكلات الهائلة، التي حارتْ فيها أفهامُ العلماء لقرون، حلًّا نهائيًّا تامًّا مانعًا، بمجرد إيجادِ الصلة أو التطابق بين اسمِ موضعٍ ورَد بالتوراة، واسمِ موضع عثَر عليه في خرائط جزيرة العرب الغربية، مثلما فعَل في تأكيده أن أهلَ عسير كانوا يتكلمون العبرية، وإلى جوارهم مباشرةً كان هناك قومٌ آخرون يتكلَّمون لغةً أخرى هي الآرامية! فقط لأن كوم الأحجار الشاهدة على ميثاق يعقوب العبري، وخالِه لابان الآرامي، المسمَّى بالآرامية «يجر سهدوثا»، وبالعبرية «جلعيد والمصفاة»، يتطابق كأسماء مواضع، مع قريتَين عُثر عليهما على خريطة رجال ألمع باسم «مزعة آل شهدا» و«الجعد».

ثم إنه لم يلتفتْ قطُّ إلى أنه من الممكن افتراضُ العكس، وسيكون هو الافتراض الصحيح علميًّا وتاريخيًّا، حول فرضه أن الأسماء التوراتية الموجودة بفلسطين أطلقها هناك المهاجرون من عسير كذكرى لموطنهم القديم، بمعنى أن العكس ممكنٌ أيضًا وأكثرُ علميةً، فتُصبح الأسماءُ الواردة بجزيرة العرب مشابهةً لأسماء توراتية، ناتجة عن هجرة إسرائيلية من فلسطين إلى جزيرة العرب، وهو ما نعلمه نتيجة هجوم «آشور» و«كلديا» على فلسطين، ومن بعدهم هجوم «طيطس» الروماني عليها وتدمير الهيكل وتشتيت بني إسرائيل، الذين انحدر أغلبُهم جنوبًا ليُشكِّلوا فيما بعدُ يهودَ شبه الجزيرة العربية الذين تناثروا في مواضعَ عدَّة أشهرُها خيبر ويثرب واليمن، هذا بالطبع إذا سلمنا له بصدْق بعضِ، وليس كل مقابلاتِه اللغوية لمواضع الأمكنة وأسمائها.

أما الأشدُّ غرابة فهو اعتمادُه أسماءً موجودة اليوم بالجزيرة لمواضع وقبائل، يراها هي ذات الأسماء التوراتية، بعد مرور أكثر من ثلاثين قرنًا، كانت كافيةً لتبديل أسماء الموضع التي ذكرها عشرات المرات، ونسيان قديمها وهو أمرٌ معلوم، ومعلومٌ أيضًا أن أسماء المواضع عادةً ما تتغيَّر بتغير سكان المنطقة. وهو أمر دائمُ التكرار في بلاد البداوة القبلية أكثر من المناطق المستقرة؛ وذلك للسعي وراء الكلأ والتحرك للإغارة أو هربًا من الإغارة، هذا ناهيك أنه قال بنسيان العالم كلِّه للأصل العسيري العربي للإسرائيليين في عسير، بعد أسر في بابل لم يدمْ لأكثر من نصف قرن، فما باله يرى جزئيات وتفاصيل أجدر بالنسيان، خلال قرون طويلة، يراها باقية شاهدة على الأصل العسيري للتوراة القديمة وأهلها في بلاد العرب.

وفي موضع آخر من كتابه يلتفتُ إلى نقاطِ ضعفٍ يحاول تبريرَها، فهو يشير إلى النصوص الأسطورية التي وردت في التوراة، وضرَب منها مثلًا بقصة «الطوفان»، التي تحتاج غمرًا مائيًّا وبلادًا ممطرة ونهرية كأرضية للحادثة، وهو ما لا يتطابق مع حال جزيرة العرب ليؤكِّدَ لنا أنه لا يمكن التأكدُ أين ولدت مثل تلك الأساطير؟ ومَن استعارها؟ ومَن أصحابها الأصليون؟ ولكنه لا شكَّ يعلم أصولَها المصرية والعراقية والشامية، وسرَّ انتقالها إلى الكتاب المقدس وظروف ذلك! وسبق لنا أن قدمْنا في ذلك بحوثًا نشرناها في كتابنا «الأسطورة والتراث»٣٨ يمكن للقارئ الرجوعُ إليها، وهو ما لا يمكن أن يتطابقَ بحال، مع ما ذهب إليه الدكتورُ الصليبي.

ثم في موضع آخر يجد شاهدًا أركيولوجيًّا لا يقبل دحضًا، يتمثَّل في «الحجر الموآبي»، الذي عثر عليه شرقِيَّ البحر الميت، بلاد موآب القديمة، ويتحدث فيه «ميشع» الملك الموآبي عن حروبه مع إسرائيل، فيتحايل على الأمر برمَّتِه، ويقول إن النُّصبَ قد أقامه «ميشع» في تلك المنطقة التي حددتْها التوراةُ شرقِيَّ فلسطين بعد أن هاجر من عسير بعد حروبه مع إسرائيل في عسير!

ويتمادَى فيبالغ ليرَى أن حملات المصريين جميعًا على البلاد التي كان مظنونًا أنها فلسطين وبلاد الشام وجنوب تركيا، إنما كانت جميعًا على شبه الجزيرة العربية، وتحديدًا ضد عسير، بما فيها حملتَا «شيشانق» و«نخاو» المدونتان في التوراة وفي النصوص المصرية القديمة، كذلك حملات البابليين والآشوريين اتجهتْ بدورها جميعًا إلى بلاد عسير، وترك العالم الإمبراطوري بقاعَ الثروة والخصب، والموقع الفلسطيني الشامي الاستراتيجي العالمي، ليتصارعَ جميعُه في بلاد عسير، ولأجل عيون قُرى عسير! وهو أمرٌ نافر تمامًا ومتكلف، ناهيك عن فقده لأيِّ مصداقية أركيولوجية أو وثائقية إضافة لمخالفته للمدونات القديمة التي تحدثتْ عن تلك الحملات الإمبراطورية!

نعم لا يُكابر أحدًا أو يجادل في أن المصريين قد اخترقوا بلادَ العرب، وأنشئوا هناك مستعمراتٍ متقدمة، لضمان السيطرة على الطريق التجاري البري الذي ينقل بضائع الهند وأفريقيا الشرقية إلى عالم الشرق الأوسط القديم، وهو أمرٌ سبق أن قدمنا عليه قرائنَ في أعمالنا المنشورة، (انظر مثلًا: النبي إبراهيم والتاريخ المجهول)، لكن أن تكون دولةُ إسرائيل القديمة قد قامت هناك، وأن كلَّ الصراعات الإمبراطورية قد دارتْ هناك من أجل تلك الدويلة والتي سيقلُّ شأنُها أكثر في حال نقلِها من موقعها الاستراتيجي بفلسطين، إلى جبال عسير، فهو الأمرُ الذي يصعب قبولُه تمامًا.

وما يجعل أمرَ «عسير» هنا، عسيرًا تمامًا، هو قول «الصليبي» إن الحملات المصرية جميعًا لم تكن متجهةً من مصر إلى حوض المتوسط الشرقي (فلسطين، سوريا، تركيا، العراق)، بل دومًا إلى عسير، حيث إن هناك مراجعاتٍ شاملةً قد جرتْ للروايات القديمة بهذا الشأن، خصوصًا المدوَّن المصري منها، وهي إن لم تقطعْ بأمر موقع أو آخر، فهو أمر طبيعي تمامًا في دراسة القديم، لكن هناك من الشواهد ما يكفي لضمان سلامة تحديد خطوط سير تلك الحملات، فإن نجد — كمثال — نُصبًا لرمسيس الثاني على مصبِّ نهر «الكلب» بمواجهة البحر المتوسط، بين بيروت وجبيل، يتحدث عن حملته الأولى على بلاد الشام سنة ١٢٩٧ق.م فإنه سيكون دلالةً لا تقبلُ جدلًا ودليلًا شاهدًا يُكمل أيَّ نقص في المعلومات المدونة حول تلك الحملة، وخطِّ سيرِها.٣٩

ومثله عندما تتحدث النصوصُ عن استيلاء «رمسيس الثاني» على بيروت وجبيل، فنحن نصدقها بهذا الشاهد الأثري، ولا نذهب مع «صليبي» إلى فيافي الجزيرة العربية البلقع لنبحث هناك عن «لبينان»، بل نصدقُ تمامًا أن «رمسيس الثاني» قد غطَّى بحملته نصفَ الشاطئ الشرقي للمتوسط بتلك الحملة الصغيرة، ثم لا بد أن نصدقَ مرة أخرى، لوجود عناصر أخرى ترتبط بالحادثة؛ لأن الحملة كانت إنذارًا للملك الحيثي «ما تتيوالي» سنة ١٣٠٦–١٢٨٢ق.م، ليكفَّ عن تدخلاته في سوريا، ودواعي التصديق هي الحرب التي خاضها «رمسيس الثاني» بعد ذلك مع الملك الحيثي ملك تركيا القديمة، في موقعة قادش على نهر العاصي السوري، والتي انتهتْ بتوقيع اتفاق سلام من نسختين، نسخة بالمصرية ونسخة بالحيثية، وقد تمَّ العثورُ على كلتا النسختَين واحدة في مصر، والثانية في «بوغازكوي» العاصمة الحيثية القديمة في داخل تركيا، وهو السلام الذي لجأ إليه الملكُ الحيثي، سعيًا وراء مصلحة التفرغ لحماية بلاده، أمام جيرانه «الآشوريين» وقوتهم المتصاعدة في بلاد الرافدين الشمالية، وليس في قرية «أبي ثور» في بلقع عسير.

وشواهد أثرية أخرى

وإذا كانت قريةُ «النهارين» في وادي مثان بالطائف، هي «نهارينا» المذكورة في مدونات مصر، للإشارة إلى دولة الميتانيين، فماذا سنفعل في تلك الحال باللوحة التذكارية التي أقامها «تحتمس» في كركميش «جرابلس الحالية على حدود تركيا الجنوبية». والتي يحكي فيها عن انتصاراته هناك، وأخذِه الأسرَى بأعداد غفيرة، وعن احتفال الملك في رحلة العودة بنجاحه في المعركة، وكان احتفالُه بصَيد الأفيال، حيث اصطاد فيلًا ضخمًا من مستنقعات «ني» قرب «أباميا» السورية. ولو حتى غضضْنا الطرف عن اللوحة التذكارية التي ربما نقلها شخصٌ ما، في زمان ما، من قرية النهارين في وادي مثان بالطائف، ليضعها في نهارينا دولة الميتاني، كما حدث للحجر الموآبي، فماذا عسانا نفعل بالفيل الذي اصطاده الملكُ في مستنقعات أباميا؟ وهو أمر معتاد في سوريا القديمة، لكنه لم يكن موجودًا إطلاقًا في تلك العصور بجزيرة العرب، ولا في العصور التالية، والفيل الوحيد اليتيم الذي عرفتْه جزيرةُ العرب، جاء بعد ذلك بقرون طوال قادمًا من بلاد الحبش، في حملة الفيل المشهورة على مكة.

أما مدونات بلاد الرافدين، فلم تبخلْ بالتدوين، ولضرْبِ المثل فقط نجد الملك «تجلاتبليزر الأول» الآشوري، يحكي في مدوناته، أنه غزا سوريا ووصل إلى الساحل الفينيقي، وأخذ الإتاوةَ من المدن الفينيقية «أوراد، وجبيل، وصيدا»، وقد قتل في ميتاني عشرةَ أفيال ضخمة، وبالتحديد في منطقة حاران، كما اصطاد أفراسَ البحر من المياه قرب أرواد.٤٠
وبالطبع ما كان بالإمكان حدوثُ ذلك في بوداي العرب عند «آل زيدان التي يقابلها بصيدا» في أراضي جيزان، وعليه لا يمكنَّا بالطبع التسليم بأن حملة «تحتمس الأول» لتثبيتَ حدود الدولة المصرية على نهر الفرات، بواسطة نُصْب تذكاري أقامه على الضفة اليسرى للنهر، بعد ما تجاوزه قربَ كركميش،٤١ لا نستطيع أبدًا أن نسلمَ أن تلك الحملة إنما قطعت كثبان جزيرة العرب الرملية مئات الأميال لضرْب قريتَي «القر» و«قماشة»، هذا إذا غضضْنا الطرفَ عن النصب التذكاري، أو افتراضنا انتقالَه هو الآخر من القمر وقماشة إلى الضفة اليسرى لنهر الفرات.

وسيادته عندما يؤكد لنا أن مصر كانت هي «المضروم»، في مرتفعات غامد، أو «آل مصري» في الطائف، وأن مدينة «رعمسيس» التي عاشوا فيها بمصر حسب نصِّ التوراة، إنما هي قرية «مصاص»، وأن بحر «سوف» الذي عبروه إنما كان مرتفعات «السراة» نجدنا مشدوهين تمامًا، إزاء النص المصري الذي جاءنا في شكل تقرير قدَّمه «بينيبس» كاتبُ البلاط الفرعوني، لرئيس قلم الكُتَّاب بالقصر «آمنموبي»، ويحكي فيه عن مدينة «رعمسيس»، ونقتطع منه ما يعني الموضوع هنا، في قول «بينيبس»:

إن الكاتب بينيبس يرحِّب بسيده الكاتب آمنموني.
في حياة وفلاح وصحة،
لقد وصلت إلى مدينة بيت رعمسيس محبوب آمون،
ووجدتها في غاية الازدهار.
لديها مؤن وذخيرة كل يوم،
بِرَكُها تزخر بالسمك، وبُحيراتها بالطيور، حقولُها يانعة بالبَقْل،
وشواطئُها محمَّلةٌ بالبلح،
ومخازنها مفعمةٌ بالشعير والقمح.

•••

وشيحور تنتج المِلح،
وسفنُها تروح وتجيء إلى الميناء.

•••

إن مستنقعات زوف تنبت لها البردي،
وشيحور تمدُّها باليراع،
وشباب عظيمة الانتصارات يلبسون حُلَل العيد كلَّ يوم،
ويقفون بجوار أبوابهم، وأيديهم مثقلةٌ بالأزهار،
وبالنبات الأخضر من بيت حتحور.٤٢

والمثال هنا يوضِّح أن مدينة «رعمسيس» ميناءٌ، مُلئَ بالخيرات مما يُشير إلى الأراضي الخِصبة، وأنها القريبةُ من موضعَين بحريَّين هما «شيحور» و«زوف»، إضافةً لمنطقة خصيبة باسم «بيت حتحور». والتوراة تقول لنا: إن بني إسرائيل عاشوا بمصر في مدينة باسم «رعمسيس»، وأنهم عبروا بحرًا باسم «سوف/زوف»، وأنهم عبروا البحرَ في منطقة باسم «بي حيروت» وهي «بيت حتحور»، أما «شيحور» فهو موضع يتردَّدُ في التوراة كمكان بمدينة رعمسيس، كانوا يشربون منه هم وبهائمُهم، فهل نُهمل كلَّ ذلك، ونُلقيه جانبًا، لنذهبَ إلى عسير مع صليبي؟ وهل لم يطالعْ أستاذُ التاريخ المتخصص مثلَ تلك النماذج التي نضرب منها مجردَ أمثلة سريعة لقارئ غير متخصص لا نريد أن نُثقلَ عليه؟

ولا يفوتُنا، أنه في حديثه عن حملة الفرعون «شيشانق» على مملكة «سليمان»، بعد وفاة سليمان بأربع سنوات فقط، والتي حدثتْنا عنها التوراةُ، وذكرتْ أن شيشانق قد هاجم أورشليم بفلسطين ونهبَ كنوزَ الهيكل، فقد وقف «الصليبي» مع نقطة هامة، وضعَها ضمن رصيدِه لرفْض أن تكون فلسطين هي محلَّ تلك الحملة، لتأكيد أن تلك الحملة كانتْ على عسير، وتلك النقطة — وهي جديرة بالاعتبار حقًّا — أنه بمراجعة جداول «شيشانق» الذي ذُكر فيها عددُ وأسماء المدنِ التي استولى عليها، مع الدول التي أخضعها للسلطان المصري، لم يأتِ على ذكر أورشليم إطلاقًا بين تلك الأسماء التي ذكرها في جدوله! لكن الدكتور صليبي وهو يُمسِك تلك الفجوة لينقلَ الحملةَ بكاملها إلى عسير، بيد أنه قد تغافل تمامًا عن دليلٍ حاسم يُؤكِّد دخولَ شيشانق أورشليم، وهو النُّصْب التذكاري الذي عُثر عليه مؤخَّرًا بمجدو في فلسطين، ويتحدث بوضوح عن هجوم شيشانق على أورشليم،٤٣ وهو يملأ ذلك الفراغَ الساقط في جدوله الذي اعتمده «صليبي».

التوحيد العسير

وإذا كان أستاذُ التاريخ المتخصص، قد ترك الجانب التاريخي برمته، ليتعاملَ مع اللغة وحدها لإثبات نظريته، فهو الأمر الغريب، أما الأغربُ فهو تأكيده أن التوحيد اليهودي في العبادة، قد نشأ في ذلك العصر الموغل في القِدم (حوالي ١٢٠٠ق.م فيما يذهب إليه)، بين تلك القبائل التي قطنتْ «عسير»، وهو أمرٌ إضافة لعُسْر قبوله، فإنه يُخالف منطقَ التطور التاريخي وشروطه المجتمعية والاقتصادية والسياسية، حسبما تعلمْنا في فلسفة التاريخ، وقوانين الحراك الاجتماعي عبرَ بقية المنظومات على سُلَّم الارتقاء التاريخي. فنحن نقبل مثلًا ما أخبرَنا به علمُ التاريخ عن الفرعون «أمنحتب الرابع» أو «أخناتون»، كأول داعية لفكرة توحيد الآلهة في إله واحد، في تاريخ الفكر الديني، (وبالمناسبة فإن الصليبي يؤخر أخناتون زمنيًّا عن موسى)، وقبولُنا للتوحيد عند «أخناتون»، ناتجُ قراءةٍ تُفيد بنضوج الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية آنذاك، حيث كانت الأوضاعُ قابلةً لظهور ذلك الطارئ وتلك الطفرة، فقد تحولت الدولةُ المصرية المركزية إلى إمبراطورية كبرى تَضمُّ تحت جناحَيها دولَ شرقِيَّ المتوسط، وغذَّى نموَّها الاقتصادي ذلك التراكمُ الثروي الذي تدفَّق من بقاع الإمبراطورية على مصر، والنضوجُ التجاري، مما أدَّى لوضوح طبقي بين المعالم، أما الإتاوات والضرائب والجِزَى التي تراكمتْ مع اتساع الإمبراطورية، فقد أدَّتْ إلى إفراز فوقي ينزعُ نحوَ سيادةِ إلهٍ واحد يرعَى مصالحَ الطبقات السائدة ودولتها الإمبراطورية.

ولما كانت تلك السيادةُ تتمثل في شخص الفرعون وتتماهى في سيادته، فإنه سيكون مقبولًا أن تظهرَ في مصر فكرةُ إلهٍ يرعَى مصالحَ الطبقة السائدة، ويُعبِّر عن سيادتها، سيكون مقبولًا أيضًا انتشارُ ذاتِ الفكرة التوحيدية لدَى الفئات المطحونة التي تُريد إلهًا لا يُفرِّق في توزيع الأرزاق، ومن ثَم سيكون مقبولًا بالتالي أن تتأثَّرَ جماعةُ «موسى» في مصر بظروف مصر، رغم أن نظامَها القبلي شوَّه الفكرةَ وقصرَها على توحيد إلهِ القبيلة الإسرائيلية، بمعنى الاعتراف بآلهة الشعوب والقبائل الأخرى، لكن مع عدم توقير أيِّ إله آخر سوى إلهِ بني إسرائيل، أما أن تقفزَ فكرةُ التوحيد فجأةً دون بِنيةٍ تحتية تسمحُ بها في جزيرة العرب، في ذلك الزمن العتيق، في وسط قبلي متشرذم لا يسمح، ولا تسمح معه قوانينُ التاريخ التي لا شكَّ يعلمُها الأستاذ الصليبي جيدًا، بظهور ذلك التوحيد، حتى لو كان توحيدًا ابتدائيًّا، فهو الأمر الذي يُجافي منطقَ العلم بالكلية.

لكن الأستاذ هنا لا يرى الوسطَ قبليًّا متشرذمًا، بل دولةً قامتْ هناك، أقامها شاءول وداود وسليمان، ويرى في ذلك دليلَه الأقوى، الذي رفض بموجبه تفسيرَ العلماء لسجلَّات التاريخ التقليدية في مصر وآشور، باعتبارها تتحدَّثُ عن فلسطين، حين قال إنه لو كانت دولُ الإمبراطورية تتعاركُ في فلسطين، لدونتُ أسماءَ هؤلاء الملوك «شاول، داود، سليمان» وهو ما لم يحدث، ونتيجتُه الحتمية أن هؤلاء الملوك لم يتواجدوا بفلسطين، دون أن يفطنَ سيادتُه أن الحجةَ مردودةٌ عليه، فإذا كانت تلك الحملاتُ الإمبراطورية موجهةً ضدَّ مملكة إسرائيل اليهودية في عسير، وكان «صليبي» صادقًا في مذهبه، فإن الطبيعيَّ أن تذكرَ نصوصُ مصر والرافدين أسماءَ هؤلاء الملوك الذين حكموا في عسير، وهو أيضًا ما لم يحدث، ويتعادل الموقف، ثم يرجح لصالح فلسطين.

هذا ناهيك عن كوننا لو اعتمدنا أسلوبَ الأستاذ الباحث في المطابقة لأسماء المواضع والأماكن والأشخاص، مع نصوص التوراة أو حتى مع نصوصٍ لدولة ما، لأمكن أن نكتشفَ ببعض التعسف ولَيِّ التفاسير، أن مصر كانت في فلسطين، وأن فلسطين كانت في سيناء، وأن الدول الفينيقية كانتْ في شمال أفريقيا وإسبانيا، دون مشاكل كثيرة، كما يمكننا ببساطة أن نضع جزيرة العرب في صعيد مصر حيث حلَّت هناك القبائلُ العربية مع الفتح الإسلامي وأعادت التسميات، والأمر كلُّه يعود إلى حركة الهجرات القديمة وإعادة تسمية المواضع، وهو الأمر الذي أشار إليه الصليبي نفسُه، وهو الأساس الذي بنَى عليه عملَه بالكامل، وهو الأساس الذي لا يُعوَّل عليه إطلاقًا، لبناء مثلِ تلك النظرية التي طرحها، والتي تتسم بغرابة وخطورة هائلة، لا تتناسب وأدواتَ البحث المستخدمة في سبيل إثباتها.

أما الدافع الذي نظنُّه كان بدايةَ الخيط في اندفاع الصليبي، هو اسم جبل «عسير» متقاطعًا بالميتاتيز «القلب اللغوي» مع جبال «سعير» التي ذكرتِ التوراةُ ونصوصُ مصر أنها كانت جبالًا ودولةً تقع ما بين خليج العقبة، وبين البحر الميت، أي على حدود سيناء الشرقية مع بادية الشام. وقد تحدَّثَت التوراةُ عن «سعير/بلاد إدوم»، باعتبارها دولةً مستقلة عن فلسطين، وعن دولة إسرائيل عمومًا، ودخلتْ في حروب مع دولة إسرائيل مرات، وفي تحالفات مرات أخرى، أي أنها لم تكن ذات دولة إسرائيل، لكن الدكتور «الصليبي» عمد إلى نقْل إسرائيل الدولة، وفلسطين الأرض بكاملها إلى جبال «سعير» في دولة «إدوم»، ثم نقل جبال «سعير» إلى بلاد العرب محتسبًا إياها جبالَ «عسير»، وأن الأمر لا يعدو قلبًا لسانيًّا كما في «زوج/جوز»، وهو المثال الذي ضربه بكتابه للتدليل على نظريته، بينما تمَّ إلغاءُ دولة «إدوم» التي قامت في جبال «سعير» على حدود مصر، والتي تحدَّثتْ بشأنها نصوصُ مصر في إبَّان حديثها عن حملات مصر التأديبية للدولة المشاغبة المجاورة، كما أفاضتْ في الحديث عنها نصوصُ التوراة حتى آخر سِفرٍ فيها.

هذه لمحاتٌ سريعة موجزة مقتضبة، لم نقصدْ بها النقدَ المفصَّل والتوثيق الكامل، فمثل ذلك الردِّ الناقد يحتاج إلى كتاب قد لا يقلُّ حجمًا عن كتاب الصليبي نفسِه، وهو ما يخرج الآن عن دائرة همومِنا، فقط رأيْنا في ضَوء الحماس الغريب في أوساط مثقفينا للصليبي أن هناك واجبًا علينا للتوضيح والتبيان ليس إلا، ولعل قارئَنا قد لاحظ أننا لم نحاول أن نُسقطَ على الرجل أيَّ اتهاماتٍ سياسية؛ لقوله بعروبة الإسرائيليين، أو تكفيراتٍ دينية؛ لإنكاره عبورَ البحر بالعصا المعجزة، أو نعوتٍ بالخيانة القومية، كما حدث في بعض صحفنا العربية الغرَّاء، فتصوروه يُنَظِّر لمطلبٍ جديد لإسرائيل بالعربية السعودية، وهو نقدٌ يُعبِّر عن خصاء ذهني ونفسي وشَللٍ في القدرات، وعدم ثقة لا بالذات ولا بالوطن، إضافةً إلى أننا نرفض أيَّ تعامل من منطق الإدانة والتكفير؛ فهو المنطقُ الأعرج الذي انتهى بنا إلى مقلب نفايات الأمم.

١  نشر بالعدد ١٢٧ من مجلة القاهرة في يونيو ١٩٩٣م، القاهرة.
٢  كمال الصليبي: التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العملية، ط٢، بيروت، ص٥٠–٥٢.
٣  نفسه، ص٢٧، ٢٨.
٤  نفسه، ص٣١.
٥  نفسه، ص٢٦، ٣٨.
٦  نفسه، ص٣٦، ٣٨.
٧  نفسه، ص٣٩، ٤٤.
٨  نفسه، ص٤٦.
٩  نفسه، ص٥٣.
١٠  نفسه، ص٢٠٢.
١١  نفسه، ص١٤٨.
١٢  نفسه، ص٢٦٠.
١٣  نفسه، ص١٤١.
١٤  نفسه، ص١١٦.
١٥  نفسه، ص١١٩.
١٦  نفسه، ص١٥١.
١٧  نفسه، ص٢١٩.
١٨  نفسه، ص٢٦٠.
١٩  نفسه، ص٢٧٦.
٢٠  نفسه، ص١٩٦.
٢١  نفسه، ص٩٦.
٢٢  نفسه، ص٩٧.
٢٣  نفسه، ص٩٨.
٢٤  نفسه، ص١٢٠.
٢٥  نفسه، ص١٧٨.
٢٦  نفسه، ص٢٠٠.
٢٧  نفسه، ص٢٠٢.
٢٨  نفسه، ص٢٠٣.
٢٩  نفسه، ص٢٥٣.
٣٠  نفسه، ص١٠٠.
٣١  نفسه، ص١١٦.
٣٢  نفسه، ص٢٥٣.
٣٣  نفسه، ص٢٣٨.
٣٤  نفسه، ص١٠١.
٣٥  نفسه، ص٩٩.
٣٦  نفسه، ص٧٠.
٣٧  نفسه، ص٣٠١–٣٠٤.
٣٨  سيد محمود القمني: الأسطورة والتراث، القاهرة، ١٩٩٢م.
٣٩  من باب التبسيط نُحيل إلى كتاب صغير للدكتور سامي سعيد الأحمد: الرعامسة الثلاثة الأوائل، دار الشئون الثقافية، بغداد، ١٩٨٨م، ص٣٣.
٤٠  أيضًا للتبسيط لغير المتخصص، نُحيل إلى كتاب طه باقر: الوجيز في تاريخ حضارة وادي الرافدين (وهو ليس وجيزًا على أية حال)، دار الشئون الثقافية العامة، بغداد، ١٩٨٦م، ١، ص٤٩٢.
٤١  يوسف سامي اليوسف: تاريخ فلسطين عبر العصور، دار الأهالي دمشق، ١٩٨٩م، ص٤٠.
٤٢  سليم حسن: الأدب المصري القديم، مطبوعات كتاب اليوم، مؤسسة أخبار اليوم، القاهرة، ديسمبر ١٩٩٠م، ج١، ص٣٨٤–٣٨٩ (نص الرسالة كاملًا).
٤٣  سامي اليوسف: سبق ذكره، ص٦٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤