فلسفتنا عن المرأة

نحن على الرغم منا فلاسفة، إذا تواضعنا في تعريف الفلسفة، وفهمنا منها أنها الهدف الذي نهدف إليه في حياتنا والأسلوب الذي نتبعه في بلوغه.

والواقع أن الفلسفة في عصرنا ليست أكثر من ذلك؛ فإنها نزلت عن كبريائها القديمة في بحث الغيبيات وما وراء الواقع ونحو ذلك، وقنعت بالعيش.

أجل … إنها الآن تبحث موضوع العيش: كيف نعيش وليس كيف نموت؟

ونستطيع أن نقول، بناء على ما ذكرنا، إن أزماتنا السياسية الماضية، وفرحتنا الحاضرة، هما من الفلسفة.

وإني لأذكر أني في سنة ١٩٣١/١٩٣٠ كنت أعمل محررًا بالبلاغ، وكانت الكوارث قد توالت علينا، من إلغاء الدستور، إلى ضرب الطلبة، إلى اعتقال المئات من العمال، إلى سن القوانين المجحفة بالحريات، إلى استبداد فؤاد، إلى غير ذلك. واستلهمت من الأحداث العالمية فكرة شرحتها في مقالات قصيرة بالبلاغ عن أسلوب غاندي في الهند وأسلوب زعمائنا في مصر. وقلت إننا في حاجة إلى أسلوب غاندي؛ أي أسلوب الاستغناء بدلًا من الاقتناء.

وكانت ثورة الكتَّاب عليَّ عنيفة لهذه الدعوة. ولن أعود إلى شرح ما كنت أدعو إليه.

ولكني أريد أن أقول هنا إنه كانت لغاندي فلسفة، تجسَّمت في أهدافه وأسلوب عيشه، وانتهت باستقلال الهند. فلما مات غاندي ظهر بعده نهرو الذي يقرأ الكتب ويؤلف في التاريخ والفلسفة والسياسة ويقود الهند نحو القرن العشرين.

وكان لزعمائنا وقتئذٍ فلسفة أيضًا تجسمت في أهدافهم وأسلوب عيشهم، فكانوا يجهدون ويلهثون للشراء وشراء الضياع والقصور والسيارات. وقد انتهت فلسفتهم هذه إلى أن قبَّلوا يد فاروق النجسة وذلوا له وارتضوا استبداده، فاحتقرهم الإنكليز، واحتقرهم السودانيون.

وجاء رجال الجيش بفلسفة أخرى، فاستبدلوا بالأهداف القديمة أهدافًا جديدة، واتخذوا أسلوبًا للعيش غير الأسلوب الذي كان يتخذه أولئك فلم يفكروا في اقتناء اليخوت أو بناء القصور أو شراء الضياع. فاحترمهم الإنكليز وأحبهم السودانيون.

إن لكل منا فلسفة من حيث يدري أو لا يدري.

ونحن حين نتكلم عن الاستعمار أو الرق أو الشرب أو المرأة، إنما نسترشد بفلسفة معينة تكاد تكون شخصية. وقد تكون هذه الفلسفة مخطئة مظلمة أو صحيحة مستنيرة.

ويجب أن تكون لنا فلسفة عن المرأة. ولا أعني رأيًا، وإنما أعني فلسفة، بحيث نبحث وندرس حال المرأة ومستقبلها في آلاف السنين القادمة في مصر. وفلسفتنا عن المرأة لا تقل في قيمتها عن فلسفتنا عن معاني الحرية والاستقلال والإنسانية بل قد تزيد على بعضها.

وقد وجدت هناك التباسات بشأن فلسفتي عن المرأة، تجاوزت القاهرة إلى لندن؛ ولذلك أحتاج إلى بعض الإيضاح.

فقد ألقت الآنسة سيلفيا هيم حديثًا من محطة الإذاعة البريطانية في لندن يوم ٢٨ من يناير/كانون الثاني الماضي، تناولت فيه موقفي من ناحية المرأة إلى جنب مواقف أخرى لي وانتقدت بعض ما قلت. وفهمت من كلام هذه الآنسة أنها قرأت كتابي «تربية سلامة موسى» إما في أصله العربي وإما في الترجمة التي قامت بها مؤسسة روكفيلر.

وخلاصة ما نقلتْه عني أني قلت إني عندما اصطدمت بالحضارة الأوربية في باريس حوالي ١٩١٠ كان أعظم ما أثَّر في نفسي هذا الفرق الشاسع بين شخصية المرأة النشطة المتنبهة العاملة الاجتماعية، وبين شخصية المرأة المصرية التي انزوت في البيت وتحجبت وقنعت من الدنيا بخدمة زوجها وأولادها. ولكني لما درست المجتمع الأوربي وجُلْتُ في عواصم أوربا، اتضح لي أن الفرق بين المرأة المصرية والمرأة الأوربية ليس عظيمًا. وإنما هو تفاوت فقط في درجات الحرية؛ لأن الواقع أن المرأة في كل مكان في العالم، في مصر وفي أوربا، لا تزال دون الرجل لم ترتفع من الأنثوية إلى الإنسانية.

ثم تساءلت: وهل ارتفع الرجال إلى الإنسانية؟

هذا هو سؤال الآنسة سيلفيا هيم. وهو عندي تهارب وتمحل وإحالة، أكثر مما هو مواجهة للحقائق.

ذلك أن الرجل يعمل في المجتمع الوطني أو البشري، وتتسع آفاقه، وينتج، ويحس أنه يخدم الألوف والملايين من البشر، ويقرأ ويدرس ويختبر ويتألم، ويكافح من أجل الحرية والشرف. وفي هذا كثير من الإنسانية إذا عمدنا إلى المقارنة بين نشاطه هذا وبين نشاط المرأة المحدود بحدود البيت، حيث ترصد حياتها لخدمة ثلاثة أو أربعة أشخاص هم زوجها وولدان أو ثلاثة أولاد.

وأنا هنا، في هذا الرأي، في صحبة عظيم يحترمه الشرقيون والغربيون معًا، هو ابن رشد الأندلسي.

فقد نقل «دي بور» المستشرق الهولندي في كتابه عن فلاسفة المسلمين (ترجمة محمد أبو ريدة) عن هذا العظيم الذي عاش في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر، أنه كان يقول بأنه:

يجب على النساء أن يقمن بخدمة المجتمع والدولة قيام الرجال … وأن الكثير من فقر عصره وشقائه يرجع إلى أن الرجل يمسك المرأة لنفسه كأنها نبات أو حيوان أليف لمجرد متاع فانٍ بدلًا من أن يمكِّنها من المشاركة في إنتاج الثروة المادية والعقلية وفي حفظها.

هذا هو ما قاله ابن رشد الفيلسوف المسلم الأندلسي قبل نحو ٨٠٠ سنة وهذا هو ما أقوله وأكرره.

وإنه لمن تعس حياتي في مصر أني أحتاج، كي أبرر موقفي، أن أقول إن هذا أو ذاك، قد قال هذا الرأي الذي أقول به، قبل ثمانمائة أو سبعمائة سنة. فقد احتجت إلى أن أعتمد على الإمام ابن حزم في دعوته للحب، وأنه يجب أن يكون متعة الشباب وأساس الزواج وغاية الهناء. والآن أحتاج إلى أن أقول إن ابن رشد يقول إن آفاق البيت لا تكفي المرأة لأن ترتفع إلى الإنسانية؛ إذ يجب أن يتجاوز نشاطها بيتها إلى خدمة المجتمع والدولة.

وعلى الآنسة سيلفيا هيم أن تقرأ ابن رشد … كما يجب على رجال التعليم عندنا أن يقرءوه، وأن يفكروا كثيرًا قبل أن يشرعوا في تأسيس ما يسمونه «مدارس الثقافة النسوية». كأن النساء يختلفن عن الرجال في الثقافة، وكأن رجال التعليم عندنا قد وقفوا المرأة على خدمة البيت، وكأنهم قد قرروا قرارات حكومية ضد الطبيعة البشرية وانتهوا إلى أن المرأة يجب أن تعرف هذا وأن تجهل هذا.

إننا نسترشد في مصر بفلسفة مخطئة عندما نتحدث عن المرأة أو نعاملها أو نربيها؛ لأننا نحب أن تبقى أنثى ولا نكاد نبالي أن تكون إنسانًا له آفاق الإنسان وتضحياته وواجباته، وهي لذلك تحيا الحياة المقصورة المحدودة. ولذلك لا نكاد نعرف الفضل الذي تسديه إلينا سيزا نبراوي، ودرية شفيق، ومنيرة ثابت، وإنجي أفلاطون، والعشرات والمئات غيرهن اللائي يحاولن أن يخدمن المجتمع والدولة كما نصح لنا ابن رشد الأندلسي.

يجب أن تكون لنا فلسفة عن المرأة المصرية بحيث لا ننشد مساواتها بالمرأة الأوربية فقط، بل نتجاوز هذه المساواة إلى آفاق إنسانية أبعد وأوفى، ويجب ألا يكون في قولي هذا ما يُستغرب لأن المرأة الأوربية لا تزال دون المستوى الإنساني.

وصحيح أن المرأة الأوربية والأمريكية قد أصبحت تشارك الرجل في الكثير من مسئولياته الاجتماعية والإنسانية، ولكنها مع ذلك لم تبلغ مستواه. وقد أتاح استخدام القوة الكهربائية في المنزل الأميركي نشاطًا اجتماعيًّا عظيمًا للمرأة الأميركية، لأن واجبات البيت لم تعد ترهقها كما هي الحال عند المرأة المصرية بل أحيانًا المرأة الأوربية أيضًا. ولكن التراث القديم الذي ورثته المرأة، في أوربا وأميركا، من رعاية الرجل وسيادته، لا يزال قائمًا تتفاوت درجاته فقط عندهم كما عندنا.

وكما قلت، يجب أن نذهب إلى أبعد مما ذهبت إليه المرأة في أوربا وأميركا؛ أي يجب أن ندفع المرأة إلى الآفاق الإنسانية. كما ندفع الأمة إلى الانتقال من حضارة الزراعة إلى حضارة الصناعة. وفي هذا الانتقال وحده نجد ما سوف يريحنا من صداع المناقشة عن حقوق المرأة وواجباتها؛ لأنه هو سيحقق هذه الحقوق والواجبات.

لقد بدأت مقالي بالمقارنة المحزنة بين زعمائنا وبين زعماء الهند، وما كتبته في ١٩٣١ مما أثار عليَّ السخط.

والآن أسأل هذا السؤال: أينا على صواب، نحن أم الهنود في فلسفتنا عن المرأة؟

إنهم — أي الهنود — قد منحوا المرأة الهندية حقها في الانتخاب والترشيح للبرلمان، فصارت وزيرة وسفيرة ورئيسة، وارتفعت إلى الآفاق السياسية والاجتماعية. ونحن أبينا على المرأة المصرية ذلك. فأينا على صواب وأينا على خطأ؟ وكيف نقارن بهم بعد مائة سنة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤